Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

فجر العقيدة المسيحية – القمص عبد المسيح بسيط

فجر العقيدة المسيحية – القمص عبد المسيح بسيط

فجر العقيدة المسيحية – القمص عبد المسيح بسيط

فجر العقيدة المسيحية – القمص عبد المسيح بسيط

أن تاريخ العقيدة المسيحية هو تاريخ الفداء الذي أتمه المسيح ابن الله الكلمة الذي ظهر على الأرض في ملء الزمان، ولكن هذا التاريخ لا يبدأ بتجسد الرب يسوع المسيح وميلاده من العذراء، بل يمتد إلى ما وراء، إلى الأزل وما قبل الخليقة، فهو تاريخ المسيح ابن الله الكلمة في عمله الفدائي وتاريخ الفداء، فداء البشرية، تاريخ ملحمة الخلاص الإلهي للإنسان، المُعد قبل تأسيس العالم(1).

فقد يتصور البعض أن هذا التاريخ، الذي هو تاريخ العقيدة المسيحية، يبدأ بميلاد المسيح من العذراء أو بحلول الروح القدس يوم الخمسين، مع أن هذا هو ما حدث فعلاً في الزمان، وما ظهر في تاريخ البشرية، إلا أن ذلك من الوجهة الإلهية وبحسب تدبير الله ومشورته الأزلية غير دقيق!! لأن تاريخ الفداء وملحمة الخلاص المسيحي يمتد لما وراء إلى ما قبل خليقة آدم والسقوط بل يمتد إلى ما قبل تأسيس العالم!! يرجع إلى اللحظة التي فيها قرر الله خلق الإنسان والبشرية، هذه اللحظة غير معلومة الزمن، لأنها قبل خليقة الأرض والزمان، بل مرتبطة بمشورة الله الأزلية وتدبيره الأزلي وعلمه السابق.

وما يعلنه لنا الكتاب يقول؛ أنه عندما رتب الله بحسب مشورته الإلهية وتدبيره الإلهي وعلمه السابق أن يخلق الإنسان على صورته ومثاله، كشبهه، قرر أن يخلقه عاقلا حرا يتصرف بحرية كاملة وغير مجبر على شيء في كل أعماله وتصرفاته، وقد رأي الله بعلمه السابق أن هذه الحرية ستؤدي به إلى السقوط، ولكن الله الذي خلق جميع الكائنات العاقلة أعطاها الحرية الكاملة، لذا قرر، بحسب مشورته الإلهية وعلمه السابق، أن يقدم له الفداء بتجسد ابنه الوحيد، كلمته، في لحظة ما وتوقيت مرتبط بالزمن الأرضي اسماه الوحي الإلهي بـ ” ملء الزمان ” (غل4:4).

ومن هنا يقول لنا الكتاب أن هذا السر، سر التجسد والفداء، كان مقررا ومرتبا ومحتوما كما يقول الكتاب: ” قبل الأزمنة الأزلية “(2)؛ ” الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية ” (2تي1:9)، ” والقادر أن يثبتكم حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذي كان مكتوماً في الأزمنة الأزلية ولكن ظهر الآن وأعلم به جميع الأمم بالكتب النبوية حسب أمر الإله الأزلي لإطاعة الإيمان ” (رو16:25و26)، ” إذ سبق (الله) فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته … إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه.

لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك الذي فيه أيضا ذلنا نصيباً معينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شئ حسب رأي مشيئته ” (اف1:5-7). ويقول أيضا ” أنه بإعلان عرفني بالسر … سر المسيح. الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح … وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكي يعرّف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا ” (أف3:3-5و9-11)، ” السر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال لكنه الآن قد أظهر لقديسيه الذين أراد الله أن يعرّفهم ما هو غنى مجد هذا السر في الأمم الذي هو المسيح فيكم رجاء المجد ” (كو1:26و27).

وأخيرا يقول القديس بطرس بالروح: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفا سابقا قبل تأسيس العالم ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم ” (1بط1:18-20).

ولأن هذا السر، سر الفداء، يخص البشرية جميعا فقد كشف عنه الله بروحه القدوس لأنبياء العهد القديم ودونوه في الأسفار المقدسة، ولكنهم انتظروه وعايشوه في شكل رموز ونبوات دونوها بالروح القدس في الأسفار النبوية وبشروا بها الأجيال التالية، وكانت شهوتهم أن يعيشوا هذا السر ويعاينوه بأنفسهم، ولكنهم عاينوه بالروح، كما يقول القديس بطرس بالروح: ” نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء. الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها.

الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أخبرتم بها انتم الآن بواسطة الذين بشروكم في الروح القدس المرسل من السماء التي تشتهي الملائكة أن تطّلع عليها ” (1بط1:9011). أو كما يقول القديس بولس في الرسالة إلى العبرانيين: ” في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها واقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض ” (عب11:13).

وقد دونوا بالروح كل ما يختص به وبشخصه وعمله الفدائي، وقد شرح نبواتهم هذه وفسرها الرب يسوع المسيح نفسه وأوضحها لتلاميذه: ” وقال لهم هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم انه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير ” (أع24 :44)، ومن ثم يقول القديس بولس الرسول: ” وأعرّفكم أيها الأخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به وقبلتموه وتقومون فيه وبه أيضا تخلصون أن كنتم تذكرون أي كلام بشرتكم به إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثا. فأنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضا أن المسيح مات من اجل خطايانا حسب الكتب. وانه دفن وانه قام في اليوم الثالث حسب الكتب ” (1كو15:1-4). والرب يسوع المسيح نفسه يقول ليهوذا عن حتمية صلبه موته: ” أن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه ” (مت26:24).

ولما حاول القديس بطرس الدفاع عنه وقت القبض عليه قال له الرب: ” رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون. أتظن أني لا استطيع الآن أن اطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة. فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي أن يكون ” (مت26:52-54). وقال لتلاميذه من قبل: ” وكيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أن يتألم كثيرا ويرذل ” (مر9:12).

وقال القديس بطرس لرؤساء اليهود: ” وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تممه هكذا فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب. ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل ” (أع3: 18-20). وقال لتلاميذه بعد قيامته: ” أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب … وقال لهم هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم انه لا بد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.

وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. وان يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم ” (لو24:26و27و46و47). وكما يقول الكتاب أيضاً: ” فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مرارا كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد اظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه ” (عب9:26).

مما سبق يتبين لنا أن تاريخ العقيدة المسيحية هو تاريخ الفداء، أو تاريخ ملحمة الخلاص الإلهي للبشرية، الذي كان مقرراً منذ الأزل في تدبير الله الأزلي وبحسب مشورته الإلهية وعلمه السابق. وقد أعلن عنه للآباء والأنبياء بالروح القدس في العهد القديم، وظهر على الأرض في ملء الزمان وكرزت به الكنيسة لكل الشعوب والأمم بعد حلول الروح القدس ” وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى الله ظهر في الجسد تبرر في الروح تراءى لملائكة كرز به بين الأمم أومن به في العالم رفع في المجد ” (1تي3:16)، ” ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني ” (غل4:4و5).

ولكي ندرس هذا التاريخ ونفهمه جيداً يجب أن ندرسه من خلال العهد القديم ومن خلال كتابات اليهود فيما بين العهدين التي سجلوا فيها تفسيرهم وفهمهم لما جاء بهذه النبوات عن شخص المسيح الآتي وألقابه، ما بين ملاخي ويوحنا المعمدان، وأيضا من خلال الفكر اليوناني الذي كان سائداً في الفترة السابقة لميلاد المسيح والمعاصرة له، خاصة في فكره الكلمة، كلمة الله، الميمرا (Memra) في اليهودية واللوجوس (Logos) في اليونانية، وما كتبه مؤرخي اليونان والرومان غيرهم من الذين عاصروا فجر المسيحية، وشهدوا، دون قصد منهم، عن إيمان المسيحيين في القرن الأول وعقيدتهم في المسيح، وكذلك يوسيفوس الكاهن والمؤرخ اليهودي (36 -100م) الذي ولد بعد صعود الرب يسوع المسيح وعاصر كرازة التلاميذ وخلفائهم، ثم بحسب شهادة المسيح عن نفسه وإعلانه في العهد الجديد عن نفسه وعن حقيقة التعدد في الذات الإلهية لله الواحد. وشهادة التلاميذ عنه وكذلك شهادة اليهود من جهة رد فعلهم لإعلانه عن نفسه كابن الله وكلمة الآب الذي من ذات الآب.

(1) ” لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سأفتح بأمثال فمي وانطق بمكتومات منذ تأسيس العالم ” (مت13 :35)، ” ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ” (مت25 :34)، ” كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة ” (أف1 :4)، ” لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة كما قال حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي.مع كون الإعمال قد أكملت منذ تأسيس العالم ” (عب4 :3)، ” فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مرارا كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد اظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه ” (عب9 :26)، ” دم المسيح … معروفا سابقا قبل تأسيس العالم ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم ” (1بط1 :20؛ أنظر رؤ8 :13و17 :8).

(2) ” وللقادر أن يثبتكم حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذي كان مكتوما في الأزمنة الأزلية ” (رو16 :25)، ” الذي خلّصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية ” (2تي1 :9)،

” على رجاء الحياة الأبدية التي وعد بها الله المنزه عن الكذب قبل الأزمنة الأزلية ” (تي1 :2).

فجر العقيدة المسيحية – القمص عبد المسيح بسيط

Exit mobile version