لاهوت أثيناغوراس الأثيني – حياته وأعماله ونمطه اللاهوتي
أثيناغوراس الأثيني – حياته وأعماله ونمطه اللاهوتي
إقرأ أيضًا: حياة أثيناغوراس الأثيني الفيلسوف
إقرأ أيضًا: كتابات العلامة أثيناغوراس الفيلسوف
النقاط الأساسية في لاهوت أثيناغوراس
أولاً: أثيناغوراس هو أول من حاول أن يبرهن على وحدانية الله علميّاً. ولهذه الغاية فسّر عقلياً نبوءات الأنبياء التي تحدّثت عن وحدانية الله، منطلقاً من العلاقة القائمة بين الله والعالم الخارجي. وبهذا المعنى يقول: «والآن، أن يكون الله، خالق العالم، منذ البدء، واحداً، فيجب أن تنظروا إليه من وجهة نظر إيماننا أيضاً».
«فإذا كان هناك، منذ البدء، إلهان أو أكثر، أو أن بكون هؤلاء الآلهة في شخص واحد أو كائن واحد، وكذلك أن يكون لكل واحد جوهره المنفصل عن الآخر، فهذا يعني أنهم لا يشابهون بعضهم البعض. فإمّا أن يكونوا غير مخلوقين ولا شبه بينهم، وإمّا أن يكونوا مخلوقين والشبه قائم بينهم. فالأشياء المخلوقة تشابه خالقها، والأشياء غير المخلوقة تتميز بجوهرها الخاص. وبما أن العقل والإيمان يبرهنان على وجود المخلوقات المتعدّدة والتي تتشابه فيما بينها ومع خالقها، فذلك يعني أن هناك إله واحد فوق جميع المخلوقات التي صنعها، وبالتالي فإن فكرة تعدّد الآلهة لا تثبت عقلياً. لذلك فإنه من المنطقي أن نقرّ بإله واحد صنع جميع الكائنات وأوجدها، وهذا الإله هو الذي نبشّر به بإيماننا الموحى، وبالتالي بواسطة عقلنا الذي لا يقرّ بتعدّد الآلهة لأن المنطق لا يرى غيره إلهاً خالقاً لجميع الكائنات» (الاسترحام، 8).
ثانياً: أثيناغوراس هو أول من حاول تحديد ألوهة «اللوغس» ووحدته الجوهرية مع الآب، متحاشياً التبعية التي وقع فيها كثيرون من المدافعين اليونان. يقول: «وإذا كان يحسن لديكم أن تفهموا معنى كلمة «الابن» من خلال المفهوم العقلي، فإليكم رأينا بكلمات وجيزة. إن «الابن» هو سليل للآب، ليس لأنه مخلوق، ولكن لأن الله الذي هو عقل أبدي كان فيه، منذ البدء، الكلمة العاقل، الذي هو الابن. وهذا «الابن» هو مغاير للمخلوقات الأخرى لأنه من غير جوهرها، بل من جوهر الآب نفسه. فالروح ليس بإمكانه أن يكون من جوهر المادة المخلوقة، لذلك هو من جوهر الله غير المخلوق. والروح النبوي هو واضح بهذا المعنى، ويتوافق مع العقل حين يعلن: «إن الله أوجدني مبدأ حياة بالنسبة إلى أعماله»» (الاسترحام، 10).
ثالثاً: أمّا بالنسبة إلى الروح القدس، فيقول: «في الحقيقة، إن الروح القدس الذي يحرّك الذين تنبّئوا هو أيضاً من الله. إنه منه، ولقد دخل إلى قلب هؤلاء الأنبياء نور الشمس» (الاسترحام، 10).
رابعاً: أثيناغوراس هو من الأوّلين الذين أعطوا تحديداً واضحاً للثالوث الأقدس قبل إعلان مجمع (نيقية) الذي كان حدّاً فاصلاً في تاريخ الصراع حول عقيدة الثالوث. فهو يعلن عن وحدة الجوهر في أشخاص الثالوث المستقلة. يقول: «من لا يتعجب عندما يتهموننا بالإلحاد نحن الذين نؤمن بالله الآب، وبالله الابن، وبالله الروح القدس، الأقانيم الثلاثة المتمايزة في الشأن والمركز، والواحدة في الجوهر؟» (الاسترحام، 10).
خامساً: أمّا عن وجود الملائكة، فيقول: «نحن نقول إن هناك عدداً كبيراً من الملائكة، هم خدّام خالق العالم وصانعه، وبواسطة الكلمة الآتي منه وزّعهم وكلّفهم للاهتمام بجميع عناصر الكون وبالسموات وبالعالم، وبكل ما فيها لكي يكون كل شيء متوازناً ومتناغماً» (الاسترحام، 10).
سادساً: وأمّا عن الوحي، فيقول: «الشعراء والفلاسفة، هنا وهناك، قد تصرّفوا بطريقة تخمينية وظنّية. فلقد كان دافعهم معرفة الحقيقة دون الولوج إلى العمق ومحاولة معرفة الله بالذات. ولكن هذه المعرفة تمت من خلال استمزاهم وانجذابهم إلى عاطفتهم الخاصة، لذلك أتت معرفتهم ناقصة، ولذلك أيضاً كان رأي كل واحد مفارقاً للآخر.
«أمّا نحن، فإن لنا شهوداً على ما نفكر به ونؤمن بحقيقته، وهو أن الأنبياء أكدّوا على الأمور الإلهية التي نبشرّ ها لأن الروح الإلهي هو الذي أوحى بها إليهم. وما الأنبياء سوى أداة لهذه الروح، لذلك نحن نتعلق بكلامهم وليس بكلام البشر العاديين» (الاسترحام، 7).
سابعاً: وأمّا عن العفّة التي هي أهم ثمرات الخلقية المسيحية، فيقول: «إننا نجد عندنا رجالاً ونساءً قد طعنوا في السن ولم يتزوجوا أملاً منهم بأن يكونوا مكرّسين لله كليّاً. وهذه ميزة كبيرة في ديانتنا» (الاسترحام، 33).
ثامناً: وأمّا عن الزواج، فيقول: «وبما أننا نؤمن بالحياة الأبدية، فإن خيرات هذه الدنيا وملذاتها هي عندنا هباء. وكل واحد عندنا ينظر إلى المرأة التي تزوّجها من خلال فكرة إنجاب البنين ومشاركة الله في الخلق. وكما أن الزارع ينتظر الحصاد بعد زرعه للحبوب، هكذا الرجل ينتظر البنين لأن الزرع البشري هو لإعطاء الحياة وليس للذّة العابرة» (الاسترحام، 33).
تاسعاً: وأمّا بالنسبة إلى موقفه من الإجهاض وقتل الجنين في أحشاء أمه، لأمر الذي كانت تقرّ به الشريعة الرومانية، فإن أثيناغوراس كان واضحاً في رفضه لذلك، لأن الجنين، حتى ولو لم يتكون بعد، فإنه كائن حي أوجده الله. وفي ذلك يقول: «إننا نرفض جميع الوسائل التي يستعملها الناس للإجهاض لأن ذلك هو قتل الجنين عمداً. وبما أننا نرفض قتل الجنين في أحشاء أمه، فكيف يتهموننا بأننا من أكلة لحوم البشر، وبأننا قاتلون؟ إنه ليس بإمكاننا أن نفكر بقتل من تقدّم في الحياة ونحن نرفض حتى فكرة الإجهاض. إن الله يهتّم بالرجل الكبير الذي أصبح في عمر متقدّم. وإن قتل الأطفال هو جريمة كبيرة نحاسب عليها من قبل الله، ذلك لأننا جميعاً، كبيراً وصغيراً، سواسية أمام الله، وهذا ما يقرّ به العقل البشري، وهذا ما تعلمنا إيّاه ديانتنا المسيحية» (الاسترحام، 35).
عاشراً: وأمّا بالنسبة إلى عدم انفصال الزواج واستمراريته، فيقول: «إمّا أن نبقى كما خلقنا الله بدون زواج، وإمّا ألا نتزوج ثانية لأن الزواج الثاني هو زنى. فالذي يترك امرأته الأولى، أو الذي يفقدها بالموت، فلا يحقّ له أن يتزوج ثانية لأن الله، في البدء، خلق رجلاً واحداً وامرأة واحدة، ولم يخلق عدّة نساء لآدم» (الاسترحام، 33).
هذه الفكرة الأخيرة عن الزواج الثاني بعد موت الشريك لم توافقه عليها الكنيسة. لذلك اعتبر أثيناغوراس متطرفاً إلى حدّ التصوّف وملتزماً كليّاً لأن فكرة العفّة كانت عنده فكرة سامية، وكان يدعو الجميع إلى اعتناقها وعيشها، تكريساً لله، وبعداً عن ملذات العالم.
هذه باختصار النقاط الأساسية في لاهوت أثيناغوراس وفلسفته الذي كان بحقّ دعامة بيرة للكنيسة في مرحلة من أصعب مراحل تاريخها في قلب الاضطهاد الذي شنّه عليها حكّام الإمبراطورية الرومانية ومفكرّوها أسيادها.
الخلاصة
في نهاية هذه الدراسة عن أثيناغوراس الأثيني لابد من التأكيد على أن هذا المدافع الكبير عن العقيدة المسيحية وعن المسيحيين كان له الشأن المهم في العالم المسيحي وفي العالم الوثني على حدّ سواء. فوضوح الكلمة، وقوّة المنطق والجدلية الفلسفية التي تميّز بها، جميعها دفعت أعداءه للوقوف أمامه بكل احترام وإكبار، ودفعت أيضاً الأجيال اللاحقة لاعتباره من أكبر اللاهوتيين والفلاسفة الذين طبعوا كنيسة المسيح بطابع خاص، قيل عنه إنه بعدئذ إنه الطابع الأثيناغوري المميّز.
ألم يعتبره اللاهوتي المعاصر «هانس أورس فون بلتازار» «Hans Urs Von Balthazar» «اللاهوتي الأكثر فطنة ومهارة بين المدافعين الأول عن المسيحية؟» ألم يقل اللاهوتي «بارييل Bareille» عن كتابه «استرحام من أجل المسيحيين»: «إنه الدفاع الأكثر اختماراً وتأملاً، والأكثر توازناً في المبنى والمعنى، والموجه من فيلسوف كبير باسم الفلسفة إلى الأباطرة الفلاسفة بغية تقريب وجهات النظر والمصالحة؟». ألم يقل عنه البطريرك الكبير أثيناغوراس للكاتب «اوليفييه كليمان Olivier Clement»: «إنه المدافع الكبير، وأحد الشاهدين المهمّين في الكنيسة الأولى على حضور الكلمة (اللوغس) عند الحكماء اليونان وفي وحي الشعراء الكبار»؟ ألم يقل «بوسييه Bossuet» عن دفاعه: «إنه أجمل دفاع قرأته عند آباء الكنيسة الأولى»؟
ورغم هذه المزايا الفكرية والأدبية والمسيحية التي جعلته في طليعة المدافعين في القرن الثاني المسيحي، فإن البعض من اللاهوتيين أخذ عليه تملّقه للسلطة، وتأكيده حق الوراثة في الإمبراطورية، الأمر الذي رفضه بعض الكتّاب الكنسيين في العصور اللاحقة. ولكن، إذا ما عدنا إلى «أغناطيوس الأنطاكي» في رسائله، وإلى «بوليكربوس الأزميري»، وإلى الصلوات الختامية في الذبيحة الإلهية التي كانت تقام في آسيا وفلسطين وروما، ألا نجد دعاءً خاصاً يرفع إلى الله على نية المسئولين المدنيين لكي يسوسوا الرعية بل حكمة ووعي؟ ألم يقل «ترتوليانوس» إن الأباطرة الصالحين هم الذين ساعدوا المسيحية على الانتشار، بينما الأباطرة الشاذين هم الذين حاربوها؟ وإذا كان يؤخذ على أثيناغوراس هذا الموقف، فإنه من الضروري وضعنا في الإطار التاريخي الذي كتب فيه، وبالتالي بالنسبة إلى مدّ الجسور مع الوثنية التي كانت فاعلة في ذل الزمن، والذي كان من الحكمة أن يتوجه إليها الكتّاب المسيحيون بدراية وفطنة لرفع الحيف عنهم وعن معتقدهم وعن إيمانهم.
أثيناغوراس كان على حكمة ووعي وفطنة وتمايز في مواقفه، حتى أن أعداءه وقفوا أمامه بإجلال وناصروه في نهاية الأمر. إنها الصورة المشرّفة التي تركها للتاريخ المسيحي ذلك الذي لُقب بحق «الفيلسوف المسيحي الأثيني» دون منازع. ولم تزل كنيسة المسيح ترى فيه الوجه المشرق الذي كان ارتداده إلى المسيحية، على مثال القديس بولس الرسول، غنيّ للفكر المسيحي، وللفكر البشري، وللإنسانية جمعاء. يكفي أن منطقه أفحم الآثينيين وجعل كثيرين منهم تلامذة المسيح، وهو بذلك بقي صاحب المدرسة التي لم تزل آثارها الخيّرة تعمّ بلاد الإغريق لغاية اليوم.