الألم البشري – مشكلة الألم – الجزء الأول – سي إس لويس
الألم البشري – الجزء الأول – سي إس لويس
“حيث أن حياة المسيح من كل جهة هي الأكثر مرارة وألماً “للطبيعة البشرية، “للذات” و “للأنا” (لأنه في الحياة الحقيقية للمسيح، لا بد أن يتم ترك وإنكار وإماتة الذات والأنا والطبيعة بالكامل)، لذلك فإنه في كل منا، يكون لدى الطبيعة البشرية رعب من هذا الألم.”
Theologia Germanica, XX.
لقد حاولت أن أوضح في فصل سابق أن احتمالية الألم هي شيء موروث في الوجود الحقيقي لعالم يمكن فيه للنفوس أن تتلاقى. عندما تصبح النفوس شريرة فإنها بالتأكيد ستستخدم هذه الإمكانية لكي تؤذي أحداها الأخرى؛ وربما يكون هذا هو السبب في أربعة أخماس الآم البشر. فالبشر وليس الله هم الذين يصنعون المخلعة (أداة تعذيب)، والسياط، والسجون، والرق، والبنادق، والحراب، والقنابل؛ ونتيجة الجشع أو الحمق البشري، وليس بسبب قسوة الطبيعة، أصبح لدينا الفقر والإعياء من كثرة العمل. لكن يظل هناك، رغم هذا، يوجد الكثير من الألم الذي لا يمكن أن نعزيه إلى أنفسنا. حتى لو كانت كل الآلام من صنع البشر، فإننا نود أن نعرف سبب إجازة إله الهائلة لأسوأ البشر بتعذيب رفاقهم الآخرين في الإنسانية[1]. فإن نقول، كما قلنا في الفصل السابق، أن الخير بالنسبة لبشر مثلنا الآن، يعني في الأساس خيراً تصحيحياً أو علاجياُ، هذه إجابة غير كاملة. ليس كل العقاقير الطبية طعمها كريه؛ أو إذا كان طعمها كذلك، فهذه في حد ذاتها واحدة من الحقائق المزعجة التي نود أن نعرف سبباً لها.
قبل أن نواصل لا بد أن أرجع مرة أخرى إلى نقطة قد أثرتها في الفصل الثاني. فقد قلت هناك أن الألم، تحت مستوى معين من الشدة، ليس مزعجاً بل أنه قد يكون محبباً. قد ترغب عندها أن تجيب “في تلك الحالة لا يجب عليّ أن أطلق عليه ألم”، وربما كنت على حق. لكن الحقيقة هي أن كلمة “ألم” لها معنيان يجب تحديدهما الآن.
- الألم هو نوع معين من الشعور، ربما يتم نقله بواسطة ألياف عصبية خاصة، ويتم إدراكه بواسطة المتألم باعتباره هذا النوع من الإحساس، سواء كان يزعجه أم لا (مثلاً، الألم الضعيف في أطرافي سيتم إدراكه باعتباره ألم حتى لو لم أعترض عليه).
- الألم هو أية خبرة سواء جسدية أو فكرية، يكرهها المتألم.
سنلاحظ أن كل الآلام بحسب المعنى (أ) تصبح آلاماً بحسب المعنى (ب) إذا ارتفعت فوق مسـتوى معين من الحـدة، لكن تلك الآلام بحسب المعنى (ب) لا يلزم أن تكون آلاماً بحسب المعنى (أ). الألم بحسب المعنى (ب) في الحقيقة هو مرادف “للمعاناة”، أو “العذاب”، أو “المحنة”، أو “المصيبة”، أو “الضيق”، وبسبب الألم بحسب هذه المفهوم تنشأ معضلة الألم. في بقية هذه الكتاب سوف نستخدم الألم بحسب المعنى (ب)، وسوف يشمل كل أنواع المعاناة: أما بالنسبة للألم بحسب المعنى (أ)، فليس لنا أي شأن آخر به.
يمكن أن نقول الآن أن الخير الحقيقي لكائن ما من المخلوقات هو أن يخضع نفسه لخالقه. أن يحدث فكرياً، وإرادياً، وعاطفياً تلك العلاقة المعطاة في مجرد حقيقة وجوده كمخلوق. عندما يفعل ذلك، يكون في خير وسعادة. ولئلا نعتقد أن هذه معاناة، هذا النوع من الخير يبدأ على مستوى أعلى بكثير من المخلوقات، لأن الله نفسه، باعتباره الابن، يقدم طوال الأبدية لله الآب بالطاعة البنوية، الكيان الذي يلده الآب بالمحبة الأبوية سرمدياً في الابن. هذا هو النموذج الذي صنع الإنسان لكي يحاكيه – والذي حاكاه بالفعل إنسان الجنة – وأينما يقوم المخلوق برد الإرادة الممنوحة له من الخالق بتلك الطريقة الكاملة في طاعة وسعادة الابتهاج إلى الخالق مرة أخرى، فهناك بلا أي شك توجد السماء، وهناك يعمل الروح القدس ويكمل. تكمن المشكلة في العالم كما نعرفه الآن، في كيفية استعادة هذه الخضوع الذاتي. إننا لسنا مجرد كائنات غير كاملة لا بد من تحسينها؛ بل كما يقول نيومان Newman، إننا متمردون لا بد أن نُلقي بأسلحتنا نستسلم. الإجابة الأولى إذاً على السؤال، لماذا يجب أن يكون علاجنا مؤلماً، هي أنه لكي نرد لله الإرادة التي زعمنا لمدة طويلة للغاية أنها ملكاً لنا، فهذا في حد ذاته بأية طريقة يتم بها، هو الم شديد. حتى في الجنة أفترض أن أقل تمسك بالذات كان يجب التغلب عليه، رغم أن هذا التغلب، والتسليم، كان سيصيح مُفرحاً هناك. لكن أن نسلم إرادة ذاتية ثائرة ومنتفخة بفعل سنين من اغتصاب سلطتها، فهذا نوع من الموت. جميعنا نتذكر هذه الإرادة الذاتية كما كانت في الطفولة، الهياج المرير والمستديم لك إحباط وخيبة أمل. واندفاع الدموع الملتهبة، والرغبة الشيطانية السوداء في أن نقتل أحداً أو أن نموت عن أن نستسلم. من هنا كان النموذج الأقدم للمربية أو الوالد على حق تماماً في الاعتقاد بأن أول خطوة في التهذيب هي “أن تكسر إرادة الطفل”. لقد كنت وسائلهم في ذلك في الأغلب خاطئة؛ لكن أعتقد أن عدم رؤيتنا لضرورة ذلك معناه أن نعزل أنفسنا عن كل فهم للقوانين الروحية. والآن وقد كبرنا، إذا لم نكن نصرخ ونضرب بأقدامنا على الأرض كثيراً، فهذا يرجع جزئياً إلى أن آباءنا الذين ربونا قد بدأوا عملية كسر أو قتل الإرادة الذاتية ونحن في مرحلة الحضانة، ويرجع من ناحية أخرى إلى أن نفس العواطف الآن تأخذ أشكالاً أكثر مكراً إذ كبرت وأصبحت ماهرة في تجنب الموت بواسطة مختلف الأساليب “التعويضية”. من هنا تأتي ضرورة أن نموت يومياً؛ إذ مهما ظننا كثيراً أننا قد كسرنا الذات المتمردة فإننا سنجدها لا تزال حية. كون ان هذه العملية لا يمكن أن تتم بدون ألم فهذا مشهود له بما يكفي بواسطة نفس تاريخ كلمة “إماتة الجسد “Mortification.
لكن هذا الألم أو الموت الفعلي، في إماتة الذات المغتصبة، ليس هو القصة كلها. فللمفارقة، رغم أن “إماتة الجسد” في حد ذاتها مؤلمة، إلا أنها تصبح أسهل بوجود الألم في سياقها. أعتقد أن هذا يحدث أساساً بثلاث طرق؛ لن تبدأ الروح البشرية حتى في محاولة إخضاع وتسليم الإرادية الذاتية طالما أن الأمور كلها تبدو على ما يرام معها. إلا أن الخطأ والخطية كلاهما لديه هذه الخاصية، أنه كلما كان أكثر عمقاً كلما قل شك الضحية في وجوده؛ فهما شرور مقنعة. لكن الألم غير مقنع، وهو شر واضح لا لبس فيه. كل إنسان يعرف أن هناك شيء ما خطأ عندما يتعرض للأذى. المستألم أو الماسوشي Masochist (المنحرف جنسياً، أي الذي يتلقى اللذة – الجنسية غالباً – من خلال تلقي الألم – المترجم) ليس استثناء حقيقياً لذلك. تقوم كل من السادية Sadism (الحصول على متعة جنسية عن طريق إيقاع الألم بشخص آخر – المرجم) والماسوشية Masochism على التوالي بعزل ثم تضخيم “لحظة” أو “جانب” ما في الشهوة الجنسية الطبيعية. تضخم السادية جانب الاستيلاء أو السيطرة إلى النقطة التي تصبح فيها فقط إساءة معاملة المحبوب هي التي تشبع الشخص المنحرف – كما لو أنه يقول، “إنني شديد السيطرة حتى أنني أؤلمك أيضاً.” أما الماسوشية فتضخم الجانب المُكمل والمضاد لذلك، فتقول، “إنني مأسور ومُستعبد لك بالكامل حتى إنني أرحب حتى بالألم على يديك”. فإذا لم يتم الشعور بالألم باعتباره شر – إساءة عنيفة تؤكد على السيطرة الكاملة على الطرف الآخر – فإنه سيتوقف، بالنسبة للماسوشي، عن أن يكون محفزاً شهوانياً. الألم لا يتم فقط الشعور به في الحال باعتباره شر معترف به، بل شر من المستحيل تجاهله. يمكننا أن نستريح برضا في خطايانا وفي حماقاتنا؛ وأي إنسان يراقب إنساناً آخراً شرهاً وهو يلتهم أفخر الأطعمة لكا لو كان لا يعرف ما الذي يأكله، سوف يعترف أننا نستطيع أن نتجاهل حتى المتعة.
لكن الألم يصر على أن يتم الإصغاء إليه. يهمس الله لنا في مسراتنا، ويتحدث إلينا في ضميرنا، ولكنه يصرخ في آلامنا. فالألم هو بوق الله الذي ييقظ به العالم الأصم.
الإنسان الشرير، سعيد، لأنه هو الشخص الذي لا يكون لديه أقل شك في أن أفعاله لا “تجيب” (على ما يصرخ به الله)، وأنها لا تتفق مع قوانين الكون.
يكمن إدراك هذا الحق في خلفية المشاعر الإنسانية العامة بأن الأشرار لا بد أن يتألموا. لا فائدة من إقحام أنوفنا في تلك المشاعر، كما لو كانت دنيئة بالكامل. لأنها في أكثر مستوياتها اعتدالاً تناشد شعور كل إنسان بالعدالة. في مرة من المرات، عندما كنا أنا وأخي صبية صغاراً، أثناء قيامنا برسم صور معاً على نفس المنضدة، هززت مرفقه مما جعله يرسم خطاً غير مستو في منتصف عمله الفني؛ فقمت بطريقة ودية بتصفية الأمر معه إذ سمحت له بأن يرسم بالمثل خطاً بنفس الطول في منتصف عمل الفني. وهذا معناه أنني “كنت أضع نفس مكانه”، مما جعلني أرى اهمالي من وجهة نظره هو. على مستوى أكثر صرامة، تظهر نفس الفكرة باعتبارها “عقوبة القصاص”، أو “إعطاء الإنسان ما يستحقه”. بعض المستنيرين يرغبون في إزالة كل مفاهيم القصاص أو الاستحقاق من نظريتهم العقابية ويضعون مدلولها بالكامل في ردع الآخرين أو في إصلاح المجرم نفسه. لكنهم لا يرون أنهم يفعلون ذلك يجعلون كل العقوبات غير عادلة. فماذا يمكن أن يكون أكثر لا أخلاقية من أن أوقع الألم على نفسي لأجل ردع الآخرين إذا لم أكن “أستحق” ذلك؟ بل فوق ذلك، على مستوى ثالث، نحصل على “شهوة الانتقام”، والتعطش للثأر والانتقام. هذا بالطبع شر ومحظور بوضوح بالنسبة للمسيحيين. لكن ربما ظهر بالفعل من نقاشنا حول السادية والماسوشية أن أبشع الأمور في الطبيعية البشرية هي تشويه وإفساد الأمور الصالحة أو البريئة. الأمور الصالحة التي تكون شهوة الانتقام تشويه لها تأتي بوضوح مذهل في تعريف هوبز Hobbes للانتقام Revengefulness؛ بأن الانتقام هو “الرغبة، عن طريق إيقاع الأذى بشخص آخر، في جعله يدين واقعة معينة قام بها”. يفقد الانتقام رؤية الغاية التي يرغب في الوصول إليها من خلال الوسيلة، لكن غايته ليس شريرة بالكامل – إذ أنه يريد من إيقاع الأذى بالإنسان الشرير أن يكون الشر بالنسبة له كما هو بالنسبة لكل إنسان آخر. هذا الأمر مُثبت من حقيقة أن المنتقم يريد الطرف المذنب ليس فقط أن يتألم، بل أن يتألم على يديه، وأن يعرف أنه يتألم، ويعرف سبب تألمه. من هنا يأتي الدافع للتهكم على الشخص المذنب وجريمته في لحظة تلقيه لجزائه، من هنا أيضاً تأتي مثل هذه التعبيرات الطبيعة مثل، “إنني أتساءل كيف كان سيشعر لو أن نفس هذه الفعل وقع له” أو “سوف ألقنه درساً”. لنفس هذا السبب عندما نأتي لكي نوقع الألم بشخص ما عن طريق الكلام فإننا نقول إننا “سوف نجعله يعرف كيف نفكر بشأنه”.
عندما أشار أسلافنا إلى الآلام والأحزان باعتبارها “انتقام” الله من الخطية لم يكونوا بالضرورة ينسبون شهوات أو عواطف شريرة لله؛ لكنهم ربما قد أدركوا العنصر الجيد في فكرة القصاص. فإنه إلى أن يجد الرجل الشرير الشر موجوداً بصورة لا لبس فيها في حياته، في صورة ألم، فإنه يكون محاطاً بالوهم. لكن بمجرد أن يوقظه الألم، فإنه يعرف أنه بطريقة او بأخرى “قد تصرف ضد” الكون الحقيقي؛ فهو إما أن يتمرد (مع إمكانية أن يتضح له الأمر أكثر ويقوم بتوبة أعمق في مرحلة ما لاحقة) أو أن يقوم بمحاولة ما للتكيف مع ذلك الوضع، الأمر الذي إذا اتبعه، سوف يقوده إلى الدين، إلا أنه من الصحيح انه لا هذا التأثير ولا ذاك شديد التأكيد الآن كما كان الأمر في الأزمنة التي كان فيها وجود الله (أو حتى الآلهة) معروفاً أكثر على نطاق واسع، لكن حتى في أيامنا هذه نراه يؤثر. فحتى الملحدين يتمردون ويعبرون، مثل هاردي Hardy وهاوسمان Housman، عن ثورتهم ضد الله رغم (أو بسبب) أن الله غير موجود، بحسب رأيهم. وهناك ملحدون آخرون مثل هكسلي Mr. Huxley، يدفعهم الألم أن يثيروا قضية الوجود بأكملها وأن يجدوا طريقة ما للتوافق مع ذلك الشيء الذي، إن لم يكن مسيحياً، فهو متفوق إلى ما لانهاية تقريباً على الرضا السخيف بالحياة الوثنية الدنسة.
لا شك أن الألم باعتباره بوق الله هو أداة مريعة؛ إذ أنه قد يؤدي إلى تمرد نهائي لا توبة عنه. ولكنه يقدم الفرصة الوحيدة التي يمكن للإنسان الشرير أن يحصل عليها للتغير والإصلاح. إنه يزيل البرقع؛ ويغرس راية الحق داخل حصن النفس المتمردة.
إن كان أول وأقل تطبيق للألم يبدد الوهم بأن كل شيء على ما يرام، فإن التطبيق الثاني له يبدد الوهم بأن لدينا، سواء كان جيداً أم سيئاً في حد ذاته، هو ملك لنا وكاف بالنسبة لنا. كل إنسان يلاحظ كم هو صعب أن يوجّه أفكاره إلى الله عندما يكون كل شيء يسير معنا بطريقة جيدة. فعبارة “إن لدينا كل ما نريد” هي عبارة مزعجة عندما تكون “كل” هذه لا تشمل الله. فنجد أن الله عبارة عن عائق. كما يقول القديس أوغسطينوس St. Augustine في إحدى المواضع، “يريد الله أن يعطينا شيئاً ما، ولكنه لا يستطيع، لأن أيدينا ملآنة، فلا يوجد مكان له لكي يضع فيه هذا الشيء. أو كما قال أحد أصدقائي، “إننا ننظر إلى الله كما ينظر الطيار إلى الباراشوت؛ إنه موجود للطوارئ ولكنه يتمنى ألا يضطر إلى استخدامه.”
لكن الله الذي صنعنا، يعرف من نحن ويعرف أن سعادتنا تكمن فيه. ومع ذلك فإننا لن نبحث عن تلك السعادة في الله طالما أنه يترك لنا أي ملجأ آخر حيث يمكن حتى ظاهرياً أن نبحث عن السعادة فيه.
فطالما يظل ما نطلق عليه “حياتنا الخاصة” مريحة ومقبولة فإننا لن نُخضعها ونسلمها له. ماذا يمكن لله إذاً أن يصنع لصالحنا إلا أن يجعل “حياتنا الخاصة” أقل راحة بالنسبة لنا، ويأخذ منها المصادرة الظاهرية للسعادة الزائفة؟ هنا فقط، عندما تبدو عناية الله في البداية أنها شديدة القسوة، فإن “الاتضاع الإلهي”، تنازل الله العلي، يكون أكثر ما يستحق الثناء. إننا نصاب بالارتباك عندما نرى المصائب تقع على اللطفاء، والمسالمين، والأفاضل، على الأمهات الأكفاء والمجتهدات أو على الأشخاص المثابرين والمقتصدين ذوي الأعمال الصغيرة، على أولئك الذين يعملون بجد شديد، وبأمانة عظيمة. بسبب نصيبهم المتواضع من السعادة، إذ نعتقد أنهم سيدخلون الآن إلى الاستمتاع بتلك السعادة عن حق تماماً. كيف يمكنني أن أقول برقة كافية ما يجب أن يقال هنا؟ لا يقلقني أن أعرف أنني لا بد أن أصبح، في عيني كل قارئ، عدوانياً كما لو أنني مسؤول شخصياً عن كل الآلام التي أحاول أن أفسرها – كما يحدث، حتى يومنا هذا، عندما يتكلم الجميع عن القديس أوغسطينوس كما لو أنه كان “يريد” أن يذهب الرُضع غير المتعمدين إلى الجحيم. لكن الأمر المقلق بشكل هائل هو ما إذا كنت أنفر أي إنسان من الحق. دعوني أناشد القارئ أن يحاول تصديق، حتى ولو للوقت الحالي فقط، أن الله، الذي خلق هؤلاء الأشخاص الأفاضل، قد يكون فعلاً على حق عندما يعتقد أن نجاحهم المتواضع وسعادة أبنائهم ليست كافية كي تجعلهم مطوبين؛ وأن كل هذه الأمور لا بد أن تسقط عنهم في النهاية، وأنهم لو لم يكونوا قد تعلموا أن يعرفوا الله فإنهم سيكونون بؤساء وأشقياء. ولذلك فإنه يزعجهم، ويحذرهم مقدماً من عدم الكفاية والنقص الذي سوف يكتشفونه في يوم من الأيام. إن الحياة لأجل أنفسهم ولأجل أسرهم تحول بينهم وبين إدراك احتياجهم لله؛ ولذلك يجعل الله تلك الحياة أقل جمالاً بالنسبة لهم. إنني أدعو هذا “الاتضاع الإلهي” لأنه شيء سيء أن نلجأ إلى الله عندما تغرق السفينة تحتنا؛ أمر سيء أن نأتي له باعتباره الملجأ الأخير، وأن نقدم “ما نمتلكه وما هو خاص بنا” عندما لا بعد الاحتفاظ به ذو قيمة تُذكر. لو كان الله متكبراً، لكان بالكاد يمتلكنا بمثل هذه الشروط؛ ولكنه ليس متكبراً، بل أنه ينحني لكي يمتلكنا، فهو يريد ان يمتلكنا رغم أننا نفضل أي شيء آخر عليه، ورغم أننا نأتي إليه لأنه لا يوجد “شيء أفضل” الآن يمكن الحصول عليه. يظهر نفس هذا الاتضاع بواسطة كل المحاولات الإلهية لإثارة مخاوفنا، المحاولات التي تزعج قراء الكتاب المقدس ذوي المبادئ السامية. يشق على نفس الله كثيراً أن يكون علينا أن نختاره كبديل للجحيم؛ ورغم ذلك فإن يقبل حتى هذا الاختيار إن توهم المخلوق بشأن اكتفائه بنفسه، لا بد لأجل خاطر المخلوق نفسه، أن يتبدد؛ وعن طريق الضيق أو الخوف من الضيق على الأرض، بواسطة الخوف القاسي من النار الأبدية، يبدد الله هذا الوهم “دون أن يهتم (الله) بنقصان مجده”. أولئك الذين يحبون أن يكون إله الكتاب المقدس أكثر التزاماً بالمعايير الأخلاقية البحتة، لا يعلمون ما يطلبونه. لو كان الله أحد أتباع الفيلسوف “كنت” Kantian، لا يمتلكنا إلا إذا جئنا ساعي إليه وبأفضل الدوافع، من كان يمكنه أن يخلص؟ مع العلم بأن هذا الوهم بالكفاية الذاتية ربما يكون في أقوى صوره في أكثر الناس أمانة ولطفاً وأكثرهم اعتدالاً وقناعة، ولذلك، لا بد أن تقع المصائب على مثل هؤلاء الناس.
تفسر مخاطر الكفاية الذاتية الواضحة السبب الذي لأجله ينظر ربنا إلى رذائل الضعفاء والفجار الفاسقين بتساهل أكثر بكثير من الرذائل التي تقود إلى النجاح العالمي. هذا لأن الفاجرات لسن في خطر أن يجدن حياتهن الحالية مُرضية للغاية بحيث لا يتمكن من العودة إلى الله؛ أما المتكبر والجشع، وصاحب البر الذاتي، فهم في ذلك الخطر.
أما التطبيق الثالث للألم فهو أصعب في فهمه قليلاً. يعترف الجميع بأن الاختيار أمر واع في الأساس؛ فإن تختار يتضمن ذلك معرفة أنك تختار. كان إنسان الجنة يختار دائماً أن يتبع مشيئة الله. وفي اتباعها أشبع أيضاً رغبته الخاصة، وهذا لأن كل الأفعال التي كانت مطلوبة منه كانت، في الحقيقة، مقبولة لميوله البريئة، وأيضاً لأن خدمة الله كانت هي نفسها أقوى متعة له، فكل الأفراح والمسرات كانت ستصبح بلا طعم بالنسبة له لو لم تكن تلك الخدمة هي حدودها القاطعة. السؤال الذي يقول، “هل أفعل ذلك لأجل الله أم فقط لأنه تصادف أنني أحب هذا الأمر؟” لم يكن يثار عندئذ، حيث أن فعل الأمور لأجل الله كان هو في الأساس “ما تصادف أنه يحبه”. إن إرادته التي كانت موجهة لله قادت سعادته بعيداً، كما في سفينة تسابق تياراً سريعاً منحدراً. كانت المتعة عندئذ (في الجنة) تقدمة مقبولة لله لأن التقدمة نفسها كانت متعة. لكننا نرث نظاماً كاملاً من الرغبات الذي ليس بالضرورة يتعارض مع إرادة الله. ولكنه بعد قرون من الحكم الذاتي المغتصب، يتجاهل تلك الإرادة باستمرار. فالحقيقة أنه إذا كان الشيء الذي نحب أن نفعله هو الشيء الذي يريدنا الله أن نقوم به، ومع ذلك ليس هذا هو مبررنا لفعله؛ تظل هذه مجرد مصادفة سعيدة. فلا نستطيع عندها أن نعرف أننا نؤدي دوراً أو خدمة على الإطلاق، أو أننا نقوم بذلك أساساً لأجل الله، ما لم تكن مادة الفعل مناقضة لميولنا، أو (بمعنى آخر) مؤلمة، والشيء الذي لا نستطيع أن نعرف أننا نختار، لا يمكننا اختياره. فالإظهار الكامل لإخضاع الذات لله إذاً يتطلب ألماً؛ وهذا الفعل لكي يكون كاملاً، لا بد أن يتم القيام به من منطلق الإرادة الخالصة للطاعة في غياب، أو على الرغم من ميولنا. كم هو أمر مستحيل إذاً أن نقوم بعلم إخضاع الذات بواسطة فعل ما نحبه، أنا أعرف ذلك جيداً من خبرتي الشخصية في الوقت الحالي. فعندما شرعت في كتابة هذا الكتاب، تمنيت لو أن الرغبة في طاعة ما يمكن أن يكون “قيادة إلهية” كان لها على الأقل مكان ما في دوافعي. لكن الآن حيث أنني منغمس في كتابة بعمق، أصبح ما أقوم به إغراء أكثر منه واجب. ربما لا أزال أتمنى أن تكون كتابة هذا الكتاب، تتفق فعلياً مع إرادة الله لكن أن أؤكد بأنني أتعلم أن أخضع نفسي بأن أفعل شيئاً شديد الجاذبية بالنسبة لي، سيكون هذا أمراً سخيفاً ومنافياً للعقل.
إننا نطأ الآن أرضاً شديدة الصعوبة. اعتقد الفيلسوف “كنت” Kant أنه لا يوجد فعل ذو قيمة أخلاقية إلا إذا تم فعله من منطلق الاحترام الخالص للقانون الأخلاقي، بمعنى، بدون ميل أو رغبة فيه، وقد تم اتهامه بأن لديه “إطار عقلي مَرَضي وغير سليم” إذ أنه يقيس قيمة فعل ما على أساس كونه غير سار أو بغيض للنفس. إلا أن الرأي العام كله هو في الحقيقة إلى جانب “كنت”. فالناس لا يُعجبون أبداً بإنسان لأنه يقوم بعمل شيء يحبه؛ إن نفس كلمات “لكنه يحبه” تعني ضمنياً النتيجة الطبيعية، “وبالتالي فليس له أية قيمة”. لكن كلما أصبح الإنسان أكثر تقوى، كلما استمتع أكثر بالأفعال الفاضلة. ما الذي يجب على الملحد أن يفعله بشأن هذه الصراع بين أخلاقيات الواجب وأخلاقيات الفضيلة، هذا ما لا أعرفه؛ لكنني كمسيحي أفترض الحل التالي.
في بعض الأحيان يتم طرح السؤال ما إذا كان الله يأمر بأشياء معينة لأنها صحيحة، أو ما إذا كانت هناك أشياء معينة صحيحة لأن الله يأمر بها. إلى جانب “هوكر” Hooker، وضد د. جونسون Dr. Johnson، إنني أعتنق بشكل قاطع البديل الأول. البديل الثاني قد يقود إلى النتيجة البغيضة (التي توصل إليها، كما أعتقد، “بالي” Paley) بأن الفضيلة جيدة فقط لأن الله أمر بها قسراً – وأنه يمكن بالمثل أن يأمرنا بأن نكرهه ونكره بعضنا البعض وعندها ستكون تلك الكراهية صحيحة. لكن أؤمن، على العكس من ذلك، “أنه يخطئ من يعتقد هكذا في إرادة الله؛ لأنه لا يوجد سبب آخر لكي نعمل هذا أو ذاك إلا إرادته”. إن إرادة الله تحددها حكمته التي تدرك دائماً، وصلاحه الذي يتبنى دائماً، ما هو خير جوهرياً. لكننا عندما نقول إن الله يأمر بأشياء فقط لأنها صالحة، لا بد أن نضيف أن واحداً من الأشياء الصالحة جوهرياً هو أن المخلوقات العاقلة يجب أن تُخضع أنفسها بحرية لخالقها في طاعة. أما محتوى طاعتنا – أي الشيء الذي يأمرنا الله أن نفعله – فسوف يكون دائماً شيئاً صالحاً جوهرياً، شيئاً يجب علينا أن نفعله حتى (بواسطة افتراض مستحيل) لو لم يكن الله قد أمر به. لكن بالإضافة إلى محتوى الطاعة، مجرد الطاعة نفسها هي أمر صالح أيضاً جوهرياً، لأنه بالطاعة، يؤدي المخلوق العاقل عن وعي دوره كمخلوق، ويناقض الفعل الذي بواسطته نسقط، ويؤدي رقصة آدم إلى الخلف، ويعود إلى الله.
لذلك نحن نتفق مع أرسطو في أن ما هو صحيح جوهرياً قد يكون مقبولاً بصورة جيدة، وأنه كلما كان الإنسان أفضل كلما أحب أكثر ما هو صحيح. لكننا نتفق مع “كنت” حتى الآن في القول بأن هناك فعل واحد صحيح – وهو فعل إخضاع الذات – الذي لا يمكن للمخلوقات الساقطة أن تريده إلى أقصى درجة إلا إذا كان بغيضاً. ولا بد أن نضيف أن هذا الفعل الواحد الصحيح يشمل كل بر وصلاح آخر، وأن الإزالة الفائقة لسقوط آدم، حركة “العودة إلى الخلف بأقصى سرعة” التي بها نرجع من حيث أتينا في رحلتنا الطويلة من الجنة، ونفك العقدة القديمة، الصعبة، لا بد أن تحدث عندما يقوم المخلوق، بدون رغبة في معونة، بالتجرد الكامل للرغبة الخالصة في الطاعة، فيتبنى ما هو مضاد لطبيعته، ويفعل الشيء الذي لأجله يوجد دافع واحد فقط ممكن. يمكن وصف مثل هذا الفعل بأنه “امتحان” لعودة المخلوق إلى الله؛ من هنا قال آباؤنا أن المتاعب “قد أرسلت لكي تمتحننا”. من الأمثلة المألوفة على ذلك هو “امتحان” إبراهيم عندما أمره الله بأن يقدم إسحاق ابنه ذبيحة. لا تعنيني الآن الصفة التاريخية أو الأخلاقية لتلك القصة، بل السؤال الواضح، “إذا كان الله كل العلم والمعرفة فلا بد أنه كان يعرف ما سوف يفعله إبراهيم، بدون أي امتحان، فلماذا إذاً هذا العذاب دون داعٍ؟” لكن كما يشير القديس أوغسطينوس، مهما كان ما عرفه الله، فإن إبراهيم على أية حال لم يكن يعلم أن طاعته كان يمكنها احتمال مثل هذا الأمر إلى أن علمه هذا الحدث ذلك؛ والطاعة التي لم يكن يعلم أنه سيختارها، لم يكن يستطيع أن يقول إنه سيختارها.
كانت حقيقة طاعة إبراهيم هي الفعل نفسه؛ وما عرفه الله عندما عرف أن إبراهيم “سوف يطيع” كان طاعة إبراهيم الفعلية على قمة ذلك الجبل في تلك اللحظة. لذلك أن نقول إن الله “لم يكن يحتاج أن يقوم بهذا الامتحان” فهذا معناه أن نقول، حيث أن الله يعرف، فإن الشيء الذي يعرفه الله لا يحتاج أن يوجد.
إذا كان الألم في بعض الأحيان يبدد الكفاية الذاتية الباطلة لدى المخلوق إلا أنه في “الامتحان” الفائق أو في “ذبيحة التضحية” يعلمه الكفاية الذاتية التي يجب بالفعل أن تكون لديه، أي “القوة، التي إذا منحتها السماء، يمكن أن يطلق عليها أنها ملك له”؛ لأنه عندها، في غياب مجرد الدوافع والمساندات الطبيعية كلها، يتصرف المخلوق بتلك القوة، وبتلك القوة وحدها، التي يهبها له الله من خلال إرادته المخضعة لله.
فالإرادة البشرية تصبح خلاقة حقاً وتصبح ملكنا بالفعل عندما تكون بالكامل ملكاً لله، وهذا واحد من المعاني الكثيرة التي يكون بها الإنسان الذي يضيع نفسه يجدها.
في كل الأفعال الأخرى تتغذى إرادتنا من خلال الطبيعة، أي من خلال الأشياء المخلوقة بخلاف الذات من خلال الرغبات التي تمدنا بها أعضاؤنا الجسدية وما ورثناه من صفات. عندما نتصرف من أنفسنا وحدها – أي من خلال الله الساكن فينا – فإننا نكون مشاركين في، أو دعامات حية، للخليقة؛ وهذا هو السبب في أن مثل هذا الفعل يُبطل “دمدمات الشكوى العكسية للقوة التي فصلتنا عن الله”، اللعنة الهدامة التي ألقاها آدم على جنسه. من هنا كما أن الانتحار هو التعبير النموذجي عن الروح اللامبالية بأية مشاعر Stoic، والموت في الحرب هو التحدي الحقيقي لكل جندي، يظل الاستشهاد دائماً هو التمثيل والكمال الفائق للمسيحية. هذا الفعل العظيم تتم المبادرة به لأجلنا، ويُصنع نيابة عنا، كمثال نحتذي به، ويتم نقله بصورة لا تصدق إلى جميع المؤمنين، بواسطة المسيح على الجلجثة. هناك تصل درجة الموت المقبول إلى أقصى حدود لما يكن تخيله وربما تتخطاها؛ تتخطى ليس فقط كل المساندات الطبيعية، بل تتخطى وجود الآب نفسه الذي تُقدم له الذبيحة وهو يتخلى عن الضحية، ومع ذلك لا يتداعى المسيح لله رغم أن الله “يتركه”.
عقيدة الموت التي أصفها هنا ليست مقصورة فقط على المسيحية. بل أن الطبيعة نفسها تكتبها بصورة كبيرة عبر العالم في الدراما المتكررة للبذرة المدفونة والحبوب التي تنمو من جديد. ربما تعلمتها أقدم المجتمعات الزراعية، من الطبيعة، ومن خلال الذبائح الحيوانية أو البشرية، أظهرت هذه المجتمعات على مدى قرون حقيقية أنه “بدو سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب 9: 22)؛ ورغم انه في البداية كانت هذه المفاهيم تختص فقط بمحاصيل وتقدمات العشيرة، فإنها جاءت فيما بعد، في الأسرار The Mysteries هو نسخة من مسرحيات العصور الوسطى الإنجليزية تتحدث عن الأسرار، والتي كانت تعرض عام 1977. وهي عبارة عن دورة من ثلاث مسرحيات تحكي قصة الكتاب المقدس منذ الخلق وحتى الدينونة الأخيرة The Free Dictionary by Farlex – المترجم). الهندي الزاهد Ascetic، إذ يميت جسده على سرير من المسامير، يعظ نفس الدرس؛ ويخبرنا الفيلسوف اليوناني Plato ان حياة الحكمة هي “ممارسة الموت”. يفسر الوثني الحساس والنبيل في الأزمنة الحديثة، هكسلي Mr. Huxley، الذي يجعل آلهته التخيلية “تموت لكي تحيا”، “عدم ارتباط” هذه العقيدة بالمسيحية. وهكذا لا يمكننا أن نهرب من تلك العقيدة حتى إذا توقفنا عن أن نكون مسيحيين. فهذه “بشارة أبدية” “Eternal Gospel” معلنة للبشر في أي مكان يبحث فيه البشر عن الحق أو يحتملونه: إنها عصب الفداء نفسه، الذي تكشفه الحكمة المنيرة في كل الأزمنة وفي كل الأماكن؛ المعرفة التي لا يمكن الهروب مها، التي ينقشها النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان في عقول كل من يتساءل بجدية عن ماهية الكون، لا يتمثل تميز الإيمان المسيحي في أنه يعلم هذه العقيدة بل في أنه يجعلها، بطرق متنوعة، أكثر احتمالاً. فالمسيحية تعلمنا أن المهمة المريعة، من ناحية ما قد تم إنجازها لأجلنا – أن هناك يداً خبيرة تمسك بأيدينا إذ نحاول أن نتتبع الأحرف الصعبة، وأن المخطوطة التي لدينا تحتاج فقط أن تكون “صورة منسوخة” Copy، وليس “أصلاً” Original. مرة أخرى، حيث تُعَرِّض الأنظمة الأخرى طبيعتنا بأكملها إلى الموت (كما في عملية النبذ والإنكار في البوذية Buddhist Renunciation) تتطلب المسيحية فقط أن نُصحح “التوجيه الخاطئ” Misdirection لطبيعتنا؛ وليس لدى المسيحية نزاع، مثل أفلاطون Plato، مع الجسد بهذا المفهوم، ولا مع العناصر المادية في تكويننا الجسدي. كما أن التضحية في إدراكها الفائق ليس منتزعة ومغتصبة من كل ذلك. فالمجاهرون بإيمانهم مثلهم مثل الشهداء، مخلّصون، وبعض العجائز اللذين لا نشك في وضعهم في النعمة يبدو انهم يجتازون أعوامهم السبعين بسهولة تثير الدهشة. وهكذا تتكرر ذبيحة المسيح، أو يتردد صداها مرة أخرى، بين أتباعه بدرجات متنوعة للغاية، انتهاء من أقسى ميتات الاستشهاد وحتى إخضاع الذات المتعمد، الذي لا تميزه العلامات الخارجية عن الثمار العادية لضبط النفس و”الاعتدال الجميل”. إنني لا أعرف أسباب هذا التصنيف؛ لكن من وجهة نظرنا الحالية يجب أن يكون واضحاً أن المشكلة الحقيقية ليس في السبب الذي لأجله يتألم بعض المؤمنين المتضعين، والأتقياء، بل في سبب عدم تألم البعض منهم. يجب أن نتذكر أن ربنا نفسه فسر خلاص أولئك المطوبين في هذا العالم فقط بالإشارة إلى قدرة الله الكلية التي لا تُستقصى (مرقص 10: 27).
كل المجادلات الخاصة بتبرير الألم تثير استياء مريراً تجاه كاتبها. فأنت تود أن تعرف كيف أتصرف عندما أختبر الألم، وليس أن أكتب كتباً عن ذلك. لكنك لا تحتاج أن تخمن، لأني سأخبرك؛ إنني جبان جداً. لكن ما علاقة هذا الغرض الذي أتحدث بشأنه؟ عندما أفكر في الألم – في القلق الذي يلتهم مثل النيران وفي الوحدة التي تمتد وتنتشر مثل البيداء، وفي روتين التعاسة الممل الذي يكسر القلب، أو مرة أخرى في الأوجاع الكئيبة التي تظلم الأفق بأكمله أو في الآلام المفاجئة المثيرة للغثيان التي تُسقط قلب الإنسان بضربة واحة، في الآلام التي تبدو بالفعل غير محتملة ثم تتزايد فجأة بعد ذلك، عندما أفكر في الآلام المثيرة للحنق التي تشبه قرصة العقرب والتي تباغت الإنسان في حركة جنونية، الإنسان الذي كان يبدو بالفعل نصف ميت من عذاباته السابقة – فإن هذا “يرعب روحي تماماً”. لو كنت أعرف أية طريقة للهرب كنت سأزحف عبر البالوعات لكي أجدها. لكن ما جدوى إخبارك عن مشاعري؟ إنك تعرفها بالفعل؛ إنها نفس مشاعرك. إنني لا أجادل أن الألم غير مؤلم. الألم موجع. فهذا هو ما تعنيه الكلمة. لكني أحاول فقط أن أوضح لك أن العقيدة المسيحية القديمة “بتكميل الإنسان من خلال الألم” (عب 2: 10) ليست غير قابلة للتصديق. لكن أن أثبت أنه يمكن قبولها فهذا يتخطى قصدي.
في تقييم مدى مصداقية هذه العقيدة، يجب مراعاة مبدأين، في المقام الأول، لا بد أن نتذكر أن اللحظة الفعلية للألم الحالي هي فقط مركز ما يمكن أن يطلق عليه نظام المعاناة الكلي الذي يمدد نفسه بواسطة الخوف والحزن. مهما كان الآثار الجيدة لهذه الخبرات فهذا يعتمد على المركز؛ بحيث أنه حتى لو كان الألم نفسه ليست له قيمة روحية، إلا أنه إذا كان للخوف والحزن هذه القيمة الروحية، سيكون على الألم أن يتواجد لكي يكون هناك شيء يجب الخوف منه والحزن لأجله. ويجب ألا نشك في أن الخوف والحزن يساعداننا في عودتنا إلى الطاعة وعمل الخير. جميعنا اختبرنا أثر الحزن إذ ييسر لنا محبة من هو غير محبوب – بمعنى أن نحب الناس ليس لأنهم مقبولين لدينا بأية طريقة طبيعية بل لأنه إخوتنا. كما أن معظمنا قد تعلم فعل الخير وقت الخوف خلال فترة “الأزمات” والتي قادتنا إلى الحرب الحالية. تشبه خبرتي الشخصية شيئاً من هذا. فأنا أتقدم عبر طريق الحياة بحالتي العادية الراضية الساقطة غير الباردة. منغمس في لقاءات سعيدة مع أصدقائي لليوم التالي أو في قليل من العمل الذي يداعب غروري اليوم، في عطلة أو كتاب جديد، عندما أشعر فجأة بضربات ألم في عمودي الفقري تهدد بمرض خطير، أو بعنوان في الصحيفة يهددنا جميعاً بالهلاك، مما يجعل كل هذه الحزمة من البرامج تنهار. في البداية سأشعر بالارتباك، وكل الأشياء الصغيرة التي تسبب لي السعادة ستبدو مثل اللعب المكسورة. ثم بعد ذلك، ببطء وامتعاض، رويداً رويداً، أحاول أن آتي بنفسي إلى الإطار الفكري الذي يجب أن أكون عليه في كل الأوقات. فأذكر نفسي بأن كل هذه اللعب لم يكن من المفترض لها مطلقاً أن تمتلك قلبي، أن خيري الحقيقي هو في عالم آخر وأن كنزي الوحيد الحقيقي هو المسيح. وربما بنعمة الله، أنجح، ولمدة يوم أو اثنين، أصبح مخلوقاً معتمداً عن وعي على الله ويستمد قوته من المصادر الصحيحة. لكن في اللحظة التي يتوارى فيها التهديد، تعود طبيعتي بأكملها للقفز مرة أخرى نحو اللعب؛ بل أشعر حتى بالتلهف، وليسامحني الله، أن أزيل من عقلي الشيء الوحيد الذي ساندني وقت التهديد لأنه الآن مرتبط بتعاسة تلك الأيام القليلة. وهكذا تتضح تماماً الآن الضرورة الشديدة للألم والمعاناة. لقد امتلكني الله لمدة ثمان وأربعين ساعة فقط، وقد حدث ذلك عندئذ فقط بفضل انتزاع كل شيء أخر مني. دع الله فقط يضع ذلك السيف في غمده للحظة وعندها سأتصرف مثل الجرو الصغير عندما ينتهي فرض الاغتسال البغيض، أهز نفسي حتى أجف قد الإمكان وأتسابق ليك أعيد الحصول على نجاستي المريحة، إن لم يكن في أقرب تل من الروث، على الأقل في أقرب مشتل أزهار. وهذا هو السبب في أن المعاناة والضيقات لا يمكنها أن تنتهي إلا عندما يرى الله إما أننا قد تشكلنا من جديد أو أن إعادة تشكلينا قد أصبح الآن ميؤوساً منه.
ثانياً، عندما نعتبر أن الألم نفسه هو مركز نظام المعاناة كله لا بد أن نكون على حذر لكي نصغي إلى ما نعرف وليس إلى ما نتخيل. هذا هو واحد من الأسباب التي لأجلها يكرس الجزء المركزي من هذا الكتاب بأكمله إلى الألم البشري، بينما يتم إنزال الألم الحيواني إلى مرتبة ثانية في فصل خاص. فنحن نعرف عن الألم البشري، لكننا نتكهن فقط بشأن الألم الحيواني (انظر الملحق في آخر الكتاب). لكن حتى داخل الجنس البشري، لا بد لنا من أن نستخلص أدلتنا عن الألم من المرات التي وقعت تحت ملاحظتنا الشخصية. اتجاه هذا الروائي أو ذاك الشاعر قد يعرض المعاناة باعتبارها سيئة بالكامل في آثارها. باعتبار أنها تنتج أو تبرر كل أنواع الحق والوحشية في المتألم. وبالطبع، فإن الألم، مثل المتعة، يمكن قبوله بهذه الطريقة؛ إذ أن كل ما يُعطى إلى مخلوق ذي إرادة حرة لا بد أن يكون سلاحاً ذي حدين. ليس بواسطة طبيعة المعطي أو طبيعة العطية، بل بواسطة طبيعة مُتلقي العطية. ومرة أخرى، النتائج الشريرة للألم يمكن أن تتضاعف إذا تعلم المتألمون باستمرار بواسطة من يشاهدونهم أن مثل هذه النتائج هي الأنسب وهي النتائج الرجولية التي يجب عليهم إظهارها. إن السخط والاستياء بسبب آلام الآخرين، رغم أنه عاطفة كريمة، إلا أنها تحتاج إلى السيطرة عليها جيداً لئلا تسلب الصبر والاتضاع من أولئك الذين يتألمون، وتزرع فيهم بدلاً من ذلك الغضب والتهكم. لكني غير مقتنع أن الألم إذا خلا من مثل هذه السخط المتصلف بالإنابة، يكون له أي اتجاه طبيعي لإنتاج مثل هذه الشرور. فأنا لم أجد المتجندين في خنادق الخط الأمامي أو C. C. S. أكثر امتلاءً بالكراهية والأنانية والتمرد وخيانة الأمانة، ممن هم في أي مكان آخر. بل إنني رأيت جمالاً عظيماً في الروح في بعض من أكثر الناس الذين كانوا يعانون بدرجة رهيبة. لقد رأيت رجالاً، في معظم الأحوال، يصيرون أفضل وليس أسوأ مع تقدم السنين، كما رأيت المرض الأخير وهو ينتج فيهم كنوزاً من الاحتمال والوادعة النابعة من أكثر الأمور إثارة لليأس والإحباط. إنني أرى في شخصيات تاريخية محبوبة ومهابة، مثل جونسون Johnson وكوبر Cowper، سمات ربما كان بالكاد يتم احتمالها لو كان هؤلاء الرجال أكثر سعادة. إذا كان العالم بالحقيقة “واد لصنع النفوس”، فيبدو في الإجمال أنه يقوم بعمله. أما الفقر – وهو المصيبة التي تحوي فعلياً أو احتمالياً كل المصائب الأخرى – فأنا لا أجرؤ أن أتكلم عنه كما من نفسي؛ وأولئك الذين يرفضون المسيحية لن يتأثروا بعبارة المسيح أن الفقر مُطوب. لكن هنا تأتي إلى إعانتي حقيقة أخرى جديرة بالملاحظة. إن أكثر الذين ينبذون المسيحية بازدراء باعتبارها مجرد “أفيون للشعوب” لديهم احتقار للأغنياء، بمعنى، لكل البشر فيما عدا الفقراء. فهم ينظرون إلى الفقراء باعتبارهم البشر الوحيدون الذين يستحقون النجاة من “التصفية الجسدية” (القتل)، ويضعون فيهم الأمل الوحيد للجنس البشري. لكن هذا لا يتفق مع الاعتقاد بأن آثار الفقر على أولئك الذين يتألمون منه شريرة بالكامل؛ بل إنه يشير ضمنياً إلى أنها آثار جيدة. لذلك يجد تابع الماركسية Marxist نفسه في اتفاق حقيقي مع المسيحي في هذين المعتقدين اللذين، بشكل متناقض، تتطلبهما المسيحية، أن الفقر مُطوب ومع ذلك يجب القضاء عليه.
[1] ولابد من القول “أسوأ البشر”، ربما أفضل القول “المخلوقات البشرية الأخرى”. أنا لا أرفض على الإطلاق الرأي الذي يقول أن أحد أسباب أمراض الإنسان قد يكون “مخلوق” آخر (الشيطان. انظر الفصل التاسع). الكتاب المقدس يعلن أن الشيطان هو سبب الأمراض في أيوب، في لوقا 13: 16، 1كورنثوس 5: 5، وربما أيضاً 1تيموثاوس 1: 20، ولكن في هذا السياق من حوارنا، لا يهمنا إذا كانت كل المخلوقات التي يمنحها الله إمكانية إحداث آلام في الآخرين هي مخلوقات بشرية أم لا (شيطانية).