معنى الإلحاد الماركسي – إله الإعلان المسيح وأصنام الله – كوستي بندلي
معنى الإلحاد الماركسي – إله الإعلان المسيح وأصنام الله
ولكن حان لنا الآن أن نتساءل هل إن هذا الإله رفضه ماركس كصورة وسبب لاستبعاد الإنسان هو إله الإعلان المسيحي؟ هل إن إلهنا هو زفس المنعزل، المتجبر، الذي يسر بإذلال الإنسان واستعباده؟ هل أن إلهنا يفقر الإنسان ويفرغه من إنسانيته؟ كلا! لا يوجد شبه بين الإله الذي أعلن ذاته لنا وبين هذا الإله المخيف. إلهنا ليس بمنعزل ولا بمتجبر لأنه، منذ الأزل، في ثالوثه، حركة حب وعطاء تجمع الأقانيم في وحدة الجوهر وتتجه إلى الإنسان عند خلقه لتدعوه إلى الاشتراك في ملء الحياة الإلهية. إلهنا لا يفقر الإنسان بل بالحري افتقر هو عند التجسد، مفرغاً ذاته، لكي يملأ الإنسان من غنى الحياة الإلهية. لقد ردد انغلز فكرة ماركس وفوورباخ عندما كتب: “إن الدين هو العمل الذي يفرغ به الإنسان ذاته من ذاته”.
ولكن إيريناوس أسقف ليون في القرن الثاني كان قد أجاب مسبقاً على هذا الادعاء عندما كتب تلك العبارة التي رددها الآباء الشرقيون من بعده: “لقد صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً”. تأليه الإنسان هذا، الذي يتعطش الله إليه حسب تعبير مكسيموس المعترف، “في حبه الجنوني” للإنسان (نقولا كاباسيلاس)، تأليه الإنسان هذا ليس معداً لما بعد الموت وحسب، إنها هو حقيقة تبدأ منذ الآن، حتى أننا نرى القديسين، وهم الذين اتجهوا بكليتهم إلى الله – فلنذكر الرسول مثلاً – تتأجج انسانيتهم بالنور والحرار والقوة، نراهم لا يفقدون إنسانيتهم بل يرتفعون فوق المستوى الإنساني العام فيبدعون ويشعرون ويغيرون وجه الأرض.
هؤلاء الذي أسلموا ذواتهم لله إلى أبعد الحدود لم تفتقر إنسانيتهم بل بلغت ذروتها. ألم يقل عنهم برغسون – وقد كان “وجودهم له دعوة” وهديا في السعي الذي قاده في آخر المطاف إلى الإيمان المسيحي: “…. إن تياراً هائلاً من الحياة أخذهم. انبعثت من حيويتهم المزدادة طاقات عجيبة من القوة والجرأة والقدرة على التصميم والتحقيق” ألم يميز فيهم “صحة عقلية راسخة نادرة… تتجلى في رغبة العمل وقدرة التكيف المستمر مع الظروف والحزم المزدوج بالمرونة والتمييز النبوي لما هو ممكن وغير ممكن وروح بساطة تتغلب على التعقيدات وأخيراً في إدراك متفوق”؟
إذا كان إلهنا هكذا، فكيف إذاً صوره ماركس ساحقاً ومشوهاً إنسانية الإنسان؟ بالطبع نجد في الإلحاد الماركسي – وفي الإلحاد المعاصر عامة – صدى للتجربة القديمة التي أتت على لسان الحية في الفردوس: “ستصيران آلهة”، فيه اكتفائية روحية ترفض بأن يكون للإنسان مرجع غر نفسه. إلهنا لا يفرغ الإنسان من وجوده إنما يفرغه من الامتلاك النرجسي لهذا الوجود. المؤمن بالله يعرف أن ملء الوجود له، إنه وارث الله كما يعلم الرسول بولس، ولكنه يقبل بأن يكون هذا الوجود هبة حب ممنوحة له، يقبل بأن ينعم به عليه وبأن لا يكون متملكاً له، مستولياً عليه. المؤمن ينعم بالقوة كل القوة، ولكنه ينسبها بشكر إلى مصدرها ويردد مع الرسول: “إنني أستطيع كل شيء بالذي يقويني” (فيلبي 4: 13). ولكن الإنسان، وبنوع خاص الإنسان المعاصر، يريد أن يملك ذاته وأن يكتفي بذاته. فإذا وجدت مثل هذه كونه إلهاً أي للإله أن يظهر للإنسان طاغية، أيا كان هذا الإله ولمجرد الإرادة، لا بد مرجعاً مطلقاً لخليقته.
ولكن الاكتفاء بهذا التعليل يعني القاء مسؤولية الحادهم على الماركسيين وحدهم، وهذا تبسيط ساذج للقضية إن لم يكن محاولة، واعية أو غير واعية، لتبرير ذواتنا مهما كلف الأمر بإلقاء العبء كله على الآخرين. الحقيقة أدق وأوسع مما يفترضه هذا الموقف. فإن شئنا أن نحيط بها بكاملها، وجب علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: لقد نشأت الماركسية في بيئة مسيحية، وسط التصورات الدينية التي كانت شائعة في هذه البيئة المسيحية. إنها كونت موقفها من الله من خلال هذه التصورات.
فإذا كانت قد حاربت وتحارب بضراوة الإيمان بالله، وبنوع خاص الإيمان المسيحي به، أليست صور الله التي وجدتها وتجدها أمامها في البيئة المسيحية مسؤولة إلى حد ما عن هذا الموقف العدائي؟ إذا كانت فلسفة ارادت تحرير الإنسان رفضت الله لأنها اعتقدته عقبة أمام هذا التحرير، ألا يعني ذلك، إلى حد ما، أن “الأفكار التي يكونها الجمهور عن الله”، على حد تعبير ماركس، تكل الأفكار التي يقول إن فلسفته ترفضها، كانت عبارة عن “مفهوم لله لا إنساني، مضاد للإنسانية” على حد تعبير بردياييف، مفهوم كان لا بد للإنسان أن يرفضه ليحافظ على أفضل عناصر إنسانيته، مفهوم يبرر كلام المفكرة الاشتراكي برودون: “الإنسان يصبح ملحداً عندما يشعر بنفسه بأنه أفضل من إلهه”.
وبعبارة أخرى ألا يكون رفض الماركسية لله، إلى حد ما، رفضاً لا للإله الحقيقي بل لأصنام استعاض بها الناس عنه فتطبق عليه كلمات الفيلسوف ديمري: أليس الإلحاد نفسه، إذا كان ذكياً وصادقاً، تكريماً على طريقته للإله الحقيقي؟ لا يرفض الإنسان المطلق إلا باسم مطلق أفضل؟”
هذا ما يقودنا أولاً إلى توضيح فكرة “أصنام الله”. فلننطلق من مثل بشري يعطيه المفكر المعاصر مارك أوريزون: “إذا وجدت في مكتب شخص ما، أثناء غيابه، أستطيع بلا شك أن أعرفه نوعاً ما: أعرف أنه موجود، أكتشف أي نوع من الدخان يدخن، أية كتب يقرأ، ما هي اهتماماته وأذواقه… ولكنني لا أعرفه معرفة حقة طالما لم يدخل الغرفة ولم يوجه إليّ الكلام، داخلاً هكذا في حوار….”
إذاً يمكنني بالاستناد إلى آثار شخص آخر أن أعرف بعض الأشياء عنه ولكنني لن أعرفه هو إلا إذا خاطبني ودخل معي في حوار. أما إذا اكتفيت بتفكيري لأتعرف إليه فإني سوف أرسم عنه حتماً صورة مطابقة لأفكاري وأهوائي ولكنها لا تمت إلا بصلة بعيدة إلى شخصه الحقيقي الحي. هذا صحيح إذا كان هذا الآخر إنساناً مثلي. فالناس غالباً متباعدون لأنهم ولو تعايشوا العمر كله لا يدخلون في حوار حقيقي، إذ أن كلاً منهم يكتفي بأن يلصق بالآخر تصوراته الخاصة عوض أن يصغي إليه وينفتح إلى سره.
ولكن ما هو صحيح بالنسبة لعلاقتي بالآخر صحيح بالأحرى إذا كان هذا الآخر هو الله الذي هو متميز ومتعال بالكلية عن أفكاري. لذا لم يدعني الله أضيع في متاهات أفكاري وتخيلاتي عنه، إنما كلمني هو عن نفسه، كلمني بالأنبياء أولاً وبحوادث العهد القديم ثم كلمني بابنه الذي هو صورته الكاملة، بكلمات ابنه وبحوادث حياته الأرضية. ولكن الله لا يستطيع أن يخاطبني إلا بكلمات وحوادث بشرية، لذا فالخطر الذي يهددني هو أن أفهمها بشرياً فأشوهها.
فكما إنني في حواري مع شخص مثلي، يتوجب عليّ، إذا شئت أن أفهمه حقاً وفي العمق، أن أتجاوز دوماً صيغة الكلام لأنفذ، بمشاركتي الحبية، إلى داخل الشخص الآخر. إلى المصدر الذي منه يأخذ الكلام معناه، هكذا، فبالأحرى كثيراً، عليّ باتحادي مع الله أن أتجاوز صيغة الإعلان الإلهي لأفهمه على طريقة الله لا على طريقتي البشرية. هذا هو أصل ما يسمى “اللاهوت السلبي” الذي اعتمدته الكنسية المسيحية وبنوع أخص الآباء الشرقيون. هذا اللاهوت ينفي عن الله ما يؤكده من جهة أخرى. فإن الله أب ولكن لا بمعنى أبوة الأرض لأن المسيح قال بأننا إذا دعونا الله أباً فلا يمكننا أن ندعو آباء الأرض آباء: “لا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد وهو الذي في السماوات” (متى 23: 9).
والله سيد وقد تجلت سيادته في المسيح القائل: “إنكم تدعونني معلماً وسيداً وحسناً تفعلون، لأن هكذا” (يوحنا 13: 13). ولكن ليس كأسياد الأرض: “ها أنا بينكم كالخادم” (لوقا 22: 27)، “إن ابن البشر لم يأت ليُخدم بل ليَخدم” (متى 20: 28). والله عادل ولكن لا على طريقة عدالة الأرض، فإنه يعطي عامل الساعة الحادية عشر كعامل الساعة الأولى (متى 20: 1-16). والله ملك ولكن لا على شاكلة ملوك الأرض، لذا قال المسيح لبيلاطس: “لقد قلت. إني ملك” (يوحنا 18: 37) ولكنه أوضح: “مملكتي ليست من هذا العالم (متى 18: 36).
وهكذا لا بد لنا أن نستند على صور بشرية عن الله، تلك الصور التي قدمها لنا الإعلان الإلهي، ولكن هذا الإعلان عينه علمنا بأن نتجاوز دوماً هذه الصور إلى الإله الحي الذي لا تحده صورة، متجهين إليه في حركة حب مستمرة ليكشف لنا ذاته كشفاً يتجاوز كل نطق بشري. هذا ما عبر عنه القديس غريغوريوس النيسي عندما كتب: “الأفكار تنشئ أصناماً لله، الذهول وحده يدرك شيئاً”.
ولكن الإنسان صنمي بطبيعته. فإنه معرض دوماً لأن ينحدر بالله إلى مستوى أفكاره والأهواء الكامنة وراء هذه الأفكار عوض أن يتجاوز أفكاره ليقتبل كشف الله. “المسيحي معرض لأن يكون صنمي الصورة والعبارة. الله، في كثير من الأحيان، ليس بالنسبة إليه سوى إنسان متفوق، إنسان قادر على كل شيء بلا شك، ولكنه ما زال إنساناً من عالمنا مع أنه معتبر كساكن فوق العالم”.
بالانطلاق من هذه الاعتبارات يمكننا الآن أن نتفحص عن كثب صور ذلك الإله الذي رفضه ماركس، فنرى فيها “أصناماً لله” لا تمت إلى الله الحي بصلة مع أنها لسوء الحظ اتخذت، ولا تزال، اسمه عندنا نحن المسيحيين:
1– الإله عدو الحريـة:
لقد جعل ماركس إلحاده تحت شعار بروميثيوس بطل حرية الإنسان تجاه الطاغية رفس، كأن قدرة الله الكلية تعني حتماً الطغيان. ولكن قدرة إله الإعلان المسيحي ليست كقدرة البشر التي كلما ازدادت هددت الآخرين بالاستعباد. لقد بيّن كير كغارد أن قدرة الإنسان جزئية لأنه غير قادر أن يتخلى عن قدرته، فيستعبد بالتالي بها الغير. أما الله فيتجلى كمال اقتداره بالضبط لكونه يمكنه أن يسيطر على قدرته. يستخدمها لإيجاد المخلوق ويتخلى عنها في آن واحد ليهب المخلوق وجوداً ذاتياً وحرية: “إن القدرة الكلية وحدها يمكنها أن تنسحب فيما تعطي، هذا ما يكوّن استقلال الكائن الذي يأخذ”. عندما أوجد الله الإنسان تخلى تجاهه عن شيء من قدرته لأنه أعطاه وجوداً ذاتياً يقابل وجوده. فالخليقة إذاً هي على نوع ما عملية “افراغ لذاته” على حد تعبير أوليفيه كليمان، قام بها الله لصالح الإنسان. “إن القدرة الإلهية الكلية تتحقق بتجاوزها مفهومنا للقدرة الكلية، أي بأن تحد ذاتها…”.
لقد علم الآباء الشرقيون والفلاسفة الدينيون الروس أن الله، عندما خلق الإنسان، قبل أن يدخل في مجازفة، قبل أن تنتصب حرية تجاه حريته، وأن تحد من حريته وأن ترفضه إذا شاءت إلى أبعد حدود الرفض، إلى الصليب. لقد كتب أوليفيه كليمان بهذا المعنى: “الحرية هي “انسحاب” الله ليكون الآخر. الآخر، يعني إمكانية الحب ولكن أيضاً إمكانية الرفض والتمرد والحقد”. وقد استشهد بهذه العبارات الرائعة التي خطها لا هوتي أرثوذكسي كبير عاش في القرن الرابع عشر: “الله يتقدم ويعلن عن حبه ويرجو أن يجاب عليه… فإذا رُفض، انتظر على الباب… مقابل كل الخير الذي صنعه لنا، لا يطلب إلا حبنا، ولقاء هذا الحب يعتقنا من كل دين”.
مجمل الكلام أن اقتدار الله يتجاوز كل تفكير بشري في الاقتدار لأنه اقتدار يتخلى عن ذاته محبة بمخلوقاته. ولكن الإله الذي وجده ماركس في أذهان المسيحيين فرفضه، كان إلى حد بعيد مجرد صورة مضخمة عن الاقتدار البشري. وقد لعبت عوامل تاريخية دورها في تكوين وتدعيم هذه الفكرة الصنمية عن القدرة الإلهية. لقد بيّن أوليفيه كليمان كيف أن الله، في المسيحية الغربية خاصة أصبح شيئاً فشيئاً “إلهاً مفروضاً”. هذا بدأ بعد تنصر قسطنطين الكبير، عندما تنصرت شعوب بكاملها، لا بالاهتداء الشخصي كما كانت الحال في القرون الأولى، بل بأمر سادتها أو بقوة السيف. وقد اختلطت في كل مكان صورة الله بصورة الامبراطور أو الملك الأرضي.
في الغرب حاولت البابوية أن تغتصب سلطات الامبراطور وأن تقيم ذاتها دولة فوق الدول وذهبت في الخلط بين مملكة قيصر ومملكة الله إلى حد تنظيم حروب دينية أدت أحياناً إلى افناء شعور برمتها كما كانت الحال في حرب الالبيجواه، وإقامة محاكم التفتيش الرهيبة. وقد دخلت الأرثوذكسية متأخرة في هذا المجال الكفري إذ أصبحت مرتبطة بالدولة في روسيا إلى أبعد الحدود واضطهدت من خالفها في الرأي “كالمؤمنين القدامى” مثلاً. هذا كله قاد إلى ظاهرة مريعة، ألا وهي أن حركة التحرر التي قادت إلى العالم الحديث، تلك الحركة ذات الجذور المسيحية، انقلبت على الكنيسة وسارت نحو الإلحاد، نحو إنكار إله مفروض لم يكن بالواقع سوى صنم لله.
فقد أظهر المؤرخ الشهير توينبي كيف أن اللادينية الحديثة بدأت تبرز، في أواخر القرن السابع عشر، أمام فضيحة “المناولات الإلزامية” واضطهاد البروتستانت والجانسينيين في فرنسا على عهد لويس الرابع عشر.
اليوم زال في معظم بلاد العالم هذا التلازم بين المسيحية وسلطات هذا الدهر. فقد فصلت الكنيسة عن الدولة أو اضطهدت منها ولم يعد بالتالي من مجال للخلط بين الله وحكم قيصر، فتنقت فكرة الله وصفا الإيمان به. أما في بلادنا فالنظام الطائفي القائم يكرس الالتباس بين الزمنيات والروحيات ويخلد صنم الإله المفروض على البشر.
2– الإله المدافع عن النظم القائمة:
لقد أصدر ماركس احكاماً قاسية على المبادئ الاجتماعية المسيحية. ومما قاله: “إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تبشر بضرورة طبقة مسيطرة وطبقة مظلومة وتكتفي بالتمني التقوي بأن تكون الأولى محسنة للثانية. إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تجعل في السماء التعويض عن كل المخازي وتبرر بذلك استبقاءها على الأرض. إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تفسر كل النذالات التي ينزلها الظالمون بالمظلومين إما كعقاب عادل على الخطيئة الجدية، إما كتجارب تفرضها على المختارين حكمة الرب….”
لا شك أن هذه السطور تظهر عند ماركس جهلاً او تجاهلاً للمسيحية الأصيلة. فالإعلان الإلهي يندد بشدة باستغلال الإنسان للإنسان. إن أصوات الأنبياء في العهد القديم دوت معلنة بأن ما يلحق البائسين من ظلم نفض للعهد المقام بين الله وشعبه، ومنذرة الظالمين بعقاب سريع. اكتفي بذكر التهديد الجريء الذي وجهه ارميا باسم الله لملوك بلاده: “هكذا قال الرب اجروا الحكم والعدل وأنقذوا المسلوب من يد الظالم ولا تعسفوا الغريب واليتم والارملة ولا تجوروا عليهم ولا تسفكوا الدم النقي في هذا الموضع. فإنكم إن عملتم بهذا الكلام فملوك جالسون لداود على عرشه… وإن لم تسمعوا لهذا الكلام فبنفسي أقسمت يقول الرب أن هذا البيت يكون خراباً”.
والرب يسوع وحد نفسه مع المساكين وقال إن كل ما يوجه إليهم إنما يوجه إليه، وقال: “ويل للأغنياء”…. و”إنه ليعسر على الغني أن يدخل ملكوت السماوات، بل أقول لكم: إنه لأسهل أن يدخل جمل في ثقب ابرة من أن يدخل غني في ملكوت السماوات”. وكتب يعقوب متوعداً الأغنياء المستغلين: “هلم الآن أيها الأغنياء ابكوا وولولوا للشقاوات التي ستنتابكم. إن ثراءكم قد عفن، وثيابكم اكلها العث. ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما سيشهد عليكم ويأكل لحومكم كالنار… ها إن أجرة العملة الذي حصدوا حقولكم، تلك التي قد بخستموهم إياها، تصرخ! وصراخ أولئك الحصادين قد بلغ إلى أذني رب الصباؤوت”. أما آباء الكنيسة وخاصة الشرقيون منهم فقد علموا عن الملكية تعاليم ثورية تذهلنا جرأتها خاصة إذا قسناها بالعصر الذي ألقيت فيه، تعاليم قرنوها بنضالهم في سبيل البائسين وقد نشرت مقتطفات من أقوالهم في مجلة النور.
لذلك اكتفي هنا بذكر بعض ما يقوله بردياييف عنهم: “لقد اعتبر القديس باسيليوس الكبير أن الملكية المشتركة هي الحالة الطبيعية لكل الكائنات التي خلقها الله…. القديس أمبروسيوس أسقف ميلان يقول إن الطبيعة أوجدت الحق المشترك وأن الاغتصاب وحده أوجد الحق الخاص… القديس يوحنا الذهبي الفم كان يرى في الاشتراكية الكاملة النظام الاقتصادي الوحيد الملائم لإرادة الله…. كان القديس يوحنا الذهبي الفم بطريرك القسطنطينية يعتبر نفسه ممثل بروليتارية هذه المدينة”. أي احتجاج ضد المظالم الاجتماعية تتجاوز حدته تلك العبارات التي كان الذهبي الفم يخاطب بها أغنياء عصره:
“بينما كلبك متخم، يهلك المسيح جوعاً”.
“إنك تحترم هذا المذبح حينما ينزل إليه جسم المسيح، ولكنك تهمل وتبقى غير مبال حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح”.
“ماذا ينفع تزيين مائدة المسيح بأوان ذهبية إذا كان هو نفسه يموت جوعاً؟ فأشبعه أولاً حينما يكون جائعاً، وتنظر فيما بعد أمر تجميل مائدته بالنوافل….”.
أو تلك التي يصفع بها باسيليوس الكبير كل استئثار بالملكية معتبراً إياه سرقة:
“وأنت ما من تلف خيراتك بين طيات بخل لا يرتوي أتعتبر إنك لا تبخس احداً حقه بحرمانك عديد المساكين؟ ما البخيل؟ هو من لا يكتفي بالضروري. ما السارق؟ هو من يسلب مال كل إنسان. وتقول إنك لست بخيلاً؟ ولست سارقاً؟ الخيرات التي دفعت إليك لتتعهدها، استوليت عليها. إن من يجرد رجلاً من ثيابه يدعى نهاباً، ومن لا يكسو عري المسكين، وهو يستطيع ذلك، هل يستحق اسماً آخر؟
“الخبز الذي تخبئ هو ملك الجائع، وملك العريان ذاك المعطف يتدلى من خزائنك. لحافي القدمين يعود الحذاء الذي يهترئ في بيتك، وللموز النقود التي تدخر…”
وأيضاً: “يقول البخيل: من يتضرر مني إذا حفظت ما هو لي! ولكن قل لي ما هي الخيرات التي لك؟ من أين جئت بها؟ إنك تشبه إنساناً إذا ذهب إلى المسرح يريد أن يمنع الناس من الدخول ويرغب في التمتع وحده بالمشهد الذي للجميع الحق فيه. هؤلاء هم الأغنياء، الخيرات العامة التي جمعوها يقررن إنهم سادتها لأنهم أول محتليها…”
إذا كان هذا هو جوهر التعليم الاجتماعي المسيحي، فكيف كون ماركس عنه تلك الصورة المشوهة؟ الجواب هو أن كلماته القاسية تنطبق على موقف الكثيرين من المسيحيين في عصره وقد تنطبق على موقفنا نحن اليوم. هنا أيضاً نرى صنماً من أصنام الله رآه ماركس في أذهان مسيحيي عصره فحجب عنه رؤية إله الإعلان المسيحي، صنماً قد يراه اليوم الماركسيون في أذهاننا. ذلك أننا نستخدم الله “لنضمن ما نسميه حقوقنا، لنبقي على نظام اجتماعي نعتقده الأفضل لأنه بمصلحتنا”. فيصبح الله هكذا ضمانة النظام القائم مهما كان جائراً، ويغيب الإله ولكن “إذا كان الله ضمانة لحقوقنا المزعومة ومحامياً عن النظام القائم، فكيف يسعنا أن ننصله من التهم الموجهة بحق إلى هذه الحقوق وهذا النظام؟ كيف لا يعتبر الله سلطة مستعبدة إذا كان هذا النظام نفسه استعباداً؟”
هذا الصنم، صنم الإله المدافع عن النظم الجائرة، قد تراءى لماركس ولغيره من خلال المواقف التاريخية التي طالما اتخذها المسيحيون. وهذا ما يفسر إلى حد بعيد هذه المأساة ألا وهي أن حركة المطالبة بالعدالة الاجتماعية والاخاء بين الناس، تلك الحركة ذات الأصول المسيحية هي أيضاً، قد انقلبت على المسيحية ونادت بالإلحاد. لقد كتب بردياييف في هذا الموضوع: “إن فكرة إخاء البشر والشعوب هي من صلب المسيحية في شكلها النقي. لقد أخذت الحركات الاشتراكية والشيوعية عن المسيحية فكرة مجتمع أخوي. ولكن المسيحية في التاريخ، تلوثت بمصالح الطبقات المسيطرة، فاتخذت صبغة المجتمعات الاقطاعية أو البورجوازية وقدست أبغض الأيديولوجيات القومية…”
وفي الموضوع نفسه كتب جان ماري دومناك مدير مجلة اسبري وهو مسيحي مؤمن: “الحقيقة أن الكنيسة، منذ أجيال، كانت أغلب الأحيان من جهة المضطهدين، تدعي هؤلاء المضطهدون هراطقة… أو زنوجاً أو عمالاً… تلك الكنيسة التي كانت ترفع صلوات الشكر على هزيمة الثورات العمالية… والتي كانت تبارك موسوليني وفرانكو وبافليتش. حوالي سنة 1840 أعلو رئيس أساقفة باريس من على منبر نوتردام: “يسوع المسيح لم يكن فقط ابن الله، ولكنه كان من عائلة عريقة من جهة أمه، وهناك أسباب وجيهة لاعتباره الوريث الشرعي لعرش يهوذا…”، وكأن هذا الأسقف المسيحي ضاع عن باله التمييز الإنجيلي الجذري بين سيادة الله والسيادة البشرية فلم يجد بداً من اقران عظمة الله المتجسد بعظمة ملوك الأرض التي رفضها المسيح لنفسه بالكلية.
في القرن التاسع عشر، عندما كانت أوروبا تغلي بالحركات المطالبة بتحرير الإنسان وبالعدالة الاجتماعية، كان المسيحيون، في الغرب، يتبنون في أغلب الأحيان هذه الفكرة التي نبذها ماركس والمخالفة لتعليم الكتاب وتعليم الآباء الصريحين، ألا وهي أن الله يريد أن يكون هناك أغنياء وفقراء، مترفون ومحرومون (وقد سمعت بنفسي عندما كنت ولداً، كاهناً كاثوليكياً يفسر كلمة المسيح “المساكين معكم في كل حين” على أنها حكم بأن الفقر لا يمكن أن يزال عن وجه الأرض!) من هنا نشأت تلك النزعة عند المسيحيين، التي وصمها ماركس، إلى تبرير هذه الأوضاع الجائرة والتبشير بالرضوخ لها رضوخاً دون قيد أو شرط.
هذا ما نرى صداه مثلاً في روزنامة نشرت في القرن الماضي بين الطبقات الشعبية وهي تقول: “إن المجتمع ليس فاسداً بمقدار ما يدعي أصحاب الأوهام (أي المطالبون بالعدالة والاخاء!)، لأن طبيعة الأشياء كونته على هذا الوجه… ويمكن القول أن الله نفسه قد قسم الخيرات (عندما كنت ولداً كنت أسمع هذه العبارة تردد عن الله “يا مقسم الأرزاق”!)…. فهل بوسع الجمهوريين واتباع سان سيمون (الاشتراكيون)…. أن يغيروا مقررات العناية الإلهية؟”. وفي مكان آخر: “إن اكتفاء المخلوق بما قسم له ليس مصدر سعادة له وحسب بل واجباً عليه. هذا الاكتفاء هو الفلسفة الشعبية الحقيقية. لماذا تحدثون الشعب عن حقوق مزعومة…. علموه الهدوء والاعتدال والقناعة، حذروه من التجارب الباطلة والحاجات المصطنعة.
رددوا على مسامعه أن مصير الإنسان في هذه الدنيا طريق محن وممارسة طويلة للصبر يا من دعاكم المنظم الإلهي لمصائر البشر إلى حياة وضيعة وشاقة….”. ما يثير الاستنكار في هذا النص هو استخدام الله نفسه للدفاع عن نظام جائر اتخذ الله ضمانة وحارساً له.
ذلك الواقع المؤلم، واقع تكريس المسيحية التاريخية لأوضاع اجتماعية جائرة باسم الإيمان المسيحي عينه، يثبته اليوم مفكرون مسيحيون وملحدون على السواء.
وقد كتب كاهن مسيحي وهو الأب جوزيه غوميز كافارينا في مجلة “العقل والإيمان” في كانون الأول 1964: “إنها لمفارقة مؤلمة أن تكون المسيحية، ديانة الحب، قد استخدمت في التاريخ لتغطية أسوأ الأنانيات”.
هذا الموقف لم يكتف المسيحيون في الغرب باتخاذه افرادياً، إنما انعكس في التعليم اللاهوتي نفسه. ففي الكثلكة، أعطيت الملكية البورجوازية أساساً لاهوتياً، فيما كان المفكرون الدينيون الروسيون بوحي من أرثوذكسيتهم، يرفضون كل لاهوت من هذا النوع لاعتقادهم بأولية الشركة ويطالبون بإصلاحات اجتماعية ذات طابع اشتراكي. ولكن جهودهم هم أيضاً كان يعقمها إلى حد بعيد ذلك الوضع، الذي كانوا يطالبون بإلغائه، وضع كنيسة مرتبطة بالدولة ارتباطاً وثيقاً حتى بدت خارجياً وكأنها أداة لها.
في هذا الإطار يفهم موقف ماركس من إله اختلطت صورته إلى هذا الحد بنظام جائر عديم الإنسانية، وتفهم مأساة الاشتراكية التي بعد أن كانت في أول عهدها ذات وحي ديني في كثير من الأحيان ارتبطت منذ 1848 بفلسفة مادية إلحادية. أمام هذا الصنم الذي نصب باسم الله، نفهم معنى كلمة Proudhon القاسية: “من يحدثني عن الله يبغي سلب مالي أو حياتي”.
3 – الإله المتخذ حجة للتهرب من التزام شؤون الأرض:
ثم إن الإله الذي يرفضه ماركس هو ذاك الإله الذي يتخذه الإنسان وسيلة للتهرب من مجابهة مشاكل الحياة وذريعة ليعرض عن الجهاد في كثافة الكون من أجل بناء عالم أفضل.
لقد كتب رينه حبشي في هذا الشأن: “لقد قيل أن ماركس كان فيلسوفاً ضعيفاً ولكنه عالم اجتماعي عبقري. إن إلحاده عرضه للانتقاد، ولكن ضياع الإنسان في الدين الذي وصفه وصفاً حياً هو واقع اجتماعي يحققه كل الذين يخدمون إلهاً زائفاً يرفع عنهم عبء مسؤوليتهم كبشر. هذه الصورة المشوهة لله في الضمائر، يشهرها ماركس، كعالم اجتماعي، نهائياً.
هذا الإله بالطبع صنم نصنعه على شاكلة تقاعسنا وتخاذلنا لنتخذه تبريراً لطمأنينة زائفة وراحة شبيهة بالموت، ولكنه غريب عن الإله الحي الذي لا يرضى بأحبائه نياماً بل واقفين، منتصبين، يقظين، أحياء: “حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه” (إيليا النبي). التجربة الكبيرة التي تهددنا دوماً نحن المسيحيين هي أن نتخذ السماء ذريعة للهروب من الأرض ومشاكلها، بأن نرضخ لكل الأوضاع الشاذة، المؤلمة، على الأرض، خاصة إذا كان غيرنا ضحية هذه الأوضاع، لأننا ننتظر حياة أخرى. تجربتنا أن نكتفي، أمام الذي يئن تحت وطأة الجوع والفقر، يلفت أنظاره إلى العالم الآخر. قد لا نلتزم بإخلاص تام في شؤون العالم ولسان حالنا يقول: ما الفائدة من بذل الجهد في بناء هذا العالم، طالما أنه سيزول.
قد نستعمل الصلاة استعمالاً زائفاً، فنصلي من أجل هذا أو ذاك من الناس الأشقياء لنجنب أنفسنا مشقة مساعدتهم المباشرة. ويغيب عنا أننا عن ذاك، من حيث لا ندري، قد أزلنا الإله الحقيقي الحي من قلوبنا لنستبدله بصنم هو بالواقع “أفيون الشعب” وأفيوننا.
الإلحاد الماركسي، والإلحاد المعاصر عامة، شاهد الله من خلال هذا الصنم الذي رأى صورته الرهيبة في تصرفات المسيحيين. فهل نتعجب إذا كان رفض إلهاً كهذا باسم قضية الإنسان؟ لقد كتب فريدريك هر وهو فيلسوف كاثوليكي واستاذ في جامعة فيينا، يقول: “إن الإلحاد الأوربي يبطن تحرك إرادة قوية… إرادة متابعة وتطوير الصراع المشترك الذي يخوضه الناس جميعهم ضد الموت، واللامعنى، والقسوة والشقاء والجوع، تلك الجبهة التي انسحب منها الكثيرون من المسيحيين الذي تخلوا عن قضية الإنسان المقدسة…. واختبئوا وراء صور إلههم ليستروا بها هربهم”.
وبالمعنى نفسه قال السيد هولاي رئيس أساقفة درين: “لقد دفعنا ثمن اهمالنا، ثم لامبالاتنا بالمشاكل الإنسانية والاجتماعية الكبرى. كثيراً ما بقينا جالسين برخاء في مقعدنا الوثير المسيحي، نخلص نفوس أقلية منتخبة وراضية عن ذاتها. الأصوات النبوية التي كانت تصرخ في البرية لم تكن أصواتنا، ولكنها كانت أصوات اخوتنا اللا أدريين وغير المؤمنين الذين وعوا أكثر منا بكثير الجوع الذي يعانيه البشر إلى الخلاص والتحرر”.
بينما كان أنبياء الله وآباء الكنيسة يوبخون الظالمين دون وجل، كما انتصب إيليا أمام الملك آخاب وايزابل امرأته عندما اغتالت هذه الأخيرة نابوت لتستولي على كرمه، نرى هرب المسيحيين كثيراً عليه سنة 1949 في محاضرة له دعاهم فيها إلى نبذ المساومات والصمت الديبلوماسي وإلى الحكم على المظالم أياً كان مصدرها: “فليتكلم المسيحيون عالياً بوضوح دون أن يدعوا المجال لأي التباس، فلينددوا بإرهاب فرانكو كما ينددون بالحكم على “مطران يوغسلافي، بمعاملة الزنوج في أميركا كما بمعسكرات الاعتقال في روسيا. فليشترك المسيحيون في التجمع ضد الصمت ولا يدعونا وحدنا في وسط الجلادين”.
ليس إله الإعلان المسيحي ذريعة للتخاذل والخنوع. إنه دينونة رهيبة لكل ظلم لأنه وحد نفسه في شخص يسوع مع كل معذبي الأرض، فكل ظلم يصيبهم يصيب الله في الصميم: “كل ما فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه” (متى 25: 40)، ولكن كل سكوت عن الظلم، كل تقاعس عن مكافحته يصيبه أيضاً: “كل ما لم تفعلوه بأحد اخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه” (متى 25: 45). في معذبي الأرض نشاهد إذاً دوماً يسوع الجريح، المصلوب، وعند ذاك تنطبق علينا كلمة باسكال الشهيرة: “إن يسوع في نزاع إلى منتهى الدهر، فكيف يسعنا أن ننام؟”
لقد كتب الأب جورج خضر في هذا الموضوع: “إن سر التمرد الاجتماعي في العهد الجديد يكمن، فوق كل نص وشرح، في صورة هذا الذي كان جسده المبارك معلقاً بين الأرض والسماء وذراعاه ممدودتين إلى أقاصي الأرض، وكأن كل تنهد المقيدين اختلط بأنينه وكل من شرد في المسكونة وتمزق انضم إلى جراحه”.
لقد قال أحد البوذيين لصديق له مسيحي: “لن أعتنق المسيحية لأنني إن أصبحت مسيحياً، فلن أستطيع بعد ذلك أن أنام”. هذا كان قد فهم جوهر المسيحية الذي طالما نخونه نحن المسيحيين لأننا ننحدر بالله إلى مستوى راحتنا ورخائنا. من اعتنق المسيحية، لم يعد بوسعه أن يهرب من العالم لأن الله زج نفسه بالتجسد في صميم العالم وأصبحت البشرية كلها جسد المسيح وأصبحت آلامها آلام المسيح. ليست المسيحية أفلاطونية تتوق إلى الهروب من العالم هذا للتحقيق في عالم المثل، إنما هي ديانة الإله المتجسد، ديانة الكلمة الذي صار لحماً. ليست المسيحية ديانة “ما ورائيات” لأن ملكوت الله ليس “ما وراء” التاريخ.
سوف يتحقق بملئه عند نهاية التاريخ ولكنه منذ الآن حاضر: “إنها ستأتي ساعة، وهي الآن حاضرة”. ليس على هامش التاريخ البشري ولكنه ملقى في صميم التاريخ ليتجلى التاريخ به، لذا شبهه الرب بخمير ألقي في الدقيق، فيه وليس إلى جانبه. لا يسعنا أن نهرب من العالم (أما قال الرب: “لا أسأل أن ترفعهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير” يوحنا 17: 15)، لأنه المكان الذي ينمو فيه الملكوت.
هذا الملكوت ملكوت محبة. فمن رفض أن يعيش المحبة بكل أبعادها فقد رفض الملكوت. لا لقاء لنا بالله إلا من خلال لقائنا بالناس والتزام قضاياهم كلها إلى أبعد الحدود. في حوار جرى السنة الماضية بين مسيحيين وماركسيين في سالزبورغ، قال اللاهوتي الكاثوليكي الأب كارك راهنر الأستاذ في جامعة ميونيخ: “إن المسيحيين يقيمون علاقاتهم بالله من خلال محبة القريب”، وبهذا كان يرجع صدى كلمة الرسول يوحنا: “من لا يحب أخاه الذي يراه فكيف يحب الذي لا يراه” (1يوحنا 4: 20).
ولكن هذا الحب ليس على صعيد العاطفة بل على صعيد العمل الملتزم وبذل الذات: “بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك قد بذل نفسه لأجلنا، فيجب علينا، نحن أيضاً، أن نبذل نفوسنا لأجل الأخوة. فمن كانت ل خبرات هذا العالم، ورأي أخاه في فاقة فحبس عنه أحشاءه، فكيف تثبت فيه محبة الله؟ فلا نحبن… بالكلام وباللسان بل بالعمل وحقاً. فبذلك نعرف أننا من الحق…. ” (1يوحنا 3: 16 -19).
عندما بشر المسيح بالملكوت الذي أتى يؤسسه على الأرض، لم يكتف بإعلان قيامه في المستقبل لكنه بدأ يحققه في الحاضر، لا على صعيد النفوس فقط بل على صعيد الأجساد أيضاً. “فكان يشفي كل ألم وكل سقم في الشعب” (متى 4: 23) مقدماً بذلك بواكير الملكوت. ولذا عندما أرسل إليه يوحنا يسأله “هل أنت هو الآتي…”، أجاب يسوع الموفدين إليه: “انطلقوا واعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى ينهضون….” (متى 11: 4 ،5).
هكذا فملكوت الله عتق للناس شامل ألقى المسيح بذاره في التاريخ إلى أن يكتمل في نهاية التاريخ. لذا فالمسيحيون، وقد أخذوا حياة المسيح فيهم، مدعون إلى أن يمدوا المسيح في التاريخ بجهادهم في سبيل تحرير الناس. إن انتظارهم لمجيء ربهم ثانية لا يمكن أن يعني هرباً من مجابهة الواقع لأن هذا الانتظار، إن عنى شيئاً، فإنما يعني الامتداد إلى الملكوت والتحرك نحوه وبالتالي العمل على تحقيق بواكيره في التاريخ. نهاية العالم لا تعني زوال العالم بل زوال شكله الحاضر: “إن شكل هذا العالم يزول”.
إنها ستكون انفجار حضور الله في العالم كما سطع النور على وجه المسيح المتجلي. لقد كتب الفيلسوف الشخصاني المسيحي مونييه بهذا الموضوع: “بالنسبة للمسيحي… ليس من نهاية للعالم، ولكن نهاية العالم هي نهاية هذا العالم، أي بعبارة مختصرة، نهاية شقائنا”. وقال في مكان آخر من كتابه: “هذا العالم الذي نحبه، هذه الأعمال وهذه الأتعاب، هذه المشاهد الطبيعية وهذه التحقيقات، لن تباد كما في الكتب الرؤيوية الهندوسية أو الأفلاطونية الحديثة، ولكنها ستتجلى ما وراء الموت”.
نهاية العالم قد دعاها المسيح تجديداً وكذلك الرسول بطرس من بعده (انظر متى 19: 28، أع 3-21) والرسول بولس قال: “إن الخليقة ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله” (رومية 8: 21)، ويضيف الرسول نفسه قائلاً: “فنحن نعلم أن الخليقة كلها معاً تئن حتى الآن وتتمخض” (رومية 8: 22) المسيحي في صميم هذا الأنين وهذا المخاض يتعهده بروح المسيح ويساهم بعمله وجهاده المقرونين بالصلاة بتعجيل قدوم الملكوت المرجو حسب تعبير الرسول بطرس (2بطرس 3: 12).
المسيحي يحمل سرياً في ذاته منذ الآن، بنعمة الناهض من الموت، ذلك التجديد الذي سنفجر في الكون في اليوم الأخير: “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة” (2كورنثوس 5: 17)، لذا لا بد له أن يبثه في الأرض حسبما كتب الأب جورج خضر: “هذه الخليقة التي أخضعت للباطل ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أبناء الله. في تعهدنا إياها نجعلها قرباناً لأننا حملة الفردوس الذي كان الله يخاطب فيه آدم. ومن جعل الفردوس في نفسه يقذفه في الأرض قاطبة”.
موقف المسيحيين هذا الذي هو لا هرب بل التزام عميق، قد عبر عنه المفكر المسيحي جوزيف غولدبرونر بصورة شبيهة بصور الكتاب، يقول: “لقد اخبرت خطيبة أن خطيبها عائد إلى وطنه، فتجلى في عينيها كل ما يحيط بها. لقد أصبحت ترى وتعيش بصورة مختلفة ما يحيط بها، لأنها هي قد تحولت. وكأن كل شيء أصبح يحدثها عن مجيئه القريب. لقد تجدد شبابها وامتلأت قوى جديدة، فأصبحت تتفوق على الصعوبات بسهولة ولم تعد تهتم للأمور التافهة لأن لم يعد بوسع هذه الأمور أن تطالها في الصميم. كل شيء فيها ممتد إلى ذاك اليوم الذي يقترب. ولكن رغم هذا التفكير بالمستقبل هي تعيش في الحاضر: تتمم بعناية كل مهماتها حتى ترضي أعمالها كلها نظر ذاك الذي سوف يأتي. إنها في انتظار. لقد تحول شعورها بالزمن: إنها تعيش للمستقبل ولكنها باقية في الحاضر. لقد اندمج المستقبل بالحاضر. أصبحت حياتها انتظاراً”.
هكذا يتضح أن انتظار الملكوت لا يعني الهرب من الحاضر إنما يقضي تجلي الحاضر. من كان انتظار الملكوت يملأ قلبه لا بد له أن يحاول عكس صورته في العالم الذي يعيش فيه وكأنه بذلك يعجل قيامه. لدينا نموذج تاريخي عن التصرف المسيحي الأصيل في انتظار الملكوت، وهو ما حدث في الدنيا المسيحية الغربية حوالي السنة الألف للميلاد. فقد شاع في تلك الفترة المضطربة بالحروب والقلاقل والويلات أن العالم أوشك أن ينتهي وأن المجيء الثاني أوشك أن يحضر. فما كان يا ترى تصرف المسيحين تجاه ذلك الحدث الذي اعتقدوه وشيكاً؟ هل تركوا العالم وشأنه وأهملوا الأرض وما يجري عليها؟ لقد بين لنا عمانوئيل مونييه بالاستناد إلى مؤرخي ذلك العصر أن ما حصل هو العكس تماماً، فكأن لسان حالهم عند ذاك كان: “ملكوت الله يقترب؟ فلنكن جديرين به منذ الآن أو بالأحرى فلنستبق قدومه…”.
لذا نراهم يحاولون أن يقيموا في عالمهم المضطرب شيئاً من سلام الله المنتظر قدومه. فقد أخذ المؤمنون يعقدون اجتماعات للمسألة، وفي هذه الفترة بالذات تأسس ما سمي بسلم الله وهدنة الله وهي فترات كان ينقطع فيها المقاتلون عن القتال تعبداً لله. وهناك أكثر من ذلك، لقد ازداد النشاط الحضاري عند هؤلاء البشر في ذلك الزمن الذي كانوا ينتظرون فيه نهاية العالم. فنما عدد السكان وازدهرت الحياة الاقتصادية وفي الآن نفسه أخذت الكنائس تشيد بكثرة، وكأن المسيحيين حاولوا أن يهيأوا لله عالماً جديراً بقدومه القريب.
ويضيف مونييه بعد استعادته لتلك الوقائع التاريخية: “هكذا يتضح أن الرجاء المسيحي الحقيقي ليس هروباً. إن ترجي الآخرة يوقظ حالاً إرادة تنظيم الدنيا. كل أمثال الكتاب، مثل العذارى الجاهلات والعذارى العاقلات، مثل المدعو إلى العرس الذي لم يرتد ثوب العرس، مثل الوزنات، وغيرها كثيرة، تؤول إلى هذا: إما أن تكون الأخرى منذ الآن حاضرة بينكم وبواسطتكم وإما لن تكون بالنسبة لكم”. ويستطرد قائلاً: “تذكرون أنه عندما كان الرسل، بعد أن رأوا المسيح منطلقاً في السحب، لا يزالون واقعين بذهول رؤوسهم نحو السماء، اقترب منهم رجلان بثياب بيضاء وقالا لهم ما معناه: ما بالكم لا تزالون واقفين تتطلون في الفضاء؟ إن الذي ذهب سوف يعود. فمهمتك إذاً هي عند أقدامكم”.
تلك المهمة هي أساساً مهمة لن الملكوت، كما قلنا، ملكوت محبة. والمحبة، إذا عيشت “لا بالكلام واللسان بل بالعمل وحقاً” كما يوصي الرسول (1يوحنا 3: 18)، تدفع إلى بناء حضارة تؤمن للإنسان شروط حياة كريمة. لقد رأى برغسون في بحص فلسفي محض له أن الروحيات الكاملة ليس روحانية الاغريق أو الهند الي هي إلى حد بعيد هروب من العالم وآلامه. إنما هي الروحانية التي تجلت عند الأنبياء اليهود واكتملت في المسيحية، لأن تلك الروحانية تحضن العالم بحب خلاق هو اشتراك في حب الله لخليقته.
يقول برغسون عن الروحاني المسيحية: “إن الحب الذي يلهبه لم يعد مجرد حب إنسا لله، إنما هو حب الله للبشر كلهم. إنه من خلال الله وبالله يحب البشرية كلها حباً إلهياً”. هذا الاتجاه الحبي إلى العالم الذي تتميز به الروحانية المسيحية قد ترك في التاريخ طابعه لأنه بطبيعته حب خلاق، كما كتب برغسون مبيناً أنه اشتراك في حب الله لخليقته، هذا الحب الذي أوجد كل شيء، وإنه “يرد” بعون الله، أن يكمل خلق الجنس البشري”. إنه أمر يستدعي الانتباه أن تكون الحضارة التقنية قد نشأت وترعرعت في الدنيا المسيحية بالذات. ما هو سر هذه المطابقة التي لا يمكن التغاضي عنها؟ سأذكر هنا عاملين يساعدان على فهمها.
أولهما أن المسيحية أوجدت أصول السعي التقني إذ زرعت في البشرية إرادة تحرير الإنسان في العالم القديم الاغريقي والروماني قطع الفكر البشري شوطاً بعيداً وظهر عباقرة كثيرون برعوا في العلوم والفنون المختلفة وشيدت حضارة لا تزال إلى الآن تثير اعجابنا أما جبروت الفكر الذي أوجدها. ولكن هذا العالم الغني بفكره وحضارته كان فقيراً بالنسبة للاختراعات التقنية. ويرى الباحثون أن سبباً رئيسياً من أسباب هذه التأخر التقني كان اعتماد العالم الاغريقي والروماني في إنجازاته العملية على جمهور من العبيد كانوا يشكلون يداً عاملة رخيصة وغزيرة.
هذا الاعتماد كان يغني المجتمع الاغريقي والروماني عن الاختراعات التقنية، لأن الاختراعات وليدة الحاجة إلى حد بعيد، والحاجة هذه كان يقضيها العبيد. فقد كان الاغريق مثلاً يعرفون مبدأ الآلة البخارية ولكنهم لم يفكروا باستخدام هذا المبدأ في انجازاتهم العملية إنما اكتفوا بإيجاد لعبة مستوحاة منه. وعندما ظهرت المسيحية، نادت بمساوات الناس أجمعين: “لا عبد ولا حر…” (غلاطية 3: 28)، هكذا فإنها، وإن لم تلغ العبودية في الحال، نسفت مبدأها من الأساس وقوضت أركانها في النفوس.
لذا اقتضى البحث عن مصدر للطاقة غير الإنسان المستعبد، وكانت المسيحية هكذا موحية للسعي التقني الذي أدرى إلى الاستغناء عن العبيد. لقد كتب لويس أرمان في هذا الموضوع: “طيلة زمن طويل وفي كل مكان تقريباً، كان الإنسان المستعبد المصدر الرئيسي للطاقة… لقد كان تدخل المسيحية حاسماً دون أي شك. فإنها بتأكيدها المساواة الأساسية بين البشر وبإقناع الناس بها، انتزعت من المجتمع أساسه التقني. لذا أمكن أن نفهم أكثر المرحلة اللاحقة إذا أدركنا أنه اقتضى فيها إيجاد نظام انتاج ينشئ طاقة معادلة لتلك التي كان يقدمها العبيد سابقاً، دون الإبقاء على العبودية أو على الرق الأرضي الذي كان صورة مخففة عنها”.
أما العامل الثاني الذي يفسر تلك المطابقة التاريخية بين الدنيا المسيحية والحضارة التقنية، فقد أوضحه برغون في كتابه “مصدرا الأخلاق والدين”. لقد بين هذا الفيلسوف أن الروحانية المسيحية، بما أنها في جوهرها حب فاعل ونشيط، تبغي أن تشرك البشر أجمعين في خبرتها الفريدة لله. ولكن كيف يمكن للبشر أن يتجهوا حقيقة إلى الله ويتوقوا إلى الاتحاد به إذا كانوا رازحين تحت عبء الحاجات المعيشية؟ لذا كان لا بد للروحانية المسيحية أن توجد هاجس السعي التقني حتى إذا أعتق البشر باختراعاته من عبودية الحاجات الترابية استطاعوا أن يرفعوا قلوبهم إلى فوق.
تلك هي المجازفة الحبية التي خاضتها الروحانية المسيحية، أقول مجازفة لأن التقنية التي كانت غايتها الأصلية تحرير الإنسان من الحاجات المادية كانت معرضة أيضاً إلى إغراقه في تلك الحاجات (وهذا ما قد حصل بالفعل كما نرى وكما بين برغسون) ولكن هذا الانحراف لا يمكنه أن يخفي الدافع الروحي الذي عبر عنه برغسون بقوله: “إن الروحانية الحقيقية، الكاملة، الفاعلة، تتوق إلى الانتشار بدافع تلك المحبة التي هي جوهرها… ولكن أنى لها أن تنتشر في إنسانية غارقة في الخوف من الجوع؟ إن الإنسان لن يرتقي فوق الأرض إلا إذا كان لديه أدوات قوية يستند عليها. يجب أن يسود المادة إذا شاء أن يتحرر منها. وبعبارة أخرى الروحانية تستدعي الآلية.
وقد قال باغي بالمعنى نفسه: “من كان في عوز مفرط إلى الخبز اليومي يُفقد فيه كل تذوق للخبز الأبدي”.
هذا يفسر لنا كيف أن الرهبان، وهم بدعوتهم بشر متجهون بكليتهم إلى الله، كانوا يتركون الأديرة ليحملوا مشعل الحضارة إلى البرابرة بعد انهيار الامبراطورية الرومانية، ملقنين إياهم مبادئ الزراعة والحرف، بانين المجتمع الجديد قرية قرية. ذلك لأنهم فهموا في حبهم للناس المستقى من تأصلهم في الله ما قاله بولس عن أن الإنسان الحيواني يأتي أولاً ثم الروحاني (1كورنثوس 15: 46)، وأن بث الحياة الروحية يقتضي مساعدة الناس على تخطي حاجاتهم المادية بالتقنية.
هذا كله، إن عنى شيئاً، فإنه يعني أن الهرب من مجابهة العالم ومشاكله بحجة التطلع إلى الآخرة ليس من المسيحية بشيء، وإن الإله الذي نتخذه حجة لهذا التهرب، ذلك الإله الذي ترفضه الماركسية، ليس إله الاعلان المسيحي، إنما هو صنم صنع على شاكلة جبننا وأنانيتنا وكسلنا. إنه ليس بحال من الأحوال ذلك الإله الذي تعهد الكون بأسره. لقد كتب مونييه في هذا الموضوع: “لا يمكن أن يكون حس الأرض حساً معلوناً بنظر دين مركز على التجسد. إن الذين يلعنونه باسم المسيحية لا يزالون يحملون في ذواتهم، من حيث لا يدروه، رواسب اتتهم من أعماق التاريخ، رواسب روحانيات الهروب التي كانت حيلة الإنسان الداخلي الوحيدة قبل أن يضع الله قدميه على الأرض ويزرع شجرة القيامة في قلب الحضارات”.
هكذا يتضح ان المسيحيين لا يسعهم إلا أن يكونوا “ملتزمين مشاكل الأرض لدوافع من فوق” على حد تعبير فرنسوا مورياك. نعم إن المسيحي، خلافاً للماركسي، يعلم أنه ليس من تحقيق مطلق قبل انتهاء التاريخ. ولكن هذا التفاوت بين ما يراه ويحققه من جهة وبين ما يصبوا إليه من جهة أخرى لا يمكنه أن يكون، في حال من الأحوال، مدعاة إلى التخاذل، إنما ينبغي أن يكون مصدر قلق خلاق ويقظة وجهاد. لقد كتب مونييه في هذا الموضوع: “إذا كانت المسيحية المنسجمة مع نفسها تفرض علينا أن نكون في طليعة الجهاد من أجل العدالة الاجتماعية، فإنها تؤكد لنا أيضاً أنه، حتى نهاية الأزمنة، ستبقى حياة الإنسان الذي يريد أن يكون مسيحياً تناقضاً وصراعاً، وأنه لا يسعها في أي وقت من الأوقات أن تستكين في انسجام يدوم”.
ولكن المسيحي، في وسط قلقه هذا، متسلح بيقين يشدد عزائمه ويعطي لجهاده معنى، ألا وهو يقينه بأنه في جهاده هذا مساهم في قيامة المسيح أي في انتصاره النهائي على “الموت” بمعناه الكتابي أي على كل أشكال الضعف والعبودية والشر والشقاء والاضمحلال. لقد كتب الأب جان كردونيل بهاذ الصدد: “من بنود إيماننا أن المسيح انحدر إلى الجحيم، إلى هناك حيث لم يعد للبشر شكل البشر، بل أصبحوا أشباحاً بشرية. لقد اجتاز الموت كله. اجتاز كل أشكال الظلم، كل أشكال الموت.
فإذا كان قد ذهب إلى آخر كل ظلم، من كل جحيم، من كل موت”. إن الإيمان الأصيل بالقيامة لا يمكن بحال من الأحوال أن يحول المسيحي عن الجهاد في سبيل تحرير البشر، لأن يلزمه بأن يعمل على مد القيامة في التاريخ: “من قال إنه يؤمن بالمسيح قاهر الموت، ولا يجاهد، بشكل أو آخر، ضد كل أشكال الموت من عبودية وبغاء وبروليتاريا وإخضاع شعوب لأخرى بالقوة، هذا يكون كاذباً”. المؤمن حقاً بالقيامة لا يمكن أن يستريح لعتاقة الماضي، إما دأبه أن يندفع ويدفع معه البشرية المتسكعة في “ظلال الموت” نحو “جدة الحياة” التي أعدها للناس المسيح الظافر، فإنه “لا يمكننا أن نكون بآن أناس ماض تحافظ عليه ومؤمنين بالمسيح الناهض من الأموات، مستقبل العالم. المسيح أمامنا، في أقصى طليعة الإنسانية”.
الماركسيون أيضاً يتوقون بملء جوارحهم نحو المستقبل ولكن جهادهم البطولي في كثير من الأحيان، في سبيل غد أفضل، يفقد الكثير من معناه بسبب رفضهم لله وللقيامة. فما هو يا ترى المعنى النهائي لتضحية تبذل في سبيل بشرية يتآكلها الفناء فرداً بعد فرد وجيلاً بعد جيل؟ أما المسيحي فيعلم أن الموت بكل أشكاله قد ضرب في أساسه ضربة قاضية بالقيامة، وأن النصر في متناولنا إذا شئنا أن ندخل في مغامرة الحب الكبرى من أجل تحرير البشر من كل القيود.
4 – الإله الذي لا يقوم إلا على عجز الإنسان:
ثم إذا تأملنا الإلحاد الماركسي، نرى أن الإله الذي يرفضه إنما هو إله يستمد قدرته وعلمه من ضعف الإنسان وجهله، وكأن قوة هذا الإله لا تقوم إلا على عجز الإنسان، فإذا اكتشف هذا الأخير اقتداره لم يبق له إلا أن يرفض ذلك الإله الذي كان صورة لصغره وضعفه. هذا ما يلقي الضوء على بعض الحجج التي يستخدمها الإلحاد الماركسي في أيامنا لينكر الله، كأن يعلن رائد الفضاء تيتوف مثلاً بأن الله غير موجود لأنه لم يجده عندما غزا الفضاء بصاروخه أو كأن يعلن اليتشيف في تقريره المذكور أعلاه بأن الكيمياء الحديثة تؤكد الإلحاد لأن الإنسان قد توصل أن يوجد أجساماً جديدة.
إن هذا الحجج تبدو واهية، صبيانية، في نظر الإيمان الواعي، ولكنها مع ذلك تقلق الكثيرين. لماذا؟ لأن الكثيرين قد استعاضوا عن الإله الحقيقي بصورة كاريكاتورية عنه، فتصورا سيداً يسر بعجز عبيده لأن هذا العجز يضمن سيطرته عليهم، ولم يدروا أنهم هكذا صنعوا صنماً على صورة أهواء البشر وأن هذا الصنم ليس من الإله الحقيقي بشيء.
أما إذا نظرنا إلى الإله الحقيقي الذي أعلن ذاته لنا، فإننا نراه يقيم الإنسان سيداً على الخليقة، وكأنه فيها “خليفة الله” على حد تعبير الأب جورج خضر. يروي لنا سفر التكوين أن الله خاطب الجدين الأولين قائلاً لهما: “إنميا وأكثرا واملآ الأرض وتسلطا عليها…” (تكوين 1: 28). والمزامير تهتف مرددة صدى هذه الوصية ومعلنة كرامة الإنسان الفائقة: “بالمجد والكرامة كللته وعلى أعمال يديك أقمته. كلا أخضعت تحت قدميه…” (مزمور 8: 6، 7). تلك السلطة نابعة من كون الإنسان وحده بين المخلوقات قد خلق على صورة الله، لذا كان سلطانه على الخلائق نتيجة تفوقه عليها لكونه جعل على صورة سيدها ومبدعها.
غزو الفضاء اعتبر تحدياً لله ولكن غريغوريوس النيصصي، في القرن الرابع، كان يقول إن السماء والقمر والشمس ليست بشيء أمام عظمة الإنسان المخلوق على صورة الله: “أيها الإنسان تأمل في كرامتك الملوكية. إن السماء لم تصنع صورة لله مثلك ولا القمر ولا الشمس ولا شيء مما يرى في الخليقة… أنظر! لا شيء في الموجودات يستطيع أن يسع عظمتك!”.
تلك الصورة الإلهية، وإن شوهت بالخطيئة، إلا أنها لم تمحي. هذا ما لم تزل تعلمه أقدم الكنائس المسيحية. ولذا لم يزل الإنسان، بعد أن دخل الشقاء والموت إليه بالخطيئة، يحمل الطابع الإلهي، إلى أن تجسد ابن الله “لينهض الصورة التي سقطت منذ القديم” (خدمة تقدمة عيد الميلاد) ويعيد إلى الإنسان بهاء عنصره الأول، فزرع في الطبيعة البشرية طاقة لا حد لها، طاقة الألوهة التي حملها في الجسد.
فإذا كانت هذه كرامة الإنسان الفائقة في عيني إله الاعلان المسيحي، من أين أتت إذاً تلك التصورات التي أعطت الملحدين شعوراً بأن عظمة الله لا تستمد إلا من فقر الإنسان وعجزه وأن وجود الله يفترض تحقير الإنسان؟ إن عدة عوامل أدت إلى هذا الانحراف. منها ذلك الاعتقاد الذي شاع منذ القرون الوسطى بأن الله قابع في سمائه يسوس الخليقة من فوق دون أن يكون هناك تماس بينها وبينه.
هكذا صبغ الله بتصورات بشرية وجعل تعاليه وكأنه تعال جغرافي فيما هو تعالي كياني، وأصبح الله “منفياً في السماء” على حد تعبير أوليفييه كليمان، بينما قال الرسول عنه “إنه قريب من كل واحد منا، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أعمال 17: 27، 28)، وأصبحت علاقة الله بالإنسان علاقة سيد يراقب عبيده “من فوق” ويتمتع بالسؤدد عليهم، فيما قال الله في النبي “سأسكن فيهم وأسير فيما بينهم” (لاويين 26: 11، 12؛ 2كورنثوس 6: 16).
ذلك التصور البشري عن تعالي الله، سكبه الغرب المسيحي، في عهد الفلسفة المدرسية، في قالب لاهوتي، فجعل الله محصوراً في جوهره الذي لا يدنا منه يسيّر الخليقة ويقود الإنسان دون أن يكون أي اتصال صميمي بينه وبينهما. هذا الموقف كان مخالفاُ صراحة لتعليم الكتاب ولتقليد الآباء الذي بلوره في القرن الرابع عشر القديس غريغوريوس بالاماس أسقف تسالونيكية. ففي هذا المنظار الذي يعتبر بحق المنظار المسيحي الأصيل، ليس الله محصوراً في جوهره الذي لا يدنا منه، إنما هو متصل اتصالاً صميمياً بالكون بقواه، أي بحضوره المحيي في الخليقة وبنوع خاص في الإنسان.
ذلك الحضور الإلهي الذي يحمل غنى الحياة الإلهية، والذي دعاه الكتاب “مجد الله” أو “بهاء الله”، ينفذ إلى صميم الخليقة المادية، وهو وحده يفسر في النهاية تلك الحركة التطورية التي تتجه بموجبها نحو تحقيق أشكال أرقى فأرقى دون أن يتدخل الله “من الخارج” عند كل مرحلة هامة من مراحل هذا التطور، فيصبح هذا التدخل المفهوم على شكل تدخل الإنسان حلاً كسولاً لسد ثغرات المعرفة البشرية، ويحدر بالله إلى مستوى تغطية الجهل البشري. ليس دور الله أن يقوم مقام نواميس الطبيعة ولكن حضوره في الطبيعة أبعد وأعمق من تلك النواميس التي إن هي في ترتيبها العقلي إلا انعكاس لهذا الحضور الإلهي.
تعالى الله، إذا فهمناه على حقيقته، يعني بالضبط أن عمل الله لا يضاف، من حين إلى آخر، إلى العوامل الطبيعية لإيجاد مخلوق جديد، كالخلية الحية الأولى مثلاً أو الإنسان. فإننا أن أخذنا بتلك النظرة جعلنا عمل الله في مستوى عوامل الطبيعة وبذلك أبطلنا تعاليه. هذا التعالي يعني إذاً أن عمل الله لا يضاف إلى العوامل الطبيعية وإنما تلك العوامل كلها مستندة إليه في فعلها الطبيعي، مستمدة منه باستمرار وجودها وتنسيقها البديع.
لذا فللعلم أن يكتشف إلى ما لا نهاية هذا التنسيق على مستوى الطبيعية وحدها، له أن يسعى بوسائله الخاصة إلى سد جميع الثغرات التي لا تزال تحول دون تفسير شامل لتطور الكون، له أن يفتش في الطبيعة نفسها عن كل الحلقات المفقودة في خط التطور. ولكنه بسعيه هذا لا ينافس الله ولا يبطل وجوده إنما يؤكد هذا الوجود، لأنه بقدر ما يبدو ارتباط العوامل الطبيعية منسقاً، محكماً، لا ثغرة فيه، بقدر ذلك يزداد التساؤل حدة حول ما يفسر كون تلك العوامل الطبيعية الغاشمة قد تناسقت بذلك الشكل الغائي البديع فأوجدت الكون في خط تصاعدي يمتد من غيوم ذرات الهيدروجين والهيلوم الأولى إلى الجزيئات فإلى الجزيئات الضخمة إلى الخلية الحية كوحدة مركزة، مستقلة، فريدة، فإلى تجمعات عضوية من الخلايا الحية أكثر فأكثر تعقيداً وتركيزاً واستقلالاً ووعياً، فإلى الإنسان القادر على وعي ذلك التطور كله وإلى تعهده ومتابعته في خط إنساني حر، خلاق.
النواميس الطبيعية في تنسيقها التصاعدي البديع تفسر التطور ولكن تنسيقها هذا بحاجة إلى تفسير، فيرى فيه المؤمن قوة الله عاملة لا بالإضافة إلى عوامل الطبيعة بل فيها ومن خلالها في عملية خلق مستمرة حسب قول السيد: “أبي حتى الآن يعمل وأنا أعمل” (يوحنا 5: 17).
هذا المعنى الديني للخليقة الذي ضاع في أذهان الكثيرين من المسيحين طيلة قرون، ترجمه في الغرب إلى لغة العلم المعاصر ذلك العالم والمؤمن العظيم الأب تيار دي شاردين، ولكنه لم يزل من مقومات التراث المسيحي الشرقي. لذا كتب اللاهوتي الأرثوذكسي المعاصر أوليفيه كليمان: “إن ما يغمر الكون هو مجد الله وما يكسو الفتيات جمالاً هو الروح القدس”. وكن هذا المجد الإلهي قد اتخذ الإنسان مسكناً خاصاً له. لذا كتب الرسول: “أنتم هياكل الله الحي كما قال الله….” (2كورنثوس 6: 16)، أي أن الله ليس متربعاً فوق الإنسان حسب تصورات البشر ولكنه في تعاليه الذي هو تعالي المحبة شاء أن يكون ضيف الإنسان، وأقرب إليه من ذاته” (أوغسطينوس) وأن يجعل منه لا عبداً بل مشاركاً في حياة خالقه.
هذا تصميم الله منذ البدء بالنسبة للإنسان، وهذا ما شاء الله أن يحققه إلى أبعد الحدود بالتجسد والفداء. ولكن مفهوم الفداء نفسه قد شوه، فقد طغت عليه في الغرب خاصة فكرة حقوقية، فكرة وفاء الدين المتوجب على الإنسان تجاه العدالة الإلهية، ولذا حُصر الاهتمام بالخطيئة وبمحو الخطيئة وطمس ذلك البعد الأساسي من أبعاد التجسد ألا وهو أن الإله تجسد ومات وقام وصعد إلى السماء ليهب الإنسان الساقط الجريح ملء الحياة الإلهية جاعلاً إياه “مشاركاً للطبيعة الإلهية” على حد تعبير الرسول بطرس (2 بطرس 1: 4). إن فكرة تكفير الخطايا حجبت عن الكثيرين الغلبة التي جاء المسيح ليمنحها لنا على جذور الخطيئة فينا وعلى قوى الموت التي تتآكلنا والتأليه الذي نادى به الآباء مذ كتب إيريناوس عبارته المذكورة آنفاً “لقد صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً”.
هذا الانحراف الذي كثيراً من شوه تصور المسيحيين لعلاقة الله بالإنسان قد حدا بهم – ولا يزال – إلى اتخاذ مواقف فكرية مؤسفة لا تليق بالله ولا بالإنسان. منها ما دعاه مونييه بالسادية اللاهوتية، وقد وصفها بأنها “إرادة اذلال الوضع البشري”، “كأن الإنسانية لا تحقق تماماً مقصد الله إلا إذا تعثرت بشكل مضحك في أعمالها، وكأن الله فاشل يغتبط اغتباطاً رهيباً بإكثار عدد الفاشلين حوله”، ويرى مونييه في هذا الموقف تشويهاً نابعاً من نفوس مريرة، بخيلة، مضعضعة، ناقمة على كل فرح لأنه لم يتوفر لها وملصقة بالتالي بخلها ومرارتها بالله.
ومنها ذلك الموقف الشعوري السلبي الذي كثيراً ما اتخذه المسيحيون تجاه العمل الإنساني إذ رأوا فيه فقط لعنة ومشقة نتجا عن معصية الإنسان ونسوا من جهة أنه في جوهره، ذلك الجوهر الذي لم تزله المعصية، اشتراك في الخلق، ومن جهة أخرى أنه افتدي كما افتدي الإنسان كله بتجسد ابن الله وموته، وأن قوى القيامة قد زرعت فيه. لقد كتب مونييه في هذا الموضوع: “إن عمل البشر لا يزال مجذوباً بين الشريعة القديمة والجديدة، إنه يمزج إلى المياه العكرة، مياه الخطيئة الأصلية، المياه الظافرة، مياه القيامة. إن التشديد على روحانية العمل القصاصية قد أخفى روحانيته…. المجيدة”.
ومن هذه المواقف المنحرفة أيضاً ذلك الخوف من كل تقدم يحرزه الفكر البشري في اكتشاف أسرار الطبيعة وكأنه بذلك، في نظر عدد من المسيحيين، يتعدى على حقوق الله ويسلب معرفة لا حق له بها لأنها ملك إله يحتفظ بها ببخل لنفسه. ولكن هذا الإله البخيل، المستأثر، الحسود، الذي يشاء الإنسان قابعاً في الجهل، هل هو إله الإعلان المسيحي؟ يقول مونييه في هذا الموضوع: “إن أسطورة بروميتوس القديمة تبرز من جديد عندئذ تحت الروحانية المسيحية، كأن تلك الأسطورة التي تعبر عن أنانية آلهة الأولمب لها مكانها في عالم أتى فيه الله نفسه ليحمل إلى الإنسان نار ألوهته المقدسة”.
تلك المواقف والتصورات تفسر لنا تلك التهمة التي يوجهها الإلحاد الماركسي للمسيحية، تهمة إذلال الإنسان وتغريبه عن ذاته، تلك التهمة التي عبر عنها من جهته باكونين، أحد رواد المذهب الفوضوي في القرن الماضي، بقوله: “إن الدين هو افقار الإنسانية وإبادتها واستعبادها، بشكل مركز ومطلق، لصالح الألوهة”، وأيضاً: “لم يبق سوى الاختيار بين موقفين: الله موجود، إذاً الإنسان عبد. الإنسان ذكي، عادل، حر، إذاً الله غير موجود”. ولكن هذه التهمة لا تطال إلا تصورات دينية مشوهة بعيدة كل البعد عن الإعلان المسيحي الأصيل.
“فالمسيحية، كما يقول مونييه، تعطي حقيقة للإنسان كل قامته، وأكثر من قامته الإنسانية. إنها تدعوه إلى أن يكون إلهاً…”. إن إله الإعلان المسيحي يدعو الإنسان إلى التأله بالاشتراك في الحياة الإلهية وإلى تأليه الطبيعة معه. لقد كتب مونييه: “إن كل لاهوت الآباء هو بالفعل…. مديح طويل للبشرية…. إن القديس غريغوريوس النيصصي يرى في الإنسان صورة الله الكاملة والواسطة التي بها يثرو حق العالم المادي كله ويتحد بالله…. إن الإنسان لا يؤنس الطبيعة وحسب، كما يعلم ماركس، ولكنه يؤلهها بتقبله هو الاشتراك في اللاهوت”.
كم يبتعد هذا الإعلان المسيحي الأصيل عن التصورات الماركسية عن الدين! لقد كتب انغلز: “إن الدين من حيث جوهره يفرغ الإنسان والطبيعة من كل محتواها وينقل هذا المحتوى إلى شبح إله ما ورائي ينعم بدروه على البشر والطبيعة بجزء من كمالياته”. هذا الإله البخيل الذي يتحدث عنه انغلز، هو بالضبط “شبح” على صورة بخل الإنسان، ولكنه غريب عن الإله الحقيقي الحي الذي لا يكتفي بإلقاء فتات من خيراته على الخليقة ولكنه يدعو الإنسان، والطبيعة من خلال الإنسان إلى مشاركة لاهوته مشاركة حقيقية، صميمية، لا بل نراه، في يسوع المسيح، يفتقر لكي يغني الإنسان، كما علم الرسول بولس: “أنتم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، كيف أنه، وهو الغني، قد افتقر من أجلكم لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2كورنثوس 8: 9).
لذا فالتقدم العلمي والتقني ليس هو بحد ذاته تحدياً لله، إنما هو تعبير عن مقصد الله بالنسبة للإنسان. إنه تعبير عن صورة الله التي تجعل من الإنسان “عاملاً مع الله” على حد تعبير الرسول بولس (1كورنثوس 3: 9)، وكأن الله لم يجعل الخليقة كاملة منذ البدء ليترك للإنسان مجال المساهمة معه في خلقه. ولكن هذا التقدم العلمي والتقني هو أيضاً، في مقاصد الله، مساهمة في الفداء الذي بين القديس يوستينوس الشهيد، في القرن الثاني، إنه يشمل الجنس البشري قاطبة ويمتد إلى الأزمنة البائدة والتاريخ الآتي وليس فقط إلى فريق المؤمنين الحاضرين أو المستقبلين. إن الإنسان مدعو، بالتقدم العلمي والتقني، إن يساهم سرياً في بناء السماء الجديدة والأرض الجديدة ماداً قوة القيامة في الكون.
هذا الموقف المسيحي الأصيل من التقدم العلمي والتقني، وإن غاب عن بال كثيرين من المسيحين، إلا أن عدداً غفيراً من العلماء المسيحيين عاشه أو يعيشه. ففي القرون الوسطى نفسها، حيث أهملت الدينا المسيحية إلى حد ما شؤون الأرض، ظهر علماء مسيحيون وضعوا بأبحاثهم وتجاربهم مقدمات العلم الحديث، أذكر منهم الأسقف البير الكبير والراهب ريمون لول والراهب روجيه باكسون الذي أسس العلم التجريبي ثلاثة قرون قبل الباكون الثاني.
وعندما انطلق العلم الحديث ابتداء من عصر النهضة، كان كل رواده في الآن نفسه مفكرين مسيحيين، أذكر منهم فينشي وغاليلي (رغم خلافه مع الكنيسة الرسمية) والراهب كوبرنيك وديكارت وباسكال والراهب ماريوت وليبنيز (الذي إلى جانب اكتشافاته في الرياضيات عمل من أجل وحدة الكنائس) ونيوتن. وبصورة أعم، إذا استعرضنا تاريخ العلم في القرون الثلاثة الماضية، نرى أن ثلاثة أرباع العلماء في مختلف الفروع كانوا مؤمنين، نذكر منهم في حقل الرياضيات كوشي ونيوتن، وفي حقل علم الفلك كوبرنيك وكيبلر ولهنيرية وهرثل، وفي الفيزياء لورد كلفين وفرينيل وفولتا وأورستد وأمبير وفاراداي وبرانلي وماركوني، وفي الكيمياء لافوازييه وأفوغلادر ودالتون، وفي العلوم الطبيعية لينه ومانديل (مكتشف النظريات الحديثة في علم الوراثة، الذي كان راهباً) وفاير وكلود بارنارد، وفي علم طبقات الأرض تيرميبه، وفي علم آثار الحياة بوري (الذي كان كاهناً)….
هذا الإيمان المسيحي الذي ترجمه بناة العلم الحديث مجهوداً جباراً لاستغلال الأرض وتحرير الإنسان، لا يزال يوجه جهود الكثيرين من علماء اليوم. اكتفي بذكر العالم الفيزيائي ماكس بلانك أبا نظرية الـ quanta والفلكي الشهير أد ينغتون والاختصاصي الكبير في الأشعة الكونية لويس لوبرنس رينغيه، وفون براون مطلق الصواريخ الفضائية والكاهن جورج لوميتر أحد أصحاب نظرية تمدد الكون وبنوع خاص الأب بيار تيار دي شاردين ذلك المفكر الذي استقطب الفكر المعاصر كله فانكب على دراسته المؤمنون والماركسيون الذي جمع طيلة حياته إلى إيمانه العميق تنقيباً علمياً قاده إلى اكتشاف الـ sinanthrope إحدى حلقات التطور الإنساني، ذلك العالم الذي ضم في شخصه، إلى أن مات في فصح 1955 كما كان يتمنى أن يموت، في ذكرى القيامة، “الإيمان بالله والإيمان بالعالم” على حد تعبيره، إيمانين كانا دوماً يغذيان أحدهما الآخر.
وفي الاتحاد السوفياتي نفسه لدينا المثال الرائع الذي قدمه الأسقف لوقا المتوفي سنة 1961 والذي دخل الكهنوت سنة 1921، أي بعد الثورة الشيوعية، فيما كان استاذاً في كلية الطب في مدينة تاشقند، ثم سيم أسقفاً سنة 1923.
ولم يزل يمارس الطب إلى جانب رعايته الأسقفية، فبرع في الجراحة حتى أنه ذكر في الموسوعة الطبية السوفياتية الكبرى وحاز على جائزة ستالين. وكان في الحرب الأخيرة يدير في الآن نفسه أبرشية كراسنويارسك ومستشفيات المدينة. وفي سنة 1946 نقل إلى إبرشية سيمفاروبول وكانت عظاته مشهورة ولم ينقطع حتى موته عن خدمة البشر، ساهراً على صحتي النفس والجسد.
هكذا نرى أن الإيمان في أصالته ليس ضعفاً وخنوعاً إنما هو اكتشاف للطاقة الهائلة التي وضعها الله في الإنسان بالخلق والتجسد. نعم، “كلما اقترب الإنسان من الأبعاد الإلهية لدعوته، هدده الكبرياء أو الاكتفائية الشيطانيان. ولكن الكبرياء ليس في جرأة العمل، إنها في موقف الذي يحقق هذا العمل. إذا كان ينقل الجبال، فالقديس ينقل جبلاً بقلب بسيط بينما الإنسان المتباهي يزهو حتى في مشيته”. الطاقة الخلاقة التي يتميز بها الإنسان نورانية بطبيعتها لأن الله مصدرها، فإذا سطت عليها قوى شيطانية وحولتها إلى كبرياء واكتفائية فلا عجب في ذلك لأن الشيطان، كما علمنا الرسول، من شيمته أن يستخدم النور ليغوي به البشر، “متخذاً شكل ملاك نور” (2كورنثوس 11: 14).
أما الموقف المسيحي الأصيل فليس هروباً ولا اكتفائية، ولكنه موقف “شكري” أي إنه ذلك الموقف الذي تعيشه الكنيسة كلما أقامت سر الشكر، إذ ترفع إلى الله الآب، من خلال الخبز والخمر المقربين، كل طاقات الطبيعة وكل عبقرية البشر، قائلة له: “التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء”، فيتقبل الآب التقدمة محمولة إلى جسد ودم ابنه الذي بتجسد جعل الله من الطبيعة ومن البشر “جسده الكوني”.
هذا الموقف لا ذل فيه ولا انتفاخ، إنه وعي لحضور الله الخلاق في الكون وبنوع أخص في الإنسان الذي جعل سيد الكون ومؤلهه، ولكنه ليس محاولة استئثار بهذا الحضور بنهم وكبرياء يحكمان على الإنسان بعزلة قتالة، بل اتجاه حي إلى مصدر هذا الحضور في حركة عطاء ذات تلقائي لمن اعطانا أن نساهم في حياته الإلهية. لذا قابل رئيس أساقفة باريس السابق الكاردينال سوهار بي “الروحية الوضعية التي تريد أن تملك العالم دون أن تقدمه، والتزمت الجانسيني الذي يود أن يشجب الصعيد الزمني والنزعة إلى ابراز الإنسان على أنهما خطيئة ويكتفي في القداس بأن يقدم دون أن يملك” من جهة، و”الواقعية المسيحية” من جهة أخرى، تلك الواقعية التي تخالف كلاً من الموقفين السابقين و”تتخذ شعاراً لها: أن أملك لكي أقدم”.
هذا الوعي المزدوج بأن كل شيء لنا وبأننا نحن لله، قد عبر عنه الرسول بولس بقوله الرائع في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “لن كل شيء هو لكم، بولس كان أم أبلس، أما صفا، أم العالم، أم الحياة، أما الموت، أم الحاضر، أم المستقبل، كل شيء هو لكم، أما أنتم فللمسيح، والمسيح لله” (1كورنثوس 3: 21-23).