النعمة الإلهية في رسائل القديس أثناسيوس إلى الأسقف سرابيون
النعمة الإلهية في الرسالة الأولى د. وهيب قزمان بولس
هناك ست عشرة إشارة صريحة للفظة نعمة في الرسالة الأولى إلى سرابيون[1]، هذا بخلاف الاشارتين اللتين تستخدمان هذه اللفظة بمعنى “لأجل”[2]، أما عن بقية الاشارات الخاصة بالنعمة، فهى ذات مضمون لاهوتى واضح، ونجدها تتخلل الرسالة إلى سرابيون[3] والتي يحاجج القديس أثناسيوس فيها ضد هرطقة التروبيكيين (المحرفون) الجديدة. أولئك “التروبيكييون يقاومون الروح القدس، زاعمين أنه ليس مجرد مخلوق، بل هو واحد من الأرواح الخادمة، ويختلف عن الملائكة في الرتبة فقط[4].
وستقوم دراستنا لهذه الكلمات الخاصة “بالنعمة” على أساس تحليل نصوص الرسالة، طالما أن إشارات القديس أثناسيوس إلى رأى التروبيكيين حول كلمة “نعمة” هى إشارات غير مباشرة، خاصة وأنه يركز على إيضاح التعليم الأرثوذكسى الخاص بالروح القدس. فالتربيكييون لا يناقشون مفهوم النعمة الإلهية بشكل مباشر، بل يتناولونه ضمن مناقشتهم لألوهية الروح القدس، ومع ذلك فإن القديس أثناسيوس، والذي أوضح باستفاضة تعليم الكنيسة بخصوص الروح القدس في تفنيده للهرطقة الجديدة، لم يفصل الروح القدس عن عطية النعمة الإلهية.
1 ـ النعمة الإلهية وتفسير عاموس (13:4 س)
“أنا هو منشئ الرعد وخالق الريح (الروح) ومعلن للإنسان مسيحه “.
في الفصل الرابع[5] من الجزء الأول من رسالة القديس أثناسيوس إلى الأسقف سرابيون (فصول 3 إلى10) يرفض القديس أثناسيوس تفسير التروبيكيين لعاموس 13:4، حيث نجد أول إشارة صريحة إلى النعمة الإلهية ، وهى مشتقة من أمثلة العهد الجديد التي يسوقها قديسنا ليوضح التنوع الكبير في معانى كلمة ” روح ” المستخدمة في الكتاب المقدس، وتفسيرها الأرثوذكسي السليم.
ويميز القديس أثناسيوس بين كلمة “روح” المسبوقة بأداة التعريف (الـ ) أى الروح، وكلمة “روح”المستخدمة مع الإضافات الأخرى والتي تعنى الروح القدس وتميزه، وبين كلمة روح مجردة وبدون هذه الإضافات مؤكداً أن كلمة “روح” هذه مجردة لايمكن أن تشير إلى الروح القدس[6]. ويذكر القديس أثناسيوس على سبيل المثال الإضافات المختلفة للكلمة “روح”، مثل: “روح الله”،”روح الآب”،”روح المسيح”،”روح الابن”. ويورد القديس أثناسيوس كل هذه النصوص الكتابية ليثبت أن الروح القدس ليس مخلوقاً، بل هو الله الخالق.
عمل الروح القدس فينا
وبدراستنا المتعمقة لهذه الرسالة، يظهر أن اللاهوتى الأسكندرى حينما أراد إثبات لاهوت الروح القدس فإنه تعمق في لاهوت العهد الجديد المؤسس على عمل الروح القدس، ولم يقف عند مجرد البرهان اللفظى السابق أن الروح القدس هو الذي كان يعنيه الكتاب المقدس عند ذكر كلمة روح معرفة أو مع الإضافات الأخرى، بل أنه يوضح وبشكل قاطع وغير مسبوق، أن عمل الروح القدس في خلق الإنسان وخلاصه وتقديسه، هو الذي يؤكد على ألوهية الروح القدس، وعلى حقيقة أن الروح هو معطى النعمة الإلهية وواهبها، وأن هذه النعمة الإلهية لا يمكن إدراكها بمعزل عن الروح القدس. وهو ما يكشف عن أن الروح القدس (المعزى) واحد فى الجوهر مع الله.
لا تطفئوا نعمة الروح القدس
يردد القديس أثناسيوس نصيحة بولس الرسول إلى أهل تسالونيكى الذين نالوا المعمودية والذين كانوا قد قبلوا الروح القدس فعلاً، ويحث المؤمنين ألا يبطلوا عمل الروح القدس فيهم بإطفائه، ويلقى البابا أثناسيوس بعض الضوء على هذه النصيحة، شارحاً كلمات بولس الرسول السابق الإشارة إليها: [فأى روح أخذه هؤلاء المعمدون، غير الروح القدس الذي يعطى للذين يؤمنون ويولدون ثانية بغسل (حميم) الميلاد الثانى؟! ويكتب القديس بولس للتسالونيكيين قائلاً:”لا تطفئوا الروح” (1 تس 19:5) وهو يقول هذا، لهؤلاء الذين قد عرفوا ذلك الروح الذي أخذوه، حتى لا يطفئوا بإهمالهم “نعمة الروح القدس” المشتعل فيهم][7].
ويبدو أن اشتعال المؤمنين بالروح القدس، الذي ذكره القديس بولس فى (1تس 19:5)، هو ما يفسره القديس أثناسيوس بسكنى نعمة الروح القدس فيهم، وبعبارة أخرى يفهم سكنى الروح في المؤمنين بأنها عمل نعمة الروح القدس فيهم، رغم أن القديس بولس لم يذكر كلمة نعمة في نص الآية(1تس 12:5) ونعمة الروح القدس هذه قد اشتعلت مثل نار داخل المعمدين الذين قبلوا الروح القدس بإرادتهم “بواسطة غسل (حميم)الميلاد الثانى”[8].
لكن قد تتزوى نعمة الروح القدس أو تنطفئ، حين يتبدل موقف المسيحيين نحو النعمة الإلهية تبدلاً سلبياً نتيجة أعمالهم الشريرة، الأمر الذي يوضح مدى مسئولية المعمدين في جعل عمل الروح القدس مستمراً فيهم، مستنيرين بنعمته، وذلك بالامتناع عن أى شكل من أشكال الشر[9].وبعبارة أخرى، فإن نعمة الروح القدس هذه يمكن حفظها متوقدة في المسيحيين طالما اهتموا بإعطاء الروح فرصة للعمل فيهم، دون أن يعوقوه بأعمالهم الخاطئة.
ونلاحظ أنه رغم أن الله يمنح روحه القدوس مجاناً في المعمودية، فإن هؤلاء المعمدين قد يتسببون في إطفاء نعمة الروح بسوء مسلكهم بعد المعمودية. إن النصوص عن الروح القدس في العهد القديم، والتي يذكرها القديس أثناسيوس في (سرابيون 5:1) تدور كلها حول هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس، ثم تمردوا عليه إلى حد معاداة الرب[10]. وقد ساعدت هذه النصوص في تمهيد السبيل أمام القديس أثناسيوس للتعامل مع معمودية الرب، وحلول الروح القدس عليه، في بداية (سرابيون6:1).
فإن كان الروح القدس مرتبطاً أساساً بالنعمة التي تعطى للمسيحيين عند معموديتهم، كما رأينا في (1تس19:5)، فإن علاقة الروح القدس بالمسيح أو حلوله على المسيح وسكناه فيه، تكون ذات أهمية قصوى بالنسبة لتعليم النعمة. لذا نقدم دراستنا لنصوص القديس أثناسيوس الوطيدة الصلة بالموضوع.
الروح القدس والمسيح والمسيحيون
فى (سرابيون 6:1) يجمع القديس أثناسيوس الآيات عن الروح القدس من العهد الجديد[11]، والتي تكشف عن العلاقة بين الروح القدس والمسيح، ومن خلالها تتضح العلاقة بين الروح القدس والمسيحيين، الأمر الذي يتحقق في المعمودية، ويمتد فيما بعد عبر حياتهم كلها:
[عندما أعتمد الرب كانسان، بسبب الجسد الذي لبسه قيل إن الروح القدس نزل عليه (يو32:1)، وعندما أعطى الرب الروح القدس للتلاميذ قال لهم “اقبلوا الروح القدس” (يو22:20)، وعلمهم قائلا “وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمى، فهو يعلمكم كل شئ” (يو26:14)، وبعد قليل قال لهم “ومتى جاء المعزى الذي أرسله أنا إليكم من الآب، وروح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى” (يو 26:15).
كما قال لهم “لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (مت 20:10). وبعد قليل قال أيضاً “لكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله” (لو 20:11). ولكى يكمل الروح القدس كل معرفتنا عن الله(أى كل التعليم عن الله) ويتمم كمالنا، الذي به وحدنا مع شخصه ومن خلاله مع الآب أوصى الرب تلاميذه “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 19:28)، وإذ وعدهم بأنه سوف يرسله إليهم “أوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم” (أع 4:1).
وبعد أيام قليلة “لما حضر يوم الخمسين، كان الجميع معاً بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصف، ملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى. كما أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا (أع 1:2 ـ 4)، ومن ذلك الوقت فصاعداً، كان الروح القدس يعطى للذين ولدوا ثانية بوضع أيدى الرسل][12].
لقد كان القديس أثناسيوس واضحاً وصريحاً في قوله: إن الروح القدس نزل أولاً على الرب في المعمودية بسبب الجسد الذي كان يلبسه. أى أن الروح القدس لم يحل على الرب باعتباره إبن الله الأقنوم الثانى، كما زعم الآريوسيون. بل إنه حل على الرب كالابن المتجسد، أى ابن الإنسان ويتضح الأمر أكثر، حينما نرى أن الرب يعطى الروح القدس لتلاميذه على الفور.
الروح القدس عطية شركتنا في الله
ويعطى الروح القدس للتلاميذ وللكنيسة كأعظم نعمة تهبهم عطية الشركة في الله، وهو ما يتضح من النقاط التالية:
أولاً: إن الروح القدس (المعزى) الباراقيط، روح الحق، يعطى مجاناً. كنعمة من الله منبثقاً من الآب ومرسلاً بالابن.
ثانياً: يقبل المؤمنون الروح القدس مجاناً كنعمة شركة في الله، لأن الرب طلب من تلاميذه أن يقبلوا الروح القدس. ثم أوصاهم أن ينتظروا في أورشليم حتى مجئ الباراقليط وقد قبله التلاميذ فعلاً وامتلأوا به، وبالإضافة إلى ذلك، وعدهم الرب أنه حين يأتى الباراقليط سوف يتكلم فيهم ويحامى عنهم وعن جميع المسيحيين، كما يدل عليه اسمه باللغة اليونانية كمحام وشفيع.
ثالثا: يعد الروح القدس المعطى للمسيحيين أعظم نعمة يمكن أن ينالوها كشركة في الله، بسبب الدور الذي يؤديه فيهم. وواضح من النص، أنه بواسطة الروح القدس يكتمل عماد المسيحيين وإتحادهم بالآب[13]. الأمر الذي أكده القديس أثناسيوس، إنه بمثابة غرسهم في الحياة الإلهية. التي توهب كنعمة في المعمودية[14]. وأكثر من ذلك، فعلى أساس هذه المعمودية والتكميل تنمو الكنيسة وتنتشر عبر العالم؛ لأن الرب أوصى تلاميذه أن يذهبوا إلى جميع الأمم، يتلمذون ويعمدون باسم الثالوث الأقدس بعد مجئ الروح المعزى (الباراقليط) يوم الخمسين.
رابعاً: بعد أن امتلأ جميع الرسل بالروح القدس، حينئذ فقط استطاعوا أن يرحلوا من أورشليم كارزين بالإنجيل لجميع الأمم. وقد أعطى الروح القدس كنعمة لأولئك الذين ولدوا ثانية بوضع أيدى الرسل[15].
نعمة الخلاص العجيب
وفى (سرابيون 6:1) يذكرنا القديس أثناسيوس بما قاله بطرس الرسول عن خلاص المسيحيين كنعمة موهوبة لهم من الله: كتب بطرس ” نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس، الخلاص الذي فتش وبحث عنه الأنبياء الذين تنبأوا عن النعمة الإلهية التي لأجلكم باحــثين أى وقت أو ما الوقت الذي يدل عليه روح المســـيح الذي فيهم، إذ سبق فشـــهد بالآلام التي للمســيح والأمجاد التي بعدها (1بط 9:1 ـ 11)[16].
ويشير الرسول بطرس إلى أن المسيحيين بفضل إيمانهم، يمكنهم أن يقتنوا فرح الخلاص الذي لا ينطق به ومجيد حقاً، والذى هو مجازاة الايمان وغايته. هذا الخلاص الذي بحث عنه الأنبياء في العهد القديم بحثاً دؤوباً باجتهاد واشتياق. لهذا فإنهم بإلهام الروح القدس، قد كشفوا عن مجئ نعمة الخلاص وزمن كماله. وهى النعمة الإلهية التي تعطى لنا مجاناً بالمسيح، والتي كانت ثمرة حياته وآلامه التي قادت إلى المجد.
ونعمة الخلاص هذه التي تحتضن عمل المسيح كله، بل أنها هى المسيح ذاته الذي بذل نفسه عنا، ليخلصنا من الحكم الذي كان علينا وليهبنا معه كل شئ أيضاً. ويعكس الأنبياء الملهمون بروح المسيح، عظمة وأهمية هذه النعمة الإلهية التي كان أباؤنا في القديم يتوقعون إتمامها لخلاص المؤمنين باشتياق عجيب.
الكشف والبصيرة
ثم يستمر القديس أثناسيوس ليكشف عن ميزة نوال روح الله فينا كمسيحيين، ويوضح أن دور الروح القدس هو أن يعطينا البصيرة لنرى النعمة الإلهية المعطاة لنا من الله. ويذكرنا بقول القديس بولس (1كو 9:2 ـ 12): “كما هو مكتوب ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله. لأن مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله، لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله” (1كو 9:2 ـ 12)[17].
ويشرح القديس أثناسيوس هنا أن المؤمنين يقبلون روح الله، لا روح العالم، حينما يرتبطون بالكنيسة، ويستمرون أعضاءً فيها. لأن الله قد أعطانا روحه الشخصى “ليكشف لنا” عن الأمور الفائقة والعطايا الموهوبة لنا فيه، وهذا في حد ذاته نعمة. وهو ما يمكننا أن نعى كل هذه العطايا العادية والفائقة، ومن ثم نستطيع أن نقدر عطايا الله وننتفع بها لنحقق الغاية التي يقصدها. وبعبارة أخرى، فقد وهبنا الله روحه، لتكون لنا بصيرة روحية لنميز الأمور المتخالفة، ونستخدم مواهبه وفق مشيئته، فلا نأخذ هذه المواهب عبثاً، بل ندرك بحق أبعاد هذه النعمة الإلهية التي نحن فيها مقيمون(رو 2:5).
كما أن القديس أثناسيوس يبرز عمل الروح القدس في الإعلان الإلهى، الذي هو عمل ثالوثى لجوهر الله الواحد. حيث يعلن لنا الروح القدس يسوع المسيح الكلمة حسب التعليم الأرثوذكسى الثابت، وكما يؤكد التقليد الكتابى والآبائى. موضحاً دور الروح القدس في إلهامه لجميع كتبة الأسفار المقدسين، وخاصة الأنبياء، الذين كان يعلن لهم عن كلمة الله؛ لكى يهيئ البشرية لقبول الإعلان الفائق الطبيعة لشخص الرب يسوع.
ذلك الإعلان المستمر في الكنيسة حتى بعد الصعود؛ حسب وعد الرب للرسل أن الروح القدس يعلمهم كل شئ ويذكرهم بكل ما قاله الرب لهم (يوحنا 26:14)، كما يعلمهم الروح أيضاً ما لم يقله الرب يسوع من أقوال، ما كانوا يحتملونها وقت حديثه معهم “إن لى أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” (يو12:16). وهكذا بواسطة قوة الإعلان والكشف بالروح القدس، يمكننا أن نعرف الله الكلمة،وبه نعرف الآب.
فالروح القدس هو الذي يجعل الإنسان قادراً على قبول الإعلان عن الثالوث القدوس، إذ يعمل كصورة المسيح والمسحة والختم الخاص بالمسيح، فيختم الشخص المعمد ويمسحه ويعلمه كل شئ عن المسيح [18].
المرتدون في اليهودية والمسيحية
ثم يختتم القديس أثناسيوس مناقشته عن النعمة الإلهية في (سرابيون 6:1) بعرضه لحالة المرتدين الذين تركوا الايمان. ويذكرنا بالرسالة إلى العبرانيين، متحدثاً عن روح النعمة الإلهية في مضمون تحذيره للمسيحيين من العقاب الشديد الذي يستحقه أولئك الذين تعدوا على ناموس موسى في العهد القديم. وهو يقارن المسيحيين المرتدين بنظرائهم من اليهود الذين ارتدوا في زمن موسى، والذين عانوا من عقاب صارم.
ويحذر كاتب الرسالة إلى العبرانيين هؤلاء المسيحيين الذين يزدرون بإبن الله من عقاب أشد: “فكم عقاباً أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنساً، وازدرى بروح النعمة؟” (عب 29:10)[19] .
توصف حالة الشخص المرتد هنا بثلاثة أمور محددة: كفعل دوس على إبن الله، وكتدنيس لدم العهد الجديد، وكإهانة شخصية إرادية ضد روح النعمة الإلهية. ويوصف الروح القدس هنا بروح النعمة الإلهية؛ لأن الروح القدس هو الذي يكشف لنا عن النعمة الإلهية ويوصلها الينا. ويختص الروح بهذا الوصف حتى يمكن تمييزه بهذه الوظائف. هكذا فإن من يرفض ابن الله بأعماله وآرائه المضادة للإيمان، يعد كمن يهين روح الابن، الذي هو الموصل النهائى والأخير للنعمة.
بعبارة أخرى، فإن هذا الشخص قد سقط عن النعمة الإلهية بإرادته، ومن ثم يستحق عقاباً أشد من ذلك العقاب الذي كان يستحقه من رفض ناموس موسى، إذ يكشف مسلكه أنه قد تخلى عن إيمانه تماماً، رغم كل ما أخذه من “نعمة فوق نعمة” (يو16:1).
النعمة وتجديد الخليقة
وحسب (سرابيون 9:1)، فإن القديس أثناسيوس يوضح عمل النعمة الإلهية ليشمل تجديد الخليقة بأسرها وليس البشرية فقط، وهو يذكرنا بنبوة حزقيال (26:36، 27) التي تكشف عن تأثير الروح القدس فى أرواحنا:
[لأن هذا ما وعد الله به على لسان حزقيال قائلاً: “وأعطيكم قلباً جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم. وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم، وأجعل روحى في داخلكم” (حز 26:36،27). فمتى كمل هذا إلا عندما جاء الرب وجدد كل شئ بنعمته؟ كما يقول المرنم في المزمور الثالث بعد المئة “ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض”. (مز 103 س:30)][20].
ومن هذا النص تتضح عدة نقاط:
أولا: أن النعمة الإلهية هى الأداة التي يجدد الرب المتجسد كل شئ، أى الخليقة كلها. وذلك لا يعنى أن المسيح يحقق ويتمم غنى “النعمة” المتنبأ بها فقط، بل إن النعمة الإلهية أيضاً لا يمكن فهمها بمعزل عن المسيح؛ لأنه هو الأقنوم الثانى الذي به كان كل شئ في الخلق، وهو الذي جاء ليجدد الخليقة في ملء الزمان.
ثانياً: إن تجديد كل الأشياء بالنعمة يشمل تجديد البشر كتحقيق لنبوة حزقيال، كما يعنى أن البشرية وكل الخليقة أيضاً يمكنها أن تقبل النعمة.
ثالثاً: يتضح أن الروح القدس يعطى لنا كنعمة، حيث تتجدد به أرواحنا المخلوقة. ويتفق ذلك تمام الاتفاق مع ما يقوله القديس أثناسيوس فى ذات الفصل عن الروح القدس إننا “نتجدد بروح الله”،وإن روحنا تتجدد في الروح القدس، إستنادا إلى نص المزمور 103 “ترسل روحك ‘فتخلَق وتجدد الأرض”.
ويوضح القديس أثناسيوس أكثر عمل الثالوث الأقدس فى نعمة التجديد هذه، بعبارته المشهورة، والتي صارت تقليداً ثابتاً عند باقى الآباء والتي تقول:”إن الآب يكمل ويجدد كل شئ بالكلمة في الروح القدس”[21].
نعمة الملكوت الذي لا يتزعزع
وفى (سرابيون 10:1)، يقتبس القديس أثناسيوس نص (العبرانيين 26:12 ـ 28) ليشرح أنه بتأسيس الملكوت الذي لا يتزعزع، ننال النعمة الإلهية التي بها نقدم خدمة مرضية لله:
[وأما في العهد القديم، فإن الناموس كان له “ظل الخيرات العتيدة” (عب 1:10). ولكن عندما جاء المسيح وأعلن للبشر قائلا: “أنا الذي أكلمك هو” (يو 26:4)، عند ذلك كما قال بولس: “صوته زعزع الأرض حينئذ، وأما الآن فقد وعد قائلاً إنى مرة أيضاً أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضا. فقوله “مرة” يدل على تغيير الأشياء المتزعزعة كمصنوعة، لكى تبقى تلك التي لاتتزعزع. لذلك ونحن قابلون ملكوتا لا يتزعزع، لنشكر الله مقدمين له خدمة مرضية بخشوع وتقوى” (عب 26:12 ـ 28).
وهذا الذي يقول عنه ملكوتا لا يتزعزع يراه داود ثابتا؛ ويرنم “الرب قد ملك، لبس الجلال. لبس الرب القدرة وتمنطق بها، أيضا ثبت المسكونة، لا تتزعزع” (مز1:29ـ2). وعلى ذلك فالنص الذي أورده النبى، يشير الى مجئ المخلص، الذي به نتجدد، وكذلك يظل ناموس الروح ثابتا][22].
وواضح من النص السابق أننا نلنا الملكوت الذي لا يتزعزع كنعمة تجديد، إذ جاء المخلص ليجددنا وليجدد كل شئ، وليحفظ ناموس الروح. ويظهر القديس أثناسيوس أن الرعد في نبوة عاموس يشير إلى ناموس الروح الذي لا يتزعزع، والذى وهب لنا بمجئ المخلص، لأن عبارة “صوته زعزع الأرض” توحى بزوال كل الأمور الأرضية التي زعزعها تعليم المخلص. وبتجديد النعمة الإلهية، وبها وحدها، يمكننا أن نقدم خدمة مرضية لله، أى نقدم شكرنا لله، على هذا التجديد الذي نلناه بالنعمة.
في نفس الوقت، يبدو أن ناموس الروح هو الإنجيل الذي لم يكن الناموس في العهد القديم إلا ظلاً له. كما أن تكميل الشعب، الأمر الذي لم تستطع ذبائح الناموس المتكررة أن تحققه، إنما تحقق بنعمة التجديد أيضا. بالإضافة إلى أن ثبات ناموس الروح يعنى عدم العودة إلى حالة ما قبل الخلاص والتجديد.
2 ـ النعمة الإلهية وتفسير (1تى 21:5)
” أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض، ولا تعمل شيئاً بمحاباة”.
في الفصول 11 ـ 14 من الرسالة، يفند القديس أثناسيوس تفسير المحرفين لنص (1تى 21:5)، ويحاجج المحرفون منطلقين من صمت بولس الرسول لعدم ذكره الروح القدس في الآية السابقة، معتبرين الروح القدس في عداد المخلوقات كواحد من الملائكة المذكورين في هذه الآية.
وفى (سرابيون 12:1،14) نصادف كلمة”نعمة”مرتين في تفسير القديس أثناسيوس لنص (خروج 17:33،18) وهو يذكرنا بالإيمان الرسولى والاعتقاد المسيحي، مفنداً تفسير المحرفين للآية موضوع المناقشة (1تى 21:5).
الروح القدس أحد أقانيم الثالوث
في (سرابيون11:1)، يثبت القديس أثناسيوس من بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم أن الروح القدس واحد من أقانيم الثالوث الأقدس، وبهذا فهو يختلف عن الملائكة، لأنه يقول “إن الروح القدس هو روح القدير… الذي لا يمكن فصله عن ألوهية الكلمة وقدرته ” ثم يتناول القديس أثناسيوس معمودية الرب يسوع، وحلول الروح القدس عليه في شكل حمامة، ليستمر في تفنيده لتفسير المحرفين، ويدلل على أن الروح القدس ليس ملاكاً لأنه كان يظهر بوضوح في شكل حمامة.
ويقتبس القديس أثناسيوس نص (متى 19:28) ليثبت أن المسيح يرسل آباءنا الرسل ليعمدوا باسم الثالوث معطين نعمة المعمودية. لهذا فإن الروح القدس كائن في الله؛ وأنه ليس ملاكاً كما كان يزعم المحرفون، لأن أى مخلوق لا يقدر أن يوحدنا بالابن والآب لا يقدر أن يشترك معهم في إعطائنا نعمة المعمودية. وفى هذا المعنى يقول القديس أثناسيوس:
[كما أن الإيمان بالثالوث المسلم إلينا يجعلنا متحدين بالله، وكما أن من يستبعد أى واحد من الثالوث، ويعتمد باسم الآب وحده أو باسم الابن وحده، أو باسم الآب والابن بدون الروح القدس لا ينال شيئاً، بل يظل طقس المعمودية الذي به يتم الانضمام إلـــى الكنيسة غير فعال وغير مكتمل،… هكذا كل من يفصل الابن عن الآب أو ينزل الروح إلى مستوى المخلوقات، فليس له الآب ولا الابن بل هو بدون إله، وهو أشر من غير المؤمن، ويمكن أن يكون آى شئ، إلا أن يكون مسيحياً ].
الله يقود شعبه بنفسه / بروحه [23]
وفي (سرابيون12:1) يشرح القديس أثناسيوس أن الله استجاب لطلبة موسى ليقود شعبه إلى أرض الموعد، لأن موسى وجد نعمة في عينى الله:
[فإنه عندما قال الله لموسى “اذهب واصعد من هنا أنت وشعبك الذي أصعدته من أرض مصر، إلى الأرض التي حلفت لإبراهيم واسحق ويعقوب قائلا: لنسلكم سوف أعطيها، وأنا أرسل أمام وجهك ملاكى وأطرد الكنعانيين” (خر 1:33،2) استعفى موسى قائلا: “إن لم تسر أمامنا أنت بنفسك فلا تصعدنى من ههنا” (خر 15:33)، لأنه لم يشأ أن يتقدم الشعب مخلوق، لئلا يتعلم الشعب أن يعبد المخلوق، بدلاً من الله خالق كل شئ. وما دام موسى قد رفض قبول الملاك، فقد كان يرجو بكل إلحاح أن يقود الله الشعب بنفسه.
وقد وعده الله قائلاً:”هذا الأمر أيضاً الذي تكلمت عنه أنا أفعله. لأنك وجدت نعمة في عينى وعرفتك أكثر من الجميع (باسمك)” (خر 17:33 س).
لذا نزل الروح من عند الرب وقادهم (إش 14:63)، هكذا قدت شعبك لتصنع لنفسك إسم مجد (لا 45:11). فمن ذا الذي لا يدرك الحقيقة من خلال هذه الأمور؟ فعندما وعد الله موسى بأنه سيقود شعبه، فإنه لم يعد بأن يرسل ملاكاً، بل روحه الذي هو فوق الملائكة، وهو نفسه الذي كان يقود الشعب. وهكذا يتضح أن الروح ليس واحداً من بين المخلوقات، كما أنه ليس ملاكا أيضاً بل هو أسمى من الخليقة، وهو واحد مع الله الآب لأن الله نفسه، بالكلمة في الروح كان يقود الشعب ][24].
دالة موسى أمام نعمة الله
كان استحسان الله لموسى وتعطفه عليه، سبباً في قبول الله لطلبة موسى، وكانت معرفة الله لموسى هى أساس هذه النعمة الإلهية. وفى نفس الوقت فإن ثقة موسى في الله جعلته يصر على قيادة الله نفسه لهم.
بعبارة أخرى فإن دالة موسى وثقته فى الله كانتا الوسيلتين اللتين بهما وجد موسى نعمة وتعطفا من الله، وبرغم أن الله كان قد قبل طلبة موسى أن يقود الله الشعب بنفسه ووعد موسى بذلك، إلا أن الروح القدس هو الذي قادهم، ويفهم القديس أثناسيوس رأفة الله بأنها نعمة الثالوث ويقول إن الله نفسه، بالكلمة في الروح كان يقود الشعب، هكذا يختم كلامه بعبارة تؤكد أن الروح القدس هو الله.
وجدير بنا أن نلاحظ أن القديس أثناسيوس يضع هذا الأساس الكتابى للإيمان الصحيح بالروح القدس،كأحد أقانيم الثالوث، وهو يكرر تعبيره المفضل عن الثالوث القدوس، أعنى أن الله الآب يفعل كل شئ بالكلمة في الروح القدس.
نعمة الثالوث
وفى تفنيد قديسنا لتفسير المحرفين لنص تيموثيئوس الأولى 21:5، بخصوص غياب أية إشارة إلى الروح القدس فيها، يتحدث ضمناً عن الوجود المتبادل بين الأقانيم في الثالوث، ونعمة الثالوث المعطاة للبشرية فى (سرابيون 14:1):
[ولكن الإيمان الرسولى (بالروح القدس) ليس على هذا النحو (الذى يقوله المحرفون)..؛ لأن الثالوث القدوس المبارك هو غير منقسم وهو متحد ذاته. وعندما يسمى الآب فهو يتضمن أيضاً كلمته والروح الذي في الابن. وعندما يذكر الابن يكون الآب فى الابن، ولا يكون الروح خارجاً عن الكلمة، لأن النعمة الإلهية التي من الآب هى واحدة وهى تكمل بالابن في الروح القدس.
وهناك طبيعة إلهية واحدة، وإله واحد، الذي هو “على الكل وبالكل وفي الكل” (أف 6:4). وهكذا إذن عندما قال بولس “أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح” (1تى 21:5) كان يعرف أن الروح القدس، لا ينفصل عن الابن، وأنه هو نفسه في المسيح، كما أن الابن في الآب. ولكنه أضاف بالطبع معهما الملائكة المختارين؛لأنه كان يعرف أن كل ما كان يقوله، كان يقوله كأقوال صادرة عن الله الآب بالمسيح في الروح القدس، وأن الملائكة يخدوموننا وهم شهود على أعمالنا ] [25].
ويثير القديس أثناسيوس ملاحظة جديدة، ليهيئ القارئ ليعرف أن وحدانية الله الثالوث هى أساس النعمة الإلهية الواحدة، وهو يكشف هنا عن الإيمان الرسولى وتقليد الكنيسة الذي تسلمه من الذين قبله. وكان القديس أثناسيوس واثقاً أن المسيحى لا يستطيع أن يقبل أى شئ سوى الإيمان الرسولى. وهكذا فإنه يتميز بكشفه لعقيدة الله كثالوث فى واحد وواحد في ثالوث[26].
حيث يذكر في الرسالة الثالثة إلي سرابيون: [أن الابن كلي الحضور، لأنه هو في الآب والآب فيه، الأمر الذي يختلف تماماً عن حالة الخلائق، الذين هم موجودون فقط في أمكنة محددة منفصلة، لكن الروح القدس الذي يملأ كل شئ هو في الحقيقة لا يخضع لهذه الحدود، ولهذا فهو لابد أن يكون الله، وهو (أى الروح القدس) في الابن مثلما الابن هو في الآب][27]؛ أما في الرسالة الرابعة إلي سرابيون فيذكر الآتي:
[إن الروح القدس هو من جوهر الكلمة، ومن الله، ونقول إن فيه؛ ومع ذلك فهو لا يدعي الابن، ولكنه ليس خارج الابن؛ فإن كنا نحن نشترك في الروح القدس فنحن نقتنى الابن، وإن كنا نقتنى الابن فنحن نقتنى الروح القدس][28]، ويضيف في موضع آخر من نفس الرسالة قائلاً: [إنه مادام الإبن في الأب فإنه حاضر أيضاً في كل شئ يكون الآب حاضراً فيه، ولا يكون الروح غائباً (عنهما)؛ لأن الثالوث القدوس المبارك الكامل لا ينقسم][29].
علي ضوء هذا التعليم يمكننا أن ندرك لماذا لم يذكر القديس بولس الرسول “الروح القدس” في رسالته إلى تيموثيؤس صراحة لأنه كان يدرك أن الروح القدس لا ينفصل عن الإبن، وأنه هو ذاته في المسيح، كما أن الإبن في الآب.
ويوضح القديس أثناسيوس أن نعمة الثالوث الواحدة تعكس الإيمان الرسولى بعقيدة الله كثالوث فى واحد وواحد فى ثالوث. وبعبارة أخرى، فأن وحدانية الله وثالوثية الأقانيم يؤخذان كإشارة مباشرة للنعمة الواحدة لله الواحد، الصادرة عن أقانيم الثالوث الإلهى. ونعمة الثالوث الواحدة هذه، مثل كل أعمال الله، تعكس العمل الواحد[30] للثالوث الذي له ” بداية ” في الآب، “ووسط”في الابن “ونهاية” في الروح القدس، وهذه بالترتيب، يشار إليها بأحرف الجر “من” الآب، “وبواسطة” الابن، “وفي” الروح القدس.
لكن كيف يفهم القديس أثناسيوس معنى هذه الحروف؟! يبدو أن أفضل طريقة للإجابة على هذا السؤال هى تذكر تشبيهات أثناسيوس الرائعة فى هذا الصدد، التي هي “الينبوع” و”النهر”، و”الماء”؛ وأيضاً “الشمس” و”الشعاع ” و” الاستضاءة “، والتي سار على نهجها كل آباء الكنيسة بعده وحتى الآن[31].
ولكن لماذا أدرج القديس بولس الملائكة المختارين مع الله ويسوع المسيح في هذه الآية؟
يجيب القديس أثناسيوس على هذا السؤال بأن الملائكة قد أدرجوا بشكل مناسب مع الآب والابن لأنهم شهود علي هذه الأقوال. ثم يستكمل قائلاً: “وقد ناشد التلميذ لكي يحفظ وصايا المعلم باعتبار أن الملائكة الحارسين شهود علي أقواله. أو لعله هو هنا يستدعي الملائكة كشهود، لأن هؤلاء ينظرون علي الدوام وجه الآب الذي في السموات (مت 18: 4)، وذلك من أجل الصغار الذين في الكنيسة، حتى لا يهمل التلميذ وصايا الرسول”.[32]
3 ـ النعمة الإلهية وأقانيم الثالوث
في سرابيون 22:1 ـ 27، يلجأ القديس أثناسيوس الى الكتاب المقدس ليثبت الفروق الساسية بين علاقة الروح القدس بالابن، وعلاقته بالمخلوقات من حيث فعل التقديس. وهو يبرهن أنه ليس ثمه تشابه بين الروح القدس الخالق والمجدد للخليقة وبين مخلوقاته. ونجد الإشارة الصريحة الوحيدة لكلمة نعمة في هذا القسم في الفصل 22، حيث يتناول القديس أثناسيوس شرح النص الوارد برسالة بولس الرسول الى تيطس 4:3 ـ 7.
روح القداسة والتجديد
وفي سرابيون 22:1 يتناول القديس أثناسيوس نعمة الله التي تبرر المسيحيين، فى مضمون الفارق بين الروح القدس والمخلوقات. وهو يصف الروح القدس بروح القداسة والتجديد. وبالرغم من أن الروح القدس بوجه خاص هو أساس التقديس ومبدأه عند القديس أثناسيوس[33]، والإجماع العام للفكر المسيحى في القرن الرابع، فإنه يضيف هنا كلمة “التجديد” إلى القداسة أى التقديس، مما يكشف أن القديس أثناسيوس يربط بين التقديس والتجديد أى استعادة الطبيعة البشرية إلى عدم الفساد.
وفي الحقيقة فان كل التعبيرات المستخدمة هنا في هذه الفقرة بخصوص التبرير، أو إعادة الخلق وإعادة الميلاد، بالإضافة إلى التقديس والتجديد تعنى تأليه بشريتنا الذي كان النتيجة النهائية لتجسد الكلمة. ذلك التأليه الذي به تتقدس المخلوقات، وتتجدد وتتبرر وتعاد خلقتها من جديد بنعمة الله:
[“الروح هو روح القداسة والتجديد”. ويدعى هكذا،لأن بولس يكتب:”وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات، يسوع المسيح ربنا” (رو 4:1). ويقول أيضا “لكن تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو 11:6). وحينما يكتب الى تيطس يقول “لكن ظهر لطف (صلاح) مخلصنا الله ومحبته للبشر، لا بأعمال في بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بحميم الميلاد الثانى، وتجديد الروح القدس الذي سكبه علينا بغنى بيسوع المسيح مخلصنا.
حتى اذا تبررنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية ” (تيطس 4:3 ـ 7)، أما المخلوقات فانها تتقدس وتتجددبالروح القدس،” ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز 103:30)][34].
إعادة خلق الإنسان بالروح القدس
هنا يذكرنا القديس أثناسيوس ببولس الرسول وهو يتحدث عن صلاح أو لطف الله الآب. ولفظة “صلاح” أو “لطف” هذه تعبر عن رأفة الله المحتضنة للجميع وتظهر حبه للإنسان. وهذه المحبة والرأفة الإلهية ينالها المؤمنون بواسطة سر المعمودية. ويؤكد النص أن الله يعيد خلقتنا؛ أى نتبرر بنعمة الله الآب بحميم الميلاد الثانى، والتجديد بواسطة الروح القدس. ونستخلص من النص السابق مفهوم إعادة الخلق بالنعمة:
أولاً: تعنى كلمات بولس الرسول “حتى إذا تبررنا بنعمته” حرفياً أن الله يقصد أن يضعنا في علاقة صحيحة معه بواسطة النعمة الإلهية الممنوحة لنا[35].
ثانياً: يذكرنا القديس أثناسيوس بمزمور 30:103، تيطس4:3 ـ 7، الذين يعنيان إعادة خلق الإنسان بالروح القدس “ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض”.
ثالثاً: ونفهم أن إعادة خلق الإنسان، أي خلاصه بنعمة الله، موازية لخلقته الأولى من العدم، حينما جبله الله على صورته، كنعمة إضافية ممنوحة له تميزه عن باقى الخلائق.
وفي الفصل التالى يختتم القديس أثناسيوس أفكاره عن النعمة الإلهية في الرسالة الأولى إلى سرابيون بالحديث عن موضوع أقانيم الثالوث وإعطاء النعمة الإلهية، وخاصة دور الروح القدس في ذلك.
فهو يناقش أهمية دور الروح القدس كواحد من أقانيم الثالوث القدوس، مؤكداً على نقطة لاهوتية مؤداها أن كل شئ يكمل في الثالوث، إذ نصادف خمس إشارات صريحة عن النعمة الإلهية بخلاف المواهب، مرتبطة بالروح القدس والابن والثالوث:
وهذه هي وحدة الثالوث غير المنقسم، والإيمان به هو واحد…، والمغبوط بولس، إذ عرف وحدة الثالوث، فإنه لا يقسم الثالوث كما تفعلون (يقصد المحرفين)، لأنه إذ يعلم بوحدته، يكتب إلى الكورنثيين عن الأمور الروحية ناسبا كل الأشياء إلى أله واحد، الآب قائلا: “أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة لكن الرب واحد وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل ” (1كو12: 4ـ6). فالمواهب التي يقسمها الروح لكل واحد تمنح من الآب بالكلمة؛ لأن كل ما هو من الآب هو من الابن أيضاً. لأن كل الأشياء التي تعطى من الابن في الروح هى مواهب الآب.
وحينما يكون الروح فينا، فالكلمة الذي يعطى الروح يكون أيضاً فينا. والآب موجود في الكلمة، كما قال السيد المسيح “سنأتى أنا والآب وعنده نصنع منزلا” (يو23:14). لأنه حيث يكون النور فهناك الشعاع أيضاً، وحيث يكون الشعاع فهناك أيضاً فاعليته ونعمته المضيئة. وهذا هو ما علم به الرسول أيضاً حينما كتب إلى الكورنثيين في الرسالة الثانية قائلاً: نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو 14:13). لأن هذه النعمة الإلهية والهبة تعطى في الثالوث من الآب بالابن في الروح القدس.
وكما أن النعمة الإلهية المعطاة هى من الآب بالابن، هكذا فإنه لا يكون لنا شركة في العطية إلا في الروح القدس. لأننا حينما نشترك فيه، تكون لنا محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح نفسه. ويتضح مما سبق أن فعل الثالوث واحد. فالرسول لا يعنى أن ما يعطى، يعطى من كل واحد متنوعاً ومجزءًا، ولكن ما يعطى إنما يعطى في الثالوث، والكل من إله واحد][36].
النعمة المنيرة
وتختص النعمة الإلهية بالشعاع الصادر من الله، الذي هو الابن ربنا يسوع المسيح.وبسبب العلاقة بين الآب والابن، التي هى مثل العلاقة بين النور وشعاعه[37] توصف النعمة الإلهية بأنها مضيئة[38] أو منيرة ومع ذلك، فعلاقة النعمة الإلهية بإبن الله، ليست علاقة منعزلة عن الأقنومين الآخرين. ونرى ذلك بوضوح من حقيقة أنه حيث الابن، فهناك كل من النعمة الإلهية المضيئة التي هى الروح القدس، والآب الذي هو النور ذاته. ورغم أن ذلك لم يذكر صراحة هنا، إلا أنه متضمن بشكل قوى فـي أن “نعمته المضيئـة” للشعاع، الذي هـو الابـن مرتبطـة في الحقيقـة بالـروح القدس وأنها أصلاً مع الآب.
هكذا فإن نعمة الابن المتجسد تعطى أساساً بواسطة الثالوث القدوس، وهنا نجد نموذجين للنعمة هما:
(أ) نعمة تعطى من الآب بالابن، في الروح القدس[39].
(ب) نعمة الابن[40].
لكن ما هى العلاقة بين تعبيرى النعمة الإلهية التي تعطى “بالابن”، و “نعمة الإبن” في هذين النموذجين؟ النموذج الأول ثالوثى يعبر عن الثالوث وإعطائه النعمة الإلهية، أما النموذج الثانى فإنه خريستولوجى يعبر عن المسيح وإعطائه النعمة الإلهية. ويشير النموذج الأول إلى الابن كإله، وكالأقنوم الثانى من أقانيم الثالوث القدوس. بينما يشير الآخر إلى ابن الله الذي من أجلنا صار إنساناً في ملء الزمان، أى إلى الابن المتجسد.
ويلاحظ أن القديس أثناسيوس يعتبر أن النعمة الإلهية والهبة مترادفتان أحياناً؛ لأنه يفسر نعمة ربنا يسوع المسيح المذكورة هنا في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (2كو13:13) قائلاً: إن هذه النعمة الإلهية وهذه الهبة تعطى في الثالوث من الآب بالابن في الروح القدس (وهو يستخدم الفعل “تعطى” في حالة المفرد، كما لو كانت النعمة الإلهية والهبة شيئاً واحداً). كما أن الهبة في (1كو 14:12) تفهم أيضاً على أنها مساوية للنعمة عند القديس أثناسيوس؛ لأنه يفسر الهبات التي يوزعها الروح القدس كممنوحة من الآب بالابن، بنفس الطريقة التي يفهم بها النعمة الإلهية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الموضوع:
[1] راجع علي سبيل المثال الفقرات التالية في رسالة القديس أثناسيوس الأولي إلي سرابيون:
PG 26, 537B; 544C; 545A; 600C.
[2] الرسالة إلي سرابيون 1: 21،32 ( PG 26, 580C; 605B)
[3] C. R. Shapland, Concerning the Holy Spirit, New York 1951, pp. 50 – 52.
[4] “التروبيكيون” هم جماعة من المسيحيين المصريين كانوا قد انفصلوا عن الآريوسيين وتمسكوا بأن الروح القدس مخلوق من العدم وأنه من جوهر آخر مختلف عن جوهر الآب والإبن. ودأبوا يفسرون نصوص الكتاب المقدس كما يحلو لهم مبتعدين تماماً عن النص والمفهوم الكتابي كوحدة واحدة لا تتجزأ ولذلك لقبوا “بالمحرفين”. وقد تصدي لهم القديس أثناسيوس في رسائله الأربعة التي أرسلها إلي سرابيون أسقف تمويس عام 358/ 359 حيث وصفهم بأنهم اتفقوا مع الآريوسيين في التجديف علي الله المثلث الأقانيم، فبينما ادعي الآريوسيون أن الابن مخلوق، فقد ادعي هؤلاء “التروبيكيون” بأن الروح القدس مخلوق، كما أنكروا وحدانية الجوهر بين الروح القدس والآب.
راجع: الرسالة إلي سرابيون 1:1 (PG26, 5321A )؛ (أنظر ملاحظة 3) C. Shapland, pp. 18 – 20
- Campbell, The Doctrine of the Holy Spirit, in the Theology of Athanasius, in: S.J.T. 27 (1974) , pp. 408 – 440.
[5] يشار إلى الاقتباس من الرسالة الأولي الي سرابيون الفصل الرابع مثلاً بعبارة ( سرابيون 1: 4 ) حيث يشير الرقم الأول الي الرسالة والرقم الثاني الي الفصل.
[6] يبدو أن قاعدة القديس أثناسيوس هذه ليس المقصود منها أن تؤخذ علي إطلاقها، بل كإشارة إلي عادة الكتاب المقدس، كما يفضل أن يسميها. أنظر:
C.R. Shapland , The Holy Spirit, pp.69,70,78; Origen, De Princ. I., 3, 46; Swete, The Holy Spirit in the N.T, additional note P; A. J. Macdonald, The Interpreter Spirit and Human Life, 4.
[7] سرابيون 40:1 ( PG 26, 537B ).
[8] راجع، وهيب قزمان: النعمة عند القديس أثناسيوس الرسولي، جـ 1، إصدار مركز دراسات الآباء بالقاهرة 1993، ص 63 ـ 64.
[9] قابل: اتس 5: 22.
[10] أنظر علي سبيل المثال: تك 1: 2، 6: 3؛ عد 11: 29؛ قض 3: 10؛ مز 50: 13، 14: 10.
[11] أنظر علي سبيل المثال لا الحصر الآتي: يو32:1 و 22:20 و 26:14 و 26:15؛ مت 22:10؛ لو 2:11؛1بط 9:1 ـ 11؛ رو 8: 9 ـ 11؛ 1 كو 10:2 ـ 12؛ غل 14:3؛ فى 18:1 ـ 20.
[12] سرابيون 1: 6 ( PG 26, 541B – 544B ).
[13] راجع أثناسيوس ضد الآريوسيين:
( PG26, 236A; 236C- 236B; 165B)؛ تجسد الكلمة 25:25، 37: 1 (PG25, 140C )
[14] راجع أثناسيوس ضد الآريوسيين 2: 42.
[15] راجع، أثناسيوس إلي سرابيون 1: 6 ـ 8 ( PG 26: 544B).
[16] سرابيون 1: 6 (PG26, 544ff.)
[17] سرابيون 1: 6 ( PG 26, 545A ).
[18] راجع، سرابيون 1: 5 (PG26, 540AB )، 1: 23؛ 3:3 (PG26, 584C – 585 B ; 628B – 629A).
[19] سرابيون 1: 6 ( PG 26, 548A ).
[20] سرابيون 9:1 ( PG26, 552C – 553A ).
[21] سرابيون 1: 9 (PG 26, 553 B ).
[22] سرابيون 1: 10 ( PG 26, 556 A – B ).
[23] سرابيون 3:1.
[24] سرابيون 1: 12 ( PG 26, 560 B – 561 A ).
[25] سرابيون 1: 14 ( PG 26, 565 A – C ).
26 راجع: T. Torrance, The Trinitarian Faith, Edinburgh 1988, p. 303..
لقد كان تعبير “الثالوث” هو الكلمة الأولي عند القديس أثناسيوس،بل ونقطة البدء التي عرفها بأنها “قاعدة وأساس إيمان الكنيسة” (PG 26, 596C ). ولهذا دافع عن تعليم الثالوث كأساس وركيزة اللاهوت الأرثوذكسي، كما كانت المقولة الحاسمة في تعليمه إن “اللاهوت يكمل في الثالوث ” وهذه هي “التقوي الحقيقية” بل هذا هو ” الصلاح والحق ” (PG 26, 49A )، كما يعلن القديس أثناسيوس صراحة أن “الرب يسوع المسيح نفسه، هو بشخصه علّم المرأة السامرية وعّلمنا من خلالها كمال الثالوث القدوس الذي هو لاهوت واحد غير منقسم” ( PG 26, 605 D ). راجع أيضاً:
G.Dragas The Meaning of Theology. An Essay in Greek Patristics, Darlington 1980
[27] سرابيون 3: 4.
[28] سرابيون 4: 4.
[29] سرابيون 4: 12.
[30] راجع: سرابيون 1: 24، 28، 30؛ 3: 5.
[31] أثناسيوس ضد الآريوسية 2: 33.
[32] سرابيون 1: 14.
[33] راجع، أثناسيوس ضد الآريوسيين 1: 46؛ تجسد الكلمة 4: 10.
[34] سرابيون 22:1 PG.26:581C 3- 584A 11.
[35] قابل W.Barclay, New Testament, vol.2 p. 169.
[36] سرابيون30:1. PG.26:600A 3 –601A 2.
[37] ” نور من نور” هكذا نقول عن الآب والابن في قانون الإيمان النيقاوى.
[38] كما أن الابن ـ الكلمة الحى ـ هو واحد، هكذا فإن القوى الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضئ (أى الروح القدس) ينبغى أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهى التي يقال عنها إنه تنبثق من الآب، لأنها من الكلمة، الذي يعترف أنه من الآب. وهى التي تشرق، وترسل، وتعطى… (سرابيون20:1).
[39] سرابيون30:1. PG.26: 600C 6 – 7.
[40] سرابيون30:1. PG.26: 600C 12.