المسيح نور العالم – دكتور عصام سامي
المسيح نور العالم – دكتور عصام سامي
مقدمة:
أثمن شئ للإنسان في هذا الوجود المادى هو نور العينين. وحينما يفقد الإنسان نور بصره يمشى متخبطًا، إذ يكون العالم كله حوله مظلمًا، فهو لا يرى بالمرة، حتى أنه لا يدرك جمال خليقة الله. هكذا نحن أيضًا إذا لم تكن عيون قلوبنا مستنيرة بنور المسيح، وإذا لم يكن نور المسيح داخل عقولنا وأفهامنا فسنرى كل شئ مظلمًا حتى أن أجمل الأشياء ستبدو لنا عندئذ قبيحة، وهذا هو الفرق بين إنسان عرف كيف يستخدم الإمكانيات التى أعطاها المسيح له، وبين آخر لا يعطى اهتمامًا لهذه الإمكانيات. فالأول تراه سعيدًا فرحًا مسرورًا بكل شئ ويجد جمالاً في كل شئ، بينما الآخر عكس ذلك تمامًا.
لذا رتبت الكنيسة القبطية الواعية، ضمن قراءتها، عددًا من القراءات، بها تُذكّر المؤمن بضرورة السلوك في النور الإلهى. ومن بين هذه القراءات:
1ـ عيد الغطاس (11طوبة):
(يو18:1ـ34) المسيح يسوع نور العالم هو الذى خبّر
” الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذى هو في حضن الآب هو خبر .. وشهد يوحنا قائلاً أنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه … هو الذى يعمد بالروح القدس“. فالابن الكائن في حضن الآب، قد استعلن الله لنا بالرؤية والسمع، ” الذى رآنى فقد رأى الآب ” (يو9:14) ويقول أيضًا القديس يوحنا الإنجيلى ” الكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للآب الذى أرسلنى” (يو24:14).
فالمسيح يسوع قد أنار علينا بنور معرفة الآب، وأشرق بالنور الإلهى على قلوبنا، وأثناء عماده فى نهر الأردن نزل الروح مثل حمامة من السماء واستقر عليه وأصبح معروفًا منذ ذلك الوقت لدى يوحنا المعمدان أنه ابن الله الحى الذى يرفع خطايا العالم، والذى كان ينتظره ليكمل المكتوب، كما قال ” إنى أعمد بالماء أما الذى يأتى بعدى فسيعمد بالروح القدس ” (مت11:3).
وقد أرسل تلاميذه إلى المسيح له المجد، لكى يتحولوا إلى المسيح، بعد أن أنهى رسالته بمجيء المخلص. فحينما أرسل يوحنا تلاميذه إلى المسيح ليسألوه، ” مَن أنت“، كان يقصد من هذه الإرسالية أن يسلم تلاميذه إلى هذا المخلص، فمهمته قد انتهت. يالها من رسالة عظيمة من خادم عظيم مثل يوحنا المعمدان، الذى يسلم تلاميذه إلى المسيح المعلم الحقيقى، لكى يضئ حياتهم بنوره.
ومن ناحية أخرى يقول القديس كيرلس الكبير، يجب أن ندرك انه لا يمكن أن يحسب مثل المخلوقات أو أن له طبيعة مخلوقة، بل له أقنومه المتميز عن الآب والذى في الآب فإذا كان حقًا هو ” الإله الابن الوحيد” فكيف لا يكون مختلفًا في الطبيعة عن الذين هم بالتبنى أبناء[1]؟ لأن بولس الرسول يقول ” لكن لنا إله واحد الآب الذى منه كل الأشياء ورب واحد يسوع المسيح الذى به كل الأشياء” (1كو 6:8).
2ـ الأحد الرابع من الخماسين: (يو35:12ـ50)
” فقال لهم يسوع النور معكم زمانًا قليلاً بعد فسيروا مادام لكم النور لئلا يدرككم الظلام. والذى يسير في الظلام، لا يعلم إلى أين يذهب، مادام لكم النور، آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور“. يحاول المسيح هنا أن يلفت أنظار الجمع لشرح الوصية وأن يعطيهم فرصة جديدة لتطبيقها وذلك بمعنى أن الزمان والوقت يعبران بسرعة، ولابد من انتهاز واستغلال الفرصة الموجودة، طالما النور قائم وموجود، فالنور قد ظهر ويجب عليهم أن يؤمنوا به ويسيروا معه، كما سار قديمًا آباءهم بواسطة عمود النور، الذى كان يضئ لهم الطريق لئلا تدركهم الظلمة.
وطريق النور الذى يقودنا إلى الملكوت فالذين يسيرون فيه هم ظاهرون للجميع وهم يضيئون لغيرهم، ليس بكلامهم فقط، وإنما بحياتهم وسلوكهم وتصرفاتهم اليومية، وطريق الظلام الذى يؤدى إلى الهلاك، فالذين يسيرون فيه قد لا يكونوا ظاهرين تمامًا مثل السابقين، ولكن هم يعرفون أنفسهم ويعلمون أيضًا إلى أين يذهبون. يطلب القديس غريغوريوس النيسى في أحد مقالاته، من شعبه المؤمن أن يصلوا لكى يكتشفوا ويعرفوا الأشرار للابتعاد عنهم لأنهم كما يقول بولس الرسول إنهم ذئاب خاطفة مختفية في ثوب الحملان. والخبرات اليومية تظهر لنا صدق كل هذا الكلام.
3 ـ الأحد الثالث من شهر بشنس: (لو 25:10ـ37)
“.. تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك … افعل هذا فتحيا“. المسيح نور العالم، جاء لكى ينير كلمات الوحى الإلهى ويعطيها قوة، وسهولة في التنفيذ، فلا يمكن لشخص أن يحب الرب، من كل القلب والنفس والقدرة والفكر، والقريب مثل النفس، إلاّ بعد أن ينير له المسيح قلبه وهذه الإمكانية لم تكن متاحة في الماضى بهذه السهولة كما في الحاضر بعد أن جاء مخلص العالم الذى أحب البشرية أولاً وأعطى حياته لها ويكون إتمام هذه الوصية الآن هو نتيجة للحب الذى قُدِم على الصليب.
وهذه الآية تُظهر بوضوح علاقة الإنسان بالله. فمَن أحب الرب يسوع بصدق، يحب قريبه كما يحب نفسه، وهو الأمر الذى لا ينبغى أن يغيب عن اهتمامنا في هذه الأيام.
4 ـ أحد الرابع المولود أعمى :
” وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته، فسأله تلاميذه قائلين يا معلم مَن أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلِدَ أعمى …. مادمت في العالم فأنا نور العالم“.
يقول القديس كيرلس الأسكندرى[2] في شرحه لهذه المعجزة إن الرجل لم يولد أعمى بسبب خطاياه الشخصية أو بسبب خطايا والديه، ولكن حيث إنه قد حدث أنه ولد أعمى، فمن الممكن أن يتمجد الله فيه. لأنه حينما يتحرر ويُشفي من المرض المزعج الذى حلّ به، فمن الذى لا يعجب بذلك الطبيب الذى شفاه؟ ومن هو الذى لا يعترف بسلطان الشفاء الذى أظهر في المسيح؟ ينبغى أن أعمل أعمال الذى أرسلنى مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل.
بهذه الكلمات، يسمى الرب زمن الحياة في الجسد ” نهارًا ” وزمن وجودنا في الموت يسميه ” ليلاً ” لأنه حيث أن النهار جُعل لتتميم الأعمال والليل جُعل للراحة والنوم، لذلك فإن زمن الحياة الذى ينبغى أن نعمل فيه ما هو صالح يسميه الناس (نهار).
بالطبع كان المسيح يعمل نهارًا وليلاً، فهو الذى يتحكم في الكون ويرعاه، وعيونه على جميع أركان العالم. فلا وجود لشئ كائن إلاّ بوجود الرب يسوع المسيح ملك السماء والأرض. ولكن لكى يوضح المسيح المكتوب ويشرح ببساطة لهذا الشعب ضعيف الإيمان والذى يتحكم فيه الشيطان، قال لهم ” أعمل أعمال الذى أرسلنى مادام نهار“. فتكلم بلغتهم وعل قدر فهمهم. وقدم الشفاء للمريض الأعمى منذ ولادته، وقال لهم “مادمت في العالم، فأنا نور العالم“.
المسيح كان نور العالم، وكل مكان كان يتواجد فيه كان ينيره، سواء بكلماته القوية الصادقة الحقة التى كانت تدخل القلوب فتبكت السامعين فيعودون إليه، وأما بمعجزاته التى كانت تهدف أول ما تهدف إلى إظهار حبه الفياض تجاه البشرية المتألمة.
ولا أتصور أن المسيح كان يهدف في عمل معجزاته إلى إظهار قوته، فهو ليس بسوبر مان (أو بهلوان)، وإنما الدافع الأول والأساسى كان حبه الفياض وحنانه على المتألمين، أما كونه يقول ” لا هذا أخطأ، ولا أبواه .. ولكن لتظهر أعمال الله فيه” أمر لا يلغى إطلاقًا ما أشرنا إليه، بل يؤكده ويؤكد الحب الذى لله لكى يُظهره فيه. كما أن المسيح حينما قال: ” أنا نور العالم” أراد أن يوضح لنا أنه جاء لكى ينير عيوننا وقلوبنا لندرك رسالة الفداء التى جاء لأجلها.
والمعجزة في حد ذاتها تؤكد إننا حينما نكون فاقدين البصيرة الداخلية وعمل الروح القدس، سوف نتخبط ونقع في الحُفر والطرقات وأى حجر صغير تحت أقدامنا سيُلقينا أرضًا وقد تنكسر عظامنا أو قد نُصاب بالشلل الدائم فهو يطالبنا بأن نكون متيقظين صاحين، ومستعدين أن نفتح عيوننا حيث نظن في كثير من الأحيان أننا نرى بوضوح، وفي حقيقة الأمر، نحن عميان بل وأسوأ من هذا الإنسان الذى فتح يسوع عينيه، وذلك عندما نتفاخر بأننا أفضل من الآخرين وأننا نرى كل شئ في حين أن الآخرين عميان، وقد ينطبق علينا ما قاله المسيح بأنه يجب أولاً أن نخرج الخشبة من عيوننا (الخطيئة) لنرى بوضوح.
الفريسيون يطردون الرجل الذى ولد أعمى:
هناك الكثير من الناس لا يحبون النور ولا يحبون الصلاح، بل يحبون الظلمة ويحبون عدم الشهادة للحق، ولذا بعد أن فتح المسيح عينى الأعمى وأصبح علامة واضحة على انتصار النور على الظلمة، نجد الفريسيين مثلاً بدلاً من أن يفرحوا مع الذى كان أعمى وأصبح الآن يبصر، حاكموه، إذ سمح لذلك الذى يُدعى المسيح أن يُفتح عينيه. وعلى الرغم من أن الأعمى قدم شهادة عملية عن إيمانه بهذه الشخصية (المسيح) التى فتحت عينيه، بل وحاول أن يقنعهم بأنه نبى وأنه جاء من قبل الرب.
وكان من الطبيعى أن يبشر الأعمى الفريسيين بالمسيح، وهو لا يستطيع أن يغلق فمه عن التحدث بالمجد والنور الذى أعطاه له المسيح. إذ لا يمكن لإنسان يرى النور الإلهى، ولا يخبر به الآخرين وبكل قوة وعدم خوف حتى لو طردوه. فكل من رأى النور الإلهى يصبح عاملاً وشاهدًا به، ولا يستطيع أن يوقفه أو يعطله أحد. والشئ المؤسف أن علماء الناموس وقضاته وحُماته وقفوا موقفًا مخالفًا للناموس، فبدلاً من دفاعهم هم بأنفسهم عن المسيح الذى جاء الناموس لأجله أدانوا المسيح، على عكس الأعمى الذى وقف موقف الحق والنور دفاعًا وحبًا للمسيح وصار بحق تلميذًا له أفضل من معلمى الناموس.
وفى قراءات هذا اليوم (أحد المولود أعمى ـ الأحد السادس من الصوم الكبير)، تقدم لنا الكنيسة منهجًا روحيًا عن كيف نعيش ونسلك فى النور، وترسمه لنا كما يقول الآباء فى ثلاثة مراحل هى :
أ ـ مرحلة المعرفة :
فى رسالة الكاثوليكون يكلمنا معلمنا الرسول يوحنا (1يو13:5ـ21) عن المعرفة وإدراك النور التى أعطاها لنا ابن الله ويقول ” نعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق … ” هذه البصيرة (المعرفة) التى أخذناها فى المعمودية، بها ندرك معنى المعمودية، أننا نُصلب مع المسيح ونموت وندفن معه، وبالتالى نقوم معه بقيامته.
ب ـ مرحلة التطهير :
هذه المرحلة ـ التطهير ـ نجدها فى رسالة البولس (كو5:3ـ17)، وفيها يعلمنا الرسول بولس كيف نبدأ فى التطهير فيقول ” فأميتوا أعضاءكم التى على الأرض الزنى النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذى هو عبادة الأوثان… إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه“. ففى المعمودية خلعنا العتيق ولبسنا الجديد، لذا يجب علينا لكى نسلك فى النور ونعيش فى النور، أن نطهر أنفسنا، ونحفظ قلوبنا… كل هذا يحتاج إلى سهر ويقظة وجهاد التى هى سمات مرحلة التطهير، التى يطالبنا بها الرسول بولس.
ج ـ مرحلة الاستنارة :
وهو موضوع إنجيل القداس (الذى تكرره الكنيسة فى الأحد الرابع من شهر طوبة، لتؤكد على مسامعنا أهمية السلوك فى النور). فمادام المسيح فى العالم فهو نور العالم، ونحن الذين عرفنا وأدركنا ذلك؛ ونجاهد من أجل تطهير ذواتنا، نعرف أن سبيل استنارتنا هو الاتحاد بشخص المسيح ” من هو يا سيد لأؤمن به… قد رأيته والذى يتكلم معك هو هو. فقال أؤمن يا سيد. وسجد له“. إن الاتحاد بشخص المسيح هو التجرد من كل شئ ” أخرجوه خارجًا “، والالتصاق بالمسيح ” فوجده“.
وهكذا بتطهير القلب يشرق فينا نور المسيح بشكل واضح ونصير أبناء النور كما يقول الرب ” آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور ” (يو35:12).
* “أنت يا سيدنا ومخلصنا يسوع المسيح، تأتي إلى النفوس حيث يخيم الظلام. ولا يدرك نورك إلاّ بعض الناس، فالرجاء أن تزيد نورك لكى ندركك نحن أصحاب النفوس الضعيفة”
1 أنظر القديس كيرلس الكبير، في تفسيره وشرحه لإنجيل يوحنا الجزء الأول، مركز دراسات الآباء، القاهرة 1989 ص 144.
2 أنظر أحد المولود أعمى للقديس كيرلس الأسكندرى. ترجمة د. نصحى عبد الشهيد. مركز دراسات الآباء القاهرة ، 2000 ، ص 3.
المسيح نور العالم – دكتور عصام سامي
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!