الكنيسة وقانونية الأسفار المقدسة – القمص عبد المسيح بسيط
الكنيسة وقانونية الأسفار المقدسة – القمص عبد المسيح بسيط
ما هي الأسفار المقدسة التي كانت مع الرب يسوع المسيح في بداية كرازته؟ وهل كان معه إنجيل نزل به أو معه، أو نزل عليه من السماء؟ ما هو قانون الأسفار المقدسة الذي تركه الرب يسوع المسيح لتلاميذه ورسله؟ وما هي المعايير التي تم على أساسها تقرير قانونية العهد الجديد:
(1) أنها تقدم لنا أعمال وتعاليم شخص الرب يسوع المسيح
نفسه، كلمة الله الذاتي النازل من السماء[1]، صورة الله غير المنظور[2]، ضياء مجده وصورة جوهره، قوة الله وحكمة الله[3]، والمعلن عن الذات الإلهية والإرادة الإلهية والتدبير الإلهي، الله ناطقاً، الله معلناً، الله ظاهراً، الله الظاهر في الجسد[4]، وفداءه الذي قدمه للبشرية.[5]
فكلامه هو كلام الله وتعاليمه هي تعاليم الله وأعماله هي أعمال الله وكان الإنجيل هو إنجيله المكروز به في العالم أجمع، سواء عندما كان شفوياً أو بعد تدوينه في أسفار، لذا يبدأ الإنجيل للقديس متى بقوله: ” كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ ” (مت1 :1)، ويبدأ الإنجيل للقديس مرقس بقوله: ” بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ ” (مر1 :1).
ويقول القديس لوقا: ” لأنَّ كثيرًا مِنَ النـاسِ أخَذوا يُدَوِّنونَ رِوايةَ الأحداثِ التي جَرَت بَينَنا، كما نَقَلَها إلَينا الذينَ كانوا مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ، رأيتُ أنا أيضًا، بَعدَما تتَبَّعتُ كُلَ شيءٍ مِنْ أُصولِهِ بتَدقيقٍ، أنْ أكتُبَها إليكَ، يا صاحِبَ العِزَّةِ ثاوفيلُسُ، حسَبَ تَرتيبِها الصَّحيحِ، حتى تَعرِفَ صِحَّةَ التَّعليمِ الذي تَلقَّيتَهُ ” (لو1 :1-3)، ويؤكد في سفر الأعمال أن ما كتبه في الإنجيل للقديس لوقا هو عمل وتعليم الرب يسوع المسيح: ” دَوَّنْتُ في كتابـيَ الأوّلِ (الإنجيل)، يا ثاوفِـيلسُ، جميعَ ما عَمِلَ يَسوعُ وعَلَّمَ مِنْ بَدءِ رِسالَتِه إلى اليومِ الذي اَرتفَعَ فيهِ إلى السَّماءِ، بَعدَما أعطى بِالرُّوحِ القُدُسِ وصايا للذينَ اَختارَهُم رُسُلاً ” (أع1 :1و2).
ويؤكد القديس يوحنا أن هدف الإنجيل الذي دونه بالروح القدس هو: ” أَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ ” (يو20 :30و31).
ويشرح القديس بولس محتوى الإنجيل الذي بشر به بقوله: ” وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا: أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَسَبَ الْكُتُبِ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا (بطرس) ثُمَّ لِلاثْنَيْ عَشَرَ. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا ” (1كو15 :1-8).
(2) الرسل، شهود العيان، وعمل الله معهم:
كان تلاميذ المسيح ورسله، كشهود عيان، هم المستودع الأمين لما عمله وعلم به، لذا فقد تساوت وصاياهم وتعاليمهم مع تعاليم أنبياء العهد القديم ومع وصايا الرب نفسه لأن وصيتهم هي وصيته وتعاليمهم هي تعاليمه؛ يقول القديس بطرس بالروح ” لِتَذْكُرُوا الأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا سَابِقًا الأَنْبِيَاءُ الْقِدِّيسُونَ، وَوَصِيَّتَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ، وَصِيَّةَ الرَّبِّ وَالْمُخَلِّصِ ” (2بط3 :2)، ويقول القديس يهوذا الرسول ” أخو يعقوب ” (أع1 :13)، ” وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فَاذْكُرُوا الأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا سَابِقًا رُسُلُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ ” (يه17).
وكان هؤلاء التلاميذ والرسل هم قانون الكنيسة ذو المصداقية الإلهية الذين أعدهم الرب يسوع المسيح فدخلوا وخرجوا معه ورأوا كل أعماله بعيونهم وسمعوا كل ما قال وعلم ولمسوه بأيديهم. وكشف لهم أسرار ملكوت السموات ” لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ ” (مت13: 11)، وزودهم بالسلطان الرسولي وفسر لهم كل ما تنبأ به عنه جميع أنبياء العهد القديم ووعدهم بالروح القدس ليحل عليهم ويسكن فيهم فيقودهم ويذكرهم بكل ما عمله وعلمه الرب ويعلمهم أمورا جديدة، ويرشدهم للحق.
فقد كان الرسل هم شهود العيان الذين سمعوه ورأوه ولمسوه وكان معهم شاهدان آخران هما نبوات العهد القديم والروح القدس الذي يشهد فيهم وبهم ومن خلالهم، كما أعطاهم سلطاناً ليصنعوا الآيات والقوات والعجائب.
كما أيدهم بالمعجزات والقوات والعجائب التي تدل على عمل الروح القدس فيهم وكلامه على لسانهم وبأفواههم أو كما يقول الكتاب ” شَاهِدًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ، حَسَبَ إِرَادَتِهِ ” (عب2 :4). ” وَكَانَتْ عَجَائِبُ وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُجْرَى عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ ” (أع2:43). ” وَجَرَتْ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّعْبِ ” (أع5: 12)[6].
والتي تؤكد رسوليتهم كرسل الرب يسوع المسيح وأن كل ما ينادون به ويعلمونه هو كلام الله بالروح القدس. يقول القديس بولس بالروح “ بِقُوَّةِ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، بِقُوَّةِ رُوحِ اللهِ. حَتَّى إِنِّي مِنْ أُورُشَلِيمَ وَمَا حَوْلَهَا إِلَى إِللِّيرِيكُونَ، قَدْ أَكْمَلْتُ التَّبْشِيرَ بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ ” (رو15: 19)،
” إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ ” (2كو12:12، ” أَنْتُمْ شُهُودٌ، وَاللهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ. كَمَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ كُنَّا نَعِظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَالأَبِ لأَوْلاَدِهِ، وَنُشَجِّعُكُمْ، وَنُشْهِدُكُمْ لِكَيْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ للهِ الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَى مَلَكُوتِهِ وَمَجْدِهِ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا نَشْكُرُ اللهَ بِلاَ انْقِطَاعٍ، لأَنَّكُمْ إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ، الَّتِي تَعْمَلُ أَيْضًا فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ ” (1تس2:10-13).
عاش التلاميذ والرسل مع الرب يسوع من بداية كرازته إلى يوم صعوده، كقول القديس بطرس بالروح: ” فَيَنْبَغِي أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا الرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ، مُنْذُ مَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ عَنَّا، يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِدًا مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ ” (أع1: 21و22)، وكقول الرب نفسه لرسله: ” وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ ” (يو15 :27). وكان ذلك لسان حال الرسل: ” وَنَحْنُ شُهُودٌ لَهُ بِهذِهِ الأُمُورِ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ أَيْضًا، الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ ” (أع5 :32).
(3) رسولية تلاميذ المسيح ورسله:
هذه الرسولية التي أكدها القديس بولس في عدد من رسائله: ” بِمَا أَنِّي أَنَا رَسُولٌ لِلأُمَمِ أُمَجِّدُ خِدْمَتِي ” (رو11: 13)، ” أَلَسْتُ أَنَا رَسُولاً؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرًّا؟ أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟ (1كو9: 1و2)، ” بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ … وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ” (غل1 :1و11و12).
كما يؤكد هذه الرسولية بقية الرسل: ” بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى الْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ ” (1بط1 :1)، ” سِمْعَانُ بُطْرُسُ عَبْدُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَرَسُولُهُ ” (2بط1 :1)، ويحسم القديس بطرس قضية الرسولية من جهة كونه شاهد عيان للرب ولتعاليمه، بقوله: ” كُنَّا مُعَايِنِينَ شهود عيان) عَظَمَتَهُ ” (2بط1: 16). ويؤكد ذلك القديس يوحنا في رسالته الأولى بقوله: ” اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ ” (1يو1: 1).
(4) التسليم الرسولي المسلم من الرسل:
كان الذين قبلوا هذه الأسفار في البداية هم أنفسهم الذين تسلموا ما جاء فيها من قبل شفوياً وكانوا يحفظون كل ما كتب فيها ككلمة الله ووحيه الإلهي بل وأكثر مما كتب فيها، حيث كرز رسل المسيح ونادوا لهم بالإنجيل وحفظوه لهم بأسلوب التعليم والتسليم الشفوي.
فقد سلم الرسل الكنيسة ما تسلموه هم من الرب ” لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا ” (1كو11 :23)، ” فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا ” (1كو15 :3)، “ وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهذَا افْعَلُوا ” (في4 :9)، ” لأَنَّكُمْ إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ، الَّتِي تَعْمَلُ أَيْضًا فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ ” (1تس2: 13).
وعلموا المؤمنين أن يحفظوا جميع وصايا وأعمال الرب بكل دقة وحرص أن يتمسكوا بكل حرف وكلمة وجملة وفقرة ” تَمَسَّكْ بِصُورَةِ الْكَلاَمِ الصَّحِيحِ الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي … اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ السَّاكِنِ فِينَا ” (2تي1: 13و14). وكان الروح القدس يحفظ الكلمة سواء بالنسبة للرسل أو لمن سلموهم الأخبار السارة والذين كانوا بدورهم يسلمونها لآخرين أكفاء ” وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا ” (2تي2 :2).
وكان الرسول بولس يمتدح أهل كورنثوس لحفظهم وحفاظهم على ما تسلموه ” فَأَمْدَحُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ عَلَى أَنَّكُمْ تَذْكُرُونَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْفَظُونَ التَّعَالِيمَ كَمَا سَلَّمْتُهَا إِلَيْكُمْ ” (1كو11: 2)، ويشكر الله من أجل أهل روما لإطاعتهم التسليم الرسولي من القلب ” فَشُكْراً ِللهِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ، وَلكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا ” (رو6 :17)، ويقول لأهل تسالونيكي ” فَاثْبُتُوا إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ وَتَمَسَّكُوا بِالتَّعَالِيمِ الَّتِي تَعَلَّمْتُمُوهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالْكَلاَمِ أَمْ بِرِسَالَتِنَا ” (2تس2: 15)، ويقول القديس لوقا الإنجيلي بالروح أن ما سلمه الرسل للكنيسة كان مؤكداً عندهم ” الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ (شهود عيان) وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ ” (لو1:1و2).
كان المسيحيون الأولون يحفظون كل حرف وكل كلمة سلمت إليهم عن ظهر قلب، وكانوا كيهود سابقين مدربين على الحفظ، حفظ كلمة الله والتمسك بكل حرف فيها حتى الموت[7]، وكان الروح القدس الساكن فيهم يحفظ الكلمة فيهم ويذكرهم بها في كل وقت، كما أنهم لم يكونوا في الأيام الأولى للكرازة في حاجة لإنجيل مكتوب لأن وجود الرسل شهود المسيح على رأس الكنيسة، على قيد الحياة – فهم الوثيقة الحية والصوت الحي للشهادة عن المسيح عن كل ما عمله وعلمه – وحتى بعد انتشار رسائل الرسل وتدوين الإنجيل ظل المؤمنون يلجئون للرسل لمعرفة المزيد عن المسيح.
يقول بابياس أسقف هيرابوليس (70-155م) والذي أستمع للقديس يوحنا وكان زميلاً لبوليكاريوس، كما يقول إيريناؤس[8]: ” وكلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى أو أي أحد آخر من تلاميذ الرب … لأنني لا أعتقد أن ما تحصل عليه من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إلى من الصوت الحي، الصوت الحي الدائم “[9].
كما كان الرسل يعينون قادة الكنائس ويسلمونهم التقليد، التعليم، الأخبار السارة، الإنجيل ليسلموه بدورهم لآخرين: “ وَانْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوسًا فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ، ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَاسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ الَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ ” (أع14: 23)، ” وَإِذْ كَانُوا (بولس وسيلا وتيموثاوس) يَجْتَازُونَ فِي الْمُدُنِ كَانُوا يُسَلِّمُونَهُمُ الْقَضَايَا الَّتِي حَكَمَ بِهَا الرُّسُلُ وَالْمَشَايخُ الَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لِيَحْفَظُوهَا ” (أع16: 4). ” فَقَدْ أَرْسَلْنَا يَهُوذَا (برسابا) وَسِيلاَ، وَهُمَا يُخْبِرَانِكُمْ بِنَفْسِ الأُمُورِ شِفَاهًا ” (أع15: 27).
هؤلاء المسيحيون الأولون حفظوا ما سمعوه بآذانهم وما شاهدوه بأعينهم وما سلمه لهم الرسل، فقد صاروا لهم تلاميذاً، وحافظوا عليه حتى الموت وكان الروح القدس يعمل فيهم وأيضاً بهم. وكانوا كيهود سابقين مدربين على حفظ كلمة الله وحفظ تقليد آبائهم حيث أنهم اعتادوا على ذلك جيداً.
يقول القديس أكليمندس الإسكندري (150 – 215) المعروف بخليفة خلفاء الرسل والذي حفظ عنهم التقليد، والذي يقول عنه المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري أنه كان ” متمرساً في الأسفار المقدسة “[10]: ” وقد حافظ هؤلاء الأشخاص على التقليد الحقيقي للتعليم المبارك، المسلم مباشرة من الرسل القديسين بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس، إذ كان الابن يتسلمه عن أبيه … حتى وصل إلينا بإرادة الله لنحافظ على هذه البذار الرسولية “[11].
هذا التعليم أو التسليم كان يسلم من الرسل إلى تلاميذهم وتلاميذهم يسلمونه لآخرين وهكذا ” وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناسا أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً ” (2تى2:2). فلما دونت الأناجيل كان هؤلاء يحفظون كل ما دون فيها بل وأكثر مما دون فيها.
(5) تسليم الأسفار للكنيسة الأولى:
كما أن الذين استلموا هذه الأسفار وقبلوها هم الذين طلبوا من الرسل أن يدونوا لهم ما سبق أن تسلموه شفوياً، ومن ثم فقد دونت بالروح القدس لهم وأمامهم وبمعرفتهم ومن ثم قبلوها بكل قداسة ووقار ككلمة الله الموحى بها من الروح القدس. يقول أكليمندس السكندري: ” لما كرز بطرس بالكلمة جهاراً في روما. وأعلن الإنجيل بالروح طلب كثيرون من الحاضرين إلى مرقس أن يدون أقواله لأنه لازمه وقتاً طويلاً وكان يتذكرها. وبعد أن دون الإنجيل سلمه لمن طلبوه “.
وأيضاً: ” إن بطرس حينما سمع ما عمله (مرقس) كما أعلن له الروح سُرَّ بغيرة
الأشخاص الذين طلبوا منه ذلك وصادق على الكتابة لقراءتها في الكنائس “[12].
وتقول الوثيقة الموراتورية التي ترجع لسنة 170م: ” الإنجيل الرابع هو بواسطة يوحنا أحد التلاميذ, إذ عندما توسل إليه زملاؤه (التلاميذ) والأساقفة في ذلك قال: صوموا معي ثلاثة أيام ونحن نتفاوض مع بعضنا بكل ما يوحي الله به إلينا. ففي هذه الليلة عينها أعلن لأندراوس أحد الرسل أن يوحنا عليه أن يكتب كل شيء تحت اسمه والكل يصدق على ذلك “.
وهنا يتبين لنا أن الأناجيل كتبت بناء على طلب المؤمنين الذين تسلموها من الرسل، الذين سبق أن سلموها لهم شفوياً، كتبت بناء على طلبهم وتحت سمعهم وبصرهم وكانوا من قبل يحفظونها شفوياً.
وهنا يجب أن نؤكد على حقيقة هامة وهي ان المؤمنين في الكنيسة الأولى تسلموا الأسفار المقدسة من التلاميذ والرسل مباشرة وفور تدوينها بالروح القدس، ولم يكن هناك مجامع محلية أو مسكونية ليكون لها أي دور في تقرير الوحي والقانونية، فقد كان السفر يقبل ككلمة الله الموحى بها بمجرد تسليم الرسل السفر للمؤمنين.
ويضيف هامبتون كيثلي (J. Hampton Keathley) عن عملية تعريف قانون العهد الجديد[13]: في مرحلة الاباء الرسل: اعتُبرت أسفار العهد الجديد قانونية لأنها كُتبت بوحي الله وامتلكت السلطان لكونها جزء من كلمة الله. وكانت مسئولية الكنيسة تكمن فقط في التأكيد على حقيقة وحي هذه الأسفار. وقد بدأت هذه المرحلة بعد تعريف الكاتب (الرسول) بأن كتاباته هي كلمة الله مباشرة؛ راجع (كو4: 16؛ 1 تس4: 15)[14].
ليس هذا فقط بل وكتابات العهد الجديد الاخرى أيضاً ضمن الكتاب المقدس وعلى قدم المساواة مع أسفار العهد القديم. كما يقتبس القديس بولس من سفر التثنية والإنجيل للقديس لوقا باعتبارهما من أسفار الكتاب المقدس فيقول: ” لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا (تث25 :4)، وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ (لو10 :7) “. مؤكداً أن كلتا الفقرتين هما كلمة الله الموحى بها في أسفار العهدين القديم والجديد.
والقديس بطرس الرسول بالمثل يؤكد على وحي كتابات القديس بولس وأنها جزء من الأسفار المقدسة (2بط3: 15-16). بل والأهم والأكثر من ذلك فقد كانت رسائل العهد الجديد تقرأ وتوزع في الكنائس كوحي ثابت من الله قارن مع (كو4: 16؛1 تس5: 27).
[1] ” فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ … وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا … اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ ” (يو1 :1-4و14و18).
[2] ” الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ ” (كو1 :15-17).
[3] ” بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ ” (عب1 :3)،: ” بِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ ” (1كو1 :24)، ” الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ ” (كو2 :3).
[4] ” عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ ” (1تى3 :16)، ” فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا ” (كو2 :9).
[5] أنظر كتابنا ” الإنجيل هل هو كتاب نزل من السماء؟ “.
[6] أنظر أع6 :8؛ 14 :3؛ 15 :12.
[7] وقد حفظ اليهود التلمود شفوياً لمئات السنين ولم يدون إلا حوالي 200 م.
[8] يوسابيوس ك3 ف 1:39.
[9] يوسابيوس ك 3 ف 4:39.
[10] يوسابيوس ك 5 ف1.
[11] يوسابيوس ك 5 ف5:11..
30 يوسابيوس ك 2 :15 ،2.
[13] B.B. Warfield, The Formation of the Canon of the New Testament.
[14] ” وَمَتَى قُرِئَتْ عِنْدَكُمْ هذِهِ الرِّسَالَةُ فَاجْعَلُوهَا تُقْرَأُ أَيْضًا فِي كَنِيسَةِ الّلاَوُدِكِيِّينَ، وَالَّتِي مِنْ لاَوُدِكِيَّةَ تَقْرَأُونَهَا أَنْتُمْ أَيْضًا ” (كو4 :16)؛ ” فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ، لاَ نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ ” (1تس4 :15).