برهان الكيمياء الحيوية – تعقيد الآلات الجزيئية 1 – لي ستروبل
برهان الكيمياء الحيوية – تعقيد الآلات الجزيئية 1 – لي ستروبل
“أخفقنا دائماً في تقدير الخلية… ويمكننا أن ننظر إلى كامل الخلية كمصنع يحتوي على شبكة متقنة من خطوط أنظمة التجميع، كل منها مكون من مجموعة مكائن البروتين الكبيرة. لماذا نطلق عليها اسم آلات؟ لأنها، مثل الآلات التي اخترعها الإنسان لتتعامل بشكل كفوء مع العالم المرئي، تجمعات البروتين هذه تحتوي على أجزاء متحركة ذات تناسق عالٍ”.
بروس ألبرت، رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم[1]
“يجب أن نرفض، كمسألة مبدأ، أن تحل الصدفة والضرورة محل التصميم الذكي؛ لكننا يجب أن نعترف بأنه ليس هناك تفسيرات داروينية مفصلة لتطور أي نظام كيميائي حيوي، فليس هناك سوى تخمينات تواقة”.
عالم الكيمياء الحيوية، فرانكلين إم.هارولد [2]
تعلم مايكل بيه في المدرسة الأبرشية أن الله هو الذي خلق الكون، وعلم ما سيحدث، وقصد أن يوجد الحياة إلى الوجود، ولكن من منظورنا، تجلت كامل العملية من خلال التطور الداروني. وهو ما أرضى بيه الصغير كثيراً.
وفيما بعد، كطالب يدرس الكيمياء الحيوية، عندما واجه بيه أنظمة حيوية معقدة للغاية، هرش رأسه وقال: “إنني مندهش، وأتساءل كيف يمكن للتطور أن يخلق هذا؟ حسناً، شخص ما يجب أن يعرف!”. وكان دائماً يتحرك من منطلق أن شخصاً ما صنع كل هذا.
وفي أحد الأيام، بينما كان يقوم بأبحاثه ما بعد الدكتوراه على DNA في المعاهد القومية للصحة، تأمل هو وزميل له عما تتطلبه الحياة للبدء بعمليات طبيعية. وبينما كانوا يعددون المكونات التي سيحتاجونها؛ البروتينات، وشفرة جينية، وغشاء…. إلخ، نظر كل منهما للآخر في اندهاش شديد. لقد عرفا أنه لا يمكن للحياة أن تقفز إلى الوجود من ذاتها بدون دعم لها، وزُرعت فيهما بذور الشك.
وفيما بعد، قرأ كتاب أخصائي علم الوراثة مايكل دينتون بعنوان: “التطور: نظرية في أزمة Evolution: A Theory in Crisis” ولأول مرة، اكتشف بيه ان ذلك النقد معقول وعلمي للدارونية، وهو ما أدهشه. فقد كان حتى ذلك الحين، يعرف فقط بعض “المبادئ الدينية” التي شككت في هذه النظرية. أما الآن، فها هنا عالم مفكر لا أدري كان متحديه بقوة إن كانت آلية داروين عن الانتقاء الطبيعي يمكنها أن تفسر حقاً كيف بدأت الحياة وتطورت عبر العصور.
فقد حفّزه كتاب دينتون، فبدأ بيه بمسح الأدب العلمي بحثاً عن التفسيرات الدارونية المفصلة المفترض وجودها. ومرة تلو الأخرى، وجد علماء يصفون أنظمة حيوية متشابكة ويقولون: “أليس هذا مدهشاً أن يوضع الاختيار الطبيعي هذا معاً؟” إلا أن كلمة كيف كانت غائبة دائماً.
كان ذلك حين أدرك بيه كمتخصص في الكيمياء الحيوية، وبدأ يتحقق بصورة كاملة فيما إذا كان الدليل يشير نحو الدارونية أم إلى الله كالمصدر للكائنات الحية. ففي النهاية، الحياة هي في الأساس ظاهرة طبيعية جزيئية. وإذا كان التطور الداروني سيكون مقبولاً، فعليه أن ينجح في المستوى المجهري للأحماض الأمينية، والبروتين، الـ DNA. من ناحية أخرى، فإذا كان هناك مصمم حقيقي لهذا الكون فسوف يترك بصمته على كل خلية.
فقد صارت الخلية هي عالم بيه – العالم خيالي، معقد، مدهش، حيث تتخذ الخلية النموذجية على عشرات ملايين الملايين ذرة للبناء. وقد وصف أحد العلماء الخلية الحية الواحدة بمصنع عالي التقنية مكتمل:
باللغات الاصطناعية وأنظمة ترجمتها، وبنوك ذاكرة للتخزين واسترجاع المعلومات، وأنظمة تحكم رائعة تنظم وتجمع الأجزاء ومكوناتها أوتوماتيكياً، غير معرضة للخطأ، وأجهزة تُستخدم للتحكم في النوعية وتعديلها… وقدرة على الاستيعاب تفوق أية أجهزة حديثة، ولها القدرة على إعادة كامل تكوينها خلال بضعة ساعات فقط[3].
وبعدما تخلص من تصوراته القديمة بقدر المستطاع، بدأ بيه بالتدقيق في الأدلة الجزيئية بعيون جديدة. وفي النهاية، لخص نتائجه المذهلة فيما أسمته مجلة National Review أحد أهم الكتب في القرن العشرين.
المقابلة السادسة: مايكل جي. بيه، دكتوراه
جامعة لاهاي “حرم جامعي قمة جبل”، يتكون من ثمانية وسبعين مركز بحث يطل على مدينة بيت لحم، بنسلفانيا، وكأنه مدينة لعبة تجميع الكلمات صعبة hardscrabble، حوله مبعثرة أوراق الأشجار البنية الهشة، إذ أنني حين وصلت إلى الجامعة، بحثاً عن مايكل بيه، كان الوقت خريفاً.
وبعد أن توقفت أمام قاعة إياكوكا الجديدة ذات اللون البني، أمام البناية الزجاجية الخضراء، مشيت إلى الطابق الثاني. وعبر مدخل طويل تتراص على جانبيه المختبرات، مختبر بحث الكربوهيدات المعقدة، ومختبر الإلكتروماجرافي الرئيسي/ والأليكتروفورسيس، ومختبر علم الأحياء الدقيقة الجزيئي، ومختبر علم الغدد الصماء والأعصاب، والمختبر الرئيسي لـ DNA، ومختبر علم الفيروسات الخطرة، بإشارته البرتقالية المنذرة بالخطر على بابه.
وعلى طور حائط الممشى تتلألأ كتابة هي نسخة طبق الأصل مكبرة جداً لمقالة لإثنين من علماء جامعة لاهاي، يطرحان المسألة الإستفزازية: “كيف يؤثر التيستوستيرون Testosterone على مرونة Hippocampal Plasticity في القرقف الأمريكي ذو الرأس الأسود؟”
قرعت على باب مكتب غير مصنف حيث حيّاني بابتسامة بيه، مرتدياً جينز أزرق وقمص حطاب. لقد كان جذاباً ونشطاً ومتحمساً، بابتسامته السريعة وطقطقة أصابعه اللطيفة. كان دائم الحركة، حتى وهو جالس على كرسيه الدوار، فهو مقلقل إلى أبعد حد بحركته. نحيل ولكنه قوي وأصلع، بشعر رمادي ناعم، ولحية، ونظارات مستديرة، ولديه أسلوب لطيف ومتواضع كمن يميل إلى وضع زواره في أحسن راحة.
يُنسب لـ بيه طريقته العادية لأن يكون أب لثمانية (في ذلك الوقت سيكون له التاسع) أطفال، الذي يمنعه من أخذ نفسه أيضاً على محمل الجد. وقد ضحك حين سألته إن كانت لديه أية هوايات، فقال” في أغلب الأحيان، أنزه الأطفال”.
نشأ بيه على الجانب الآخر من بنسلفانيا. ونال درجته العلمية في الكيمياء بمرتبة الشرف من جامعة دريكسل والدكتوراه في الكيمياء الحيوية من جامعة بنسلفانيا. وقد انضم إلى كلية لاهاي، بعد بحث ما بعد الدكتوراه في جامعة بنسلفانيا والمعاهد القومية للصحة، في سنة 1985. كما عمل أيضاً في لجنة مراجعة الكيمياء الحيوية الجزيئية بقسم العلوم الحيوية الجزيئية والخلوية في المؤسسة القومية للعلوم.
وقد كتب أربعين مقالة في المجلات العلمية مثل DNA Sequence وThe Journal of Molecular Biology وNucleic Acids Research وProceeding of the National Academy of Sciences USA وBiophysics وBiochemistry. وحاضر في The Mayo Clinic والعشرات من الكليات، بضمن ذلك يايل، كارنجي ميلون، وجامعة أبيردين، وتيمبل، وكولجايت، ونوتردام، وبرينستون. وهو عضو في الجمعية الأمريكية للكيمياء الحيوية وعلم الأحياء الجزيئي، وجمعية علم الأحياء والتطور الجزيئي، وجمعيات أخرى متخصصة.
كما ساهم بيه في العديد من الكتب مثل Mere Creation وSigns of Intelligence وCreation and Evolution. وكذلك كتابه الأكثر رواجاً والحائز على جوائز وسلط عليه الأضواء عالمياً Darwin’s Black Box. وطبقاً لـ ديفيد بيرلنسكي، مؤلف كتاب A Tour of the Clculu، إن كتاب بيه “يعد ضربة ساحقة ضد داروين على مستوى الكيمياء الحيوية، وبالتأصيل، والرشاقة، وقوة الثقافة” وأضاف بيرلنسكي: “وهو عمل غير مسبوق”[4].
في الحقيقة، لقد أغراني هذه الكتاب للمجيء إلى لاهاي. فقد عرفت بأن نظريات بيه يمكن أن تزيد دعم قوي لفكرة أن خلق مصمم المكائن الجزيئية الصغيرة جداً لكن المعقدة تقود إلى ذلك العالم الخلوي، وأن حججه يمكن أن تقاوم اعتراضات الدارونيين الشكاكين.
النظر داخل الصندوق الأسود
إن كلمة “الصندوق الأسود” التي هي عنوان كتاب بيه، قد استخدمها العلماء كمصطلح عندما يصفوا نظاماً أو آلة جيدة للاستعمال ولكن لا يعرفون كيف تعمل. وعلى سبيل المثال، أشار بيه إلى جهاز الكمبيوتر على مكتبه وقال: “بالنسبة لمعظم الناس يُعتبر الكمبيوتر صندوقاً أسود. فأنت تنقر على لوحة المفاتيح بينما لا تستطيع معالجة الكلمات أو تمارس عليه بعض الألعاب الإليكترونية، إلا أن معظمنا ليس لديه أدنى فكرة عن كيفية عمل الكمبيوتر”.
فعلقت قائلاً: “والنسبة لداروين، كانت الخلية هي الصندوق الأسود”.
أجاب: “هذا صحيح على أيام داروين استطاع العلماء أن يروا الخلية تحت المجهر، لكنها بدت ككرة هلامية صغيرة، ببقعة مظلمة كالنواة. يمكن أن تثير الخلية مسائل كثيرة التي يمكنها أن تتشعب، ومن الممكن أن تدور حولها ولكن ليس لديك أي معرفة بها ولا كيفية العمل بها”.
قلت له: “لا بد وأنه كان هناك تخمين”.
قال: “بالطبع، فقد كانت الكهرباء قضية كبرى في ذلك الحين، وقد اعتقد البعض بأنها لا بد وأن ضربت بعض المادة الهلامية فأتت بالحياة. وقد خمن أكثر العلماء بأنهم إذا ما نقبوا أعمق في الخلية سيجدونها أبسط. ولكن النقيض هو ما حدث”.
“والآن وقد وصلنا إلى أعماق الحياة، ومع ذلك ازدادت الأمور تعقيداً، وعرفنا أن الخلية معقدة للغاية، وأنها تدار من قبل مكائن دقيقة بالشكل الصحيح، والقوة الصحيحة، والتفاعلات الصحيحة. ووجود هذه المكائن يتحدى الاختبار الذي عمله داروين بنفسه”.
سألته: “اختبار؟”
قال: “قال داروين في كتابه “أصل الأنواع” إذا كان من الممكن تفسير أن أي كائن معقد موجود والذي ليس من الممكن أن يُشكل بواسطة تعديلات عديدة متتالية وطفيفة، عندئذ سوف تبطل وتسقط نظريتي بالتأكيد”[5]. وهذا كان أساس فكرتي عن التعقيد الذي يصعب اختزاله”.
“إنه يصعب اختزال درجة تعقيد نظام أو فكرة إذا اشتملت على عدد من المكونات المختلفة، التي تعمل معاً لكي تنجز هذا العمل، فإذا أزلت أحد هذه المكونات فسوف يتوقف النظام كله ولن يعمل. وهذا النظام المعقد الذي لا يمكن اختزاله يصعب بناؤه قطعة قطعة من خلال العمليات الدارونية، لأنه يجب أن يكون متكاملاً ومتواجداً حتى يعمل. والتفسير أو التوضيح الذي أحب استخدامه هو بمثابة مصيدة الفئران”.
ضحكت وقلت: “هل لديك مشاكل مع الفئران في بيتك؟”
قال وهو يضحك: “في الواقع نعم، ولكني وجدت مصيدة الفئران مثالاً جيداً”.
ووقف وتوجه نحو دولاب الملفات، وأخرج مصيدة فئران عادية ووضعها على المكتب بجانبي، وقال: “يمكنك أن ترى بنفسك مدى اعتماد الأجزاء على بعضها”. وكان يشير إلى أجزاء المصيدة وهو يصفها لي.
“أولاً، هناك وصيف خشبي مسطح مُثبت عليه باقي الأجزاء. ثانياً، هناك مطرقة معدنية، التي تسحق الفأر. ثالثاً، يوجد زنبرك له طرفين يضغط بها على القطعة الخشبية والمطرقة عندما يمُسك الفأر. رابعاً، هناك سقاطة أو مزلاج التي تتحرك عندما يحاول الفأر أن يضغط على أي شيء. وخامساً، هناك قضيب معدني مرتبط بالمزلاج وممسك بالمطرقة عندما تغلق المصيدة”.
“والآن، إذا استبعدت أي من هذه الأجزاء، فلن تعمل على الإطلاق، ولن يكون هناك لديك حينئذ مصيدة فئران، ولن يمكنها حتى إمساك ولو نصف العدد من الفئران”.
وأشار ثانية إلى الفخ قائلاً: “لاحظ أنك لا تحتاج إلى هذه الأجزاء الخمسة فقط، ولكن عليها أن تعمل معاً في علاقة مكانية صحيحة. وانظر إلى الأجزاء حيث مُثبتة في المكان الصحيح. فهناك صانع ذكي صنع كل هذا لمصيدة فئران. ولكن بالنسبة للخلية، فمن الذي يُشغل أجزائها؟ ومن الذي يثبتها معاً؟ لا أحد، إنها تقوم بعملها ذاتياً. ويجب أن تكون لديك معلومات عن هذا النظام لكي تخبر المكونات لكي تتجمع معاً بالأسلوب الصحيح وإلا فلا فائدة من الأمر كله”.
استرخى بيه في كرسيه “لذا فمصيدة الفئران توضح بشكل جيد كيف أن اختزال الأنظمة البيولوجية المعقدة يتحدى التفسير الداروني. فلا يمكن للتطور أن يُنتج فجأة آلة بيولوجية معقدة. والجدال حول هذا الأمر ممنوع. وليس بإمكانك أن تنتج آلة بطريقة مباشرة ببعض التعديلات المتتالية والطفيفة لنظام سابق، لأن أي نظام سابق سيفتقد جزءً وبذلك لا يستطيع أن يعمل. ولن يكون هناك سبب لوجوده. ويختار الانتقاء الطبيعي أنظمة تعمل فعلاً”.
قلت له: “لقد ذكرت، من خلال مصيدة الفئران، أن النظام المعقد لا يمكن أن يُنتج مباشرة بالتعديلات الطفيفة العديدة والمتعاقبة. هل يعني هذا عدم وجود طريق غير مباشر؟”
هز بيه رأسه وقال: “لا يمكنك أن تحكم على الإطلاق كل الإمكانيات النظرية لطريق تدريجي وغير مباشر. ولكن كلما ازداد تعقيد النظام المتداخل كلما ضعفت إمكانية معرفة سبب ذلك. وكلما ازدادت اكتشافاتنا عن هذه الأنظمة البيولوجية المعقدة، تزداد ثقتنا بفشل نظرية داروين”.
سألته: “هل هناك الكثير من الأنواع المختلفة للمكائن الحيوية على مستوى الخلية؟”
أجاب: “إن الحياة مبنية على المكائن الجزيئية، إنها تنقل الشحنات من مكان لآخر داخل الخلية. وهي التي تُشغل العمل أو توقفه في الخلية. وهي بمثابة البكرة والكابلات، وتطلق المكائن الكهربائية التيار عبر الأعصاب؛ وتبنى المكائن التصنيعية مكائن أخرى. والمكائن الشمسية تعمل بالطاقة من الضوء وتخزينها في المواد الكيماوية. والآلات الجزيئية هي التي تحرك الخلايا، وتعيد الإنتاج، وتعالج الغذاء. وفي الحقيقة، فكل جزء من عمل الخلية يتحكم فيه أجهزة معقدة وذات كفاءة عالية”.
ثم أشار بيه نحو مصيدة الفئران وقال: “إذا كان عمل مثل هذه المصيدة البسيطة يحتاج إلى من يصممها، فعلينا أن نسأل: ماذا عن المكائن المنعمة بشكل رفيع في عالم الخلايا؟ وإذا لم تتمكن نظرية التطور من شرحها بشكل كاف، فيجب على العلماء أن يكونوا أحراراً لدراسة بدائل أخرى”.
قبل أن أبداً في التفكير والاستفسار عن هذا الموضوع، أردت أن أظل مركزاً فترة أطول على استعمال بيه الغريب لمصيدة الفئران لتصوير هذه العملية المعقدة. ومنذ نشر كتاب “صندوق داروين الأسود” أصبحت مصيدة الفئران كأيقونة جديدة في المناظرات عن التطور مقابل التصميم. ومنذ ذلك الوقت، فقد واجهتها معارضات من الدارونيين وكنت بحاجة لأن أعرف ما إذا كان باستطاعة بيه أن يقف امام هذه التحديات”.
تخريب مصيدة الفئران
بدأت حديثي مع بيه بالقول: “لقد ولدت مصيدة فئرانك نوعاً من الجدل والخلاف. فمثلاً، قال جون ماكدونالد، من جامعة ديلوار، أن مصائد الفئران بإمكانها أن تعمل بأجزاء أقل من تلك التي ذكرتها، وقد رسم صورة لمصيدة أكثر بساطة من مصيدتك. ألا يقلل هذا من قدر مصيدتك المعقدة؟”
فأجاب بابتسامة: “كلا على الإطلاق. أنا أوافق على وجود مصائد للفئران بأجزاء أقل، وقد ذكرت هذا في كتابي! وذكرت أنه بإمكانك استخدام صندوق مفتوحاً مسنوداً بعصا، أو استخدام فخ باللاصق، وأو تحفر حفرة يسقط فيها الفأر، أو فعل أي من العديد من الأشياء”.
“ونقطة التعقيد الذي لا يمكن اختزاله ليس المقصود بها أنه لا يمكن للشخص أن يعمل نظاماً آخراً بطريقة أخرى وبأجزاء مختلفة أقل. ولكن المصيدة التي نحكي عنها الآن تحتاج إلى كل جزء فيها لكي تعمل. والتي تشكل التحدي أمام التدرجية الدارونية بالوصول إلى حالتها النهائية من خلال تعاقبات عديدة، وتعديلات طفيفة. ولكنك لن تستطيع ذلك. بالإضافة إلى هذا، فإنك تستخدم ذكائك وأنت تحاول ذلك. تذكر أن الادعاء السخيف للتطور الداروني هو أنه بالإمكان إعداد أنظمة معقدة بدون أي نوع من الذكاء”.
بدا أن تفسير بيه البسيط كافياً لهزيمة نقد ماكدونالد[6]. لكن كان هناك تحدياً أكبر لكي نفكر فيه. وأخرجت من حقيبتي نسخة من مجلة “التاريخ الطبيعي”.
“لدى كينيث ميللر اعتراض آخر على مصيدتك”. قلت هذه وقرأت له من المجلة تعليق ميللر:
انتزع جزأين من المصيدة (وليكن السقاطة والقضيب المعدني)، عندئذ لن يكون لديك مصيدة فئران ولكن ماكينة ذات ثلاثة أجزاء وستكون لديك آلة صغيرة لتثبيت الأوراق. استبعد الزنبرك وستحصل على سلسلة مفاتيح مكونة من جزأين. والسقاطة يمكن استخدامها كخطاف، والقاعدة الخشبية كثقالة ورق؛ والأشياء الأخرى يكن استخدامها في أمور أخرى مفيدة. والنقطة التي فهمها العلم هي هذه أن القطع والأجزاء الموجودة في آلة النظام المعقد قد يكون لهما استخدامات مختلفة[7].
قلت له: “ذلك مجال يفوق. لربما النظام المعقد الذي يطور تدريجياً بمرور الوقت، لأن كل من مكوناته يمكن أن يأخذ وظيفة أخرى التي ستحفظ الانتقاء الطبيعي في الطريق نحو تطوير ماكينة أكثر تعقيداً”.
ملت للأمام وسألته: “ألا يفكك قضيتك؟”
لم يجفل بيه وأجاب: “المشكلة إنها ليست مجادلة ضد أي شيء مما قلته. ففي كتابي، أشرت على أن بعض مكونات المكائن الكيمياوية الحيوية يمكن أن تأخذ وظائف أخرى. ولكن القضية تظل كما هي، هل بإمكانك استخدام بتعديلات عديدة وطفيفة ومتتالية أن تحصل منها على وظائف أخرى حيث نوجد نحن؟
“تبدو بعض هذه الاعتراضات سخيفة نوعاً ما. هل يمكن لجزء من المصيدة أن يُستخدم كثقالة أوراق؟ حسناً، ما الذي تحتاجه كثقالة روق؟ أنت تحتاج إلى كتلة. ولكن لا يمكن أن تحتاجها لإيجاد فيل أو جهاز الكمبيوتر، أو عصا يمكن أن تكون ثقالة ورق. ولكن افترض أنك ذهبت واشتريت ثقالة ورق. ماذا سيكون شكلها؟ معظمها يصعب وصفها، أشياء مستديرة. ولا أحد منها تشبه المواد التي تًصنع منها المصيدة. وبالإضافة إلى ذلك، انظر إلى ماذا يفعل: إنه يبدأ من المنتج النهائي – المصيدة – ويفككها ليستخدم أجزائها لأغراض أخرى. ومرة أخرى أقول إن هذا تصميم ذكي!”
“والسؤال بالنسبة لنظرية التطور ليس ما إذا كان في إمكانك أن تستخدم أجزاء المصيدة لأغراض أخرى، ولكن ما إذا كان في إمكانك أن تبدأ بشيء آخر وتحوله إلى مصيدة. والمشكلة بالنسبة لمن يؤمنون بنظرية التطور هو البدء بنظام أقل تعقيداً وتبني نظاماً أكثر تعقيداً. وحتى إذا تمكنوا نظرياً من إيجاد وظيفة مفيدة لكل مكون قبل تجميعه ليكون مصيدة، فستظل المشكلة هي كيف يمكن تجميع هذه المصيدة”.
قلت له: “أريد شرحاً أكثر”.
قال: “عندما يجمع الناس المصيدة معاً، فقد تكون المكونات مفككة في أدراج أو أماكن مختلفة، ثم يجمعون كل جزء ويضعونها معاً أما في الخلية فلا يوجد أحد يقوم بهذا الأمر”.
“وفي المكائن الجزيئية، المكونات لها أشكال معينة وهي مُكملة لبعضها البعض، ولهذا فهي تترابط معاً بطريقة صحيحة. والشحنة الموجبة تجذب الشحنة السالبة، والمنطقة الزيتية يمكنها جذب المنطقة الزيتية الأخرى. إذن لو استخدمنا مصيدة الفئران كمقياس تمثيلي، فإن طرف المزلاج سيكون لها شكل معين او مغناطيسية تجذب مكوناً او جزءً آخر من المصيدة. وعلى كل الأجزاء أن تتوافق معاً بهذه الطريقة حتى تتجمع كل المصيدة في وحدة واحدة.
“وبمعنى آخر، إذا كانت لديك الأجزاء المكونة للمصيدة وليست لديك القدرة على تجميع الأجزاء الأخرى في مكانها، فلا يمكنك أن تحصل على مصيدة تؤدي وظيفتها. ولم يناقش أحداً هذه المشكلة في الأدب التطوري. وإذا قمت بعمل أية حسابات عن احتمالية حدوث ذلك تلقائياً، فسوف تجد ذلك غير محتمل حدوثه. وحتى بالنسبة للآلات الصغيرة، لا تتوقع أنها تتجمع من تلقاء ذاتها أثناء عمر الأرض كله. إنها مشكلة صعبة لا يجب أن يناقشها أولئك الذين يؤمنون بنظرية التطور”.
إقرأ أيضًا:
-
برهان الكيمياء الحيوية – تعقيد الآلات الجزيئية 2 – لي ستروبل
-
برهان الكيمياء الحيوية – تعقيد الآلات الجزيئية 3 – لي ستروبل
[1] Bruce Alberts, “The Cell as a Collection of Protein Machines,” Cell 92 (February 8, 1998).
[2] Franklin M. Harold, The Way of the Cell (Oxford: Oxford University Press, 2001), 205.
[3] Ibid, 329.
[4] Michael Behe, Darwin’s Box (New York: Touchstone, 1996), back cover.
[5] Charles Darwin, The Origin of Species (New York: New York University Press, sixth edition, 1998), 154.
[6] For A more in-depth response to McDonald, see Michael J. Behe, “A Mousetrap defended,” available at www.arn.org/docs/behe/mbjMusc-trapdefended.htm (accessed November 2, 2002).
[7] Kenneth R. Miller, “The Flaw in the Moustrap,” Natural History (April 2002).