الألم الحيواني – سي إس لويس
الألم الحيواني – سي إس لويس
“وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها.”
تكوين 2: 19.
“لكي تكتشف ما هو طبيعي، لا بد أن ندرس عينات تحتفظ بطبيعتها وليس تلك التي فسدت.”
أرسطو ARISTOTLE. Politics, I. V, 5
يبعد الألم الحيواني كثيراً عن الألم الحيواني الإنساني؛ لكن طوال هذا الوقت هناك “شكوى من جرح بريء تخترق السماء”. معضلة معاناة الحيوانات مروعة؛ ليس لأن الحيوانات شديدة الكثرة (لأنه كما رأينا، لا يتم الشعور بمزيد من الألم الحيواني عندما يعاني مليوناً أكثر مما يكون عليه عندما يعاني واحد فقط) بل لأن التفسير المسيحي للألم البشري لا يمكن مد تطبيقه على الألم الحيواني. على قدر ما نعرف. فإن الحيوانات غير قادرة لا على ارتكاب الخطية ولا على عمل الفضيلة؛ لذلك فهي لا يمكن أن تستحق الألم الحيواني ولا أن تتحسن بواسطته.
في نفس الوقت يجب ألا نسمح على الإطلاق لمشكلة الألم الحيواني أن تصبح مركز معضلة الألم الحيواني، ليس لأنها غير مهمة – فكل ما يمثل أسساً معقولة للشك في صلاح الله يعتبر شديد الأهمية حقاً – بل لأنها خارج مدى معرفتنا، لقد أعطانا الله بيانات ومعلومات تمكننا، بدرجة ما، من فهم معاناتنا وآلامنا الشخصية كبشر؛ ولكنه لم يعطنا مثل هذه المعلومات عن الحيوانات. فنحن لا نعرف لماذا خلقت، ولا ماهيتها. وكل ما نقوله عنها يخضع للتخمين.
من عقيدة أن الله صالح قد نستنتج بثقة أن مظهر القسوة الإلهية اللامبالية في مملكة الحيوان هو مجرد وهم – وحقيقة أن الألم الحيواني الوحيد الذي نعرفه في المقام الأول (ألمنا الشخصي) يتضح أنه لا يعتبر قسوة، سيجعل من الأسهل بالنسبة لنا أن نصدق هذا. بعد ذلك، كل شيء يعتمد على التخمين.
قد نبدأ باستبعاد بعض الخداع التشاؤمي الذي عرضناه في الفصل الثاني. حقيقة أن النباتات تعيش “بافتراس” بعضها البعض وأنها في حالة من التنافس “القاسي” ليست لها أية أهمية أخلاقية على الإطلاق. “فالحياة” بالمعنى البيولوجي لا يكون لها علاقة بالخير والشر إلا عندما يظهر الشعور Sentience. مجرد كلمة “يفترس” و “قسوة” هي مجرد استعارات تشبيهية. كان الشاعر ووردزوورث Wordsworth يعتقد أن كل زهرة “تستمع بالهواء الذي تتنفسه”، لكن لا يوجد سبب لافتراض أنه كان على حق.
لا شك أن النباتات الحية تتفاعل مع الإصابات والجروح بطريقة مختلفة عن المادة العضوية؛ لكن الجسم الإنساني المخدر يتفاعل بطريقة أكثر اختلافاً ومثل هذه الاستجابات لا تثبت وجود الشعور. بالطبع، لدينا المبرر في أن نتحدث عن موت أو ذبول نبات كما لو كان مأساة، على شرط أن نعرف أننا نستخدم استعارة قد يكون واحداً من وظائف العالمين غير العضوي والنباتي هو استخدام رموز منها للخبرات الروحية؛ لكننا لا يجب أن نصيح ضحايا لاستعاراتنا.
فالغاية التي فيها تقوم نصف الأشجار بقتل النصف الآخر قد تكون غاية “جيدة” تماماً؛ وهذا لأن جودتها تتمثل في فائدتها وجمالها وهي لا تشعر. عندما نتحدث عن الحيوانات. تثار ثلاثة أسئلة. أولاً، هناك سؤال يتعلق بحقيقة ما الذي تعاني منه الحيوانات؟ وثانياً، هنا سؤال عن المنشأ؛ كيف دخل المرض والألم الحيواني إلى العالم الحيواني؟ ثالثاً، هناك سؤال يختص بالعدالة، كيف التوفيق بين الألم الحيواني وعدالة الله؟
أولاً؛ على المدى الطويل، الإجابة على السؤال الأول هي، إننا لا نعرف؛ لكن قد يكون من المفيد وضع بعض التكهنات. لا بد أن نبدأ أولاً بالتمييز بين الحيوانات؛ لأنه إذا كان القرد Ape يمكنه أن يفهمنا فإن سيأخذ الأمر محمل سيء للغاية لو أننا وضعناه في نفس الفئة مع محار الرخويات ودودة الأرض في تصنيف واحد باعتبارهم جميعاً “حيوانات” كمقابل للإنسان. من الواضح أنه في بعض النواحي، يشبه القرد الإنسان أكثر مما يشبه كلاهما دودة الأرض.
في الطرف الأدنى من عالم الحيوان لا يجب أن نفترض أي شيء يمكن أن نميزه باعتباره شعور، كما أن علماء الأحياء في تمييزهم للحيوان عن النبات لا يستخدمون الشعور أو الحركة أو غيرها من السمات كما يمكن للإنسان العادي بالطبع أن يركز عليها. لكن في نقطة ما، (رغم أننا لا نعرف أين) يكاد يكون من المؤكد أن الشعور يتواجد، لأن الحيوانات العليا لديها أنظمة عصبية تشبه الإنسان إلى حد كبير. لكن عند هذا المستوى لا يزال يتوجب علينا أن نميز الإحساس والشعور Sentience عن الوعي Consciousness.
لو كنت لم تسمع من قبل مطلقاً عن هذا الفارق، أخشى أنك ستجده أمراً مذهلاً، لكن له قوة اقناع عظمية وستجد أنه من غير الحكمة أن ترفضه بصورة قاطعة. افترض أن هناك ثلاثة أحاسيس يتبع أحدها الآخر، الأول “أ”، ثم الثاني “ب”، ثم الثالث “ج”. عندما يحدث ذلك معك فإنك تجتاز بعملية أ ب ج.
لكن، لاحظ ما يعنيه ذلك. إنه يعني أن هناك شيء فيك يقف خارج “أ” بما يكفي أن يجعله يلاحظ “أ” وهو يعبر، وخارج “ب” بما يكفي لأن يجعله يلاحظ “ب” الآن وهو يبدأ في الدخول لملء الفراغ الذي تركه “أ”؛ وشيء يدرك نفسه كما هو خلال الانتقال من “أ” إلى “ب”، من “ب” إلى “ج”، بحيث أنه يستطيع أن يقول، “إن لدي اختبار لـ “أ ب ج”.
هذا الشيء هو ما أطلق عليه الوعي Consciousness أو النفس Soul، والعملية التي وصفتها للتو هي واحدة من البراهين على أن النفس، رغم أنها تختبر الزمن، إلا أنها ليس في ذاتها “متزامنة (متواقتة) مع الزمن” بالكامل. إن أبسط اختبار للمشاعر “أ ب ج” كأحاسيس متتالية يتطلب نفساً ليس هي في حد ذاتها مجرد تتابع للحالات، بل بالأحرى قاعدة ثابتة تتدفق عبرها هذه الأجزاء المختلفة من تيار الشعور، والتي تدرك ذاتها كما هي دون تغيير عبر كل هذه المشاعر. أصبح من المؤكد الآن تقريباً أن الجهاز العصبي لواحد من الحيوانات العليا يقدم له سلسلة متتالية من الأحاسيس.
لكن هذا لا يتبعه أن لديه أي “نفس”، أي شيء يدرك ذاته باعتبار أنه قد شعر بـ “أ”، والآن يشعر بـ “ب”، وأنه يميز الآن كيف تنسحب “ب” بعيداً لكي تفسح مكاناً لـ “ج”، فإذا لم تكن له مثل هذه “النفس”، فإن ما نطلق عليه اختبار “أ ب ج” لن يحدث أبداً. بل سيكون هناك بتعبير فلسفي، “سلسلة متتالية من الإدراكات الحسية”؛ بمعنى، أن هذه الأحاسيس ستحدث في الواقع بذلك الترتيب، وسيعرف الله أنها تحدث هكذا، لكن الحيوان نفسه لن يعرف.
لن يكون هناك “إدراك للتتابع”. وهذا يعني أنك إذا أعطيت هذا المخلوق ضربتين بالسوط، سيكون هناك بالفعل، شعور بالألم الحيواني مرتين: لكن لن يكون هناك نفس تنسيقية يمكنها أن تدرك “لقد شعرت بالألم الحيواني مرتين”. حتى في الألم الحيواني المفرد، لن توجد هناك نفس لتقول “إنني أتألم” – لأنها إذا استطاعت أن تميز نفسها عن الشعور بالألم الحيواني – أي تميز القاعدة عن التيار – بما يكفي أن تقول “إنني أشعر بالألم الحيواني”، فإنها ستكون قادرة كذلك على أن تربط بين هذين الشعورين بالألم الحيواني باعتبارهما اختبارها.
الوصف الصحيح عندنا سيكون “الألم الحيواني يحدث الآن في هذا الحيوان”؛ وليس كما نقول بطريقة شائعة، “هذا الحيوان يشعر بالألم الحيواني”، لأن الكلمتين “هذا، و”يشعر”، يوحيان في الحقيقة بافتراض أن هذا الحيوان هو “ذات” Self أو “نفس” Soul أو “وعي” Consciousness يقف أعلى المشاعر ويرتبها في “اختبار” Experience كما نفعل نحن. إني أعترف بأننا لا نستطيع أن نتخيل مثل هذا الشعور بدون وعي؛ ليس لأنه لا يحدث فينا أبداً، بل لأنه عندما يحدث لنا فإننا نصف أنفسنا عندها بأننا “غائبون عن الوعي”.
وعلى نحو صحيح بالفعل؛ حقيقة أن الحيوانات يكون لها رد فعل للألم مثلنا، لا تثبت بالطبع أنها واعية؛ لأنه قد يكون لنا نحن أيضاً ردود أفعال بهذه الطريقة ونحن تحت تأثير مخدر الكلوروفورم، بل إننا حتى قد نجيب على أسئلة أثناء نومنا.
إلى أي مدى لأعلى يمكن أن يمتد مثل هذا الشعور غير الواعي، لا يمكنني حتى أن أخمن. من الصعب بالتأكيد أن أفترض أن القرود، والفيلة، والحيوانات العليا المستأنسة، ليس لها بدرجة ما، ذات أو نفس تقوم بربط الخبرات وتؤدي إلى فردية بدائية غير متطورة. لكن قدراً كبيراً على الأقل مما يبدو أنه معاناة للحيوان لا يلزم أن يكون معاناة بأي معنى حقيقي. ربما نحن الذين “اخترعنا” أنهم “متألمون” بواسطة “المغالطة المثيرة للشفقة” بأننا نسبنا تفسير تسارع نبضات الحيوان إلى وجود نفس، بينما لا يوجد أي دليل فعلي على ذلك.
ثانياً: كان يمكن نسب أصل المعاناة الحيوانية، بواسطة أجيال مبكرة، إلى سقوط الإنسان – فقد فسد العالم بأكمله بسبب تمرد آدم المدمر. لكن هذا الافتراض مستحيل الآن، لأن لدينا سبب وجيه لكي نؤمن أن الحيوانات كانت موجودة قبل الإنسان بفترة طويلة. فالحيوانات اللاحمة، بل ما يستتبعها، هي أقدم من البشرية.
لذلك فمن المستحيل الآن عند هذه النقطة ألا نتذكر قصة دينية معينة، رغم أنها لم تدخل في قوانين الإيمان، إلا أنه كان يتم الإيمان بها على مدى واسع في الكنيسة، ويبدو أنها كانت متضمنة في كثير من أقوال المسيح وبولس ويوحنا – أعني القصة التي تقول إن الإنسان لم يكون هو أول مخلوق يتمرد على الخالق، بل أن هناك مخلوق أقدم وأكثر قوة قد ارتد منذ فترة طويلة هو الآن سلطان الظلمة (والأمر المهم) ورئيس هذا العالم.
يود بعض الناس أن يرفضوا كل أمثال هذه العناصر من تعاليم ربنا؛ وربما يجادلون أنه عندما أخلى المسيح نفسه من مجده فإنه قد أخضع نفسه أيضاً لكي يشارك، كإنسان، في الخرافات التي كانت سائدة في عصره.
وإني اعتقد بالتأكيد أن المسيح، في الجسد، لم يكن كلي العلم والمعرفة – ربما فقط بسبب أن المخ البشري لم يكن يستطيع أن يكون الأداة الناقلة للوعي كلي العلم والمعرفة؛ وأن نقول إن تفكير ربنا لم يكن مشروطاً فعلياً بحجم وشكل مخه ربما يعني أننا ننكر التجسد الفعلي ونصبح من أتباع الدوسيتية Docetist (أي من أتباع الرأي الذي يربط بصفة خاصة بالغنوصية، القائل بأن يسوع لم يكن له جسد بشري وأنه “ظهر” فقط أنه مات على الصليب – The Free Dictionary – المترجم).
وهكذا إذا كان ربنا قد ألزم نفسه بأية عبارة علمية أو تاريخية نعرف أنها غير صحيحة، فهذا لن يربك أي إيمان لنا في ألوهيته. لكن عقيدة وجود ابليس والسقوط ليس من بين الأمور التي نعرف أنها غير صحيحة؛ فهي لا تناقض الحقائق التي اكتشفها العلماء، بل تناقض مجرد “أجواء رأي سائد” ملتبس تصادف أننا نعيش فيه. إلا أنن لا أضع اعتباراً “لأجواء الرأي السائدة”. فكل إنسان يعرف في موضوعه الدراسي الخاص أن كل الاكتشافات تتم، ولك الأخطاء تصحح، بواسطة أولئك الذين يتجاهلون “أجواء الرأي السائدة”.
لذلك يبدو لي افتراضاً معقولاً، أن هناك قوة مخلوقة قوية كانت تعمل بالفعل لإحداث الاضطراب والبلاء في الكون المادي، أو في النظام الشمسي، أو على الأقل على كوكب الأرض، قبل حتى أن يأتي الإنسان إلى المشهد؛ وأنه عندما سقط الإنسان، شخص ما بالفعل هو الذي جربه وأغواه. هذه الفرضية لا يتم عرضها “كتفسير عام للشر”، بل أنها تعطي فقط تطبيقاً أوسع للمبدأ القائل إن الشر يأتي من إساءة استخدام الإرادة الحرة.
فإذا كانت هناك مثل هذه القوة، كما أؤمن أنا شخصياً، فربما تكون بالفعل هي التي أفسدت الخليقة الحيوانية قبل ظهور الإنسان. يكمن الشر الجوهري لعالم الحيوان في حقيقة أن الحيوانات، أو بعض الحيوانات، تعيش عن طريق تدمير بعضها البعض.
لكن أن تقوم النباتات بعمل نفس الشيء، فلن أعترف بأن هذا شر. لذلك فإن الإفساد الشيطاني للحيوانات سيكون مشابهاً، من ناحية واحدة، للإفساد الشيطاني للإنسان. هذا لأن إحدى نتائج سقوط الإنسان كان أن حيوانيته تراجعت عن الإنسانية التي أخذت منها، ولم تعد إنسانيته تتمكن من التحكم في حيوانيته.
بنفس الطريقة، ربما تم تشجيع الحيوانية أن تنزلق للخلف إلى سلوك يتناسب مع النباتات. من الصحيح، بالطبع، أن معدل الوفيات الضخمة نجم عن حقيقة أن كثيراً من الحيوانات التي تعيش على افتراس الحيوانات الأخرى تتوازن، في الطبيعة، مع معدل مواليد هائل، وربما يبدو أنه لو كانت كل الحيوانات آكلة للعشب وبصحة سليمة، فإنها كانت في الأغلب ستموت جوعاً نتيجة لتكاثرها هي نفسها. لكن أعتبر الإخصاب ومعدل الوفيات ظاهرتان مرتبطتان ومتلازمتان.
فربما لم يكن هناك ضرورة لمثل هذا الإفراط في الدافع الجنسي، والذي فكر فيه إله هذا العالم كاستجابة للافتراس – وهي مكيدة ثنائية لضمان أكبر قدر ممكن من العذاب. فإذا كان يسيء أقل، يمكن أن تقول إن “قوة الحياة” فاسدة، حيث أقول أنا أن الكائنات الحية قد أُفسدت بفعل كائن ملائكي شرير. الاثنان هما نفس الشيء؛ لكني أجده من الأسهل أن أؤمن بأسطورة عن آلهة وشياطين عن أن أؤمن بواحدة من الأسماء المجردة التي ننسب لها وجود مادي أو نشخصها.
وعلى أية حال، ربما تكون أسطورتنا أكثر قرباً للحقيقة الموضوعية مما نفترض. ودعونا لا ننسى أن ربنا، في إحدى المناسبات، ينسب المرض البشري ليس إلى غضب الله، ولا إلى الطبيعة، بل بوضوح شديد إلى ابليس (لوقا 12: 16).
إذا كانت هذه الفرضية تستحق التفكير، فإن مما يستحق التفكير أيضاً ما إذا كان للإنسان بالفعل، في بداية دخوله إلى العالم، وظيفة فدائية لكي يقوم بها. فالإنسان، حتى الآن، يمكنه أن يفعل عجائب للحيوانات؛ فقطتي وكلبي يعيشان معاً في بيتي ويبدو أنهما يحبان هذا الأمر. فربما كانت واحدة من وظائف الإنسان أن يستعيد السلام لعالم الحيوان، ولو لم يكن الإنسان قد انضم إلى العدو، ربما كان قد نجح في فعل ذلك إلى حد يصعب تخيله الآن.
أخيراً، هناك قضية العدالة. لقد رأينا سبباً لكي نؤمن أنه ليست كل الحيوانات تعاني الآلام كما نعتقد؛ لكن بعضاً منها على الأقل، يبدو وكأن له نفس، فماذا سيُصنع لأجل هذه الكائنات البريئة؟ وقد رأينا أنه من الممكن أن نصدق أن الألم الحيواني ليس من صنع الله ولكنه بدأ بواسطة حق إبليس واستمر بواسطة ترك الإنسان لمركزه؛ ومع ذلك، لو لم يكن الله قد سبب هذا الألم الحيواني، فإن قد سمح به، مرة أخرى إذاً، ماذا سيُصنع مع هذه الكائنات البريئة؟ لقد حُذُرت لكيلا أثير حتى قضية خلود الحيوانات، لئلا أجد نفسي في “رفقة كل العذارى الشيخات”.
ومع ذلك، فليس لدي أي اعتراض على هذه الرفقة. إنني لا أعتقد أن أياً من البتولية أو الشيخوخة أمر مهين، وبعض من أذكى العقول التي التقيتها تسكن أجساد العذارى الشيخات. كما أنني لا أتأثر كثيراً بالأسئلة المازحة مثل “أين ستضع كل البعوض؟” (لو كان سيحظى بالخلود) – وهو سؤال يجب أن تتم الإجابة عليه على قدر مستواه بالإشارة إلى أنه، إذا جاء الأسوأ إلى الأسوأ، فإن سماء للبعوض وجحيماً للبشر يمكن أن يجتمعا معاً بصورة ملائمة تماماً.
لكن الصمت التام من الكتاب المقدس ومن التقليد المسيحي عن خـلود الحيوانـات هو اعتراض أكثر جدية؛ ولكنه سيكون مصـيرياً فقط إذا أظهر الإعلان المسـيحي أية علامـات أنه يقصـد بهذا الصـمت أن “نظـام الطبيعة” A Systeme De La Nature يجيب على كل الأسئلة. لكن ليس الأمر شيئاً من هذا القبيل؛ لقد انشق الحجاب عند نقطة واحدة، وعند نقطة واحدة فقط، لكي يكشف ضرورياتنا العملية المباشرة وليس لكي يُرضي فضولنا الفكري.
فالحقيقة أنه لو كانت الحيوانات خالدة، فمن غير المرجح، مما نفهمه من أسلوب الله في الإعلان (الوحي)، أنه كان سيعلن هذه الحقيقة. حتى خلودنا نحن الشخصي هو عقيدة جاءت متأخرة في تاريخ اليهودية. لذلك فالبرهان من منطلق الصمت هو ضعيف للغاية (يريد الكاتب أن يقول إن مجرد صمت الكتاب المقدس عن موضوع خلود الحيوانات ليس دليلاً لا على خلودها ولا على عدم خلودها إذ أن الله لم يكشف لنا كل شيء، بل كشف لنا فقط عن الضروريات – المترجم).
تكمن الصعوبة الحقيقية بشأن افتراض أن معظم الحيوانات ستكون خالدة، في أن الخلود ليس له معنى تقريباً بالنسبة لمخلوق ليس لديه “وعي” بالمعنى الذي شرحناه فيما سبق.
فإذا كانت حياة حيوان سمندل الماء مثلاً هي مجرد تتابع للإحساسات، فماذا يمكن أن نعني عندما نقول إن الله قد يستدعي للحياة حيوان السمندل الذي مات في هذا اليوم؟ إنه لن يدرك نفسه بأنه هو نفسه حيوان سمندل الماء الذي مات؛ فالإحساسات السعيدة لأي سمندل ماء آخر عاش بعد موته ستكون هي نفسها، بمثل الكثرة أو القلة، تعويضاً عن معاناته الأرضية (لو كانت له معاناة) مثل تلك التي تشعر بها (إذا كان يمكن أن أقول) “نفسه” المقامة.
لكن بيت القصيد هنا هو أنه ربما لا يوجد لحيوان السمندل “نفس”. لذلك فما نحاول أن نقوله في هذه الفرضية، لا يمكن حتى التصريح به (يقصد الكاتب أن حيواناً مثل سمندل الماء يماثل كل حيوانات سمندل الماء الأخرى لأنه ليس لديه في الأغلب “نفس” تميزه عن غيره من بين نوعه، فلا يوجد داع لخلود حيوانات سمندل الماء لأنها كلها تشبه بعضها البعض إذ أنها لا تتمتع بوعي يميز أحدها عن الآخر، وما عاناه واحد منها يمكن أن يعوضه حيوان سمندل آخر – المترجم).
لذلك أعتقد أنه لا توجد “قضية” تتطلب خلود الكائنات التي مجرد “تشعر” فقط. كما لا يتطلب العدل والرحمة أنه يجب أن توجد، لأن مثل هذه المخلوقات ليس لها خبرة مؤلمة. فنظامها العصبي يرسل كل حروف كلمة “معاناة” بالصورة التالية “م، ع، ا، ن، ا، ة” لكن حين أنها لا تستطيع أن تقراً، فإنها لا تركب أبداً كلمة “معاناة”. ربما تكون كل الحيوانات في تلك الحالة.
لكن إذا كان الاقتناع القوي الذي لدينا عن وجود “صفة ذاتية” رغم أنها بلا شك بدائية، في الحيوانات العليا، وخاصة في تلك الحيوانات التي نستأنسها، ليس وهماً، فإن مصيرها يتطلب تفكيراً أعمق نوعاً ما. لكن الخطأ الذي لا بد أن نتجنبه هو أن نفكر فيها في حد ذاتها. يجب أن يتم فهم الإنسان فقط في علاقته بالله. كذلك الحيوانات يجب أن يتم فهمها فقط في علاقتها بالإنسان، ومن خلال الإنسان، في علاقتها بالله.
دعونا هنا نأخذ حذرنا من واحدة من تلك الأمور الكثيرة التي لا تتغير عن طبيعتها في الفكر الإلحادي الذي يبقى كثيراً في أذهان المؤمنين المحدثين. ينظر الملحدون عادة إلى تعايش الإنسان مع الحيوانات الأخرى كمجرد نتيجة مشروطة للحقائق البيولوجية المتفاعلة؛ وينظرون إلى ترويض إنسان لحيوان باعتباره تدخل قسري خالص من إحدى الأنواع في نوع آخر. فبالنسبة لهم، الحيوان: “الحقيقي” أو “الطبيعي” هو الحيوان المتوحش، والحيوان المروض هو الشيء المصطنع أو غير الطبيعي.
لكن لا بد للمسيحي ألا يفكر هكذا. لقد أقام الله الإنسان لكي يكون له سلطان على الحيوانات، وكل شيء يفعله الإنسان لحيوان إما أن يكون ممارسة مشروعة، أو إساءة مدنسة، لسلطة مُنحت له بالحق الإلهي. لذلك الحيوان المروض، بأعمق معنى، هو الحيوان الوحيد “الطبيعي”، الحيوان الوحيد الذي نراه يشغل المكان الذي صنع لكي يشغله، وعلى هذا الحيوان المروض يجب أن نبني كل عقيدتنا عن الحيوانات.
سنرى الأن أنه بقدر ما يكون للحيوان المروض نفس حقيقية أو شخصية، فإنه يدين في ذلك بالكامل تقريباً لسيده. فإذا كان كلب الراعي يبدو “كإنسان تقريباً” فهذا لأن هناك راع صالح قد جعله هكذا. وقد أشرت بالفعل إلى القوة الغامضة لحرف الجر “في” إنني أنظر إلى كل معاني هذا الحرف في العهد الجديد باعتبارها متماثلة، بحيث يكون أن الإنسان “في” المسيح والمسيح “في” الله والروح القدس” في” الكنيسة وأيضاً “في” المؤمن الفرد، بنفس المعنى تماماً.
فربما كانت معاني متوافقة شعرياً أو متسقة، أكثر مما هي معنى واحد. سأفترض الآن – رغم أن على استعداد عظيم للتصحيح من لاهوتيين حقيقيين – أنه ربما كان هناك معنى يتفق، رغم أنه لا يتطابق، مع هذه المعاني، بحيث تكون هذه الحيوانات التي تحصل على نفس حقيقية هي “في” أسيادها. هذا معناه أنك يجب ألا تفكر في الحيوان في حد ذاته وتطلق عليه “شخصية” ثم تتساءل بعد ذلك ما إذا كان الله سوف يقيم ويبارك ذلك الحيوان.
لا بد لك أن تتعامل مع السياق بأكمله الذي يحصل فيه الحيوان على صفته الذاتية؛ أي “الزوج الصالح والزوجة الصالحة يحكمان أبناءهما وحيواناتهم في بيت الأسرة الصالح”. يمكن النظر إلى هذا السياق بأكمله باعتباره “جسد” بالمعنى البولسي (نسبة إلى بولس) Pauline (أو المتفرع من البولسي)؛ ومن يمكنه أن يتنبأ كلم من ذلك “الجسد” يمكن أن يقام مع الزوج الصالح والزوجة الصالحة؟ ربما الكثير جداً، كما هو ضروري ليس فقط لمجد الله ولتطويب هذين الزوجين، بل لأجل المجد الخاص وذلك التطويب الخاص الذي يصطبغ طوال الأبدية بهذا الاختبار الأرضي المميز.
وبهذه الطريقة يبدو من الممكن بالنسبة لي أن يكون لبعض الحيوانات المعينة خلود، ليس في حد ذاتها، بل في خلود أسيادها. إن الصعوبة الخاصة بالهوية الشخصية في مخلوق لا يكاد يكون شخصياً، تختفي عندما يتم تربية هذا المخلوق في تلك البيئية الملائمة.
فإذا سألت، بشأن حيوان تم تربيته بمثل هذه الطريقة كعضو في “الجسد” الكلي لبيت الأسرة، أين تكمن هويته الشخصية، سأجيبك، “حيث سكنت هويته دائماً حتى في الحياة الأرضية – في علاقته “بالجسد”، وخاصة، بالسيد الذي هو رأس ذلك الجسد”. بكلمات أخرى، “سيعرف الرجل كلبه”، والكلب سوف يعرف سيده، وفي معرفته له، سيكون الكلب “نفسه”. أن تسأل أنه يجب، بأية طريقة أخرى، أن يعرف الكلب نفسه، فقد يعني هذا أن تسأل عما ليس له أي معنى، فالحيوانات ليست كذلك، ولا تريد أن تكون كذلك.
إن الصورة التي ذكرتها عن كلب الراعي الصالح في بيت الأسرة الصالحة لا تغطي، بالطبع، الحيوانات المتوحشة ولا الحيوانات المنزلية التي يُساء معاملتها (وهو الأمر الأكثر إلحاحاً). لكن المقصود بها فقط مثال توضيحي مأخوذ من حالة متميزة واحدة – التي هي أيضاً بحسب رأيي، الحالة الوحيدة العادية وغير المنحرفة عن المبادئ العامة التي يجب مراعاتها في استنباط نظرية قيامة الحيوانات. لذلك أعتقد أن المسيحيين ريما يترددون عن حق في افتراض أن أي حيوان هو خالد؛ وذلك لسببين.
الأول، لأنهم يخشون، أنهم عندما ينسبون للحيوانات “نفساً” بالمعنى الكامل، أن يثيروا التشويش والارتباك الخاص بالاختلاف بين الحيوان والإنسان والذي بقدر ما هو اختلاف حاد في البعد الروحي بقدر ما هو ضبابي وإشكالي في البعد البيولوجي.
ثانياً، بسبب أن فكرة السعادة المستقبلية المرتبطة بحياة الحيوان الحالية، ببساطة كتعويض عن المعاناة – فهذا العدد الكبير جداً من آلاف السنين التي ستقضيها الحيوانات المقامة في المراعي السعيدة التي سيتم تسديدها كتعويض عن “أضرار” الكثير جداً من السنين التي قاموا فيها بسحب العربات – تبدو تأكيداً أخرقاً وغير ملائم للصلاح الإلهي.
فنحن حيث أننا عرضة للخطأ، كثيراً ما نؤذي طفلاً أو حيواناً عن غير عمد، وعندها أفضل شيء يمكننا أن نفعله هو أن “نعوضه عن ذلك” ببعض التربيت والملاطفة أو بقطعة من الحلوى. لكن لا يمكن أن يكون من الورع أن نتخيل أن يقوم العلم والمعرفة الكلية الإلهية بالتصرف بمثل هذه الطريقة، كما لو ان الله قد داس على ذيل حيوان في الظلام، ثم فعل بعد هذا أفضل ما يمكنه عمله بشأن ذلك!
في مثل هذه التسوية الفاشلة لا يمكنني أن أميز لمسة السيد والخبير؛ فأياً كان الحل، لا بد أن يكون شيئاً أفضل من هذا. النظرية التي أفترضها تحاول أن تتجنب كلا الاعتراضين. فهي تجعل الله هو محور الكون والإنسان هو المركز الثانوي التابع في الطبيعة الأرضية؛ ليست الحيوانات متساوية في الرتبة مع الإنسان.
لكنها أدنى منه وتابعة له، ومصيرها مرتبط بمصيره بكل معنى الكلمة. لذلك فالخلود الثانوي المفترض للحيوانات ليس مجرد “غرامة” أو تعويض: بل هو جزء لا يتجزأ من السماء الجديدة والأرض الجديدة، والمرتبط عضوياً بكل عملية الألم الحيواني المتمثلة في سقوط وفداء العالم.
بافتراض، كما فعلت، أن الهوية الذاتية Personality للحيوانات الأليفة هي إلى حد كبير هبة الإنسان – وأن مجرد شعور Sentience هذه الحيوانات يولد من جديد ليكون الصفة الذاتية Soul hood “فينا” حيث أن صفتنا نحن الذاتية ولدت من جديد للحياة الروحية في المسيح. فإنني أفترض بالطبع أن عدداً قليلاً جداً من الحيوانات بالفعل، في حالتها الوحشية، تحصل على “نفس” أو ذات.
لكن إذا كانت أي منها تحصل عليها، وإذا كان مرضياً لصلاح الله أن تعيش هذه الحيوانات مرة أخرى. فإن خلودها أيضاً سيكون مرتبطاً بالإنسان، ليس في هذه المرة، بأسياد أفراد؛ بل بالبشرية. هذا يعني أنه إذا كانت القيمة شبه الروحية والعاطفية التي ينسبها التقليد البشري للحيوان في حالة ما (مثل صفة “براءة” الحمل أو الشعار الملوكي للأسد) لها أساس حقيقي في طبيعة الحيوان؛ وليست مجرد شيء اعتباطي أو بالمصادفة، فإنه في مثل تلك الصفة، أو أساساً في تلك الصفة، يمكن أن نتوقع أن يحضر الحيوان في الإنسان المقام ويشكل جزء من “تسلسل أفكاره”.
أو إذا كانت تلك الصفة التقليدية خاطئة تماماً، فإن حياة الحيوان السماوية ستكون بفضل الأثر الحقيقي، لكن غير المعروف، الذي كان له على الإنسان فعلياً خلال تاريخه كله؛ لأنه إذا كان علم الكونيات Cosmology المسيحي صادق بأي معنى (لا أقول بمعنى حرفي)، فإن كل ما هو موجود على كوكبنا مرتبط بالإنسان، وحتى المخلوقات التي انقرضت قبل وجود الإنسان يُنظر إليها عندئذ في نورها الحقيقي عندما تُرى باعتبارها إرهاصات اللاوعي للإنسان.
عندما نتحدث عن مخلوقات بعيدة عنا للغاية مثل الحيوانات المتوحشة، ووحوش ما قبل التاريخ، فإننا بالكاد نعرف ما نتحدث عنه. قد يكون جيداً أنه لا أنفس لها ولا معاناة. بل ربما أن كل نوع منها له نفس مشتركة تشارك بها “طبيعة الأسد” وليس الأسود، في مخاض الخليقة، وأنها سوف تدخل ضمن استرداد كل شيء. وغذا كنا لا نستطيع أن نتخيل حتى حياتنا نحن الأبدية، فكي بالأقل يمكننا أن نتخيل الحياة التي يمكن أن تكون للحيوانات باعتبارها “أعضاءنا”.
لو كان الأسد الأرضي يستطيع أن يقرأ النبوة الخاصة بذلك اليوم الذي فيه سيأكل الأسد التبن مثل الثور، فإنه كان سيعتبرها وصفاً ليس للسماء، بل للجحيم. وإذا لم يكن هناك شيء في الأسد سوى عاطفة أكل اللحم، فإنه يكون غير واع و”بقاؤه” لن يكون له أي معنى.
لكن إذا كانت هناك نفس بدائية أسدية Rudimentary Leonine Self فإنه لتلك النفس أيضاً يستطيع الله أن يعطي “جسداً” كما يسره، جسداً لا يعيش بعد ذلك على افتراس الحمل، ولكنه نفس أسدية ثرية بمعنى أنها تعبر أيضاً عن كل طاقة وبهاء وقوة هائلة سكنت داخل الأسد المرئي على هذه الأرض. فأنا أعتقد، وأنا قابل للتصحيح، أن النبي استخدم مقارنة شرقية مبالغ فيها عندما تحدث عن أن الأسد والحمل يضطجعان معاً.
فهذا من شأنه أن يكون وقحاً بالنسبة للحمل. فأن يتعاشر الأسود والحملان بمثل هذه الطريقة (إلا في نوع نادر من الاضطراب السماوي في عيد الإله ساتورن Saturnalia وهو عيد روماني قديم كان يتميز بالاحتفالات الإباحية والعربدة – المرجم) يشبه هذا عدم الحصول لا على حملان ولا على أسود.
لكن أعتقد أن الأسد، عندما يتوقف عن أن يكون خطراً، سيظل رغم ذلك رهيباً؛ بالفعل، سنرى عندها لأول مرة ذلك الذي يعتبر ما هو موجود حالياً محاكاة، غير متقنة ومحرفة شيطانياً، لأنيابه ومخالبه. سيظل هناك شيء مثل انتفاض عرف ذهبي؛ وغالباُ سيقول الدوق الصالح، “دعه يزأر مرة أخرى”.