إله ماركس وإله المسيحيين – النقد الماركسي للدين – كوستي بندلي
إله ماركس وإله المسيحيين – كوستي بندلي
مقدمة
الإلحاد الماركسي هو بلا شك أهم مظاهر الألحاد المعاصر. وذلك أولاً بالنظر لامتداده. فإن ثلث الإنسانية، وهي العالم الشيوعي، تنتمي رسمياً إليه، إذ أنه في تلك البلاد “دين الدولة” إذا صح التعبير. ومن الصعب على أي إنسان يحيا هناك أن يكون له مركز هام إن يجاهر بإلحاده. ومن جهة ثانية تعود خطورة الإلحاد الماركسي إلى طابعه “التبشيري”. ففي العالم الشيوعي تقام الشعائر الدينية ولكنها تعتبر مظاهر فولكلورية يتغاضى عن وجودها ريما تزول مع الزمن ولا يسمح للأديان بأي تبشير فيما يسخر التعليم والصحافة والراديو والسينما والتلفزيون في بث الإلحاد، وفيما تقدم اكتشافات العلم وتحقيقاته على أنها ثمار الإلحاد. أما الناحية الثالثة في خطورة الإلحاد الماركسي فهي في كونه يقدم على أنه جزء لا يتجزأ من عقيدة جاهد أصحابها ولا يزالون وبذلوا التضحيات الجمة في سبيل تحرير الإنسان من الاستغلال والاستبداد، لذا فالتجربة الكبرى التي قد تهدد أفضل الناس وأكثرهم مثالية واستعداد للبذل والتضحية هي أن لا يميزوا في الماركسية بين إلحادها من جهة ودعوتها إلى العدالة من جهة أخرى، فيعتنقون الإلحاد لأنه قدم لهم على أنه ملازم لما استهواهم في الماركسية من قيم إنسانية أصيلة.
لن نبحث في هذه الدراسة في الماركسية عامة. إنما سنتوقف عند الإلحاد الذي تدين وتنادي به. سترى أولاً ما هو مفهوم ماركس لله والدين. ثم ننتقل إلى نقد النقد الماركسي للدين محاولين تبيان التناقضات والمآزق التي يقود إليها رفض الله في الماركسية. وأخيراً سوف نتساءل إذا كان الإله الذي رفضه ماركس هو إله الإعلان المسيحي وإذا كان إلحاد ماركس لا يعود، إلى حد ما، إلى تشويه صورة الله في ذهن المسيحيين أنفسهم.
إله ماركس – النقد الماركسي للدين
إن الإلحاد ليس مظهراً جانبياً من مظاهر الماركسية، مظهراً يمكن للمرء أن يتبناه أو يرفضه ويبقى ماركسياً، إنه عنصر أساسي في هذه العقيدة لا بل هو دعامتها كما صرح ماركس نفسه عندما كتب: “إن نقد الدين هو الشرط الأولي لكل نقد….”[1].
ثم أن هذا الإلحاد هو في الأساس رفض الله أكثر مما هو مجرد إنكار لوجوده. هذه صفة مميزة للإلحاد المعاصر الذي قيل عنه أنه ضد الألوهة أكثر مما هو إلحاد. فبينما كان إلحاد القرن الثامن عشر مثلاً ينكر الله لاعتباره وهماً يبدده العقل نرى الإلحاد المعاصر ينبع أساساً عن تصميم في الإرادة، تصميم يقضي بإبعاد الله لكي يوجد الإنسان. لسان حال الإلحاد المعاصر هو: “إذا كان الإنسان إلهاً، فلا يحق لله أن يوجد”. ويصف الفيلسوف المعاصر إتيان بورن هذا النوع من الإلحاد بقوله: “إنه مبدأ أولي أو بالأحرى تصميم أولي، إنه يقول: يجب ألا يكون الله لكي يوجد الإنسان”. نعم إن هذا الإلحاد يحاول بعدئذ أن يتذرع بحجج تؤكد موقفه ولكن من الواضح أن دور هذه الحجج إنما هو تأكيد موقف كياني، حياتي تلعب الإرادة والشعور فيه دوراً أساسياً.
هذا النوع من الإلحاد يبدو لنا في مؤلفات ماركس كتمرد على الله من أجل تأليه الإنسان. إنه واضح بنوع خاص في مؤلفات شبابه. فقد كتب مثلاً سنة 1841 في رسالة الدكتوراه التي حررها في موضوع ديموقريت وأبيقور: “إن الفلسفة، طالما وجدت قطرة دم ينبض بها قلبها المنتصر على الكون، الحر من كل قيد، ستقول لأعدائها مع أبيقور: ليس الكافر من يحتقر آلهة الجمهور، ولكن ذاك الذي يتبنى الأفكار التي يكونها الجمهور عن الآلهة. الفلسفة لا تخفي موقفها هذا. إن إعلان بروميتيوس: مجمل الكلام، إنني أكره كل الآلهة… هو إعلانها، هو خطابها أبداً ضد كل آلهة السماء والأرض الذين لا يعترفون بالوجدان الإنساني كالألوهة لا تقبل بمنافس…”
ويضيف قائلاً: “إن بروميتيوس هو أول قديس وأول شهيد في الروزنامة الفلسفية”.
وإذا تذكرنا أن بروميتيوس هو في الأسطورة اليونانية ذاك الذي اختلس نار الألوهة ليوجد بها الإنسان، وجدنا أن إلحاد ماركس هو في الأساس رفض لإله يتعالى على الإنسان، إنه محاولة لانتزاع الألوهة من الله لوضعها في الإنسان. وهكذا يبقى ماركس متعبداً للألوهة ولكن لا لألوهة مستقلة عن الإنسان (هذا ما يدعوه: الأفكار التي يكونها الجمهور عن الآلهة) بل لألوهة كامنة في الإنسان نفسه. وبعبارة أخرى يرفض ماركس الله لكي يؤله الإنسان.
هذا ما يتضح أيضاً من نصوص أخرى. لقد استوحى ماركس إلحاده جزئياً من الفيلسوف فوورباخ (1804 – 1872). كان هذا الفيلسوف الذي سوف نعود إلى أفكاره بعد قليل قد كتب في مؤلفه “جوهر المسيحية”: “إن نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون اللحظة التي سيعي فيها الإنسان إن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه: (الإنسان هو إله الإنسان)”. أما ماركس فإنه ردد صدى هذا التفكير عندما كتب: “إن نقد الدين يقود إلى هذه العقيدة وهي أن الإنسان هو للإنسان الكائن الأسمى”. وقد عبر ماركس عن الفكرة ذاتها بصور أخرى. فقد قال في الكتاب نفسه أن رفض الدين يجعل محور الإنسان وجذور الإنسان في ذاته عوض أن تكون خارجة عنه: “إن نقد الدين ينقذ الإنسان من الوهم… حتى يتاح له أن يتحرك حول ذاته”. وأيضاً: “الجذرية هي أن يأخذ الإنسان الأشياء من جذورها. ولكن، بالنسبة للإنسان، الجذور هي الإنسان نفسه. إن ما يثبت بداهة جذرية النظرية الألمانية… هو كونها تنطلق من الإلغاء المطلق للدين”.
وفي مكان آخر يعلن ماركس كيف أن رفض الله – في مفهومه شرط ليتحرر الإنسان من كل مرجع لذاته غير ذاته: “أي كائن كان لا يعتبر نفسه مستقلاً إلا إذا كان سيداً لنفسه ولا يكون سيد نفسه إلا إذا كان مديناً لذاته بوجوده.
“إن إنساناً يعيش بنعمة آخر يعتبر نفسه كائناً تابعاً. ولكنني أعيش كلياً بنعمة آخر عندما لا أكون مديناً له باستمرار حياتي وحسب ولكنه أيضاً خالق حياتي وينبوعها. إن حياتي لها بالضرورة أساس كهذا خارج عنها إن لم تكن خلقي أنا”.
هنا يضع ماركس قارئه أمام أحد أمرين، فإن وجود الله بنظره يعني عدم وجود الإنسان، أما عدم وجود الله فيعني وجد الإنسان. ولذا أضاف ماركس: “إن الإلحاد هو إنكار الله وبهذا الإنكار يؤكد وجود الإنسان”.
وهكذا فالإلحاد بالنسبة لماركس شرط للتحرر من التبعية والحصول على الحرية والكرامة اللذين لا وجود إنساني أصيل بدونهما. لذا تحدث ماركس بحماس عن بروميتوس الذي بعد أن قيده زفس على صخرة عقاباً له استمر في تحديه للآلهة، وكتب ما ركس موحداً بينه وبين هذه البطل الأسطوري: “إنني أفضل أن أكون مقيداً بهذه الصخرة على أن أكون خادماً لزفس الأب”.
وإذا تذكرنا، على ضوء تحليل فرويد، أن موقف الإنسان من الله يتأثر بشكل غير واع بموقفه من والده، وأن التمرد على الله في العصر الحديث مرتبط إلى حد ما بالتمرد على سلطة الوالد، قد نرى في تمرد ماركس هذا ضد “زفس الأب” بعض الجذور في النقمة التي قد تكون ساورته على والد يهودي اعتنق المسيحية سعياً دون جدوى وراء مصلحته المادية.
هذا الرفض الكياني لله الذي بدأ منذ شباب ماركس، فيما كان لا يزال معتنقاً المذهب المثالي وقبل أن يصبح مادياً وشيوعياً، حاول هذا الأخير أن يدعمه فيما بعد بنقد فلسفي للدين. لم يشأ في نقده هذه أن يتناول الدين مباشرة بل حاول أن يبين أن للدين جذوراً إنسانية بحتة وأنه إذاً من صنع الإنسان. الدين بالنسبة له مرض. والمرض يداوى بمعالجة أسبابه. لذا حاول ماركس أن يفتش عن الأسباب العميقة لظهور الدين حتى يمكن الإنسان من إزالتها فيزول هكذا الدين بزوالها.
وقد سار في سعيه هذا على نهج الفيلسوف الألماني فوورباخ الذي كان مثله تلميذاً لهيغل. ولكنه حاول أن يذهب في تحليله أبعد من فوورباخ بدراسته الإنسان ليس بحد ذاته بل في الأوضاع الحياتية التي يعيشها من اقتصادية واجتماعية.
لقد علم فوورباخ أن الدين نشأ من كون الإنسان، عندما أخذ يعي العظمة الكامنة فيه، قذف في سماء وهمية صورة هذه العظمة وسماها الله وأخذ يتعبد لها غير عارف أنها مجدر صورة لجوهره الإنساني. وهكذا أفقر الإنسان نفسه من قواها وميزاتها لينسبها إلى إله من صنع خياله، فلم يعد بوسعه أن يحقق الطاقات الكامنة فيه لأنه اعتبرها خارجة عنه، محققة في كائن وهمي. يقول فوورباخ بهذا المعنى: “إن الآلهة هم تحقيق أماني الإنسان” وأيضاً “إن ميزات الجوهر الإلهي هي ميزات الجوهر الإنسان” وأيضاً “ما هو جوهري في تحديد طبيعة الله مستمدة من طبيعة الإنسان. إن الإنسان يجرد من كل ما يعطى لله. يجب أن يفقر الإنسان لكي يغنى الله… يؤكد الإنسان في الله ما ينكره في ذاته”.
وقد تبنى ماركس موقف فوورباخ هذا واعتبر ان الدين هو الشكل الجذري لما دعاه بعد هيغل وفوورباخ “تغرب الإنسان عن ذاته” إذ أن الإنسان يفقد سلطانه ليفيد به فكرة الله وبخضوعه لسلطان إلهي مزعوم يخضع بالواقع لصورة مثالية عن نفسه. ولكن ماركس اعتبر أن تحليل فوورباخ ناقص، مبتور، لأن هذا الأخير اعتبر الإنسان كائناً مجرداً ولم ينظر إليه في واقعه الاجتماعي. فقد قال ماركس بهذا المعنى: “لم ير فوورباخ أن الشعور الذين نفسه هو من نتاج المجتمع وأن الفرد المجرد الذي يحلله ينتمي إلى شكل اجتماعي معين”.
وفي مكان آخر كتب: “إن أساس النقد الديني هو هذا: يصنع الإنسان الدين ولا يصنع الدين الإنسان. الدين هو بالحقيقة شعور الإنسان الذي إما لم يجد نفسه بعد إما فقد نفسه. ولكن الإنسان ليس كائناً مجرداً، خارجاً عن العالم الواقعي. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. هذه الدولة، هذا المجتمع ينتجان الدين، الذي هو وعي زائف للكون، لأنهما يشكلان عالماً زائفاً…”.
ولذا لم يكتف ماركس بترداد نقد فوورباخ للدين إنما اجتهد أن يظهر أن تغرب الإنسان عن ذاته أو فقده لذاته على الصعيد الديني إنما له جذور في فقده لذاته على الصعيد الاقتصادي.
لن نتوسع هنا في وصف ماركس لفقدان الإنسان لذاته على الصعيد الاقتصادي، وهو وصف يستحق الإعجاب بلا شك. فقد بين أن العامل في المجتمع الرأسمالي ليس حر التصرف بعمله لأنه مرغم، كي يعيش، أن يبيعه للرأسمالي الذي يتصرف به كما يشاء فيعين على هواه مدة العمل وشروطه الآلية والصحية وأجرته. وكذلك ليس العامل في مجتمع كهذا حر التصرف بنتاج عمله لأن كل ملكية لهذا الإنتاج تنزع منه، فيحرم من ثمرة جهوده فيما يستفيد منها أو يغتني صاحب العمل. هكذا يصبح العامل عبداً وإن لم تكن عبوديته مفضوحة كما كانت عند الأقدمين. إنه سلعة يُتاجر بها. إنه يفقد ميزاته الإنسانية ويتحول إلى شيء. هذا الوضع، وضع العبودية الذي يكرسه قيام مجتمع طبقي مبني على الاستغلال وقيام دولة تساند المستغلين وتحافظ على امتيازاتهم، هذا الوضع يعبر عن ذاته، بنظر ماركس، في الدين.
ذلك الإنسان الذي أضاع ذاته اقتصادياً واجتماعياً، سواء أكان عبداً أو رقيقاً أرضياً، كما في الماضي أو كادحاً مستغلاً كما هي الحال في الحاضر، هذا الإنسان شقي. كيف يمكنه إذاً أن ينجو من شقائه؟ لن ينجو إلا بإضاعة ذاته على صعيد آخر، على صعيد الدين. “هذا المظلوم الشقي سوف يحلم بكائن مثلي يتحلى بكل الصفات التي يملكها، هو الإنسان، ولكنهه لا يستطيع أن يحققها بسبب عبوديته. كل ذلك الغنى الذي يحسه في ذاته من عدل وحنان وحب وعلم وحكمة وحرية وابداع، كل تلك الكنوز التي لا يستطيع أن يحققها لأنه مظلوم ومستعبد لآخر، كل تلك الكنوز يقذفها الإنسان في كائن يسميه الله. ويتمنى أن يشركه هذه الكائن يوماً في هذه الصفات فيتضرع إليه. وبما أنه شقي في هذه الحياة يحلم بحياة أخرى حيث سيكون سعيداً لأنه أخيراً سيحقق ملء ذاته….
“وهكذا فالأديان كلها، بنظر ماركس، أوهام…. لأنها تقدم لإعجاب الإنسان كائناً يتحلى بصفات هي بالفعل خاصة الإنسان… إنها فقدان الإنسان لذاته، إذ أن الإنسان يجعل نفسه طائعاً وخادماً لأله ليس إلا كائناً من صنع خياله…. إن يجعل نفسه عبداً لشيء غير موجود…. يتعبد لأله هو عدل وحنان وحب والواقع انه هو الإنسان عدل وحب وحنان. بتعبده لله يتعبد الإنسان لذاته دون أن يدري، لأنه أفرغ ذاته من جوهره الخاص لصالح إله خيالي. إنه يتألم في سعيه إلى السماء ليحاول أن ينال، بعد الموت، فيما هي فيه. هذا السعي لا جدوى له بل هو مضر لأنه يمنع الإنسان أن يحقق ذاته. على الإنسان أن يجد هذه الكنوز فيه وليس خارجاً عنه”
هكذا يفهم نص ماركس الشهير: “إن الشقاء الديني هو من جهة التعبير عن الشقاء الواقعي ومن جهة أخرى الاحتجاج ضد الشقاء الواقعي. الدين هو تنهد المخلوق الرازح، هو قلب عالم لا قلب له كما أنه فكر زمن لا فكر له. إنه أفيون الشعب”.
الدين إذاً بالنسبة لماركس ملجأ للإنسان يحتمي به من مظالم المجتمع “قلب مجتمع لا قلب له”. إنه احتجاج ضد الشقاء وعلى نوع ما، دواء له. ولكن هذا الدواء أسوأ من الداء لأنه يخدر الإنسان “أفيون الشعب”)، يغرقه في الوهم، يبقيه في العبودية، يحول دون خروجه من واقعه المؤلم.
ولكن الدين أيضاً “فكر زمن لا فكر له”، أي أنه تفسير للكون والحياة والتاريخ يخترعه زمن لا يعترف بعد على التفسير العلمي للأشياء. أما التقدم العلمي فإنه يلغي هذه الفكر الزائف لأنه يكفي لتفسير الكون ولتحقيق الفردوس على الأرض.
هذا الدين الذي اعتبره ماركس مخدراً للمظلومين يمارسه أيضاً السادة الظالمون. ولكن معناه يتحول بين أيديهم إذ يصبح عندهم وسيلة للحيلولة دون ثورة العبيد، لإبقائه في حالة الرضوخ لواقعه. وهكذا فالدين الذي اخترعه المظلوم ليخرج من شقائه يصبح بين يدي الظالم وسيلة لاستعباده. لذا اعتاد الماركسيون أن يربطوا الدين بالطبقة الحاكمة وأن يظهروه أداة للظلم والاستعباد.
يلخص لينين هذا الموقف الماركسي من الدين بقوله: “إن الدين مظهر من مظاهر الظلم الروحي الذي تنوء تحته من كل مكان وزمان الطبقات الشعبية الرازحة تحت وطأة العمل الدائم لصالح الغير وتحت عبء الشقاء والعزلة. إن الإيمان بحياة أخرى ينشأ بشكل محتوم عن عجز الطبقات المستغلة المجاهدة ضد مستغليها كما ينشأ الإيمان بالآلهة والشياطين والمعجزات إلخ… من عجز الإنسان البدائي في صراعه ضد الطبيعة. إن الدين يخدر الذي يتعب كل حياته في الشقاء بأمل مكافأة سماوية فيعلمه الصبر والرضوخ. أما الذين يعيشون من تعب الغير فإنه يعلمهم أن يمارسوا الإحسان في هذه الدنيا، مقدماً لهم هكذا تبريراً رخيصاً لكل حياتهم كمستغلين، بائعاً إياهم بثمن بخس بطاقات اشتراك في السعادة السماوية. الدين هو أفيون الشعب. إنه نوع مبتذلك من الفودكا الروحية يغرق بها عبيد الرأسمال كيانهم البشري ومطالبتهم بحياة لائقة نوعاً ما بالإنسان”.
وفي مكان آخر يقول: “الدين أفيون الشعب. تلك الجملة الماركسية هي حجر الزاوية لكل المفهوم الماركسي للدين. إن الماركسية تعتبر الديانات والكنائس الحديثة والمنظمات الدينية على أنواعها، على أنها أدوات للرجعية البورجوازية في سبيل الدفاع عن الاستغلال وطمس عقول الطبقة العاملة” وأيضاً: “الله، في التاريخ وفي الحياة، هو قبل كل شيء مجموعة أفكار… تخدر حرب الطبقات” وأيضاً: “إن كل دفاع عن فكرة الله، مهما كان دقيقاً ومهما طابت نيته، او كل تبرير لهذه الفكرة، هو بمثابة تبرير الرجعية”.
ولكن يدعم ماركس مفهومه للدين على أنه صورة لواقع اجتماعي على حد قوله: “العالم الديني هو انعكاس للعالم الواقعي”، اجتهد بأن يظهر العلاقة القائمة بين الدين وحضارة البشر الذين يعتنقون هذه الدين. وقد توصل الماركسيون هنا إلى نتائج وصل إليها أيضاً غيرهم من مؤمنين وغير مؤمنين ألا وهي أن الدين يتأثر بالوضع الاجتماعي والاقتصادي. فالدين يتخذ أشكالاً مختلفة إذا كان الإنسان صياداً أو مزارعاً أو راعياً، وكذلك تختلف المعتقدات تبعاً لاتساع الجماعة البشرية من القبيلة إلى الأمة إلى الامبراطورية. ولكن تفسير الماركسية لهذا الواقع هو أن الدين وليد الظروف الاجتماعية التي مردها بدورها الظروف الاقتصادية. أن أنغلز توسع في محاولة تطبيق المادية الماركسية على تاريخ الأديان. وقد حاول في كتابه Ludwig Feuerbach أن يبين أن الاعتقاد بإله واحد في المسيحية الذي خلف الاعتقاد بتعدد الآلهة كان نتيجة توحيد الأمم المختلفة في الامبراطورية الرومانية وأن الكثلكة كانت تعبيراً عن المجتمع الاقطاعي والبروتستانتية عن بروز البورجوازية الخ…
وإذا كان الدين في مفهوم ماركس انعكاساً وهمياً لواقع اقتصادي واجتماعي جائر، يكون زواله إذاً رهناً بزوال هذا الواقع. إذا أبطل الوضع الجائر فلا حاجة بعد للوهم الديني للخلاص منه. يقول ماركس: “إن تهديم الدين بصفته سعادة وهمية للشعب إنما هو من مقتضيات سعادته الحقيقية. إن المطالبة بتخليه عن أوهامه حول وضعه يعني المطالبة بالتخلي عن وضع يحتاج إلى الوهم. إن نقد الدين هو إذاً مقدمة لنقد وادي الدموع الذي يشكل الدين هالته”. إذاً يكفي أن يلغي الجور الاقتصادي والاجتماعي إي ان يجعل الإنسان حراً وسعيداً، لكي ينهار كل دين. إذا حول المجتمع وحرر الإنسان فلن يعود من داع للإيمان بالله. لقد كتب ماركس بهذا الخصوص: “إن الدين فارغ بحد ذاته. إنه من الأرض يعيش لا من السماء. فإذا انحل الواقع الغاشم الذي يشكل الدين نظريته، سينهار الدين من ذاته”. وأيضاً: “إننا لا نزعم أن على المواطنين أن يلغوا عبوديتهم الدينية ليتحرروا من عبوديتهم العالمية. لكننا نؤكد أنهم يلغون عبوديتهم الدينية فور الغائهم عبوديتهم العالمية”.
يفترض والحالة هذه أن الماركسية لن تحارب الدين مباشرة بل تنتظر زواله بزوال الأوضاع الاجتماعية التي أوجدته، ولكن ماركس يعتبر أن هناك تفاعلاً بين الدين والوضع الجائر الذي أوجده، كما أن هناك تفاعلاً بصورة عامة، في نظره، بين الأسس الاقتصادية وبين ما ينبثق عنها من مبادئ ونظم وأفكار. إذا كانت المظالم الاجتماعية أوجدت الدين، فالدين بدوره يثبت هذه المظالم إذ يعطي أسلحة للظالم ويضعف مقاومة المظلوم. لذا يطلب ماركس محاربة الدين والمظالم الاجتماعية في آن واحد. وقد كتب لينين في هذا الموضوع: “يجب أن نحارب الدين. هذا هو الالفباء لكل المادية وبالتالي للماركسية. ولكن الماركسية ليست مادية تقف عند الألفباء. الماركسية تذهب إلى أبعد من هذا. إنها تقول: يجب أن “نعرف” كيف نحارب الدين. هذا يعني أنه يجب أن يفسر، من المنظار المادي، مصدر الإيمان ودين الجماهير. يجب ألا تنحصر محاربة الدين في تبشير إيديولوجي مجرد… يجب أن تربط هذه المحاربة بممارسة راهنة لحركة الطبقات بغية إزالة جذور الدين الاجتماعية”. ولكن المعروف أن محاربة الدين في البلاد الشيوعية تجاوز توصيات لينين المعتدلة، إذ استعمل الاضطهاد السافر ووسائل الضغط الإداري من إغلاق كنائس وأديرة ومدارس إكليريكية ومراقبة الأهل الذين يعمدون أطفالهم وما شاكل ذلك، مما يظهر أن تحسين الأوضاع الاجتماعية واستخدام الوسائل المدعوة “علمية” في الدعاية اللادينية لم يبدوا كافيين لإزالة الدين.
[1] ماركس: نقد فلسفة الحقوق عند هيغل.