كنيسة المسيح نشأتها وإنتشارها وتفاعلها مع العالم الوثني جـ2
كنيسة المسيح نشأتها وإنتشارها وتفاعلها مع العالم الوثني جـ2
إقرأ أيضًا: كنيسة المسيح نشأتها وإنتشارها وتفاعلها مع العالم الوثني جـ1
2- الكنيسة في مواجهة العالم الوثني
لم تكد الكنيسة تخرج من صراعتها الداخلية التى كان سببها المسيحيون المتهودون الذين ثابروا على التزامهم بشريعة موسى، رغم ايمانهم بالمسيح، حتى ابتدأت مواجهتها مع العالم الوثني، الأمر الذي فرض عليها تنظيماً داخلياً واضحاً لتكون مثالاً في مسيرتها الخلاصية. من هنا كان هاجس رؤسائها الاول، بعد وفاة الرسل، العمل على توحيدها وتوجيهها التوجيه السليم، انطلاقاً من تعاليم الانجيل التى نشرها الرسل انفسهم وخلفاؤهم من بعدهم. لذلك سنرى اولاً، في هذا الفصل الثاني من القسم الاول، تنظيمها الداخلي ومدى تأثيره على العالم الوثني في ذلك الزمن.
أ-تنظيم الكنيسة
يقول القديس اغناطيوس الانطاكي في رسالته الى كنيسة ازمير، العدد الثامن: “حيث يوجد المسيح، توجد الكنيسة (الكاثوليكية) الجامعة”. بهذا الكلام يريد شهيد انطاكية ان يعلن عن وحدة الكنيسة في كل مدينة، وعن الشراكة القائمة بين هذه الكنيسة والكنائس الاخرى الملتفة حول الاسقف، خليفة الرسل، بصفته رأس جماعة المسيح المعمدة بدمه الخلاصي وبنعمته السماوية. والاسقف، المعترف به خليفة الرسل، هو حافظ الايمان الذي يرأس الشعائر الدينية ويراقب مسلك كل مؤمن، يساعده في ذلك متقدمون شيوخ هم الكهنة والشمامسة، وحتى بعض الآرامل المشهود لهن بحسن السيرة وبالتفاني في سبيل خدمة المؤمنين. من هنا، فان كل جماعة اتخذت لها اسم كنيسة، الأمر الذي يوضح لنا رؤيا القديس يوحنا الرسول حيث يتوجه الى الكنائس السبع التي كانت منتشرة في ذلك الزمن. ورغم ان كل كنيسة كانت مستقلة داخلياً تحت اشراف وسهر اسقفها وكهنتها وشمامستها، فان هذه الكنيسة كانت على شراكة بالايمان مع الكنائس الاخرى، حتى ان اساقفتها كانوا يجتمعون في مجمع اقليمي ليتداولوا في شؤون كنائسهم وشؤون الكنيسة جمعاء. والملحوظ هنا ان كنيسة روما كان لها احترام خاص من جميع الكنائس الاخرى، وهذا ما يذكره القديس اغناطيوس الانطاكي حيث يقول: “إنها المتقدمة في المحبة” نظراً الى انها مؤسسة من الرسولين بطرس وبولس، واسقفها هو خليفة بطرس، هامة الرسل. لذلك نرى اسقف روما يتدخل في شؤون الكنيسة جمعاء، وله السلطة للبت في كل أمر كأنه المرجع الأخير.
ومع تنظيم الكنيسة التراتبي ابتدأ ايضاً تنظيمها الليتورجي. لذلك نرى ان العماد تسبقه فترة استعداد تدعى فترة “التنصيرية” أو “الموعوظية” (Catechumenat)، وهي حالة المرشح “للتنصير” او لأن يقبل في قلب جماعة المسيح. كذلك، كع ازدياد عدد المؤمنين ابتدأ الاحتفال بسر الافخارستيا فى كنائس بنيت خصيصاً لذلك، بدل الاحتفال في المنازل والبيوت والاماكن البعيدة عن الاضطهاد مثل “دياميس روما” التي هي مقابر تحت الارض. ورغم التشديد الكبير على المسلكية المسيحية والالتزام كلياً بالتعاليم الالهية، فاننا نرى، في تاريخ الكنيسة، بعض التجاوزات التي حصلت، الأمر الذي دفع بكتاب كثيرين امثال “هرماس” للحث على التوبة في كتابة “الراعي” وغيره من الذين كان همهم عيش المسيحي باخلاص كلي لايمانه ولمعتقده. من هنا كان التنظيم الواضح في الكنيسة، والسهر على الشؤون الطقسية التي كانت الرابط الاساسي بين ابناء المسيح كما كان السهر على تنظيمها القانوني في توضيح تراتبية المسؤولين فيها، من الرأس الى القاعدة وهكذا كانت الفترة الاولى، بعد العهد الرسولي، فترة تنظيم جعل من المسيحيين المثل في التزامهم الديني والمدني على حدٍ سواء.
ب- الوحي والحضارة الوثنية
أن يبشر المسيحيون بان يسوع الناصري قد صلب ومات وقام من القبر، وهو ابن الله، والمخلص الذي تنبأ عنه الانبياء وانتظرته البشرية الرازحة تحت ثقل الخطيئة، على أمل عودتها الى حالة البرارة الاولى التي فقدتها يوم خطيئة آدم، ذلك لم يكن، في نظر الوثنيين، وفي نظر مفكريهم، بنوع خاص، سوى الاجرام بعينه، والتآمر على أمن الامبراطورية، ورفض ألوهية الامبراطور نفسه الذي كان يعتبر ابن الآلهة. من هنا ابتدأت حملة شعواء ضد المسيحيين، قام بها فلاسفة وثنيون أمثال “سيلسوس” في القرن الثاني المسيحي، و”فرفوريوس” في القرن الثالث، وكان همهم دحض البشارة المسيحية، إما بالهزء والتهكم مراراً، واما بالاضطهاد وملاحقة المسيحيين وقتلهم وغالب الأحيان. ولكن المسيحيين لم يقفوا مكتوفي الايدي، بل قام بينهم عظماء يدافعون عن العقيدة، ويفندون أخطاء الفكر الوثني وحضارته، أمثال القديس الشهيد الفيلسوف “يوستينوس الروماني” في القرن الثاني، مبيناً مدى تسامي ورفعة وتفوق القيم المسيحية، و”ترتوليانوس القرطاجي” الذي وضع علمه وموهبته كمحام روماني لامع في خدمة العقيدة، و”منيسيوس فليكس” الذي فضح الشك الفلسفي الروماني وعدم مقدرته على التساوي مع القيم المسيحية.
ولقد برهن جميع المدافعين المسيحيين في دفاعهم، الذي دام مايزيد على المائتي سنة، على ان الحضارة الوثنية هي حضارة لا تخضع لمنطق، رغم ان مذاهبهم الفلسفية كانت تسعى لتفرض هذا المنطق. فالألوهية هي ألوهة المسيح الحقيقية، والمعرفة الغنوصية، كما المعارف الاخرى، ليس بامكانها ان تسير غور هذه الألوهة، لذلك وقفت ضدها ولم تدخل الى جوهرها.
وهكذا فلقد أصبح الغنوصيون، مسيحيون وغير مسيحيين، الخطر الأكبر على الايمان المسيحي إذ حاولوا زعزعة أيمان المؤمنين من خلال خزعبلاتهم الكلامية والفلسفية. فالقول مثلاً بان المسيح لم يكن له سوى ظاهرة انسانية، ورفض العهد القديم من قبل “ماركيون” واتباعه، كانا الضربة القاضية، في بادئ الأمر، للأسس الايملنية الحقيقية إذ إن المسيح لم يعد، في نظر البعض، الهاً، وكذلك العهد القديم لم يكن المبشر بمجئ المخلص الذي انتظرته الشعوب.
وبمقابل الهجمة الغنوصية لم يكنت للفلاسفة واللاهوتيين المسيحيين سوى إتخاذ أحد موقفين مهمين: الموقف الأول وهو القائل بمحاربة الغنوصية واتباعها بلغتها، والبرهان على ان المسيح هو الاله الحقيقي، إنطلاقاً من مفهوم المفردات لصحيح وليس من المفهوم الغنوصي لها، وهذا ما اتبعه القديس “كليمنضوس الاسكندري” و”اوريجانوس” في مدرسة الاسكندرية الشهيرة، والموقف الثاني وهو القائل بدحض المذاهب الغنوصية مباشرة وتكذيبها علناً كما فعل القديس “أيريناوس”، أسقف مدينة ليون، في كتابه “ضد الهرطقات” حيث يشدد على ان كل تحليل نظري لاقيمة له إذغ لم يحترم الوحي الذي هو وديعة السيد المسيح التي حملها الرسل الى الانسانية جمعاء من خلال الكنيسة.
وبالتالي، فلم تكن الافكار وحدها التي شكلت خطراً على العقيدة المسيحية، بل العادات التي أدخلت من العالم الوثني والتي حاولت ضرب حقيقة التعليم الالهي.
من هنا عاش كثيرون من المسيحيين فى حالة عدم توازن بين معتقدهم وحياتهم التطبيقية اليومية، إذ ان المتطرفين من الغنوصيين راحوا يزرعون افكاراً مفادها ان العالم هو عالم الخطيئة، وان الزواج، مثلاً، هو خطيئة بحد ذاتة، الأمر الذي دفع بعدئذٍ بـ “ترتوليانوس” نفسه للوقوف هذا الموقف، منضماً الى “مونتانوس” واتباعه. كذلك المضاعفات التي نتجت عن فترات الاضطهاد الطويلة والتي خلفت وراءها فتوراً روحياً، او بالعكس، تشدداً والتزاماً وتطرفاً في المسلك المسيحي نفسه. كل ذلك جعل الآباء يقفون موقفاً صارماً في وجه الهجومات التي كانت تهدف الى ضرب الديانة المسيحية في الصميم، والتي حاول كثيرون، من ابنائها، أن يفككوها من الداخل، تدرعاً بسلطة المعرفة التي كانوا ينادون بها. غير ان الوحي بقي الوحي، ونعمة المسيح انتشلت الكنيسة من الاخطار التي هددتها بها الحضارة الوثنية والمتطرفون المسيحيين أنفسهم.
ج- المسيحيون والسلطة المدينة
لم تكن الكنيسة مؤسسة سياسية، ولم يرد السيد المسيح ان يؤسس حزباً معيناً له الطابع السياسي المدني، بل كان واضحاً في موقفه يوم قال “اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. فالكنيسة هي المسيح بالذات، وهي استمرارية رسالته وبشارته، وهي مجموعة المؤمنين الذين آمنوا به وبتعاليمه. غير ان هذا الفاصل الواضح بين السياسة والدين، او بين الكنيسة والدولة، كما اراده السيد المسيح، لم يمنع الرسل، وبالتالي خلفاءهم، من التعاطي مع السلطة المدنية تعاطياً سليماً من منطق ان المسيحي هو ايضاً مواطن في دولة أو في امبراطورية او في مملكة. لذلك علم المسؤولون عن الجماعة المسيحية أنه واجب الخضوع للسلطة المدنية، لا بل واجبة الصلاة من أجل ان يساعدهم الله ليديروا شؤون البشر بحكمة وبعدل. لكن الأزمة ابتدأت فعلياً يوم اراد المسيحيون، على مثال اليهود، أن يتفردوا بعبادتهم، وأن يعلنوا أنهم لا يؤمنون إلا باله واحد، رافضين تقديم التضحيات والقرابين لاآلهة الامبراطورية. ورغم ان اليهود كانوا مميزين في عبادتها ويعتبرون موحدين ولا خوف عليهم من تأدية شعائرهم الدينية على انفراد وبعيداً عن تقديم الضحايا للآلهة، غير ان المسيحيين الذين ارادوا ان يفعلوا مثلهم قد تعرضوا للاضطهاد واعتبروا خطراً كبيراً على الدولة. والبرهان الواضح على ذلك هي فترة الاضطهاد الكبير ايام الامبراطور “داسيوس”( 249 – 251)، والامبراطور “ديوكليسيانوس” (284 – 305)، والتي كانت من أصعب مراحل الكنيسة اذ ان الشهداء كانوا يعدون بعشرات الآلاف، نظراً الى ان هذا الاضطهاد كان منظماً في كل انحاء الامبراطورية. ولكن المؤرخين يؤكدون على ان هذه الفترة الاضطهادية كانت غزيرة بالنعم على جميع المسيحيين لأنها أعطت الكنيسة القوة والمثابرة رغم كل الصعاب، وأفهمت المسيحيين أنفسهم ان الشهادة هي ملازمة لحالتهم إذ ان من اراد ان يتبع المسيح عليه بحمل صليبه كل يوم. ويمكننا القول باختصار ان هذه المرحلة الصعبة هي التي ثبتت المؤمنين كلياً، واطلقت بعدئذٍ الحياة الرهبانية في كل العصور.
3-الكنيسة والامبراطورية الرومانية
من كنيسة غربية عن المجتمع الروماني، الى كنيسة تشكل ركيزة أساسية له. من مسيحيين مضطهدين في كل انحاء الامبراطورية، الى مسيحيين يفرضون ارادتهم ويجعلون من ديانتهم ديانة الامبراطورية نفسها. وهكذا يختصر تاريخ المسيحية منذ تسلم “قسطنطين الكبير” زمام الامبراطورية واعلانه حرية الاديان سنة 313 مسيحية، في وثيقة “ميلانو”، بعد انتصاره على “مكسانس” على جسر “ميلكيوس” سنة 312 م. وبذلك غيرت (الكنيسة) مفاهيم كثيرة في المجتمع الروماني، وأصبح رؤساؤها أصحاب الكلمة الفصل بعد ردح من الزمن. وهذا ما سنراه في هذا الفصل الثالث من القسم الاول.
أ-الامبراطورية الرومانية المسيحية
بادئ ذي بدء لم يغير شيئاً ارتداد “قسطنطين” الى المسيحية في منحى دين الدولة، وبقى الامبراطور الرئيس الأعلى والمرجع الوحيد في كل شئ، حتى على الصعيد الديني. ولكن الربح الوحيد الذي ناله المسيحيون آنذاك هو أنهم لم يعودوا مشبوهين وملاحقين من السلطة. بل بالأكثر فأنهم أصبحوا يجاهرون بمعتقدهم بضمانة من قانون الامبراطورية، وحصل كهنتهم واساقفتهم على الامتيازات نفسها التي أعطيت لرجال الدين الوثنيين، واتخذ اسقف روما، أعني قداسة الحبر الأعظم، مركزاً له في قصر “اللاتران” وابتدأت ورشة اعمار الكنائس والكاتدرائيات، وبنوع خاص كنيسة القيامة في اورشليم وكاتدرائية القديس بطرس في روما. ولكن هذه الامتيازات بقيت امتيازات عابرة ووقتية نظراً الى ان المصلحة الامبراطورية الانتهازية السياسية كانت وحدها الموجهة للأباطرة، ضمن إطار مجتمع عقله وقلبه لم يزلا وثنيين. لذلك انقلب كل شئ على المسيحيين ساعة تسلك الحكم الامبراطور “يوليانوس الجاحد” (361 – 363) الذي اراد ان يعيد مجد الديانات السابقة التى كانت ديانات الامبراطورية المعلنة. ولكن المبادرة التي أعلنها “قسطنطين” كانت أقوى من ردات الفعل الآنية بحيث ان دفع الكنيسة بقي رغم الصعوبات.
فـ “غراسيانوس” (+ 383)، مثلاً، رفض لقب الرئيس الأعلى والمرجع الوحيد كامبراطور، و”تيودوسيوس” (+ 395) منع تقديم الذبائح للآلهة في الشرق كله، و”يوستينيانوس” ( + 565) منع الوظائف عن كل انسان لم يكن معمداً، نافياً من الامبراطورية أصحاب البدع تحت طائلة الاتهام بالخيانة العظمى اذا تسلموا مسؤولية في الدولة. وهكذا أصبحت المسيحية ديانة الدولة الوحيدة، وديانة الامبراطور بنوع خاص، وابتدأ المسيحيون يشاركون فعلياً بالسلطة المدنية، واعتبرت سلطة الامبراطور أدنى من السلطة المدنية، وهذا ما ذكر به القديس “أمبروسيوس” في موقفه المعروف ضد الامبراطور “تيودوسيوس”، وكذلك سابقة البطريرك الانطاكي العظيم القديس “بابيلا” في موقفه ضد الامبراطور “فيليبوس” وزوجته “سافيرا”. وسنأتي على ذكر ذلك في حينه.
ب-هيكلية الكنيسة الداخلية
في بادئ الأمر اقتدت الكنيسة، في تنظيمها ىالكنسي الداخلي، بالتنظيم الامبراطوري. فكل مدينة كان لها اسقفها، ينتخبه الشعب، ويساعده، في ادارته، جمهور من الكهنة الذين كانوا يحتفلون معه بالشعائر الدينية، ولا سيما في الأرياف البعيدة حيث تدعوهم الحاجة. وفي كل مقاطعة كان اسقف المدينة ـــ العاصمة يتقدم على الساقفة الباقين بحيث أن سلطتة كانت معلنة، وكان من حقه الدعوة الى مجامع اقليمية (سينودس) يتخذون فيها معاً القرارات المهمة في شأن كل حدثٍ كان يستدعي ذلك. غير ان بعض كنائس الشرق المهمة كانت سلطة اسقفها تمتد الى عددٍ كبير من المقاطعات الاخرى، ولا تقتصر سلطتة على مقاطعتة وحسب. من هنا ابتدأت هذه الكنائس تعتبر “بطريركيات”، وأولها بطريركية انطاكية وبطريركية الاسكندرية وبطريركية القسطنطينية (381) وبطريركية اورشليم (451). وحدها كنيسة روما كانت لها هذه الصفة في الغرب. وعندما كانت تعقد المجامع المسكونية العامة في الشرق، كان ذلك بالتوافق والتفاهم مع بابا روما الذي كان يرسل ممثلين عنه.
ولكن الفارق الحضاري والجغرافي الذي كان يميز الشرق عن الغرب لم يؤثر وحسب على السياسة، بل ايضاً اثر على تطور الكنيسة الجامعة. فمقابل كنائس الشرق التي تميزت بليتورجيتها وأديرتها العديدة وبالصراعات اللاهوتية التي كانت قائمة في ذلك الزمن، كانت كنيسة روما في الغرب تهتم بفرض تبتل الكاهن وتتأثر بالتوجهات “السيكولوجية” حول الفكر الديني التي أطلقها القديس “أغوسطينوس” وعملت مدرستة الفكرية على نشرها أينما كان. غير أن هذا الفارق لم يكن في البدء فارقاً كبيراً على صعيد العقيدة، الى أن ابتدأت الهرطقات تذر قرنها، وعلى رأسها الهرطقة “الأريانية” التي خضت الكنيسة ردحاً كبيراً من الزمن.
ج- الهرطقة الأريانية والبدع المسيحانية
وفي الواقع، فان وحدة الايمان بيسوع المخلص، التي كانت توحد الشرق والغرب، رغم الفارق الحضاري والجغرافي، كما ذكرنا، قد هزتها الهرطقة الأريانية إذ دفعت باللاهوتيين أنفسهم الى وضع نقطة استفهام حول معطيات الوحي والتعاليم اللاهوتية، وكانت الدافع لاقامة مجامع مسكونية، طوال القرنين الرابع والخامس المسيحيين، لتحديد عقيدة الايمان بكل وضوح، مبعدة الشك بما علمة المسيح والرسل وخلفاؤهم من بعدهم. فـ “آريوس” نفى الألوهة عن المسيح وعن عمله الخلاصي ، واعتبره ابن الله بالتبني، وليس الاله الاقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. وهذا ما دفع بالامبراطور “قسطنطين الكبير” لدعوة اساقفة الشرق والغرب الى مجمع مسكوني عام سنة 325 م، في مدينة “نيقيا” ليضع حداً للصراع اللاهوتي الذي كان قائماً، ولتحديد قانون الايمان. ورغم أن الآباء قد أجمعوا على إدانة “آريوس” وحرمه مع تعاليمه، غير ان كثيرين من الأساقفة قد دعموا تعاليمه (تعاليم آريوس)، وبقيت الكنيسة في صراعها مدة طويلة، نفي خلالها القديس “اثناسيوس الاسكندري”، بطريرك الاسكندرية الذي اعتبر العدو الألد لـ “آريوس” والقديس “هيلاريوس” اسقف مدينة “بواتيية” ولم تنقذ وحدة الكنيسة إلا في مجمع القسطنطينية سنة 381 م، حيث جدد هذا المجمع حرمه لـ “آريوس”، وأكد على قانون الايمان النيقاوي.
ولم تكد تنتهي الكنيسة من تأثير الهرطقة الأريوسية وتخرج منتصرة، اذا بصراع جديد يطل مع الاتجاه المختلف، بين مدرستين مهمتين، حول سر المسيح، الاله والانسان، هما مدرسة انطاكية المتمثلة بـ “تيودوروس المبسوسطي”، ومدرسة الاسكندرية المتمثلة بـ “كيريلوس الاسكندري”، إذ ان تأثير “آريوس”، وبعده “أوطيخا”، قد بقي يلعب دوراً مهماً حتى عقد مجمع “أفسس”، سنة 431 م، ومجمع خلقيدونية، سنة 451 م، وأقرا قانون الايمان النيقاوى، وحرما الأثنين معاً (آريوس وأوطيخا). والذي كان قاطعاً، في موقفة، هو بابا روما حيث أعلن آباء مجمع خلقيدونية: “إن بطرس قد تكلم بلسان لاوون”. ولكن، رغم ان قانون الايمان قد حدد نهائياً وأكد عليه آباء المجمع الخلقيدوني، غير ان البعض من كنائس الشرق قد انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية الجامعة. وهكذا أعلنت كنيسة نسطورية في بلاد فارس، وكنيسة قبطية في مصر، وكنيسة يعقوبية في سوريا، وكنيسة أرمنية في بلاد آسيا الصغرى. وجميع هذه الكنائس كانت تؤمن بان المسيح له طبيعة واحدة، وليس طبيعتين، كما تعتقد الكنيسة الكاثوليكية الجامعة.
كذلك، في الغرب، فان بعض المواقف الشخصية قد جعلت الناس ينقسمون الى فئات، وابتدأت الانشقاقات تضرب الكنيسة من الداخل. ومثالاً على ذلك تباع الاسقف القرطاجي “دوناتوس” الذي كان يعتبر ان قيمة سر العماد تتوقف على قداسة الشخص الذي يعطية، و”بيلاجيوس” الذي اعتبر ايضاً ان الخلاص يتحقق للأنسان من خلال جهده الشخصي، نافياً عمل نعمة المسيح في النفوس. لذلك كانت ردة فعل القديس “أغوسطينوس” الذي دافع عن وحدة الكنيسة ضد “دوناتوس” واتباعه، وأكد على مجانية النعمة في الخلاص، وعلى قدرة هذه النعمة بالنسبة الى الانسان الذي فسد من جراء الخطيئة الاصلية. وبذلك ابتدأ الصراع في الغرب الذي دام سنوات حول هذه التعاليم.
د- الكنيسة في مواجهة البرابرة
إن الغزوات البربرية، التي اجتاحت الامبراطورية الرومانية، في مطلع القرن الخامس المسيحي، وضعت الكنيسة امام مسؤولية كبيرة بحيث ان سلطة الامبراطور التي كانت تساعد على وحدتها (وحدة الكنيسة) قد أصبحت تحت رحمة ضربات البرابرة، وبالتالي لقد حاولت جاهدة ان تنظم امورها الداخلية بواسطة كل اسقف موجود على رأس رعيته. وكما قداسة البابا لاوون الكبير ( + 461) الذي ظهر مدافعاً كبيراً عن الايمان في وجه الاجتياحات البربرية، كذلك الاساقفة، في مدنهم، اعتبروا المدافعين والموحدين لهذه المدن بمواجهة التفكك الذي ابتدأ يسود مناطق عديدة من الامبراطورية. وبما ان بعض الغزاة كانوا مشبعين بتعاليم الآريوسية، والبعض الآخر منهم كان لم يزل وثنياً، فلقد وجدت الكنيسة صعوبة كبيرة في الوقوف بوجه هذه التيارات المهددة لوحدتها. ولكن نعمة الله الساهرة عليها (على الكنيسة)، وغيرة المسؤولين فيها، قد ساهما في ارتداد العدد الكبير من هؤلاء البرابرة، خصوصاً وان هؤلاء المسؤولين قد عرفوا كيف يتكيفون مع المد الجديد، وكيف يحاورون القيادات الجديدة التي سيطرت على القسم الأكبر من اوروبا. من هنا انطلقت فكرة ارسال مبشرين الى عدد كبير من الدول المتاخمة، وبنوع خاص الى بلاد الأنكليز وبلاد ايرلندا. والبابا غريغوريوس نفسه أمر بتبشير انكليترا وايرلندا وجرمانيا على يد الرهبان الرومان . وهكذا ابتدأت مرحلة تبشيرية مهمة أوصلت أوروبا جميعها الى الايمان بالمسيح.
وتجدر الاشارة هنا الى ان اديرة الرهبان كانت الخزان الحقيقي لانطلاقة المبشرين بحيث ان فكرة التوحد والاستحباس والخلوة والبعد عن الناس للتكريس لله قد انقلبت الى فكرة الانطلاقة الرسولية والتبشير خارج الأديرة. من هنا أصبح التوجيه في الاديرة توجيهاً رسولياً أكثر منه توجيهاً استحباسياً، حتى ولو كانت هذه الأديرة أديرة القديس “بندكستوس” او القديس “كولومبانوس” المتشددة في الالتزام بقانون البعد عن الناس والتكريس لله في الصلاة والعمل. كذلك فان هذه الأديرة قد حافظت على التراث العلمي القديم وعلى التقليد المسيحي الملتزم كلياً بفرائض الايمان، ونذكر في مقدمهم “كسيودوروس” في ايطاليا، في القرن السادس المسيحي و”ايزيدوروس السيفيلي”، في القرن السابع، و”بادوس المكرم” في انكليترا، في القرن الثامن. كما ان مجامع اقليمية كثيرة كانت الدافع لتوحيد الجهد والنشاط الرسوليين، مشددة على القيم المسيحية الحقيقية وعلى التراث الامبراطوري الروماني الذي شكل إطار الحضارة المسيحية في البدء. فاللغة اللاتينية كانت، في الليتورجيا كما في الادارة، الضمانة لوحدة الكنيسة حتى في بلاد الجرمانية، رغم ان الفارق أصبح كبيراً بين عامة الشعب ورجال الاكليروس، مع العلم ان كرم العلمانيين هو الذي وسع ممتلكات الكنيسة، الأمر الذي دفع المسؤولين فيها للاستقلالية، حتي على الصعيد الاداري المدني. ورغم ان الكنيسة كانت تعتبر ان المدينة الارضية هي تابعة لمدينة الله، فان البابا “جلاسيوس” ( +496) هو الذي شدد على ان الاساقفة هم الذين سيؤدون حساباً عن المسؤولين المدنيين والملوك والرؤساء. وبكلام آخر، فان الكنيسة اعتبرت نفسها مسؤولة، حتى على الصعيد المدني، وابتدأت ايضاً تتأسس المملكة الارضية التي جعلت من قداسة البابا رئيساً روحياً ومدنياً على حد سواء.
هـ- الحنين الى الأمبراطورية الرومانية وسياسة “شارلمان”
وعلى رغم بقاء سلطة بيزنطية على المدينة الخالدة، فان روما شهدت سلطتين، طوال ردحٍ من الزمن، وهي سلطة الامبراطور وسلطة البابا على حدٍ سواء. وفي الواقع، فبوجة التهديد اللومبردي للعاصمة حاول قداسة البابا الاستعانة بالـ “فرنك” الذين شهدوا قيام سلالة “شارل مارتل” التي أبعدت العرب الى اسبانيا بعد ان وصلوا الى مدينة “بواتييه”. ولكي لا تبقى المسؤولية العسكرية في الدفاع عن روما على عاتق “بيبينوس” (Pepin) و”شارلمان” (Chrlemagne)، فلقد اقتطعا قسماً من ايطاليا الوسطى واعطياه للبابا ليكون مسؤولاً عنه، وهكذا تأسست دولة الفاتيكان. وما عدا الجزر البريطانية وافريقيا الشمالية والقسم الذي بقي تحت سلطة الاسلام من اسبانيا، فالغرب باكثرة أصبح تحت سلطة “شارلمان” المركزية. وبالاستناد الى الشرائع القانونية والكتب الليتورجية الرومانية، وبمؤازرة مستشارين قيمين امثال “ألكوينوس” (Alcuin)، فلقد حاول “شارلمان” ان يفرض التعليم الديني على الشعب، ويهتم بالادارة الاسقفية، ويدفع الأكليروس الى التجديد الروحي، ويجد تحديدات ايمانية توافق العصر، من منطلق التفكير بان كل شئ يجب ان يتجدد في الكنيسة. وباعتباره المدافع عن كنيسة المسيح وعن تطورها، فان العاهل “الفرنكي” ثبت قداسة البابا في مهامه بحيث اعتبر كموسى الذي رفع يديه الى الله لانتصار شعبه في حروبه ضد الاعداء. وعندما توج “شارلمان” سنة 800 م، من البابا لاوون الثالث، اعتبر ذلك كتأكيد واقرار من قبل الامبراطور لسلطة روما الالهية والسياسية.
و-الكنيسة والسلطة العلمانية
لم يؤثر موت “شارلمان” سنة 814 ك على الاصلاح الكنسي. فلقد أكملت الكنيسة هذا الاصلاح انطلاقاً من الاديرة، وبنوع خاص، انطلاقاً من الاديرة التي كانت تلتزم بقوانين القديس “بندكتوس” الرهبانية. كذلك، فان مجمع “إكس ــ لاــ شابيل” (Aix – la – Chapelle)، الذي انعقد سنة 816 م، قد أكد على قوانين الحياة الرهبانية وعلى الحياة المشتركة، وعلى العمل الفكري في تلك الاديار. من هنا فاننا نجد، مثلاً، أماكن عديدة كانت فيها الحياة الفكرية في أوج عزها، وبنوع خاص في بلاط “شارل لو شوف” (Charles le Chauv)، حيث علم اللاهوتي “جان سكوت ايربجان” (jean Scot erigene)، وبقي تأثيرة ممتداً لغاية القرون الوسطى.
ولكن، مع الزمن، فان الوحدة الشارلمانية ابتدأت تهتز. فانقسام امبراطوريته الى ثلاثة أقسام. الذي اقرته معاهدة “فيردن” (Verdun) سنة 843 م، كان سبباً مباشراً لاجتياح ”النورمنديين” لبعض المناطق. ورغم محاولة الالماني “أوتون الكبير” (Otton le grand) سنة 962 م لتوحيد الامبراطورية، فان النزعة الاستقلالية في أوروبا أدت الى اقمة مقاطعات مستقلة عرفت بعدئذٍ بالاقطاعيات. كذلك الكنيسة تأثرت بهذه النزعة الاستقلالية، فاصبح كل اسقف ملتزماً برئيس مقاطعته، أو بالاحرى خاضعاً له، حتى في قبول اسقفيته وفي قيامه بمهامه الروحية. والأمور الدينية أصبحت ايضاً خاضعة “للسيمونية” وللتجارة، كما ان ممتلكات الكنيسة أصبحت بيد اقرباء رجال الدين، يتصرفون بها كما يشاؤون. وحتى في روما، خلال القرن العاشر، فلقد كانت السدة البطرسية عرضة للتنازع السياسي، والبرهان على ذلك انتخاب البابا يوحنا الثاني عشر (955 – 964(، الذي كان أتى نتيجة ما فرضتة السياسة المنحازة. ورغم هذا النزاع، فان الجهد الرسولي والتبشريري لم يخف في اتجاه البلاد الاسكندينافية، نظراً الى ان بعض الاقطاعيين كانوا متمسكين بديانتهم، وكان من واجبهم مساعدة المبشرين على القيام برسالتهم. من هنا كانوا يساهمون بانجازات عديدة، على الصعيد الروحي وعلى الصعيد المدني، كما فرضوا استنساخ كل ما جاء في المجامع المسكونية والاقليمية من تعليم عقائدي وتوجيهات روحية، وكذلك رسائل البابوات، لتساعد في ترسيخ الايمان وفي تطور الكنيسة.
ز- انفصال الشرق عن الغرب
وكما في الغرب، كذلك في الشرق، فان الفتح الاسلامي، الذي ابتدأ في القرن السابع، راح يمتد في كل مكان، والكنائس المسيحية كانت عرضة لضربات قاسية بحيث ان هذه الكنائس انقرضت في بعض أماكن، وخصوصاً في افريقيا الشمالية. بينما الكنائس التي لم يصلها الاجتياح الاسلامي، مثل اوروبا الوسطى وبلغاريا وروسيا، فلقد تميزت بنهضة كبيرة، خصوصاً بعد عماد الامير الكبير “فلاديمير” سنة 989 م. وكان لامتداد المسيحية في هذه المناطق الفضل للاخوين “كيريلوس” (+ 896) و”ميتوديوس” (+ 885)، رسولاً “مورافيا”، اللذين اطلقا الليتورجية باللغة السلافية، والتي أصبحت بعدئذٍ ليتورجية الكنيسة الروسية.
اما على صعيد الصراعات المسيحانية، فلقد بقيت قائمة حتى مجمع القسطنطينية (680 – 681) في القرن السابع، حيث أدينت وحرمت بدعة المشيئة الواحدة (Monothelisme). وفي القرن اللاحق، فلقد تفاقمت النزاعات حول الأيقونات التي اعتبرها الامبراطور لاوون الثالث سنة 727 كعبادة وثنية واضطهد كل الذين بشروا بها. كذلك بطريرك القسطنطينية بقي تحت سلطة الامبراطور، خاضعاً لتوجيهاتة، قابلاً بحرم الامبراطور للذين يكرمون الايقونات.
كذلك، فان الهوة بين الشرق والغرب قد تعمقت، خصوصاً وان اللغة كانت مختلفة، والطقوس والعادات الليتورجية أصبحت على فارق كبير، والتنظيمات الكنسية لم تعد ذاتها. ورغم التعاون الذي كان قائماً بين القديس “كيريلوس” و”ميتوديوس” وقداسة البابا “نيقولاوس الاول”، وبين “شارلمان” والامبراطورة “أيرينا”، فان كلمة “المنبثق من الآب والابن (Filioque) التي زيدت على الالحان اللاتينية وعلى قانون ايمان “نيقيا” قد اعتبرت طعناً لبيزنطية ولحساسيتها. كذلك الصراع بين البطريرك “فوسيوس” وقداسة البابا، في القرن الحادي عشر، لم يكن سوى بداية لانشقاق كبير بين الشرق والغرب. وهكذا تعمقت الهوة بين عقليتين مختلفتين، عقلية الشرقيين وعقلية الغربيين، التي لم نزل نهاني منها لغاية الآن. ورغم ان نهاية القرن العاشر المسيحي قد عرفت السيطرة البيزنطية في الشرق، فان الغرب شهد تجديد الغريغوري وسيطرة الكنيسة الرومانية علية. وبذلك ابتدأت مرحلة طويلة من الهيمنة الرومانية على الغرب.