إله الإلحاد المعاصر – توطئة – كوستي بندلي
إله الإلحاد المعاصر – توطئة – كوستي بندلي
“الله لم يمت. الله لا يموت، ولكننا نحن نقتله في نفوس الكثيرين من البشر”.
(رويز غيمنين، أستاذ الاقتصاد في جامعة مدريد، في المؤتمر العالمي الثالث لرسالة العلمانيين – روما 1967)
“الله لم يمت. إنه حي الأحياء، ولكن ينبغي أن يموت العديد من الآلهة الكذبة، كي تنقى الطريق إلى قدس الأقداس”.
(إتيان بورن: الله لم يمت، ص15)
“يدعوننا ملحدين، وبالفعل نحن ملحدون بالنسبة لتلك الآلهة المزعومة، ولكننا نؤمن بالإله الحقيقي”.
(القديس يوستينوس الفيلسوف المستشهد نحو 165: الدفاع الأول)
“ألا ينبغي أن نقبل استجواب الالحاد هذا وأن نتبناه إلى حد اكتشاف وجه الصواب في الالحاد، إلى حد اكتشاف أنفسنا ملحدين على نوع ما؟
ملحدين، لأننا نرفض نحن أيضاً، الإله الدركي الإله ملجأ الجهل، إله الفوضى القائمة. وبذلك بالضبط نكتشف أن إلهنا هو الإله الحي، الإله الذي ليس اقتداره سوى… التخلي الكامل عن كل ما يشبه إرادة التسلط، إله تختلف تعاليمه جذرياً عن كل ما يمكن أن نختبره في المستوى الطبيعي. إذ هو تعالي الحب الذي يعطي ذاته كلياً دون رجعة، إله لا يطلب منا أن نرضخ للشر بل تعبر شهادته عن ذاتها على أنها احتجاج ضد الشر وإرادة ملحة بأن تتغير الأوضاع وعطاء ذات كلي حتى التضحية المطلقة في النضال ضد كل ما يسحق الإنسان”.
(ج. تتالسون، في أسبوع المفكرين الكاثوليك 1965)
“لا نبالغ إذا قلنا إن في الأوضاع التاريخية الحالية… الإيمان هو عند ملايين من المسيحيين أساس لإرادتهم في النضال ضد المظالم والاستغلالات. إن الاحتجاج التلقائي ضد عالم ظالم جزء لا يتجزأ من إيمانهم”.
(المفكر الشيوعي روجيه غارودي من الفرز إلى الحوار، ص 116 – 117).
توطئة
من مميزات الإلحاد المعاصر أنه لا يتعرض لوجود الله بحد ذاته بقدر ما يتعرض لعلاقة الله بالإنسان. فوجود الله بحد ذاته أمر لا يهمه كثيراً، لذا نرى الشاعر الألماني هنري هين يتلفظ بتلك العبارات التي رددها فرويد من بعده: “فلنترك السماء للملائكة والعصافير”، والشاعر الفرنسي بريفير يقول: “أبانا الذي في السماوات، ابق فيها”. ما يؤكد الالحاد المعاصر على نفيه هو إذاً علاقة الله بالإنسان، تلك العلاقة التي تجعل للإنسان مرجعاً وغاية غير ذاته. ما يرفضه الالحاد المعاصر بنوع خاص هو أن يستقطب الله وجود الإنسان.
ذلك أنه يعتقد أن الوجود الإنساني يتلاشى ويزول إذا استقطبه وجود آخر، إن الإنسان يضيع في الله. علاقة الله بالإنسان لا يمكن أن تكون، والحالة هذه، سوى علاقة استعباد لا ينجو الإنسان منه إلا بنضال عنيف ضد فكرة الله إلى أن يتسنى له استئصالها من نفسه ومن نفوس الآخرين. لذا فالإلحاد المعاصر هو رفض لله أكثر مما هو نفي لوجوده، إنه موقف إرادي أكثر مما هو عملية عقلية صرفة، ولذا يتخذ شعاراً له تمرد بروميتيوس على جوبيتر كما ترويه الأساطير القديمة.
ويرى الإلحاد المعاصر أن الإنسان، برفضه الله مرجعاً وقطباُ لوجوده، يجد نفسه، لأنه يتحرر من تلك الأوهام التي كانت تحول بينه وبين تحقيق ذاته على أكمل وجه، تلك الأوهام تنبع، يقول الإلحاد المعاصر، عن أهواء الإنسان ومخاوفه، فتتخذ وجهاً إلهياً وتنقلب على الإنسان لتستعبده. لذا فرفض الله يصبح في هذا المنظار انتقالاً من الوهم إلى الحقيقة، من الخوف إلى الاقدام، من الجمود والاستكانة إلى الحركة الخلاقة، من العبودية إلى الحرية، من الأنانية إلى العطاء. كثيراً ما كان الإلحاد القديم يتخذ وسيلة للانفلات الخلقي، أما الالحاد المعاصر فإنه يتخذ طابعاً مناقبياً وينصب نفسه مدافعاً عن القيم الخلقية مدعياً أن الإيمان بالله إنما هو دوس لها.
هاتان الميزتان اللتان يتصف بهما الإلحاد المعاصر، أي طابعه الإرادي وطابعه المناقبي، سوف نجدهما في موقفين يمثلان وجهين هامين من وجوه الإلحاد الحديث، ألا وهما الإلحاد الماركسي والإلحاد الوجودي (وهو الوجه الملحد للوجودية). هذان الموقفان هما موضوع هذه الكتاب الذي ليس هو إذاً بحثاً شاملاً في الماركسية والوجودية، إنما هو تحليل للإلحاد الماركسي من جهة ولإلحاد أحد أقطاب الوجودية (التي لها أيضاً أقطاب مؤمنون) ألا وهو سارتر، من جهة أخرى.
سنحاول بعد عرض موقف كل من هذين الإلحاديين أن نجيب على سؤال وجيه، ألا وهو: هل استطاعا أن يستغنيا عن الألوهة وأن يوجدا الإنسان بمعزل عنها؟
ولسوف نرى أن الماركسية لم ترفض الله إلا لتضفي صبغة الألوهة على المادة والتاريخ، فتجعل منهما صنمين ينقلبان على الإنسان ليحطا من كرامته ويسحقاه؛ فالإنسان الذي يسود المادة بعمله البروميتي ليس هو، ويا للغرابة، في هذا المنظار، سوى وليد مادة مؤلهة، والتاريخ الذي هو من صنع الإنسان وفي خدمته يصبح ساحقاً للإنسان الراهن مستخدماً إياه “كفحم في قاطرته”.
أما الإلحاد السارتري فقط كان أكثر منطقية مع منطلقه إذ ذهب في انكار الله إلى أقصى نتائجه، فأكد بأن الإنسان “شهوة لا جدوى لها” وأن لا مبرر لوجوده، وأن كنزه الوحيد، ألا وهو الحرية، فراغ ولا معنى. ولكنه هو أيضاً، بإضفائه صفة الإطلاق على تلك الحرية الجوفاء، أوجد صنماً يتعبد به الإنسان لفراغه، فيصبح أسير هذا الفراغ. هكذا لم يرفض هذان الإلحادان الله باسم الإنسان إلا ليستعيضا عنه بأصنام تسحق الإنسان، فضلاً عن أنها عاجزة عن الجواب عن السؤال الجذري الذي يطرحه الإنسان على نفسه، وهو سؤال الأسئلة، السؤال عن معنى حياته وموته.
الإلحاد المعاصر “بيت منقسم على نفسه” كما يقول إتيان بورن. ويستلهم المفكر النهج الذي سلكه باسكال في معالجة فلسفتين كانتا تتجاذبان الأفكار في عصره، فيقابل الشطط الكامن في كل من الإلحادين المعاصرين اللذين نحن بددهما بالصواب الكامن في الآخر.
بهذه الروح عينها يمكن القول بأن الماركسية مصيبة في رفضها اللامعنى الذي تنادي به السارترية وبتأكيدها بأن الوجود والتاريخ لهما معنى ويستقطبهما تحقيق مطلق لإنسانية الإنسان: فاللامعنى نفسه لا يحدد إلا بالنسبة لمعنى يستقطبنا ونقيس به الأشياء. ولكن السارترية بدورها مصيبة في تبيانها أننا، إذا شئنا أن نذهب إلى أعماق الأمور، فالوجود الإنساني بدون الله لا معنى له؛ وبالفعل فإن انتصار الإنسانية الذي تتغنى الماركسية به ملحمياً جاعله منه قمة التأريخ وهدفه يفقد معناه طالما أن التاريخ وحده لا يسعه أن يحرر الإنسان من العزلة والشر والموت. هكذا فالإنسان كائن ذو معنى، يسير نحو المطلق (تلك هي حقيقة الماركسية) ولكنه عاجز أن يحقق هذا المعنى بنفسه (تلك هي حقيقة السارترية). وإذا ترجمنا ذلك بلغتنا المسيحية نقول: إن الإنسان مخلوق على صورة الله ومدعو للتأله، ولكنه ليس الله ولا يحقق ذاته إلا الله.
الله وحده قادر إذاً أن يزيل متناقضات الإلحاد المعاصر وأن يجمع ويؤلف ما فيه من حقائق مبعثرة. ذلك أن حقيقة كل من الإلحادين ترد إلى الألوهة التي رأت الماركسية أثرها ولاحظت السارترية غيابها الظاهري في الكون. ولكن شططهما ناتج من كون الماركسية رأت الأثر فوقفت عنده، وبأن السارترية لم تفقه بأن غياب الله الظاهري إنما هو عائد إلى تعاليه وإلى احترامه لاستقلال الكائنات ولحرية الإنسان. حقيقة كل من الالحادين ترد إذاً إلى الله الذي يستقطبهما من حيث لا يدريان وشططهما كامن في رفضهما لله.
هنا يفرض علينا هذا التساؤل؛ من هو الإله الذي رفضه كل من ماركس وسارتر؟ لقد كبت جان بارو، وهو كاهن شاب أتى إلى الإيمان بعد أن ترعرع في بيئة ملحدة، كتب في مذكراته “إيمان وثني” ما يلي: “ذات يوم كنت، كما تسنح الفرصة لي مراراً، أناقش عدة مفكرين ملحدين… كانوا ينكرون الله وأنا أصغي إليهم. ولكنني كنت أحس بشعور غريب، شعوري بأنني اوافقهم كلياً في نكرانهم، ومع ذلك، لم أكن البتة منكراً لإيماني. تركت السهرة تنتهي على هذا المنوال، ولكنني كنت مشغول البال بسبب موقفي هذا: لو لم أزل في عهد المدرسة الاكليريكية، كنت ناضلت، حاججت، ناقشت الأمور نقطة نقطة. فما الذي جرى إذاً؟ لقد أدركت فيما بعد أسباب لامبالاتي: لم يكن إلهي ذلك الإله الذي كانوا يحطمونه أمامي؛ لم يكن إله يسوع المسيح؛ لم يكن سوى صورة كاريكاتورية؛ لم يكن سوى صنم: وكان هذا التقليد لا يطاق بالنسبة لي كما كان بالنسبة لهم! إيماننا كان “آخراً”.
بالفعل إذا تفحصنا صفات ذلك الإله الذي ينكره الإلحاد المعاصر وجدناه إلهاً يذل الإنسان، يقيده، يعميه، يسحقه، يحكم عليه بالسلبية والجمود والخنوع وبطفولية أبدية. إنه إله لا يستمد عظمته إلا من ضعف الإنسان وجهله وذله. ولكن أين هذا الإله من ذاك الذي كشف لنا ذاته في وجه يسوع المسيح، فظهر لنا محبة محيية، محررة، موقظة، مؤلهة؟
بعد تلك المقابلة يتبادر لا محالة إلى ذهننا هذا السؤال: كيف أمكن للإلحاد المعاصر، وقد ظهر في بيئة مسيحية، أن يرى صورة الله مشوهة بهذا المقدار؟ قد يكون لهذا السؤال جوابان.
أولهما أن نزعة الإنسان إلى الاكتفاء بذاته تحدو به إلى رفض كل مرجع وأصل له خارج ذاته، عندئذ لا بد لموقف الرفض هذه أن يصور الله بصورة الطاغية المستبد، كما أن رفضنا لإنسان ما يصور الله بصورة الطاغية المستبد، كما أن رفضنا لإنسان ما يصور لنا هذا الإنسان بأبشع الألوان. ولكن هناك سبباً آخراً قد يكون السبب الجوهري، ألا وهو ان تلك الصورة البشعة التي كونها الإلحاد المعاصر عن الله إنما وجدها في أذهان المسيحيين، فنقلها عنهم ليرفضها، وبعبارة أخرى إننا نحن معشر المسيحيين أوجدنا إلى حد بعيد هذا الصنم الذي يرفضه الملحدون مسمين إياه الله كما نسميه نحن. الحق يقال إن الإله الذي يعبده المسيحيون بعد في كثير من الأحيان وبمقادير مختلفة عن إله يسوع المسيح. هذا ما سيحاول هذا الكتاب أن يبينه.
ولكن ما هو أصل ذلك الصنم أو بالأحرى تلك الأصنام التي كثيراً ما تحتل في تديننا مكان الإله الحي؟ يبدو لي أنه يمكن ردها إلى مصدرين: تصورات الإنسان وأهوائه. فمن جهة لا بد للإنسان أن يتصور الله بالانطلاق من خبرته الإنسانية وعلى ضوئها، هذا أمر طبيعي ومشروع لأن كل ما في الكون إشارة إلى باريه، ولكن الشطط يبدأ عندما يخلط الإنسان بين الإشارة وما تشير إليه، بين الرمز والمرموز إليه، فيؤله تصوراته عوض أن يتجاوزها باستمرار، كما يدعوه الكتاب والتقليد المسيحي كله، في موقف متعبد، خاشع، في صمت الذهول والحب أمام الحضرة الإلهية التي تفوق كل وصف وتصور.
أما التعليل الثاني لأصنام الله فهو كون الإنسان معرضاً دوماً أن يكوّن عن الله صورة ترضي أهواءه وتبررها، فينحدر بالله إلى مستوى أنانيته ومطامعه ومخاوفه عوض أن يتجاوز أهواءه ويصعدها في خط الله. يلاحظ الفيلسوف المسيحي المعاصر كلود تريمونتان أن ما يكرهه الإله القدوس الذي نادى به الأنبياء، ارتكب في التاريخ باسم الله: “إن التقتيل والتعذيب، واستغلال الإنسان للإنسان، والعنصرية، والقومية الصنمية، كل ذلك، كما هو معلوم، غُطي باسم الله…. ليس الاسخريوطي فرداً وحسب. إنه جحفل. فالخيانة بقبلة هي، عبر الأجيال، النصيب الدائم “للحق الوديع المصلوب”…. هذا ما يفسر إلى حد بعيد الاشمئزاز الذي يثيره اسم الله في نفوس أفضل الملحدين وأبرهم”.
هكذا يتضح أن للإلحاد المعاصر وجهاً إيجابياً. حقيقته كامنة في الشهادة النبوية، التي يؤديها من حيث لا يدري، لوحدانية الله، تجاه كل التصورات الصنمية التي تحدره إلى مستوى تصورات الإنسان وأهوائه. أنه برفضه الأصنام يسعى ضمناً نحو المطلق الإلهي، وباحتجاجه ضد كل خيانة للحقيقة والعدالة ترتكب باسم الله يشهد ضمناً لذاك الذي هو الحق والعدل المنزهان عن كل شائبة. مجمل الكلام أن للإلحاد المعاصر دوراً في تنقية الإيمان، لا بل يمكننا القول أنه، كما أن الإيمان الزائف إنها هو إلحاد عمل لأنه يزيح الله باسم الله، هكذا فالإلحاد، بالعكس، يقترب، على قدر أصالته، من الإيمان الحق. بهذا المعنى كتب دوستويفسكي، هذا المؤمن الذي استطاع أن يسبر أعماق الإلحاد: “إن الإلحاد الكامل يقف في أعلى السلم، على الدرجة قبل الأخيرة قبل الإيمان الكامل”.
لذا يجب أن يكون موقفنا من الإلحاد المعاصر موقف اصغاء لنتعلم منه ما التصورات الصنمية التي تركناها، ولا تزال تتسرب إلى إيماننا. علينا أن ننفتح بإخلاص إلى نقده القاسي عله يردنا إلى أصالة الإيمان. ولكن الإيمان يستجوب بدوره الالحاد المعاصر معاتباً إياه على خلطه بين الإله الحق وأصنام الله، داعياً إياه، في تحطيمه للأصنام كلها، ألا يستثني منها ذلك الصنم الرهيب، صنم اكتفائية الإنسان التي تحول بينه وبين اسلام ذاته للمطلق الذي يستقطبه، تلك الاكتفائية الي هي أصل الأصنام كلها سواء جُعلت هذه في السماء أو على الأرض. الإيمان يدعو الإلحاد المعاصر إلى عدم التوقف في منتصف الطريق، إلى تجاوز سلبيته بالاعتراف بهذا الإله الحق الذي، إن رفض الملحدون أصنام الله، فبالقياس إلى صورته الكامنة في أعماقهم. هذان الموقفان المتكاملان: تنقية الإيمان بالإلحاد وتجاوز الإلحاد بالإيمان، هما قطبا هذا الكتاب.
مجمل ما يتهم به الإلحاد المعاصر الإيمان تحقير الخليقة عامة الإنسان بنوع خاص. إن في هذا الاتهام التباساً رهيباً يحمل المؤمنون قسطاً كبيراً من مسؤوليته. فالإلحاد المعاصر هو إلى حد بعيد جواب على هذا الإله القائم في أذهان الكثيرين منهم والذي قال عنه غبريال مارسيل: “هذا الإله المنتصب ضد المخلوق وكأنه محسود من أعماله، ليس في عيني سوى صنم”. لقد كتب الأب كونغار واصفاً هذا الالتباس الذي ذكرناه: “من المعلوم أن الالحاد المعاصر…. كثيراً ما لا يكون انكاراً لله إلى بصورة جانبية، أما مباشرة فهو تأكيد للإنسان، لمتطلبات حريته، لعظمة قصده. إن كل مسيحي واع لما هي المسيحية الحقة لا بد له أن يشتبه بوجود سوء تفاهم هائل ومأساوي كامن وراء هذا الموقف. لا يمكن لأحد أن يطالب بالإنسان ضد الله، أو أن يطالب بالله ضد الإنسان إلا إذا كان يجهل التوراة كلها.
فإن هذه لا تحدثنا أبداً عن الله دون أن تحدثنا عن الإنسان أيضاً: إنها اعلان “تدبير” وعهد، ويبلغ هذا الإعلان ذروته في يسوع المسيح الذي به اتحد الله نهائياً بالإنسانية وبواسطتها بالعالم. ولكنه صحيح أن المسيحيين نسوا أحياناً معن ذلك الذي كانوا يعتقدون به ويعيشونه. فقد قدموا الديانة أحياناً وكأنها تقتصر على عبادة الله دون الاهتمام بما يخص الإنسان والتاريخ والكون. الإلحاد ير على ذلك بتأكيد إنسان وتاريخ وكون دون الله”.
تجاه هذين الصنمين، صنم الإله الذي يلغي الإنسان والصنم الآخر الذي أوجده الإلحاد المعاصر ليقابل به الأول، ألا وهو صنم الإنسان الذي يلغي الله مضفياً صفة الإطلاق على اكتفائيته، تجاه هذين التجريدين الرهيبين، الله دون الإنسان أو الإنسان دون الله، اللذين يمزقان رجاء الإنسانية في الصميم، على حد تعبير الأب غان، نتمسك نحن بديانة الإله المتجسد الذي شاء أن يربط مصيره بهائياً بالإنسان. لذا فجوابنا على الإلحاد المعاصر من جهة، وعلى انحرافات الإيمان من جهة أخرى، يمكن تلخيصه بتلك العبارات الصادرة عن أحد آباء الكنيسة العظام، مكسيموس المعترف الذي عاش في القرن السابع، واحتمل قطع يده ولسانه ومات منفياً لأنه أراد أن يحافظ على عقيدة التجسد كاملة، غير منقوصة، تجاه أباطرة عصره. فقد كتب هذه الشاهد الأمين للإله المتجسد:
“…. الله والإنسان يتخذ كل منهما الآخر نموذجاً، فالله يتأنس من أجل الإنسان، بدافع حبه للإنسان، بقدر ما يتقوى الإنسان ويتحول إلى إله من أجل الله….”
“الإنسان يصبح إلهاً بقدر ما يصبح الله إنساناً، لأن الإنسان يُرفع بارتقاءات إلهية بقدر ما أفرغ الله ذاته بداعي حبه للناس فبلغ دون تحول إلى أقاصي طبيعتنا”.