خلق الإنسان على صورة الله ومثاله بحسب فكر القديس كيرلس عمود الدين
خلق الإنسان على صورة الله ومثاله بحسب فكر القديس كيرلس عمود الدين ([1])
خلق الإنسان على صورة الله ومثاله بحسب فكر القديس كيرلس عمود الدين أ. رضا توت
مقدمة:
تنفرد المسيحية عن كل ديانات العالم، بشرح العلاقة بين الله والإنسان في الخلق، بوصف أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.
وهي تعني بذلك أن هناك إمكانيات فريدة حازها الإنسان دون بقية المخلوقات، تتيح له إقامة علاقة خاصة ومتميزة مع الله. لأنه لما كان المخلوق عاجزاً بطبيعته عن إدراك الله، لذا رأى الآباء في الخلق على صورة الله ومثاله، نعمة إضافية أعطاها الله للانسان، تستطيع هذه النعمة أن تقيم هذه العلاقة.
وعندما نقول إن المسيحية – دون غيرها – هي التي تنفرد بتلك الميزة، فإن لنا كل الحق في ذلك، لأنه ورغم أن النص على خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، ورد صريحاً في سفر التكوين في الإصحاحات الثلاث الأولى التي تشرح قصة الخلق([2])، إلا أن غموض هذا الموضوع منع الأنبياء من التوسع فيه أو التعرض له، وبالتالي لم يُذكر مرة أخرى إلا عند يشوع بن سيراخ 17 : 3 “وهبهم قوة من قوته وصنعهم على حسب صورته” (الترجمة العربية الجديدة – دار الكتاب المقدس الطبعة الأولى 1993).
وعندما نقول أيضاً، أن المسيحية هي التي تنفرد بهذه الميزة، فان هذا القول ينبني على أن الابن الكلمة – وهو صورة الله غير المنظور – هو الذي شرح وأوضح في تجسده وحياته، معنى خلق الإنسان على صورة الله ومثاله.
ولذلك فقد فهم الآباء منذ عصور المسيحية الأولى، أن الكلام على خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، هو كلام في تدبير الله للخلاص. وبالتالي فهو ليس كلاماً خاصاً بموضوع فلسفي هو الخلق، وبالتالي ليس ترفاً عقلياً، يمكن التغاضي عنه. ففي نص للعلامة ترتليان 155 – 220م: (إني أسألك، كيف يمكن لكائن ما، وهو واحد وحدانية مطلقة، أن يتكلم بصيغة الجمع قائلاً: ” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” ثم يقول أيضاً: “هوذا الإنسان قد صار كواحد منا “؟.
فهو إما أن يخدعنا أو يلهو بنا إذا كان يتكلم بالجمع وهو واحد مفرد. أو أنه يتكلم مع الملائكة كما يفسر اليهود هذا النص لأنهم لا يعرفون الابن؟ أم لأنه كان منذ البدء الآب والابن والروح القدس، لذلك تكلم عن نفسه بصيغة الجمع لهذا السبب؟ بلى، فلأن الابن كان معه أقنوماً ثانياً، كلمته الخاص، والأقنوم الثالث أيضاً، الروح في الكلمة، لذلك استخدم بالقصد هذا القول الجمع: ” نعمل “، ” على صورتنا “، ” صار كواحد منا ” لأنه بمن صنع الانسان؟
ومن هو الشبيه الذي صنعه على صورته ؟ فهو يتكلم مع الابن الذي كان عليه أن يلبس طبيعة البشر، ومع الروح الذي كان عليه أن يقدسها. فهو إذن يتكلم معهما في وحدانية الثالوث كما مع شركائه وشهوده) ([3]).
واضح إذن من خلال النص السابق أن هذا الموضوع يخص تدبير الخلاص بشكل عام وبالتالي فمن فَهِمَ موضوع الخلق فهماً صحيحاً يتفق وقصد ومعنى الكتاب المقدس خلواً من أي مفهوم فلسفي، فان شرحه للسقوط والخلاص سوف يأتي شرحاً سليماً، وإلا فلابد أن يأتي شرحه للسقوط والفداء مشوباً بالنقص والخطأ.
كانت هذه المقدمة ضرورية لبيان الخط العام في الفكر اللاهوتي في هذا الموضوع، ولكي نستطيع أن نرى مدى تطابق فكر القديس كيرلس وهذا الخط العام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي نرى مدى تَميُّز فكر القديس كيرلس في رده على بعض الآراء التي تنكبت الطريق السليم في فهم موضوع الخلق، فأدى بهم ذلك إلى عدم وضوح الرؤية فيما يخص تدبير الخلاص بشكل عام.
هل هناك فرق بين معنى كلمة صورة وكلمة مثال؟
رأي كل من اكليمنضس الأسكندري والعلامة أوريجينوس، والقديس إيرينيئوس “إننا مخلوقين على صورة الله، ومدعوين أن نصير مثله”. هم إذن، يفرقون بين معنى الصورة، ومعنى المثال. ففي نص للعلامة أوريجينوس من كتاب المبادئ ك3: فصل4 :1) ([4]) يقول: “إن قمة الصلاح التي يسعى إليها كل كائن عاقل هي في النمو المُطَّرد، فهو غاية كل الأشياء، وقد حدده الفلاسفة على هذا النحو: بأن يصبح الإنسان على قدر المستطاع مثل الله.
ولكن تحديد الصلاح على هذا النحو، ليس اكتشافاً خاصاً بالفلاسفة، بل معرفة حصلوا عليها من الكتب الإلهية لأن موسى قبل الفلاسفة يشير إلى هذه النقطة بالذات عندما سجل في الخلق الأول للإنسان “وقال الله نخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا” وبعد قليل أضاف، “وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم وباركهم“.
والحقيقة أن موسى قال خلقه على صورته وسكت عن المثال، وهذا إذا كان يشير إلى شيء فهو يشير إلى أن الإنسان نال كرامة صورة الله في الخلق الأول، أما أن يكتمل إلى أن يُصبح على مثال الله، فهو ما كان محفوظاً له في آخر الأزمنة، والهدف من هذا كان أن يسعى الإنسان بإرادته لكي ينال هذه المكانة وان يعمل جاهداً على التشبه بالله.
وهكذا أُعطيت له إمكانية الوصول إلى الكمال في البدء عندما خُلِقَ، ووهِبَ كرامة الصورة لكي ينال في النهاية كرامة المثال الكامل، وبكل وضوح وبدون أدنى خطأ يقول الرسول يوحنا أن هذا هو ما سيحدث ويصرح بذلك “يا أولادي نحن لا نعرف ماذا سنكون عليه ولكن عندما يظهر ذاك وهو يعني المخلص، سنكون مثله” (1يوحنا3 : 2).
أوريجينوس هنا ينحى منحىً أفلاطونياً في فهمه للخلق، فهو يذكر فقرة ضمناً دون أن يقتبسها من محاورات أفلاطون تؤكد أن الشبه أو التمثل الكامل بالله هو قمة الفضيلة، وقد أكد هذه النقطة أيضاً اكليمنضدس الأسكندري في المتنوعات II 97 I.
أما إيرينيئوس فيقول ” إن آدم خُلق منذ البدء إنساناً على صورة الله لكنه قُدِرَ له في النهاية أن ينمو إلى أن يصل إلى مشابهة الله. وبلغة القديس بطرس الرسول “يصير شريكاً للطبيعة الإلهية “، وبلغة الآباء “يصير إلهياً” ([5]).
إلا أن القديس كيرلس لا يوافق على هذا الرأي، ويقول: “هل هناك فرق بين حسب الصورة وحسب المثال؟ هل المعنى واحد؟ لأن البعض يقول إننا أخذنا الصورة في خلقتنا الأولى أما المثال فهو محفوظ لنا في حياة الدهر الآتي ويبرهنون على رأيهم بما هو مكتوب “ولكن متى أظهر سنكون مثله” (1 يوحنا 3 : 2) وأيضاً “لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك1 : 26)، “وخلق الله الإنسان على صورته” (تك27:1) دون أن يذكر المثال.
وهذا يوضح أننا لم نأخذ المثال بعد وإنما أدخر الله لنا هذا في حياة الدهر الآتي، ولكن إذا قالوا أن حسب الصورة وحسب المثال هما وضعان مختلفان، فعليهم أن يوضحوا لنا الاختلاف لأن ما يبدو ظاهراً بكل وضوح أن الصورة والمثال هما ذات الشيء([6])… علينا أن نفهم أنه كان يكفي أن تُذكر الصورة فقط لأن الصورة والمثال لهما نفس المعنى لأن الله عندما أراد أن يخلق الإنسان قال ” لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا ” فمن الذي يتجاسر ويدَّعي أن الله خلق الإنسان على صورة الله وليس على مثاله؟ ونحن سنكون مثل المسيح في عدم الفساد، وهذا حقيقي ولكن حتى الآن نحن لسنا غرباء عن مثاله إذا كان قد تكوَّن formed فينا بالروح القدس ([7]).
يسير القديس كيرلس في خط القديس أثناسيوس الرسولي الذي لا يفرق بين معنى الصورة ومعنى المثال، حيث استخدم كلمة المثال بمعنى الصورة مرتين في الرسالة إلى الوثنيين2:34 وفي تجسد الكلمة3:11 ([8]) كما يتفق القديس كيرلس مع سلفه العظيم أيضاً في أن هناك فرقًا واضحًا بين (الصورة)، و(حسب الصورة) فالابن هو صورة الله أما الإنسان فهو مخلوق حسب صورة الله. فالابن الكلمة “هو صورة الله غير المنظور” (كو15:1).
فهو يقول “الابن هو صورة طبيعية للآب” (حوار عن الثالوث1 : 5) ” أما الإنسان فهو لا يملك أياً من هذه بالمرة، فهو بالطبيعة ليس ابناً للآب ولا يوجد فيه أي صفات إلهية تجعله مثل الآب” (ضد يوليانوس 8) “وحتى في المسيح يسوع لا نصبح مثل المسيح تماماً لأننا لا نفقد كياننا وطبيعتنا” (الكنز 12).
معاني الصورة عند القديس كيرلس:([9])
يرى القديس كيرلس أن هناك عدة معانٍ للصورة – وإن كان لا يُطَبق هذه المعاني كلها بشأن شرحه خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، حيث منها ما هو خاص بالعلاقة بين الآب والابن الكلمة فقط – تتلخص هذه المعان في الآتي:
- المماثلة التامة حيث تكون الصفات واحدة كما في حالة مماثلة هابيل لآدم أبيه.
- المشابهة في صفات أو ملامح ظاهرة، مثل نحت صورة الملك على الخشب مثلاً.
- الإشارة إلى أسلوب حياة كأن تقول عن إنسان أنه صالح أو شرير، فهو يعني صورة أو شبه للخير أو الشر.
- وهي أيضاً تعني الكرامة والمجد والسلطة والشرف الخ. عندما يصل الشأن إلى ذات ما وصل إليه من سبقه في السلطة والسيادة.
بشكل عام، الصورة أما أن تكون في الكم أو النوع وأما أن تكون ملامحاً أو شيئاً مشتركاً.
علاقة الجسد بالخلق على صورة الله ومثاله :([10])
يحتل الجسد الإنساني، مكانة ممتازة في اللاهوت المسيحي منذ عصر المسيحية الأول، وذلك بالنظر إلى تجسد الله الكلمة، فليس الجسد شراً كما نادت بذلك الأفلاطونية وبعض الهرطقات مثل المانوية وغيرها. ففي نص للعلامة ترتليان([11]) : “دعونا نبحث عن وضع الجسد في المسيحية، لنرى الامتيازات الفائقة التي منحها الله لهذا العنصر الفقير، والجوهر الذي لا قيمة له في نظر البعض ويكفي أن نقول أنه لا توجد نفس تستطيع أن تحصل على الخلاص، إلا إذا آمنت وهي في الجسد، ولهذا فبكل حق يُعَد الجسد هو الوضع الأساسي الذي يعتمد عليه الخلاص.
وكما أن النفس عندما تنال الخلاص، وتُختار لخدمة الله، فإن الجسد هو الذي يجعلها قادرة على هذه الخدمة. إن الجسد هو الذي يُغسل لكيما تتطهر النفس، والجسد هو الذي يُدهن لكيما تتقوى النفس، والجسد هو الذي يُرشم بالصليب لكيما تُحصن النفس. الجسد هو الذي توضع عليه اليد كيما تستنير النفس بالروح القدس. الجسد يُفتدى بجسد ودم المسيح لكيما تتغذى النفس وتنمو بالله” (مقالة عن قيامة الجسد).
– ومن هنا لا يجب أن يتبادر إلى الذهن، عند التساؤل عن علاقة الجسد بالخلق على صورة الله ومثاله أن هناك فهم خاطئ أو رؤية متدنية للجسد، بل أن للجسد مكانته المحترمة في الكتاب المقدس واللاهوت المسيحي.
– ولذلك يُعتبر موضوع الخلق على صورة الله ومثاله، مقياساً دقيقاً لبيان هذه المكانة الممتازة للجسد، فمن كانت نظرته إلى الجسد خاطئة، جاء فهمه للخلق على صورة الله ومثاله غير دقيق، والعكس أيضاً صحيح.
– يرى كلاً من اكليمنضس الأسكندري (المتنوعات) ومن بعده العلامة أوريجينوس (العظة 1 : 13 على سفر التكوين) أن الصورة الإلهية هي في النفس أو العقل فقط، حيث أن الجسد لا يمكن أن يحتوي على صورة الله، وذلك تأثراً منهما بالفلسفة الأفلاطونية التي تُقَسِّم الإنسان. ولذلك فإن أول ملاحظة يجب أن نضعها في الاعتبار أن كلاً من اكليمنضس الأسكندري والعلامة أوريجينوس لم يضعا في اعتبارهما عندما قررا ما سبق، قيامة الجسد، وأن الكلام عن الإنسان في الفلسفة يختلف عنه في اللاهوت المسيحي.
– إلا أن ذلك لا يعني أن لله هيئة جسمية خَلَقَ الإنسان على صورتها.
– لدى القديس كيرلس أن الإنسان الواحد هو مخلوق مركب من جسد وروح، وهو اتحاد هذين معاً في وحدة وهو يؤكد أيضاً أن النفس لم تُخلق قبل الجسد (كما هو الحال في الأفلاطونية) بل خلقت مع الجسد لتظل متحدة بالجسد (الكنز31).
– وبذلك يؤكد القديس كيرلس وحدة الإنسان في مواجهة الثنائية الأفلاطونية وهو وإن كان يؤكد مثل غيره من الآباء، أن الصورة طُبِعَت في النفس إلا أن الجسد لم يُحرم من مجد هذه الصورة حيث يقول ” وزاد الله عطيته فطبع فينا مجده الذي يشع روحياً في نفوسنا رغم إنها حية في الجسد المخلوق من الارض، وبهذا لا يوجد قرين للإنسان على الأرض كلها” (تفسير إشعياء 4 : 2).
-ولذلك يقف القديس كيرلس مدافعاً بشدة ضد ما شاع في زمانه بين رهبان جبل القلمون من تعليم يقول بأن لله هيئة جسمية، وهؤلاء هم مَنْ أُطلِقَ عليهم اصطلاح المشبهة (انثروبومورفيزم) Anthropomorphism. ففي رسالته إلى كالوسيريوس أسقف أرسينوي ([12]) يقول: وهو أمر في منتهى الغباء وهذا يُعَرِّض أولئك الذي اختاروا أن يفكروا بهذه الطريقة لأقصى اتهامات الكفر- وتبعاً لذلك، فنحن نُقر أنه أمر صحيح أن الإنسان صُنِعَ على صورة الله، ولكن المثال ليس جسدياً فان الله لا جسد له.
لأن اللاهوت لا كم له ولا هيئة.. وكون أن الإنسان خُلِقَ على صورة الله فهذا له معانٍ ومدلولاتٍ أخرى. فالإنسان وحده من بين الخلائق الحية على الأرض هو كائن عاقل ورحوم وله ميل نحو كل فضيلة، وقد أُعطي له سلطان على كل الأشياء التي على الأرض وذلك حسب صورة الله ومثاله، وتبعاً لذلك فكما أن الإنسان هو كائن حي عاقل، وهو محب للفضيلة وله سلطان على كل الأشياء التي على الأرض، لذلك يؤكد الكتاب أنه قد خلق على صورة الله” (رسالة 83).
– واضح مما سبق أن الصورة هنا هي نوعية داخلية روحية يشترك فيها الجسد ولكنها ليست الجسد، وهو (أي القديس كيرلس) يُقرر أن تجديدنا في المسيح يشمل الروح والجسد معاً لأن ابن الله تجسد لأجل خلاصنا ولكن جوهر هذه العلاقة قائم أصلاً على عمل اللاهوت فينا والذي يتم عن طريق ناسوت المسيح ولذلك يقول ” إن المسيح يتكون فينا ليس كمخلوق في مخلوق (وفق قانون الطبيعة) (أي بمعنى التماثل في الصورة) وإنما كغير مخلوق وكإله يعمل فينا (بالنعمة) لكي يخلق ويعيد ختم صورته فينا بالروح القدس، وبذلك يحول المخلوق أي نحن إلى الكرامة التي تسمو فوق كل مخلوق ” (الثالوث القدوس المتساوي – الحوار : 4).
إذن ما هو المستقر والثابت في جوهر الإنسان، وما هو المتغير الذي يمكن أن يُفقَد؟
يقول القديس كيرلس “لو أن صورة الله هي شكلنا الخارجي أي الجسد، فان هذا يعني أنه لا يوجد شخص واحد فقد الصورة الإلهية لأن أجسادنا لم تفقد أي عضو أساسي من أعضائها” (الإجابات على أسئلة طيباريوس:10).
– والإنسان عاقل، ولا يمكنه أن يكون غير عاقل، ولكنه يفقد مهارته وقدراته بسبب الإهمال، وهذا دور الإرادة. إذاً الصورة كعنصر وكهبة في الإنسان ثابتة ولكن لمعانها وإشعاع خيرها يمكن أن يتغير وان يتحول طالما أن الإنسان لا يحيا حياة الفضيلة.
– يتطابق هنا القديس كيرلس مع القديس أثناسيوس عندما يتكلم في تجسد الكلمة عن أن الصورة الإلهية في الإنسان لم تُفقَد، ولكنها تشوهت واصبح من اللازم تجديدها بحسب صورة خالقها. (تجسد الكلمة 14 : 1، 2).
كيف يرى القديس كيرلس صورة الله ومثاله في آدم الأول؟([13])
أولاً: كان عاقلاً Logikoj:
في الفردوس كان الإنسان صورة الله مثل الجوهرة التي تشع روعة وبهاء من كل جانب فقد كان أولاً عاقلاً (لوجيكوس) وكان نور العقل الذي فيه نوعاً من المشاركة في ذاك الذي هو النور الحقيقي والعقل الكامل، الذي هو الكلمة (كان عقله مُبتلعاً كلية وباستمرار في تأمل الله).
ثانياً: كان حراً Eleuqeroj:
” خُلق الإنسان منذ البداية بعقلٍ متسامٍ عن الخطية والشهوات ومع ذلك فلم يكن غير قادر على الميل نحو أي اتجاه يسره. لأن الخالق المبدع للمسكونة وجد أنه من العدل أن يسلمه لزمام إرادته الخاصة ويتركه لحركاته الموجهة ذاتياً ليعمل كل ما يريد. أما السبب في ذلك، فهو أن الفضيلة ينبغي أن تكون عن اختيار حر وليست ثمرة إجبار أو إلزام، ولا ملتصقة التصاقاً كلياً بقوانين الطبيعة بصورة تحتم على الإنسان عدم التعثر، فهذه صفة خاصة بالجوهر الأسمى والأكمل.
ثالثاً: كان آدم قديساً Agioj:
كانت المرحلة الأولى من الحياة البشرية في آدم مقدسة، فلقد طبع الخالق في آدم الروح القدس مثل ختم من طبيعته الخاصة، الذي بواسطته تشكل آدم حسب صورة الجمال الأصلية، وصار كاملاً على صورة خالقة، متقوياً بكل نوع من الفضيلة بقوة الروح الساكن فيه.
رابعاً: كان آدم عديم الفساد Afqartoj:
إن آدم، مع أن جسده صُنع من تراب إلا أنه ظل سائداً فوق الموت والفساد، لا لشيء إلا لأن الله أراد ذلك، ولأن الله – بكل بساطة – غرس الحياة فيما هو بالطبيعة قابل للفساد، ولكون جسده صار غير قابل للفساد، لذلك فأهواء الفساد لم تفرخ في آدم، ولم يكن في أعضائه ناموس الخطية، ولم يكن الجسد ضعيفاً بما تجلبه طبيعة الفساد من ضعف، بل كان هناك في الواقع انحياز في الجسد نفسه نحو إرادة الله أكثر من الانحياز لإرادة آدم، والذهن بدوره لم يكن مجبولاً على الشهوات التي تقود للخطية، بل على العكس.
فان الروح الذي في آدم كان يشجعه ويشدده لكل نوع من الفضيلة. فالذي كان يمنع آدم من الانحدار إلى العدم والفساد هو نوع من المشاركة في طبيعة عدم الفساد التي لله بواسطة الكلمة الذي هو ملء حياة الآب.
خامساً: كان آدم ابناً Tšknon:
وبنوة الإنسان لله هي شركة في الابن بالروح القدس، أي شركة بالنعمة في الذي هو ابنٌ بالطبيعة، فآدم كان ابناً بمعنى انه كان في إمكانه أن يدعو الله أباه باعتباره مصدر وجوده وعلى صورته.
– في الفردوس – إذاً – [كانت الطبيعة البشرية لا ينقصها شيء من الصلاح والسعادة] فقد كان الإنسان محفوفاً بالمجد ومحاطاً بالمسرات، وكان عليه أن يتحقق دائماً من أن الله هو سيده وربه ومصدر وجوده وأصل نعمته، وإلا توَلَد من هذه السعادة المقيمة غرور وخيم، لأن الحرية غير المضبوطة لا تؤدي إلا إلى انتفاخ وكبرياء، لذلك يقول القديس كيرلس: من أجل هذا أعطى الله الإنسان قانوناً لضبط النفس وهو وصية عدم الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، لكي يعي الإنسان دائماً ضرورة خضوعه المستمر لسيادة الله وربوبيته، وأنذره الله بالعقوبة والموت إذا خالف الوصية.
الإنسان الجديد في المسيح يسوع:
– النصوص الخاصة بالقديس كيرلس في هذا الشأن أكثر من أن تُحصى في هذه العُجالة، ولذا فقد اكتفينا بما أوردناه (كعينة فقط يمكن للقارئ أن يستزيد منها في مراجع أخرى). أمّا ما يُلفت النظر بشدة فهو قدرة هذا اللاهوتي الموهوب على شرح هذا الموضوع فيما يخص العهد الجديد. ذلك لأن فكر القديس كيرلس أنصب على أن السيد المسيح كلمة الله المتجسد هو فقط الوحيد الذي يُجسِّد الإنسان الجديد المخلوق حسب صورة خالقه، فإذا ما أمتلك في جسده هذه النعمة استطاع أن يكفلها للجميع عن طريق الاتحاد به.
ولقد بنى القديس كيرلس هذا النظر على هذا الاتحاد الفائق الوصف بين اللاهوت والناسوت في المسيح يسوع، حيث أصبح كل ما يخص اللاهوت يخص بالتالي جسده الخاص، وهو ما يعني في النهاية أن كل النعم التي اقتناها الابن في جسده، إنما اقتناها لنا ولحسابنا، ذلك لأن كل ما فُقِد وتشوه في الإنسان القديم نتيجة الخطية والموت، يأتي السيد المسيح له المجد لكي يستعيده لنا فيه، ولذلك لا يمكن أن تُفقد هذه العطية مرة أخرى ولا غيرها من العطايا إذ ضمنها لنا الابن في جسده.
ولذلك نستطيع أن نتأكد من أن الحديث عن خلق الإنسان على صورة الله ومثاله وإعادة تجديد هذه الخلقة مرة أخرى في آدم الثاني، هو موضوع يختص تماماً بتدبير الخلاص، وانه يتعلق بحياة ومستقبل الإنسان في المسيح يسوع. وسوف نكتشف من كلمات القديس كيرلس أن الله قد عقد العزم على أن يظل الإنسان على صورته ومثاله، وهذا هو الخلاص.
1- أنه يطبع نفسه بطريقة غير منظورة في قلوب الذين يقبلونه ([14])
في كتاب “المسيح واحد” عالج القديس كيرلس السؤال: لماذا ولد المسيح من عذراء؟ وقد قرر أن المسيح بميلاده من العذراء بالروح القدس، قد كرس طريقاً جديداً للولادة من الله. فالروح القدس هو الذي يلدنا في المعمودية مرة أخرى، وهو ما يُلقي الضوء بشدة على الفرق بين العطية في العهد القديم وبينها في العهد الجديد.
ففي العهد القديم كانت العطية من الخارج، ولذلك كان سهلاً أن تُفقد أو تتشوه، أما في العهد الجديد فقد أخذها الابن لنا في نفسه، فلا يمكن أن تفقد مرة أخرى ولذلك فكما ولد المسيح من عذراء بالروح القدس فان هذا الفعل تم لحسابنا فيه، يقول القديس كيرلس: “إنه الروح القدس لا يرسم الجوهر الإلهي فينا كرسام.
أنه يأتي بنا إلى شبه الله، باعتباره هو إلهاً ومنبثقاً من الله، فأنه ينطبع بطريقة غير منظورة في قلوب الذين يقبلونه كختم في شمع. فهو من خلال الشركة والمشابهة في نفسه يرسم طبيعتنا بالتمام على جمال الأصل ويجعل الإنسان مرة أخرى على صورة الله “.
2- الروح القدس يُشَّكِلنا على صورة الله ([15])
يؤكد القديس كيرلس انه لا يمكن استعادة المجد القديم للإنسان إلا عن طريق الشركة مع الله والاتحاد به، ولن يستطيع أحد أن يقدم هذه الشركة إلا الروح القدس، روح الابن. يقول القديس كيرلس: ” كان مستحيلاً علينا نحن الذين سقطنا من رتبتنا لسبب المعصية الأولى أن نعود إلى مجدنا الأول إلا بحصولنا على شركة لا يُنطق بها مع الله والاتحاد به. ولكن لا يستطيع أحد أن يصل إلى الاتحاد بالله إلا بشركة الروح القدس الذي يجعل فينا قداسته الخاصة، ويعيد تشكيل طبيعتنا التي فسدت إلى شكل حياته الخاصة وهكذا يُرجع إلى الله والى التشبه به أولئك الذين أعوزهم هذا المجد.
إن الابن هو صورة الآب الظاهرة وروح الابن هو شكله الطبيعي، ولذلك فان الروح حينما يعيد تشكيل نفوس الناس إلى شكله الخاص، فهو يطبع عليها الشكل الإلهي ويختمها بصورة الطبيعة الفائقة لكل شيء “.
3- للمسيح أخوة مشابهين له ([16])
يرى القديس كيرلس أن المسيح يتصور فينا عندما يحولنا الروح القدس مما هو بشري إلى ما هو له، وبذلك نحصل على الشبه الفائق للعقل للمسيح، عندئذ نصبح أخوة للمسيح مشابهين له. يقول القديس كيرلس: للمسيح اخوة مشابهون له، أولئك هم الذين يحملون صورة طبيعته الإلهية بطريق التقديس، لأنه هكذا تصور المسيح فينا، تماماً كما يحولنا الروح القدس مما هو بشري إلى ما هو له.. فإنه يوسم الذين جُعلوا شركاء طبيعته الإلهية باشتراكهم في الروح القدس، يوسمهم بالشبه الفائق العقل للمسيح، ويشع في نفوس القديسين الجمال غير الموصوف للاهوت “.
4- الآب يحبنا كأولاد له حينما يرى فينا ملامح ابنه الخاص([17])
فإذا ما تم لنا هذا الشبه بعمل الروح القدس، يرى فينا الآب ملامح ابنه الخاص فنعود نتراءى أمام الآب بلا لوم في المحبة، وهو ما يعني أن الآب لا يرى الإنسان إلا في ابنه، وهذا بالحقيقة هو أكثر ما يُطمئن الإنسان على مستقبله، فهو كائن في الابن في حضن الآب.
يقول القديس كيرلس: “الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية قد دان الخطية بالجسد (رو8 : 3-4) لقد دينت فعلاً الخطية، إذ صارت مائتة أولاً في المسيح، وهي عتيدة أن تصير مائتة فينا نحن أيضاً، متى جعلنا المسيح يسكن في نفوسنا بواسطة الإيمان وبشركة الروح القدس الذي يجعلنا مشابهين لشكل المسيح، أعني طبعاً بتقديسنا بالفضيلة
فروح المسيح مخلصنا هو بمثابة شكله – وهو الذي يطبع فينا بطريقة ما بواسطة نفسه، الصورة الإلهية الأصيلة – والروح القدس هو الذي يُعيد تشكيل أولئك الذين يحل فيهم بالمشاركة ويجددهم على صورة الابن، حتى إذا ما رأى الله الآب فينا ملامح ابنه الخاص اللائقة به، يحبنا كأولاد له ويشرق علينا بالكرامات الفائقة لهذا العالم “.
5- نحن صورة حبه للآب ([18])
لعلنا نلاحظ في هذا النص أن القديس كيرلس لم يتوقف عند عناصر الصورة والمثال التقليدية العقل وحرية الإرادة وغيرها فقط، بل يَلمَح بعبقرية واقتدار شديد عنصراً جديداً يتفق وجدة العهد الجديد، وهو عنصر محبة الآب للابن ومحبة الابن للآب كمثال للعلاقة بين الابن والآب.
ومن خلال هذا النص أيضاً نستطيع أن نرى ذلك الفارق الكبير بين ما حصل عليه الإنسان في الخلق الأول وبين ما حصل عليه في المسيح آدم الثاني، ففي حالة الخلق الأول / الخلق من العدم، كانت عطية الروح القدس تتناسب وهذا الخلق ولذلك قيل إنها عطية من الخارج، كان بقاؤها منوطاً باستمرار الإنسان قائماً في الوصية.
أما في حالة آدم الثاني، فلقد خلق الله رأساً جديداً للبشرية بميلاد الابن بالروح القدس، وفي معمودية الرب في الأردن يرى القديس كيرلس أن السيد المسيح قد اقتبل الروح القدس لنا لحسابنا ولمصلحتنا في جسده الخاص، ولذلك يجب أن يرتقي الكلام عن صورة الله ومثاله في الخلق الجديد إلى ما يتوافق والمستوى الجديد الذي ضمنه الابن بنفسه، ولذلك يرى القديس كيرلس أنه اصبح لنا نوعاً من مشابهة الابن في حبه للآب، وإن كان القديس كيرلس يترك مركز التفوق للابن الوحيد، وسوف نتبين أن هذه الفكرة هي فكرة خلابة تُثري عقولنا وتفتح أذهاننا لاستشراف المزيد.
يقول القديس كيرلس: فيه قمنا من الأموات وقد صرنا محبوبين لدى الآب. كما أنه لما استعاد الحياة بعد أن نقض سلطان الموت لم يكمل قيامته من أجل نفسه هو بصفته الكلمة والإله، بل لكي يمنحنا نحن القيامة من خلال نفسه، وفي نفسه لأن كل طبيعة الإنسان الممسوكة برباطات الموت كانت بكاملها في المسيح.
– هكذا أيضاً بالمثل يجب أن تعتبر أنه اقتبل حب الآب ليس من أجل نفسه هو إذ هو المحبوب بصفة أزلية وفي كل حين، ولكن لكي يحول إلينا نحن محبة الآب، فهو يقتبلها منه من جديد بعد أن صار إنساناً، فكما أننا سنكون مشابهين لصورة قيامته ومجده، وبل وقد صرنا مشابهين لها منذ الآن في المسيح كباكورة جنسنا وبدء لنا، هكذا أيضاً قد نلنا نوعاً من المشابهة معه في حبه لدى الآب – غير أننا ننسب للابن الوحيد التفوق في كل شيء ونندهش حقاً من تحنن طبيعة الله الفائقة الوصف من نحونا، إذ هو يضفي على الذين خلقهم الأشياء التي له ويشرك خلائقه فيما يختص به هو وحده”.
خاتمة:
– من النصوص السابقة يتضح لنا الدور الرئيسي والريادي الذي يعطيه القديس كيرلس للروح القدس في تشكيل الإنسان في العهد الجديد على صورة الله ومثاله. ولا عجب في ذلك، فكما رأينا أن الروح القدس هو الذي يطبع فينا صورة الابن فيجعلنا أخوة مشابهين للمسيح، عندئذ يتعرف علينا الآب إذ يرى فينا ملامح ابنه الخاص وهو ما يسمح بتطور العلاقة بين الإنسان والله بما يتفق والمستوى الذي أعطاه الله للإنسان في المسيح يسوع فيكون لنا نصيبٌ في المحبة التي يحبها الآب للابن والابن للآب.
– لقد شرح القديس كيرلس هذا الموضوع باقتدار شديد حتى أنه لا يمكن للباحث أن يتجاوز شروحه وآرائه، وما أوردناه من نصوص إن هو إلا القليل الذي يغرينا بمواصلة البحث والتتلمذ لمن كان بالحق (عمود الدين).
هوامش الموضوع:
([1]) أنظر في الموضوع بصفة عامة:
أ- د. جورج حبيب بباوي: الإنسان صورة الله – الكلية الإكليريكية اللاهوتية بطنطا – بدون تاريخ – بدون ناشر.
ب- صورة الله في الإنسان – مقال بمجلة مرقس – العدد 216 مارس 1980 ص 30 وما بعدها.
([2]) ذُكر هذا النص مرة أخرى في سفر التكوين في الإصحاح التاسع / آية 6 بمناسبة الإشارة إلى خطية قايين.
([3]) مجلة مرقس – أغسطس 1980 ص 22.
([4]) د. جورج حبيب – المرجع السابق ص 45.
([5]) مجلة مرقس – يونيو 1984 ص 19.
([6]) في النص العبراني الأصلي كلمة (تشالم) تعني كلمة (دُموث) الصورة والمثال في الاصل العبراني مترادفان، انظر الصورة الإلهية في الإنسان لدى القديس غريغوريوس بالاماس – البطريرك إلياس معوض ترجمة وتعليقات – المنشورات الأرثوذكسية 1986 ص 15.
([7]) د. جورج حبيب المرجع السابق ص 63.
([8]) المرجع السابق ص 58.
([9]) المرجع السابق ص 63، 64.
([10]) المرجع السابق ص 64 / 69.
([11]) مجلة مرقس يونيو 1975 ص 30.
([12]) رسائل القديس كيرلس الجزء الرابع – الناشر مؤسسة القديس أنطونيوس – مركز دراسات الآباء – سلسلة نصوص آبائية رقم 39 يونيو 1997 ص 93/95.
([13]) مجلة مرقس أكتوبر 1980 ص 22 وما بعدها.
([14]) الكنز : 34 مجلة مرقس يونيو 1984 باطن الغلاف.
([15]) يوحنا 17 : 20، 21 مجلة مرقس يونية 1985 باطن الغلاف.
([16]) ضد نسطور 3 : 3 مرقس نوفمبر 1982 باطن الغلاف.
([17]) العظة الفصحية العاشرة: مرقس فبراير 88 باطن الغلاف.
([18]) تفسير يوحنا 17 : 23 – مرقس ابريل 1988 باطن الغلاف.