قضية العلم والدين العلماء ضد الوعاظ – لي ستروبل
قضية العلم والدين العلماء ضد الوعاظ - لي ستروبل
قضية العلم والدين العلماء ضد الوعاظ – لي ستروبل
قضية العلم والدين العلماء ضد الوعاظ – لي ستروبل
العلماء ذوي الملابس البيضاء ضد الوعاظ
ذوي الملابس السوداء
كان الموعد النهائي يقترب لإصدار طبعة Green Streak، نسخة الظهيرة لصحفية شيكاغو تريبيتون Chicago Tribune، وكان الجو العام في غرفة الأخبار مفعماً بالنشاط. فصوت الآلات الكاتبة بدأ يرتفع خلف فواصل من طراز Plexiglas. وانتقل شبان النسخ من مكتب إلى آخر. وانكب المراسلون الصحفيون على آلاتهم الكاتبة في تركيز شديد. أما المحررون فكانوا يصرخون في تليفوناتهم. وهناك على الجدار ساعة كانت تحسب العد التنازلي للعمل.
أسرع أحد شبان النسخ نحو الغرفة الشبيهة بالكهف لتوصيل ثلاث نسخ من Chicago Daily News، خارجة للتو من المطبعة، إلى قسم الأخبار المحلية. اندفع إليها محرروا القسم، وفحصوا في نهم الصفحة الأولى ليروا ما إذا كانت المنافسة قد هزمتهم في أي شيء. تنهد واحد منهم. وفي حركة واحدة انتزع مقالة، ثم انتقل ولوح بها في وجه مراسل أخطأ بالاقتراب منه للغاية.
طالبه قائلاً: “أعد تغطية هذا الخبر!” وبدون النظر إلى القصاصة، أمسكها المراسل، وتوجه إلى مكتبه لإجراء بعض المكالمات التليفونية حتى يمكنه إخراج قصة مشابهة.
كان المراسلون في City Hall، ومبنى المحاكم الجنائية، ومبنى ولاية إلينوي، ومراكز الشرطة يتصلون بمحرري قسم الأخبار المحلية كي “يوثقوا” قصصهم. وحالما تأكد المراسلون من صحة معلوماتهم التي يضعونها في صورة مختصرة عن الموقف، طلب مساعدو التحرير من رئيسهم، محرر قسم الأخبار المحلية، قراراً عن الكيفية التي ستظهر بها المقالة بالجريدة.
قال مراسل لمحرر قسم الأخبار المحلية: “كان رجال الشرطة يطاردون سيارة فاصطدمت بأتوبيس، خمسة جرحوا، ولكن إصاباتهم ليست خطيرة”.
“أوتوبيس مدرسة؟”
“أوتوبيس عام”.
تجهم محرر قسم الأخبار المحلية، وقال: “وفروا لي أربعة أعمدة”، وأمر أ ن تحتوي القصة على ثلاث فقرات.
فكررها المساعد في التليفون: “أربعة أعمدة”. ودفع زراراً لتوصيل المراسل بأحد عمال إعادة الكتابة الذي سيكتب التفاصيل على آلة كاتبة، وينهي الأمر كله في دقائق.
كان العام هو 1974. كنت مُستجداً حيث لم يمض على تخرجي من قسم الصحافة بجامعة ميسوري سوى ثلاثة أشهر فقط. عملت في صحف أصغر منذ الرابعة عشر من عمري، لكن هذه كانت الفرصة الكبرى. لقد كنت مدمناً حقاً للأدرينالين.
ومع ذلك، ففي هذا اليوم بالذات، شعرت كما لو أنني متفرج أكثر منه مشارك. توجهت لقسم الأخبار المحلية، وأسقطت قصتي دون اكتراث في صندوق المقالات الواردة. كانت عرضاً بسيطاً – “خلاصة” مكونة من فقرة واحدة حول انفجار قنبلتين أنبوبيتين في الضواحي الجنوبية. كان الخبر موجهاً للقسم الثالث، الصفحة العاشرة، في ركن “موجز أخبار العاصمة”. ورغم ذلك، كان حظي على وشك أن يتغير.
كان مساعد رئيس التحرير يقف خارج مكتبه الزجاجي، فناداني قائلاً: “تقدم إليّ”.
فسرت نحوه وقلت: “ما الأمر؟”.
فقال: “انظر هذا”، وسلمني نسخة من برقية. ولي ينتظر حتى أقرأها حتى بدأ يخبرني بما حدث.
قال: “أحداث خطيرة في فيرجينيا الغربية، أناس يُطلق عليهم النيران، ومدارس تُفجر بالقنابل، وكان هذا لأن بعض سكان الجنوب ثائرون على تدريس بعض الكتب في المدارس”.
فقلت له: “أنت تمزح، يا لها من قصة جيدة”.
فحصت عيني تقرير الأسوشييتد برس المختصر. وسرعان ما لاحظت أن القساوسة كانوا يشجبون الكتب المدرسية بوصفها “ضد الله” وأنه تم عقد تجمعات في الكنائس.
قلت: “مسيحيون إذاً؟! من ينادون بمحبة القريب، وبعدم الإدانة”.
أشار لي كي أتبعه إلى إحدى الخزائن. أدار رقم وفتحها، ومد يده ليمسك لفتين من ورقة العشرين دولاراً.
قال لي بينما سلمني الستمائة دولار لرسوم المصروفات: “انطلق إلى فيرجينيا الغربية، وتحرى القضية. اكتب لي قصة مناسبة للـ bulldog”. كان يشير إلى الطبعة الأولى من صحيفة الأحد التالي. وهذا لم يتح لي الكثير من الوقت؛ فقد كان هذا بالفعل يوم الاثنين ظهراً.
بدأت الرحيل، لكن المحرر أمسك بذراعي وقال: “كن حذراً”.
كنت حينها غافلاً، فقلت له: “ماذا تقصد؟”
فتطلع لقصة الأسوشييتد برس التي كانت بيدي، وقال: “هؤلاء الناس يكرهون المراسلين، وقد ضربوا اثنين منهم حتى الآن. إن الأمور متفجرة هناك. كن حريصاً”.
لم يمكنني تحديد ما إذا كان الطوفان العاطفي الذي شعرت به أهو الخوف أم الابتهاج. وفي النهاية، لم يهمني الأمر حقاً. عرفت أنه كان عليّ أن أقوم بأي شيء في سبيل ذلك. لكن السخرية لم تفارقني: “هؤلاء أتباع الإنسان الذي قال: طوبى لصانعي السلام”، ومع ذلك فقد حذروني منهم.
“مسيحيون….” رددتها بيني وبين نفسي. ألم يسمعوا، كما قال متشكك – أن العلم الحديث قد أذاب المسيحية حقاً في إناء من حمض النيتريك![1]
هل دارون مسؤول؟
من مباني المكاتب المتألقة بوسط مدينة شارلستون وحتى القرى الخلفية الصغيرة في كاتاوا كاونتي، كان الموقف متوتراً عندما وصلت في اليوم التالي، وبدأت البحث عن قصة. كان كثير من أولياء الأمور يحتجزون أطفالهم خارج المدرسة. وترك عمال المناجم العمل في إضرابات جامحة مهددين بعرقلة الاقتصاد المحلي. وأطلقت النيران على أتوبيسات المدارس الفارغة، وصوبت القنابل النارية تجاه بعض الفصول الخالية، وكان المضربون يسيرون حاملين لافتات مكتوب عليها “حتى سكان الجنوب لهم حقوق دستورية”. وقد نتج عن هذا العنف إصابة اثنين بإصابات خطيرة، وانتشر الرعب والتهديد في كل مكان.
استطاعت الخدمات البرقة التعامل مع التطورات المثيرة للأزمة يوماً بيوم، وقد قررت كتابة مقالة عامة لشرح هذا الخلاف. وحيث كان مقر عملي هو غرفة الفندق، فقد اتصلت لتحديد مواعيد مع شخصيات هامة في الصراع، ثم قدت السيارة التي استأجرتها من البيوت إلى المطاعم إلى المدارس والمكاتب لإجراء مقابلات معهم. وسرعان ما اكتشفت أن مجرد ذكر كلمة “كتاب مدرسي” لأي شخص في تلك الأماكن سيثير طوفاناُ من الرأي العنيف.
صممت زوجة قس معمداني ذات شعر أسمر قائلة في حدة عندما حاورتها في الساحة الأمامية من بيتها: “إن الكتب التي نشتريها لأطفالنا في المدارس تعلمهم أن يفقدوا محبتهم لله، وأن يحترموا الهاربين من الخدمة العسكرية والثوار، وأن يفقدوا محبتهم لوالديهم”. ولأنها انتجت حديثاً في مجلس إدارة المدرسة، كانت تقود الاتهام ضد هذه الكتب المدرسية.
كانت احدى ناشطات المجتمع تتصف بمثل هذا العناد، ولكن في اتجاه مختلف تماماً. قالت لي: “للمرة الأولى، تعكس هذه الكتب الروح الامريكية الحقيقية. وأعتقد أن هذا أمر مثير. فالروح الامريكية بالنسبة لي معناها الإصغاء لكل الأصوات، وليس فقط أراء البروتستانت البيض الأنجلوساكسون”.
أما مدير المدرسة الذي استقال في ذروة هذه الأزمة فهز رأسه في يأس عندما سألته عن رأيه فيما حدث، وقال وهو يتنهد: “إن الناس هنا يتصرفون بطرق غريبة. فالطرفان مخطئان”.
وفي تلك الأثناء، نقلت 96000 نسخة من 300 كتاب مدرس مختلف بشكل مؤقت من الفصول، وتم تخزينها في صناديق من الكارتون المقوى في مستودع غرب شارلستون. وكان منها سلسلة Galaxy لسكون فورزمان، وسلسلة الإنسان Man لماك دوجال وليتك، وسلسلة Breadthrough لألين & باكون Allyn & Bacon Inc.,s، وبعض الكلاسيكيات مثل The Lord of the Moby Dick، Of Human Beings، Flies، والعجوز والبحر، ومزرعة الحيوانات، وجمهورية أفلاطون.
ما سبب غضب هؤلاء الناس؟ قال كثيرون إنهم كانوا ثائرون بسبب “المواقف الأخلاقية” المعروضة في هذه الكتب. فقد اشتمل واحد من هذه الكتب على قصة طفل يخدع تاجراً ليأخذ بنساً من الثمن. وكان التلاميذ يسألون: “معظم الناس يعتقدون أن الغش أمر خاطئ. هل تعتقد أنه في أي وقت يمكن أن يكون صحيحاً؟ ومتى يكون ذلك؟ واذكر لماذا تعتقد أنه صحيح؟” اعتبر أولياء الأمور كتقويض للقيم المسيحية التي يحاولون غرسها في أطفالهم.
قال لي والد طفل في المدرسة الابتدائية في إحباط واضح: “نحن نحاول أن نشجع أطفالنا بأن يفعلوا الشيء الصحيح، ثم تأتي هذه الكتب وتقول إن الشيء الخطأ أحياناً ما يكون صحيحاً. ونحن لا نؤمن بهذا! فالوصايا العشر يجب أن تنفذ تماماً”.
ولكن كان هناك أيضاً تيار خفي لشيء آخر خوف مبدئي من المستقبل، ومن التغيير، ومن الأفكار الجديدة، ومن التحول الثقافي. شعرت بإحباط مضطرب في الناس إزاء أن الحداثة التي قد تسبب تآكلاً في أساس إيمانهم. كتبت جريدة Charleston Gazette: “إن الكثير من المحتجين يتظاهرون ضد عالم متغير”.
وقد تبلور لي هذا التوجس الكامن في حديث مع رجل أعمال محلي ونحن نأكل الهامبرغر في أحد مطاعم شارلستون. فعندما سألته لماذا شعر بالغضب الشديد إزاء الكتب المدرسية، مد يده في جيبه، وأخرج قصاصة من صحيفة كتبت حول هذه الأزمة.
قال بينما اقتبس جزءً من الكتاب المدرسي: “اصغ لما يقوله كتاب Dynamics of Language لأطفالنا: “اقرأ نظرية الأصل الإلهي، وقصة برج بابل كما وردت في سفر التكوين، واستعد لتشرح طريقة أو طريقتين لتفسير هذه القصص”.
وضع القصاصة على الطاولة في غضب. وصرح قائلاً: “نظرية الأصل الإلهي! إن كلمة الله ليست نظرية. فلو استبعدنا الله من الخليقة، فيما يتبقى لنا؟ التطور؟ إن العلماء يريدون أن يعلموا أطفالنا أن الأصل الإلهي مجرد نظرية يصدقها الأغبياء، أما التطور والارتقاء فحقيقة علمية. حسناً، الأمر ليس كذلك. وهذا هو أصل المشكلة”.
رفعت رأسي متسائلاً: “هل تقصد أن تشارلز دارون مسؤول عن كل هذا؟”
فقال: “دعني أقولها هكذا: إن كان دارون على صواب، فنحن مجرد قرود معقدة. ويكون الكتاب المقدس على خطأ. ولا يوجد الله. وبدون الله، لا يكون هناك الصواب والخطأ. ويمكننا أن نُظهر أخلاقنا كيفما اتفق. وسوف يتحكم أساس إيماننا كله. ولهذا فإن هذا البلد في طريقه للانهيار. هل دارون مسؤول؟ سأقول هذا: على الناس أن يختاروا بين العلم والإيمان، وبين التطور والكتاب المقدس، وبين الوصايا العشر وأخلاقيات “خليها على الله”. لقد قمنا باختيارنا، ولن نتزحزح عنه”.
أخذ الرجل جرعة كبيرة من البيرة، وسألني: “هل رأيت دليل العلم؟” فأجبته بالنفي. فقال: “إنه يقول للتلاميذ إن عليهم أن يقارنوا القصة الكتابية لدانيال في جب الأسود بتلك الأسطورة عن أسد. هل إلى ماذا أشير؟”.
“أندروكليس والأسد؟” قلتها متسائلاً، وأشرت لأسطورة أيسوب التي تحكي عن عبد هارب نزع شوكة من مخلب أسد قابله في الغابة. وفيما بعد، عندما أعادوا القبض على هذا العبد الهارب، قرروا إلقاءه للأسد في عرض للجمهور في المسرح الروماني، واتضح أنه نفس الأسد صديق العبد الهارب. وبدلاً من أن يأكله الأسد، بدأ يلعق يد العبد في رفق وامتنان، وهذا ما تأثر به الإمبراطور كثيراً حتى أطلق سراح هذا العبد”.
قال رجل الأعمال: “نعم، هذه هي القصة. فماذا تقول لأطفالنا عندما يطلب منهم مقارنتها بالقصة الكتابية؟ إن الكتاب المقدس مجرد مجموعة من القصص الخيالية؟ مجرد أسطورة؟ أن بإمكانك تفسير الكتاب المقدس كما تشاء، حتى إن انحرفت عما يقوله حقاً؟ علينا أن نثبت مواقفنا. ولن أسمح لمثل هؤلاء الدارسين أن يدمروا إيمان أطفالي”.
شعرت بأنن وصلت أخيراً لأصل الجدال. وكتبت في عجالة كلماته على قدر ما استطعت. ومع ذلك، كان جزء مني، أعتقد، بأنني أود مناقشته.
ألم يعرف أن التطور حقيقة مؤكدة؟ ألم يدرك أنه في عصر العلم والتكنولوجيا يصعب علينا تصديق الأساطير القديمة عن الله خالق العالم ومصور الإنسان على صورته؟ هل كان يريد حقاً من أولاده أن يتمسكوا بالتوافه الدينية التي يستنكرها بوضوح علم الكونيات، والفلك وعلم الحيوان، والتشريح المقارن، والجيولوجيا، وعلم دراسات الأرض، والأحياء، والجينات، وعلم دراسة الإنسان؟
كنت مدفوعاً لأقول له: “ما الفرق بين دانيال في جب الأسود وقصة أندروكليس والأسد؟ فكلاهما حكايتان خياليتان!”، ولكن لم أذهب إلى هناك للجدال، بل لكتابة تقرير حول القصة، ويا لها من قصة عجيبة!
في القسم الأخير من القرن العشرين، وفي فترة استطاع فيها الإنسان أن يشطر الذرة، ويُرسل رواداً إلى القمر، ويجد الحفريات التي تثبت نظرية التطور دون أدنى شك، كانت مجموع من المتدينين المتشددين يعقدون الأمور لأنهم لم يمكنهم التخلص من الفولكلور الديني. وكان هذا ببساطة يتحدى كل منطق.
فكرت للحظات، وقلت: “هناك سؤال آخر. هل تنتابك أية شكوك؟”
فلاح بيديه كما لو كان يلفت انتباهي إلى الكون، وقال “انظر إلى العالم. إن بصمات الله موجودة في كل مكان. وأنا متأكد من ذلك تماماً. فكيف يمكنك بخلاف ذلك أن تفسر الطبيعية والبشر؟ فالله بنفسه أخبرنا كيف نعيش. وإن تجاهلناه، فسوف يعاني كل العالم”.
قلت له أخيراً: “أشكرك من أجل آرائك”.
محاكمة في غرب فيرجينيا
كان كل ما سمعته مادة جيدة لما سأكتبه، لكني كنت بحاجة للمزيد. فكل القادة الذين التقيت بهم استنكروا العنف بوصفة تصرفات مرفوضة لقلة من المشاغبين. ولكن لتقرير القصة كاملة، كنت بحادة لرؤية ممثلو الطرف الآخر. أردت تسجيل ثورة الذين اختاروا العنف بدلاً من التفاهم. وسرعان من حانت فرصتي.
سمعت بعقد تجمع للقيام بعمل مشترك في مساء الجمعة في Campbell’s Creek المنعزلة وكثيفة النباتات. وكان من المتوقع أن يجتمع الآباء الغاضبون ويدلون برأيهم ما إذا كانوا سيستمرون في إبقاء أولادهم خارج المدرسة. كان الثائرون قد وصلوا درجة الغليان، وصرحوا بأنهم لا يرحبون بالمراسلين الصحفيين. بدا واضحاً أن الجماهير كانت منفعلة إزاء الطريقة التي صورتهم بها بعض الصحف الكبرى كأنهم سكان لا يعرقون شيئاً، ولذلك قصدوا أن يكون هذا اجتماعاً خاصاً بكل المخلصين حتى يتمكنوا من التعبير عن أفكارهم بكل حرية.
لقد كانت فرصتي. فقررت التسلل إلى الاجتماع للحصول على الصورة الحقيقية لما كان يحدث بالداخل. وقد بدا لي ذلك فكرة جيدة.
حددت موعداً مع تشارلي، وهو مصور صحفي ممتاز مندوب من جريدة تريبيون، لتصوير فيلم عن حرب الكتب المدرسية. قررنا التسلل إلى المدرسة الريفية، وحيث كان المتوقع من مئات المحتجين الغاضبين أن يجمعوا الكراسي. كنت أكتب ملحوظاتي خلسة، وكان تشارلي يفكر ما إذا يمكنه أن يلتقط بعض الصور القليلة بحذر. اعتقدنا أنه إن استطعنا أن نختلط بالجمهور، لهربنا بفعلتنا هذه.
لكن اعتقادنا كان خاطئاً.
كانت سيارتنا المؤجرة الجديدة متميزة بوضوح عن الشاحنات المتربة، والسيارات المستخدمة التي رُكنت بعشوائية في كل زوايا ساحة الانتظار المليئة بالحصى. حاولنا ألا نثير أية شكوك بقدر الإمكان بينما سرنا بلا اكتراث بجوار المتقدمين نحو الصالة الرياضية. خبأ تشارلي كاميرته من طراز Nikons تحت سترته، ولكن لم تكن هناك وسيلة كي يخبئ بها شعره الأسمر الطويل.
في بداية الأمر، اعتقدت أن خطتنا نجحت. فقد سرنا مع الجمهور من خلال باب جانبي للصالة الرياضية. وفي الداخل كانت الضجة تصم الآذان. كان هناك مقعدان ضخمان يجلس عليهما أناس مفعمون بالحيوية والنشاط بدا أنهم يتكلمون جميعاً في نفس الوقت. كانت أحدهما يجهز ميكروفوناً صغيراً على أرضية الصالة الرياضية. وكنت مع تشارلي نتجول جيئة وذهاباً مع الناس الذين كانوا يقفون بجوار الباب، ولم نتمكن من إيجاد مقاعد لأنفسنا. وقد بدا أننا لم نلفت انتباه أحد.
ظهر رجل بدين يرتدي قميصاً أبيض قصير الأكمام، وربطة عنق داكنة وضيقة، وأمسك بمكبر الصوت، ونفخ فيه ليرى ما إذا كان يعمل. صرخ وسط الضجيج: “دعوني ألفت انتباهكم. هيا نبدأ”.
بدأ الناس يجلسون. ولكن انتابني آنذاك شعور مزعج بأن الكثير من العيون كانت تنظر إلينا. قال الرجل في الميكرفون: “مهلاً، بيننا دخلاء ههنا!” وبقوله هذا، التفت متطلعاً إلى تشارلي وإليّ أنا، فتجمع الذين كانوا من حولنا لمواجهتنا. وساد الصمت أرجاء المكان.
“تعاليا هنا!” قالها الرجل وهو يشير إلينا للتقدم إلى أرضية الصالة الرياضية. من أنتما؟ لا أحد يرحب بكما ههنا!”.
وبهذا، بدأت الجموع في الصياح. خطونا في تردد نحو الرجل الذي بيده مكبر الصوت ونحن لا نعلم ماذا نفعل. وشعرنا كما لو كان غضب الناس كله في المكان قد تجمع متجهاً نحونا.
كان أول ما تبادر إلى ذهني هو أنني لم أرد التورط في القضية أساساً. ثم اعتقدت أن هذا الحشد سيلقي بنا خارج المكان، وأننا سنُهاجم على طول الطريق. وثالثاُ، هو أنني لم أتعلم شيئاً في الصحافة للتصرف في مثل هذا الموقف.
تساءل الرجل وهو يحرض الجمهور: “ماذا عسانا أن نفعل بهذين الشابين؟” فاستثار الجمهور! وشعرت كما لو أنني في محاكمة. فعندما كنت أسمع عبارة “ركبتاي ترتعشان”، كنت أعتقد حينها أنها مجرد صورة مجازية. لكن ركبتاي كانتا ترتعشان حقاً!
صرح الرجل: “لنتخلص منهما!”
أغلق الباب. ولم يوجد أي منفذ للهروب. لكن بينما كان البعض يتحفزون للإمساك بنا، إذ برجل يعمل نصف الوقت كسائق شاحنة، ونصف الوقت كقس، وقف وسحب الميكرفون، ورفع يده لإيقافهم.
صرخ قائلاً: “مهلاً! توقفوا! واستقروا!” كان يبدون أن الجمع يحترمه. هدأت الضوضاء. ثم استطرد الرجل: “اصغوا إليّ الآن، لقد رأيت هذا المراسل الصحفي منذ عدة أيام في المدينة وهو يجري لقاءات مع كلا الطرفين. وأعتقد أن يريد أن يحكي القصة كما هي. أعتقد أنه يريد أن يكون عادلاً. أقترح أن نمنحه فرصة، وأن يظل معنا!”.
كان الجمع غير متأكد. كان هناك بعض التذمر. فالتفت القس نحوي متسائلاً: “ستكون عادلاً في تقريرك. أليس كذلك؟”
فأومأت مجيباً بالإيجاب.
فالتفت القس نحو الجمهور، وطالبهم قائلاً: لنرحب بهذين الرفيقين، ولنثق أنهما سيفعلان الصواب!”
بدا أن هذا قد أقنعهم. فسرعان ما تغيرت حالتهم المزاجية. في الواقع، بدأ البعض يصفق لنا. وبدلاً من طردنا للخارج. قادنا أحدهم للمقاعد الموجدة في الصف الأول. أخرج تشارلي كاميرته، وبدأ في التقاط الصور. وبدأت أن أستخدم المذكرات والقلم.
“سوف نكسب – بطريقة أو بأخرى”
سيطر القس على الاجتماع. التفت إلى الجمهور، ورفع عالياً كتاباً عنوانه Facts about VD، وصاح بلهجته الخاصة بمدينة Mayberry: “هذا الكتاب سيصيبكم بالاشمئزاز، ولكن هذه هي نوعية الكتب التي يقرأها أطفالكم!”
كان هناك لهاث. فصاح أحدهم: “فلتخرجوا هذه الكتب من المدارس!” فصاح وراءه آخرون: “فلتخرجوها!”، كما لو كانوا يقولون: “آمين” في نهضة روحية.
بدأ القس يتنقل جيئة وذهاباً، وكان العرق يتصبب على قميصه الأبيض فيما كان يلوح بالكتاب. صرح قائلاً: “عليكم جميعاً أن تجبروا أنفسكم لقراءة هذه الكتب كي تفهموا حقاً موضوع القضية التي نتحدث عنها. فهذه ليست الطريقة التي نعلم بها أولادنا شيئاً. ربما يقرأ أطفالنا عن الجنس – الانفصال عن الأخلاقيات، والانفصال عن الله. ولهذا علينا أن نستمر في إبقاء أولادنا خارج المدرسة أسبوعاً آخر لمقاطعة هذه الكتب القذرة، والتي هي ضد أمريكا وضد الدين”.
دفع هذا الكلام الجمهور للتصفيق تصفيقاً حاداً. وكانت النقود التي تجمع في أواني دجاج كنتاكي تستخدم كتبرعات لخوض المعركة.
استمر الاجتماع لنصف ساعة أخرى أو ما شابه. في بعض الأحيان، كانت كلمات القس تذكار بتعليقات رجل الأعمال السابق التي أدلى بها مبكراً في ذاك الأسبوع. صرح القس متحدياً: “لسنا مستنبطون من الوحل، لكننا مخلوقون على صورة القدير. وقد أهدانا أعظم كتاب في العالم ليخبرنا كيف نعيش!” فصخب الجمع بالتصفيق.
وقال: “إن الانتصار الوحيد الذي سنقبله هو انتصار كامل. فسوف ننتصر، بطريقة أو بأخرى”.
عندما أثار القس موضوع ما إذا كانت مقاطعة المدرسة ستستمر أسبوعاً إضافياً أو لا، وافق الجميع على المقاطعة، وتحقق غرض الاجتماع. فقال القس في الختام: “ليبارككم الله جميعاً”. وانتهى الاجتماع.
والآن جمعت كل الأفكار التي أريدها لكتابة القصة. أسرعت عائداً إلى الفندق، وأعددت قصاصة لجريدة الأحد، التي ظهرت في الصفحة الأولى تحت عنوان: “معركة حول الكتب المدرسية تشتعل في اجتماع ديني”. واتبعت ذلك بمقالة أخرى مفصة ظهرت أيضاً على الصفحة الأولى في اليوم التالي[2].
وفي طريق عودتي بالطائرة إلى شيكاغو، فكرت في هذا الاختبار، وتأكدت من الوفاء بوعدي للقس، وأنني كنت عادلاً فيما كتبته من الطرفين. كانت مقالاتي متوازنة ومقدرة للمسؤولية. لكنها بصراحة، كانت القضية صعبة.
عندما كنت في صالة الألعاب الرياضية تلك في أمسية الجمعة، شعرت بأنني بدأت أرى المسيحية على طبيعتها وجهاً لوجه. لماذا لم يتمكن هؤلاء الناس من أن يخرجوا رؤوسهم من الرمال ويعترفوا بصراحة: أن العلم قد استبعد إلههم! وأن علماء العالم الحديث ذوي المعاطف البيضاء قد انتصروا على وعاظ العصور الوسطة ذوي الملابس السوداء. كانت نظرية دارون في التطور، وليس حقيقة التطور المطلقة، معناها أنه لا توجد أخلاقية كونية بمرسوم إلهي، بل مجرد القيم الثقافية التي تختلف من مكان إلى آخر، ومن موقف إلى آخر.
عرفت بالبديهة ما صرح به عالم الأحياء التطوري والمؤرخ الشهير ويليام بروفاين من جامعة كورنيل بوضوح في احدى المناظرات منذ سنوات. قال: “إن كانت الداروينة حقيقية، فهناك خمسة نتائج لا يمكن الهروب منها:
- لا يوجد دليل على وجود الله.
- لا توجد حياة بعد الموت.
- لا يوجد معيار مطلق للصواب والخطأ.
- لا يوجد معنى نهائي للحياة.
- ليس للناس إرادة حرة حقاً[3].
بالنسبة لي، كان الجدال في غرب فرجينيا بمثابة اشتياق رمزي أخيراً لنظام معتقدات عتيق يندفع نحو النسيان. فكلما يتعلم الشباب الدليل القوي لنظرية التطور، ويفهمون استحالة حدوث المعجزات، وكلما يرون كيف أن العلم في طريقه لتفسير كل شيء في الكون، فإن الإيمان بإله غير منظور، وبملائكة وشياطين، وبمعلم سار على المياه منذ زمن طويل، وضاعف السمك والخبز، وعاد من الموت سيبهت لخرافة تناسب فقط المناطق النائية الموحشة مثل Campbell’s Creek في غرب فرجينيا.
وفي اعتقادي، أن هذا اليوم ليس بقريب.
[1] Quote of German atheistic philosopher Ludwig Feuerbaoh in: J Lans King Freud and the problem of God, enlarged edition. Translated by Edward Quinn (New Haven: Yale University Press 1990), 3.
[2] Lee Strobel, “Textbook Battle Rages in Bible Belt County,”Chicago Tri-bune (October 20 1974) and “Hidden Issues Seen Behind Textbook Split,” Chicago Tribune (October 21, 1974).
[3] Phillip E. Johnson, Darwin on Trial (Downers Grove. III.: InterVarsity Press, second edition, 1993), 126-27.