ملكوت الله الأرض والوعد -د. جوزيف موريس
ملكوت الله الأرض والوعد -د. جوزيف موريس
يرتبط الحديث عن ملكوت الله ارتباطًا وثيقًا بما نعرفه عن مفهوم الشعب والأرض والوعد.
وعندما نتكلم عن ” ملكوت الله ” أو مملكة الله ” فهل هذا أن لهذه المملكة شعبًا معينًا ومختارًا وأرضًا محددة معروفة حسب الوعد الصادر من الله.
والسؤال الأهم هل هناك ارتباط بين ” ملكوت المسيح الآتى ” وبين اجتماع هذا ” الشعب المختار ” فى أرض بعينها تحقيقًا للوعد الإلهى.
وللإجابة على هذه الأسئلة الهامة لحياتنا الإيمانية يجب علينا أن نفهم ومن خلال نصوص الكتاب المقدس معنى هذه المصطلاحات: الشعب والوعد والأرض وعلاقتها بتحقيق هدف الله من جهة البشرية، ومملكة الله.
الشعب:
يخبرنا سفر التكوين عن قصة هذا الشعب والتى بدأت بخروج إبراهيم من وطنه الأصلى بمدينة أور الكلدانيين ـ حسب أمر الله له ليسكن ولسيتقر فى بلد غريب ” وقال الرب لأبرام أذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك، فأجعلك أمة عظيمة وأبارك وأعظم أسمك وتكون أمة عظيمة وأبارك وأعظم أسمك وتكون بركة وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه ويتبارك فيك جميع قبائل الأرض (تك1:12ـ3).
ثم قطع الرب مع أبرام ميثاقًا بقوله: ” قال الله لإبراهيم وأما أنت فتحفظ عهدى أنت ونسلك من بعدك فى أجيالهم، هذا هو عهدى الذى تحفظونه بينى وبينكم، وبين نسلك من بعدك يختن منكم كل ذكر فتختنون فى لحم غرلتكم فيكون علامة عهد بينى وبينكم ” (تك1:17ـ8).
شعب الله:
برز شعب إسرائيل* تاريخيًا كشعب لا بسبب العوامل العرقية والجغرافية واللغوية والحضارية التى تشارك فى تكوين أى شعب، لكن أيضًا يفعل وعيه العميق لعلاقة فريدة تجمع بينه وبين الله. ومن هذا المفهوم الكتابى لهذه العلاقة بين هذا الشعب وبين الله ” شعب الله ” ينبع مفهوم ” الاختيار” حيث يخبرنا الكتاب أن هذا الشعب قد وقع عليه اختيار الله، فما معنى وهدف هذا الاختيار.
الاختيار:
لقد أختبر هذا الشعب معنى كونه يستمد وجوده قبل كل شئ، لا من المقومات العرقية والجغرافية والسياسية واللغوية والحضارية التى تتكون منها الشعوب عادة، بل من علاقة معايشته بالله وهى بالنسبة له محور وجوده وسبب وحدته. فإذًا لهذا الوجود معنى وغاية يستمده من الله ذاته. فهو موجود فى الأساس لتحقيق مقاصد الله وهذا هو بالضبط معنى الاختيار. ” الاختيار هو الطريقة التى ارتضاها الله فى مقاصده من أجل خلاصنا ويهدف إلى تكوين شعب يتكرس لله ويتقدس به والاختيار هذا سيؤول إلى انتشار قداسة الله بين الناس (تث1:7ـ6) ” (1).
الاختيار مسئولية وخدمة:
” طبقًا لنصوص العهد القديم إن اختيار إبراهيم وبيته لم يكن منحًا لامتياز بقدر ما كان تحميلاً لمسئولية ” (2).
مسئولية ملقاة على عاتق هذا الشعب بأن يسعى إلى تحقيق غاية تتجاوزه وإلى تتميم الرسالة التى أفرزه وأختاره الله من أجلها، إنه بالتالى عبئ محيى لأن الله هو إله الحياة وغايته إنما هى حياة الإنسان لذا فمقاصده لابد وأن تكون محييه بالنسبة لمن يؤتمن عليها أو بالنسبة للذين تستهدفهم. ” إن شعب الله علامة لأن يظهر فيه الإله الحي للجميع كيف يخلص هو الإنسان وكيف يقبل الإنسان أو يرفض وهكذا فشعب الله هو أيضًا وسيلة خلاص فإن الله لا يخلص الإنسان بفرض ذاته عليه بل باشتراكه فى خلاصه، وشعب الله أداة وخميرة: أولاً ليتقدس هذا الشعب ثم ليتحول إلى أداة تتقدس بها سائر الشعوب الأخرى والشعب المختار هو أداة لتقديس الاختيار الإلهى الجزئى ولا يكتمل بمجرد اختيار إسرائيل كشعب إنما يكتمل بتقديس الأمم من خلال إسرائيل، يصبح الكل متلهفًا لقبول المسيح كما صرخ سمعان الشيخ قائلاً ” الآن تطلق عبدك أيها السيد حسب قولك بسلام لأن عينى قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته أمام وجه جميع الأمم، نورًا لاستعلان الأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل ” (لو29:2،30).
والجزء الثانى من سفر إشعياء النبى (40 ـ55) والذى يسمى بكتاب تعزية إسرائيل يوضح أن اختيار الله المجانى لإسرائيل يضع هذا الشعب لا فى موقع التسلط والامتياز والاستعلاء بل فى موضع الخدمة والمسئولية والعطاء ” أما أنت يا إسرائيل خادمى ويا يعقوب الذى اخترته… يا من اخترته من أقاصى الأرض ودعوته من أقطارها وقلت له أنت خادمى واخترته “، ” أنتم شهودى هل من إله غيرى “، ” هانذا جعلتك للشعوب شاهدًا “.
الاختيار ليس بسبب الأفضلية:
والقراءة الدقيقة والواعية للكتاب المقدس توضح أن الاختيار لا يعنى أن إسرائيل كشعب أفضل من سائر الشعوب. وإن الله قد خصه بسبب ذلك بإمتيازات ترفعه فوق الشعوب الأخرى وتمنحه حقوقًا عليها. لقد أوضح سفر التثنية فى مواضع كثيرة أن شعب إسرائيل ليس أفضل شعوب العالم لكى يعطيهم العهد ” لا لأنكم أكثر من جميع الشعوب لزمكم الرب وأصطفاكم… أنتم أقل من جميع الشعوب، لكن بمحبة الرب لكم ” (تث7:7،8). وأيضًا ” لا تقل فى نفسك.. لأجل برى أدخلنى الرب لأملك هذه الأرض… ولكن… لكى يفى بالقول الذى أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب… فأعلم أنه ليس لأجل برك أعطاك الرب إلهك هذه الأرض الصالحة لتملكها لأنك شعب قاسى الرقاب ” (تث4:9ـ6).
ومن نبوة حزقيال 44:20 ” وتعلمون إنى أنا الرب… حين اصنع معكم لأجل أسمى لا بحسب طرقكم الشريرة وأعمالكم الفاسدة يا آل إسرائيل يقول السيد الرب “.
لقد تم اختيار إسرائيل إذن بمبادرة إلهية، وهذه المبادرة لا تستدعى مؤهلات وامتيازات ومواهب فى الإنسان. لاسيما وأن كل إنسان قد نال ما هو الأثمن فى الوجود، نعنى بذلك صورة الله المطبوعة فى أعماق كل إنسان.
هدف الاختيار:
لقد دخل الله تاريخ الإنسان عبر بوابة شعب إسرائيل وذلك ليستودعه تدبير قصد الخلاص. وهذا هو السبب الذى من أجله نقرأ فى أسفار العهد القديم عن أن هذا الشعب هو خادم الله (إش21:44) مختار الله (إش4:45) وابنه البكر (خر22:4) وميراثه (إش25:19) وعروسه (هو4:2) (3).
فإذا كان إسرائيل قد أختير ليكون خادمًا وشاهدًا بين الشعوب فإنه بالتالى خادم لهذه الاشعوب كلها لأنه ناقل إليها مقاصد الله. ومقاصد الله إنما هى حياة لكافة شعوب بعد أن زاقت الموت. معنى اختيار إسرائيل هو أن يحمل للشعوب قاطبة بركة الله. هذا هو مدلول وعد الله لإبراهيم ” بك يتبارك جميع أمم الأرض ” (4)(3:12).
فإذا صار هذا الشعب ” لله مسكنًا بين البشر “أستطاع أن يكون شاهدًا بين الأمم لمقاصد الله. وهدف الاختيار يتجاوز حدود القومية الضيقة ويتدرج حسبان علاقة الله بالإنسانية كلها. فهذا الشعب مدعو أن يكون بالدره وحدة كل الشعوب. وهذا ما نجده فى نصوص العهد القديم حيث نجد توجيهات تتعلق بمحبة الغريب و حسن معاملته والمحافظة على حقوقه وذلك على نقيض التعصب القومى والتمييز العنصرى. ” شريعة واحدة
تكون للمواطن والغريب النازل فيما بينكم ” (خر49:12)، ” الغريب فلا تظلمه ولا تضايقه فإنكم كنتم غرباء فى أرض مصر ” (خر25:22). أنظر أيضًا لا33:19ـ33، تث 17:10ـ19، تث14:24ـ15، تث 17:24ـ22، تث29:27.
لكن هل بقى إسرائيل أمينًا للوعد ومخلصًا فى عهده مع الله متممًا هدف اختياره وسبب تميزه أم جنح إلى مجاراة سائر الأمم المحيطة به فانحرف عن دعوته الفريدة، وخان الرسالة التى أئتمنه الله عليها بين الأمم:
* استبدلوا عبادتهم للإله الواحد بإله شبيه بسائر الالهة (العجل) [إله الخصب والحرب فى الشرق] أى لإله يسير فى خط رغائبهم الضيقة ويسمح لهم بأن يكونوا على شاكلة سائر الأمم.
الهوامش:
* كلمة ” إسرائيل ” بالعبرية تعنى ” الله يجاهد ” وأطلقت على يعقوب لأنه جاهد مع الله وغلب (تك27:32،28) ثم أطلقت على أسباط يعقوب الأثنى عشر ” بنى إسرائيل ” فإسرائيل الحقيقى كشعب هو شعب العهد الإلهى
(1) الأب منيف حمصى: هل يُلغى العهد القديم ؟ لبنان 1995م ص 148.
(2) دكتور وليم سليمان قلادة: اليهودية تدحض الصهيونية، مجلة مرقس ديسمبر 1973م.
(3) الأب منيف حمصى: المرجع السابق ص 150.
(4) الأب يوحنا قزمان: أضواء كتابية فى موضوع الطائفية ـ مجلة النور ـ بيروت 1969العدد الأول ص 17ـ29.