حياة أثيناغوراس الأثيني – حياته وأعماله ونمطه اللاهوتي
أثيناغوراس الأثيني – حياته وأعماله ونمطه اللاهوتي
حياة أثيناغوراس
بين الوجوه المشرقة التي عرفتها المسيحية في القرن القاني الميلادي، وجه أثيناغوراس الأثيني الذي كرّس حياته للدفاع عن العقيدة المسيحية، وعن الإيمان بالمسيح، وعن إخوانه المسيحيّين الذين كانوا عرضةً للاضطهاد والموت من قبل الوثنيين.
هذا المدافع الكبير تميّزت لغته بأناقة التعبير، وبرهافة الذوق الأدبي، وبدقة الملاحظة، وبالعمق الفلسفي الذي ورثه عن أسلافه الإغريقيّين: سقراط وأفلاطون وأرسطو.
لم يكن صاحب مذهب فلسفي، لكنه كان صاحب منطقٍ قلّ مثيله، طرح من خلاله براهينه العقلية على وحدة الله، شارحاً العلاقة الوطيدة بين أشخاص الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس.
فالكلمة عنده تحمل بعدها الروحي والماورائي، والأفكار التي بشّر بها ودافع عنها لم تخرق قلوب سامعيها إلا لأنها صدرت عن قناعةٍ متأصّلة في جذور العقيدة التي اعتنق.
ولهذا أطلق عليه معاصروه تسمية «الفيلسوف الأثيني المسيحي» دون منازع. ورغم أن المؤرخين لم يستفيضوا في الكتابة عنه، غير أنّ ما وصلنا منه يعطي صورة واضحة عن حكمته واعتداله وحذره ووضوحه وجمال أسلوبه الأدبي الذي تفوّق فيه على معاصره يوستينوس الروماني.
كان همه الأول أن يوصل تعاليم المسيح لإخوانه الأثينيين بلغتهم الأدبية المميزة، وبمنطقهم الذي فرض ذاته على التاريخ البشري بواسطة الفلاسفة والأدباء والمفكرين الذين سبقوه. ومن أجل ذلك كتب بلغة «هوميروس» الشعرية والأدبية التي سلبت قلوب الأثينيين وصنّفته أديباً وفيلسوفاً وشاعراً، ذلك أن اللغة بالنسبة إليهم كانت الصورة التوضيحية للفكرة التي يعلنها كل مفكّر.
وبذلك عرف أن يدخل إلى قلوب الجميع، حاملاً بشارة المسيح وتعاليمه، مفسّراً كل ما جاء في الأناجيل وفي كتب الأنبياء. والذي ساعده في ذل هو معرفته العميقة للديانات الوثنية التي كانت سائدة في عصره، الأمر الذي دفع بالمؤرخين أيضاً لاعتباره مرتدّاً إلى المسيحية بعد أن كان وثني الفكر والمعتقد.
أمّا مؤرّخه الأساسي «فيليبّوس السيدي»، الذي نعود إليه لنعرف عن أثيناغوراس الكثير الكثير، فيقول فيه: «بعد أن قرّر مهاجمة المسيحيّين، قبل الفيلسوف «سيلسوس»، راح يقرأ الكتب الإلهية ليتعمّق بها وليدحض ما جاء فيها عن معرفة، غير أن الروح القدس غيّره، على مثال القديس بولس، من مضطّهد إلى مدافع، وأصبح مناضلاً في سبيل الإيمان الذي هاجمه مسبقاً» (فيليبّوس السيدي، مجموعة مين، الآباء اليونان، 6، 182).
أثيناغوراس كان فيلسوفاً ولاهوتياً. بالطبع، ليس بإمكاننا أن نقول عنه، كما عن معاصره يوستينوس، إنه كان صاحب مذهبٍ فلسفي، كما ذكرنا، ولكنّه حدّد مجال العقل البشري، لذلك نراه يستعمل دائماً البراهين العقليّة. وهكذا، برهن أولاً، وبواسطة العقل، عن وحدانية الله. وكما يوستينوس، فإنّه أحبّ أفلاطون، وتعمّق بفلسفة أرسطو والرواقيّين الذين انتمى إليهم الإمبراطور «ماركوس أوريليوس»، الأمر الذي دفعه لاستعمال المنطق الرواقي في كتاباته ليستميل الإمبراطور نفسه لدعم القضية المسحية التي دافع عنها.
وبكل تواضع كان يقول: «بما أنه ليس بالإمكان البرهان، دون ذكر الأسماء، على أننا لسنا الوحيدين الذين نرى الله في الجوهر الفرد، لذلك توجهت إلى نفائس الأدباء، ومختاراتهم الشعرية، لدعم براهيني» (استرحام من أجل المسيحيين، 6).
لذلك أتى كتابه «استرحام من أجل المسيحيين» آية أدبية، دقيق البحث والمنطق، مدعوماً ببراهين أقنعت كثيرين من أبناء أمتّه وجعلتهم يعتنقون الدين المسيحي، ويجاهرون به بين أقرانهم وأصدقائهم وأبناء لغتهم. وما الحكمة التي تميّز بها سوى خلاصة معاناة عاشها في النصف الثاني من القرن الثاني المسيحي، بعد أن كان الاضطهاد يلاحق جميع الذين آمنوا بالمسيح وراحوا يبشرّون بتعاليمه.
لذلك نراه الشاهد الكبير على مرحلة من مراحل آلام الكنيسة مع معاصره يوستينوس، وبالتالي الركيزة الدفاعية الثانية في وجه تسلّط الوثنية، خصوصاً في وجه مفكريها وفلاسفتها.
وعندما تحدّاه بعض المفكرين بقولهم إن المسيحيين هم ملحدون، أجاب بكل وضوح: «إنهم يتهموننا بأننا ملحدون فلهم نقول: لا رغبة لنا سوى معرفة الله الحقيقي، ومعرفة كلمته، ومعرفة وحدة الابن مع الآب، ومعرفة شركة الآب مع الابن، ومعرفة الروح، ومعرفة الوحدة القائمة بين الأقانيم الثلاثة: الروح القدس، والابن، والآب» (استرحام من أجل المسيحيين، 12).
هذا كان إيمانه، وهذه كانت قناعته، وهذا ما دافع عنه طوال حياته في مؤلفاته التي لم يصلنا منها سوى كتابين: «استرحام من أجل المسيحيين»، و «حول قيامة الموتى».