إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
“ها أنا أخدمك سنين هذا عددها”
طريقتان ليجد المرء السعادة
استخدم السيد المسيح الأخوين الأصغر والأكبر كي يُصور الطريقتين الأساسيتين اللتين يُحاول بهما الناس أن يجدوا السعادة والرضى التام: طريقة الامتثال الخلقي (Moral Conformity)، وطريقة الاكتشاف الذاتي (Self-Discovery). وكلتاهما تؤدي دور عدسة تُلون كيفية نظرك إلى الحياة كلها، أو دور نموذج يُشكل فهمك لك شيء. كما أن كلتيهما سبيل لأن يجد المرء القيمة والأهمية الذاتيتين، وليتصدى لمفاسد العالم، ليفصل ما بين الصواب والخطأ.
إن الأخر الأكبر في المثل يُمثل طريقة الامتثال الخُلقي. وقد اعتقد فريسيو زمان السيد المسيح أن في وسعهم – على الرغم من كونهم شعباً اختاره الله – أن يحافظوا على منزلتهم في نطاق بركة الله، وأن ينالوا الخلاص النهائي، فقط بواسطة الإطاعة المتشددة للتوارة [كما فسرروها هم]. ومع أن لهذا النموذج أشكالاً متعددة كثيرة، فإنها كلها تؤمن بتقديم مشيئة الله ومعاير الجماعة على إشباع الذات فردياً. فحسب هذا الرأي، لا نحرز السعادة ولا نصل إلى تحقيق عالم سليم معافى إلى بحيازة الاستقامة الخلقية. لا شك أننا قد نسقط أحياناً، ولكن عندئذ سيُحكم علينا بمدى تذلل ندامتنا وحدتها. وحسب هذا الرأي، علينا أن نجاري ونباري دائماً، حتى في سقطاتنا.
أما الأخ الأصغر في المثل فيمثل طريقة الاكتشاف الذاتي. وفي الحضارات الأبوية القديمة، سلك بعض هذا السبيل، إلا إن هناك أناساً أكثر منهم بكثير جداً يفعلون ذلك اليوم. ويقول هذا النموذج إن الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً كي يسعوا إلى إدراك أهدافهم الخاصة وتحقيق ذواتهم دون أي اعتبار للتقاليد والأعراف. فحسب هذا الرأي، سيكون العالم مكاناً أفضل جداً إذا أصاب الإضعاف أو الإزالة التقليد والتحيز والسلطة الهرمية وغيرهن من العوائق أو العقبات.
طريقتا الحياة هاتان (مع تصادمهما الحتمي) مُصورتان بحيوية وجلاء في الفيلم الكلاسيكي “شاهد عيان” (ًWitness). ففي تلك القصة، تُغرم راحيل (Rachel) الأرملة الآميشية* الشابة بالشرطي جون بوك (John Book) غير الآميشي (وهو يصر على ألا يكون آميشياً). ويُنبهها حموها، عالي (Eli)، أن ذلك مُحرم، وأن وف وسع شيوخ الجماعة أن يعاقبوها. ثم يُضيف قائلاً إنها تتصرف كطفلة. فتجيب: “أنا سأكون الحَكَم في ذلك”. فيقول: “لا، بل هم سيكونون الحكم في ذلك. وسأكون أنا أيضاً كذلك…. إذا أخزيتني”، بادياً في مثل صرامة نبي من الأنبياء. وعندها تُجيب راحيل: “إنك تُخزي نفسك”، وهي مصدومة لكن معتزة، ثم تشيح بوجهها عنه[1].
وههنا تصور وجيز للطريقتين. فإن تابع طريقة الامتثال الخُلقي يقول: “لن أفعل ما أريد، بل ما يُريد مني التقليد والمجتمع أن أفعله”. أما من يختار طريقة الاكتشاف الذاتي فيقول: “أنا الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يُقرر ما هو صواب أو خطأ بالنسبة إليّ. سأعيش كما أريد أن أعيش وأجد ذاتي الحقيقية وسعادتي بهذه الطريقة”.
إن المجتمع الغربي منقسم بكل عمق بين أسلوبي التفكير هذين بحيث لا يكاد أحدٌ أن يتصور أية طريقة أخرى للعيش. فإذا انتقد شخص إحدى الطريقتين ونأى بنفسه عنها، يفترض الجميع أنه قد اختار اتباع الأخرى؛ لأن كلا الأسلوبين يميلان إلى قسمة العالم كله في جماعتين أساسيتين لا غير. فالممتثلون خلقياً يقولون: “إن القوم اللاأخلاقيين، أولئك الذين يفعلون ما يروقهم، هم المشكلة في هذا العالم، والقوم الأخلاقيون هم الحل”. أما أنصار الاكتشاف الذاتي فيقولون: “إن القوم المتعصبين، أولئك الذين يزعمون أنهم يملكون الحقيقة، هم المشكلة في هذا العالم، والتقدميون هم الحل”. وكلا الفريقين يقول: “إن طريقتنا هي الطريقة التي سيقوم العالم بها؛ وإن لم تكن معنا، فأنت علينا”.
أفينبغي لنا أن نستخلص ان كل إنسان يندرج إما في هذا الطبقة وإما في الأخرى؟ نعم ولا. فإن لعدد كبير من الناس أمزجة تُعرضهم مسبقاً إما لعيشة امتثال خلقي وإما لعيشة اكتشاف ذاتي. غير أن بعض الناس ينتقلون ذهاباً وإياباً مجربين إحدى الاستراتيجيتين ثم الأخرى في أزمنة شتى من حياتهم. وقد جرب كثيرون نموذج الامتثال الخلقي، فوجدوه ساحقاً لهم، ثم في انعطاف دارماتيكي انتقلوا إلى عيشة اكتشاف ذاتي، ولكن آخرون هم على المسار المعاكس.
ومن الناس من يرجون كلا الأسلوبين تحت سقف الشخصية نفسها. فهناك بعض ممن يظهرون بمظهر الاخوة الكبار التقليديين يعيشون حياة سرية تحاكي سلوك الاخوة الصغار. ويكون ذاك أشبه ما يكون بصمام تنفيس. ومما يُذكر أن عمليات الشرطة الاستدراجية، الهادفة إلى الإيقاع بمفترسي الإنترنت الجنسيين الذين يتصيدون المراهقين والمراهقات، تقبض بانتظام على أشخاص متدينين، بينهم رجال دين كثيرون. ثم إن هناك أيضاً أشخاصاً كثيرين، متحررين جداً ولا دينين في آرائهم ونمط حياتهم، يحسبون أن المحافظين دينياً هم بكل ما دلى أسوء فريسيّ من بر ذاتي واستعلاء.
إنما على الرغم من هذه التنوعات، يبقى هنالك فقط أسلوبان أساسيان في العيشة. ومؤدى المثل الذي ضربه السيد المسيح أن كلا هذين الأسلوبين خاطئان. فهذا يوضح البديل الراديكالي.
ابنان ضالان
في الفصل الأول من المسرحية، في شخص الأخر الأصغر، يُقدم لنا السيد المسيح وصفاً للخطية لا بد أن يميزه أي إنسان. فالشاب يُهين عائلته ويعيش حياة فاسدة تتسم بالانغماس الذاتي. وهو خارج عن السيطرة تماماً. إنه متغرب عن الأب، الذي يُمثل الله في القصة، ومُعاد له. وأي شخص يعيش على ذلك النحو لا بد أن يُفصل عن الله الأمر الذي لا بد أن جميع سامعي المثل يُوافقون عليه.
أما الفصل الثاني، فالتركيز هو على الأخ الأكبر. وهو مطيع لأبيه بكل تدقيق، ومن ثم لوصايا الله، قياساً على ذلك. إنه تحت السيطرة كلياً وضابط لنفسه تماماً. وهكذا، فإن لدينا هنا ابنين، أحدهما “طالح” بالمعايير المتعارف عليها، والآخر “صالح”، غير أن الاثنين منسلخان عن الأب. فالأب مضطر لأن يخرج خارجاً ويدعو كليهما لكي يدخلا إلى وليمة محبته. وعليه، فليس في هذا المثل فقط ابن واحد ضال، بل ابنان ضالان.
غير أن الفصل الثاني يصل إلى خاتمة لا يمكن تصورها. فالسيد المسيح الراوي يترك الأخ الأكبر عمداً في حالته المعادية. إن الابن الطالح يدخل وليمة الأب، أما الصالح فرفض أن يدخل. إن عاشق الزواني قديماً يخلُص، أما ذو الاستقامة الخلقية فما يزال هالكاً ونكاد أن نسمع الفريسيين يلهثون لهفة إذ تنتهي القصة. فقد كانت كلياً عكس أي شيء تعلموه يوماً.
ولكن السيد المسيح لم يكتف بإنهاء القصة عند ذلك الحد، فصارت بذلك أكثر إذهالاً. فلماذا لم يدخل الأخ الأكبر؟ هو نفسه يُفصح عن السبب: “قط لم أتجاوز وصيتك”. فالأخ الأكبر لا يخسر محبة الأب على الرغم من صلاحه، بل بسبب صلاحه. وليست خطاياه هي التي تُنشئ حاجزاً بينه وبين أبيه، بل الكبرياء التي لديه في سجله الأخلاقي. فليس شره، بل بره، هو ما يحول دون مشاركته في وليمة الأب.
كيف يعقل أن يكون هذا؟ الجواب هو أن قلبَي الأخوين وطريقتي الحياة اللتين يمثلانها متشابهة أكثر بكثير مما يبدو أول وهلة.
ماذا أراد الابن الأصغر في الحياة قبل كل شيء؟ لقد اغتاظ من اضطراره لأن يشترك في موجودات عائلته تحت إشراف الأب. لقد أراد أن يقرر هو قراراته الخاصة، وتكون له سيطرة دون قيود على حصته من الثروة. فكيف حصل عليها؟ لقد قام بذلك باستعراض قوة جريء، بتحد سافر لمعايير المجتمع، بإعلان للاستقلال التام.
وماذا أراد الابن الأكبر قبل كل شيء؟ إذا فكرنا في الأمر، ندرك أنه أراد الأمر ذاته الذي أراده أخوه. فقد كان مستاء من الأب كما كان الابن الأصغر مستاء منه. وهو أيضاً أراد خيرات الأب، لا الأب نفسه. ولكن بينما مضى الأخ الأصغر إلى بلد بعيد، بقي الأخ الأكبر في المتناول، ولم يعص قط. تلك كانت طريقته للحصول على السيطرة. فمطلبه غير المفصح عنه هو: “لم أعص لك أمراً قط! فالآن ينبغي لك أن تفعل في حياتي الأمور بالطريقة التي أريد أن تفعل الأمور بها”.
إن قلبي الأخوين كانا متماثلين. فكلا الابنين اغتاظا من سلطة أبيهما والتمسا طرقاً للخروج من تحتها. لقد أرادا كلاهما أن يصلا إلى حيث يمكنهما أن يُمليا على الأب ما يفعله. وبكلمة أخرى، كلاهما تمردا… ولكن أحدهما فعل ذلك بوصفه طالحاً جداً، والآخر بوصفه صالحاً إلى أقصى حدّ. فكلاهما انسلخا عن قلب الأب، وكلاهما كان ابناً ضالاً.
هل تدرك إذاً ما كان السيد المسيح يُعلمه؟ كلا الابنين لم يحبا الأب لأجل ذاته. وكلاهما كانا يستخدمان الأب لأجل غاياتهما الأنانية، بدل أن يحباه ويتمتعا به ويخدماه لأجل ذاته. وهذا يعني أن في وسعك أن تتمرد على الله وتعاديه إما بمخالفة أحكامه وإما بحفظها كلها باجتهاد.
إنها لرسالة صادمة: إن الطاعة المدققة لشريعة الله قد تؤدي دور خطة استراتيجية للتمرد على الله.
فهم أعمق للخطية
يعطينا السيد المسيح بهذا المثل مفهوماً “للخطية” أعمق بكثير مما قد يملكه أي واحد منا لو لم يضرب هو لنا هذا المثل. إذ إن معظم الناس يُفكرون في الخطية معتبرين أنها الفشل في مراعاة أصول السلوك التي وضعها الله، غير أن تعريف السيد المسيح للخطية – على الرغم من كونه ليس أقل من ذلك – يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
في الرواية التي كتبها فلانري أُكونور (Flannery O’Connor) تحت عنوان “دم حكيم” (ًWise Blood)، تقول الكاتبة بشأن أحد شخصيات الرواية هايزل موتز (Hazel Motes): “كان لديه اقتناع عميق قاتم صامت بأن الطريق إلى تجنب السيد المسيح كانت تجنب الخطية”[2]. وهذا تبصر عميق. ففي وسعك أن تتجنب السيد المسيح بصفته المخلص عبر مراعاتك جميع المبادئ الأخلاقية. وإذا فعلت ذلك فعندئذ تكون لك “حقوق”. فإن الله مديون لك باستجابة الصلوات وإعطائك حياة صالحة وبطاقة دخول السماء عندما تموت. وأنت لست بحاجة إلى مخلص يغفر لك بالنعمة المجانية؛ لأنك مخلص ذاتك.
إن هذا الموقف هو موقف الأخ الأكبر على نحو واضح. فلماذا غضب جداً على أبيه؟ لقد شعر بأن له الحق في أن يقول لأبيه كيف ينبغي أن توزع ملابس العائلة (حللها) وخواتمها ومواشيها. وبالطريقة عينها، يعيش المدينون عموماً حياة أخلاقية إلى أقصى حد، ولكن هدفهم هو أن يكسبوا نفوذاً على الله، أن يُسيطروا عليه، أن يضعوه في موقع حيث يحسبون أنه مديون لهم. لذا، وعلى الرغم من كل تدقيقهم الأخلاقي وتقواهم، فإنهم يتمردون فعلياً على سلطة الله. فإن كنت – على غرار الأخ الأكبر – تعتقد أن الله يجب أن يباركك ويساعدك لأنك عملت بكل اجتهاد كي تُطيعه وتكون شخصاً صالحاً، فعندئذ قد يكون السيد المسيح معينك، أو مثالك، أو ملهمك أيضاً، ولكنه ليس مخلصك. إنك أنت تؤدي دور مخلصك الشخصي!
وتحت نموذجي سلوك الأخوين، المختلفين اختلافاً حاداً، يكمن الدافع والهدف ذاتهما؛ فكلا الأخوين يستخدمان الأب بطريقتين مختلفتين للحصول على الأمور التي يركز قلباهما عليها حقاً. إذ كان غنى الأب، لا محبته، هو ما اعتقدا أنه سيسعدهما ويُشبعهما.
في آخر القصة، تتاح للأخ الأكبر فرصة كي يُبهج الأب حقاً بالدخول إلى الوليمة. ولكن رفضه الحانق يبين أن سرور الأب لم يكن هدف الابن قط. وعندما يُرجع الأب الابن الأصغر إلى مركزه، مما قلص حصة الابن الأكبر في الملكية، ينكشف قلب الابن الأكبر. فهو يفعل كل ما في وسعه ليؤذي أباه ويقاومه.
إذا كنت – مثل الابن الأكبر – تسعى إلى السيطرة على الله بوسطة طاعتك، فعندئذ تكون أخلاقياتك كلها مجرد طريقة لاستعمال الله كي تجعله يُعطيك الأمور التي تريدها في حياتك حقاً.
ولنا مثل كلاسيكي على هذه الصفقة التي يعقدها الشاب سالييري (Salieri) مع الله في مسرحيته “أمادوس” (Amadeus) التي كتبها بيتر شافر (Peter Shaffer).
“سأرفع في السر الصلاة الأكثر تكبراً التي يمكن أن يفكر فيها صبي”. يا رب، اجعلني مؤلفاً موسيقياً عظيماً! فلأشد بمجدك من خلال الموسيقا، وليُشيد بي الناس أنا أيضاً! إلهي العزيز، اجعلني مشهوراً في أرجاء العالم! اجعلنا خالداً! وبعد وفاتي، اجعل الناس يتفوهون باسمي إلى الأبد إعجاباً بما كتبت! وفي المقابل، أتعهد بأن أعطيك عفتي، ومثابرتي، وتواضعي الأعمق، وكل ساعة من حياتي. ثم إني سأساعد أخي الإنسان بك ما في وسعي. آمين فآمين!”.
ثم يباشر حياة تحت هذا التعهد لله. فيُبقي يديه بعيدتين عن النساء، ويعمل باجتهاد في موسيقاه، ويعلم عدة موسيقيين دون مقابل، ويساعد الفقراء بلا كلل وتجري مهنته حسناً، فيعتقد أن الله قائم بدوره في الصفقة. ثم يظهر موزارت (Mozart) بمواهب موسيقية متفوقة كثيراً على مواهب سالييري. وكان واضحاً أن عبقريته هبة من عند الله. ثم أن “أماديوس”، اسم موزارت الأوسط، معناه “محبوب من الله”. ومع ذلك فهو “أخ أصغر” سوقي منغمس ذاتياً. فالموهبة التي منحها الله بإسراف بالغ لموزارت تحدث عاجلاً أزمة إيمان في قلب سالييري الشبيه بقلب الأخ الأكبر. وكلماته قريبة على نحو رائع من كلمات الابن الأكبر في المثل:
“كان أمراً لا يسبر غوره…. فهنا كنت أنا منكراً كل شهوة طبيعية لدي لكي أستحق عطية الله، وهناك كان موزارت منغمساً في شهوته بكل اتجاه – على الرغم من كونه خاطباً ينوس الزواج – وليس من توبيخ على الإطلاق!”.
أخيراً، يقول سالييري لله: “من الآن فصاعداً، نحن عدوان، أنت وأنا”، ومن ذل الحين يعمل على تدمير موزارت[3]. إنما المؤسف، في مسرحيته شافر، أن الله صامت، على خلاف الأب في المثل الذي ضربه السيد المسيح، إذ يمد الأب يده لإنقاذ الأخر الأكبر حتى حينما يبدأ يغرق في المرارة والبغض واليأس التي ابتلعت سالييري أخيراً.
إن مجهودات سالييري الحثيثة ليكون عفيفاً ومحسناً تبين في نهاية المطاف أنها ناشئة في العمق من المصلحة الشخصية. وما كان الله والفقراء إلا أدوات نافعة. فقد قال سالييري لنفسه إنه كان يضحي بوقته وماله لأجل الفقراء ولأجل الله، ولكن لم ينطو الأمر فعلاً على أية تضحية. لقد كان يفعل ذلك لأجل منفعته الخاصة، كي يحرز الشهرة والثراء والاحترام. وقد قال سالييري: “أحببت ذاتي…. حتى جاء هو، موزارت!” فلحظة أدرك أن خدمته لله وللفقراء لم تكن تُكسبه المجد الذي تاق إليه توقاً عميقاً جداً، صار قلبه قتالاً. وسرعان ما أظهر سالييري المتمسك بالأخلاق والمحترم أنه أقدر على الشر الشنيع من موزارت اللاأخلاقي السوقي. فبينما موزارت “أماديوس” غير متدين، فإن سالييري الورع هو من ينتهي إلى حالة تغرب عن الله، كما هي الحال في مثل السيد المسيح.
وقد تكون هذه العقلية حاضرة بشكل أخبث مما كانت عليه في حياة سالييري. فأنا أعرف امرأة أمضت سنين كثيرة في الخدمة المسيحية. لما حل بها مرض مزمن في خريف العمر، طرحها في هوة يأس. ففي آخر المطاف أدركت في أعماق قلبها أنها قد شعرت بأن الله كان مديوناً لها بحياة أفضل، بعد كل ما فعلته لأجله. وقد جعل هذا الافتراض من الصعب عليها جداً أن تصعد من هوتها، مع أنها صعدت فعلاً، إلا أن مفتاح تحسنها كان إدراكها لعقلية الأخ الأكبر داخل كيانها.
إن الأخوة الكبار يطيعون الله كي يحصلوا على أمور شتى. فهم لا يُطيعون الله كي يحصلوا على الله نفسه – حتى يُشابهوه ويحبوه ويعرفوه ويُسروه. وهكذا، فإن الأشخاص المتدينين والأخلاقيين قد يكونون متجنبين السيد المسيح بصفته المخلص والرب، على قدم المساواة مع الأخوة الصغار الذين يقولون إنهم لا يؤمنون بالله ويعرفون الصواب والخطأ كما يحلو لهم.
فإليك إذاً تعريف السيد المسيح الراديكالي لما هو خطأ فينا. وكل إنسان تقريباً يعرف الخطية بأنها مخالفة لقائمة الأصول. غير أن السيد المسيح يُرينا أن شخصاً لم ينتهك فعلاً أي أمر في قائمة مساوئ التصرف الأخلاقية قد يكون من كل وجه ضالاً وهالكاً على الصعيد الروحي، شأنه شأن الشخص الأكثر خلاعة وفساداً أخلاقياً، لماذا؟ لأن الخطية ليست مجرد مخالفة للأصول، بل هي أن تضع نفسك مكان الله بصفته المخلص والرب والديان، تماماً كما سعى كلا الابنين لأن يحلا محل سلطة الأب في حياتيهما.
كان من شأن سالييري الشاب أن يعترض بشدة لو قال له أحد إنه كان يفعل هذا. فبكونه عفيفاً ومحسناً، أما كان عاملاً بمشيئة الله بدلاً من مشيئته الخاصة، ألم يكن مُكرماً الله وخاضعاً له؟ ولكن بسعيه إلى وضع الله في حال مديونية له، وإلى حيازة السيطرة على الله بواسطة أعماله الصالحة – بدلاً من الاتكال على نعمته الخالصة – كان يتصرف بصفته مخلص نفسه. ولما صار حاقداً على موزارت بمرارة قتالة، متيقناً بأن الله لم يكن منصفاً، كان واضعاً نفسه في مقام الله الديان.
فثمة طريقتان لجعل ذاتك المخلص والرب لنفسك: إحداهما بأن تنتهك جميع القوانين الخلقية وتسلك سبيلك الذاتي، والأخرى بأن تطيع جميع القوانين الخلقية وتكون صالحاً جداً جداً.
الاثنان مخطئان، الاثنان محبوبان
لم يقسم السيد المسيح العالم قومين: “القوم الصالحين” الأخلاقيين و”القوم الطالحين” اللاأخلاقيين. إنه يبين لنا أن كل واحد متهم بمشروع خلاص ذاتي، يسعى إلى استخدام الله والآخرين في سبيل حيازة السلطة والسيطرة بنفسه. ولكننا ماضون في تحقيق ذلك بطرق مختلفة. ولئن كان كلا الابنين على خطأ، فإن الأب يُعنى بهما ويدعوهما كليهما للرجوع إلى داخل محبته ووليمته.
هذا يعني أن رسالة السيد المسيح، أي بشارة “الإنجيل”، هي مفهوم روحي مختلف كلياً. فإن إنجيل السيد المسيح ليس ديناً او لا ديناً، وليس هو أخلاقية أو لا أخلاقية، ولا خلقية أو نسبية، ولا محافظة أو تحررية. وليس هو شيئاً في منتصف الطريق على خط بياني ما بين قطبين. إنه شيء مختلف آخر مختلف تماماً.
إن الإنجيل مختلف عن الطريقتين الأخريين: ففي نظرهن كل واحد مخطئ، ولك واحد محبوب، وكل واحد مدعو لأن يُدرك هذا ويتغير. وبالمباينة، يقسم الأخوة الكبار العالم قسمين: “الصالحون (أمثالنا) هم في الداخل، والطالحون – مشكلة العالم الحقيقية – هم في الخارج”. أما الاخوة الصغار، حتى لو كانوا لا يؤمنون بالله أبداً، فيفعلون مثل ذلك، قائلين: “لا، بل منفتحو الذهن والمتسامحون هم في الداخل، والمتعصبون ضيقو أفق التفكير – مشكلة العالم الحقيقة – هم في الخارج”.
غير أن السيد المسيح يقول: “إن المتواضعين هم في الداخل والمتكبرين هم في الخارج” (راجع لوقا 18: 14)[4]. فالأشخاص الذين يعترفون بأنهم ليسوا صالحين على نحو خاص، ولا منفتحي العقل، يتقدمون نحو الله، لأن الشرط الأساسي لقبول نعمة الله هو أن تعرف أنك تحتاج إليها. والأشخاص الذين يعتقدون أن لا بأس بهم، ويقولون مُستعفين “شكراً” يتباعدون عن الله، إن “الرب…. يرى المتواضع؛ أما المتكبر فيعرفه من بعيد”(المزمور 138: 6).
لما طرحت إحدى الصحف السؤال: “ما الخطأ في العالم؟” كتب المفكر الكاثوليكي جي. كاي تشسترتون باحترام رسالة وجيزة يجيب فيها عن السؤال قائلاً: “أيها السادة الأعزاء: إنه أنا المخلص جي. كاي. تشسترتون”. فذلك هو موقف شخص أدرك رسالة السيد المسيح حقاً.
ومع أن الابنين كليهما مخطئان وكليهما محبوبان، فإن القصة لا تنتهي بالطريقة عينها بالنسبة إلى كليهما. فلماذا أنشأ السيد المسيح القصة بحيث يخلص أحدهما ويرد إلى علاقة سليمة بالأب، في حين يحرم الآخر ذلك (على الأقل، ليس قبل نهاية القصة)؟ ربما كان الواقع أن السيد المسيح يود أن يقول إنه بينما كلا الشكلين في مشروع خلاص النفس مخطئان على السواء، ليس كلاهما خطرين على السواء. والآن نتكشف إحدى المفارقات الساخرة في المثل. فإن هروب الابن الأصغر من عند الأب كان واضحاً على نحو سافر. إذ ترك الأب حرفياً وجسمياً ومعنوياً. ومع أن الابن الأكبر بقي في البيت، فقط كان أعمى حيال حالته الحقيقية. وكان من شأنه أن يستاء على نحو مروع من فكرة كونه متمرداً على سلطة الأب ومحبته، غير أنه كان كذلك إلى أقصى حد.
ولأن الأخ الأكبر أكثر عمى حيال ما هو جار، فإن كون المرء فريسياً على غرار الأخ الأكبر هو حالة روحية أكثر بؤساً ويأساً. والتعبير “كيف تجرؤ على قول هذا؟ ” يمثل رد المدينين إذا أشرت إلى أن علاقتهم بالله ليست صحيحة. “أنا أكون حاضراً كلما فتحت أبواب الكنيسة”. إنما يقول السيد المسيح في الوقع: “ذلك غير مهم!”.
ولم يسبق قط أن علم أحد أي شيء مثل هذا.
* الآميشيون (Amish) هم طائفة بروتستانتية ظهرت في القرن السابع عشر، يتصف أتباعها باتباع أسلوب حياة بسيط، وارتداء ملابس بسيطة، كما يميل الآميشيون إلى عدم تقبل وسائل التكنولوجيا الحديثة (الناشر)
[1] The Screenplay for Witness, Bu Earl W. Wallace and William Kelley, can be found at www. Harrisonford- web.con/Multimedia/Witness.pdf (accessed on December 31, 2007)
[2] Flannery O’Connor, Wise Blood: A Novel (Farrar, Straus, and Giroux, 1990), 22.
[3] The Script for Peter Shaffer’s play Amadeus can be found at html (accessed on December 30,2007)
[4] في لوقا 18 يحكي السيد المسيح مثل عشار (جابي ضرائب متعاون مع قوات الاحتلال الرومانية) وفريسي. فالفريسي أخلاقي ومستقيم جداً لكن مكتف بذاته؛ أما العشار ففاشل أخلاقياً، لكن تائب. وقد خلص السيد المسيح إلى القول: “أقول لكم أن هذا [العشار] نزل إلى بيته مبرراً [أمام الله] دون ذاك: لأن كل مر يرفع نفسه يتضع من يضع نفسه يرتفع” (لوقا 18: 14). قارن أيضاً كلمات السيد المسيح إلى الفريسيين في لوقا 5: 32 إذ صرح قائلاً: “لم آت لأدعو أبراراً [في نظر أنفسهم]، بل خطاة، إلى التوبة”.
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر
إعادة تعريف الخطية – تيموثي كلر