Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الزواج والبتولية – عرض لتفسير الآية 1 كورنثوس 7: 1

الزواج والبتولية – عرض لتفسير الآية 1 كورنثوس 7: 1

الزواج والبتولية – عرض لتفسير الآية 1 كورنثوس 7: 1

الزواج والبتولية عرض لتفسير الآية 1 كورنثوس 7: 1 د. جيؤرجيوس باترونوس [1]

الأستاذ بكلية اللاهوت جامعة أثينا

سوف يقتصر بحثنا عن الزواج والبتولية من خلال تفسير العدد رقم 1 فى الإصحاح السابع للرسالة الأولى لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس: ” وأما من جهة الأمور التى كتبتم لى عنها فحسن للرجل أن لا يمس امرأة “. ونحن نعتبر أن الترجمة الصحيحة وفهم هذا العدد له أهمية كبيرة فى التأثير المباشر ليس فقط لاهوتيًا وتفسيريًا على مواقفنا الإنسانية (الأنثروبولوجية) الكتابية، ولكن أيضًا على العمل الرعوى للكنيسة، وذلك من أجل إرشاد صحيح للمؤمنين بشأن مواضيع الزواج والعلاقات الزوجية.

من خلال دراسات كثيرة وُجد أن المسيحية منذ ولادتها قد صاحبتها ميولاً نُسكية شديدة، واليوم لا يوجد شك فى أنه منذ بداية نمو وانتشار الجماعات المسيحية قد لُوحظ تشديد على الأعمال النسكية، والتى أثرت على النظرة للجنس وعلى الموقف السلبى للناس تجاه الزواج[2].

الزواج والبتولية – عرض لتفسير الآية 1 كورنثوس 7: 1

ففى العالم اليونانى الرومانى، نجد على سبيل المثال كل من إبيكتيتوس “Ep…kthtoj” وسنيكا ” Senškaj ” اللذين عبرا عن أفكارهما النسكية الأخلاقية الرواقية[3]، فى حين أن الفلسفة الفيثاغورية (puqagÒreia filosof…a) استندت على الثنائية النسكية الشديدة[4]. نفس الشئ فى الشرق: ديانة /Isidoj كانت مرتبطة بعبادات ذات اتجاه ثنائى. وفى اليهودية حدث نفس الشئ تقريبًا مع الجماعات المنعزلة فى وادى قمران والفلسفة الأفلاطونية لفيلون اليهودى[5].

إن “الاتجاه النُسكي”  ظهر مبكرًا جدًا كظاهرة فى المسيحية الأولى، وكما يبدو فى الرسائل الرعوية (للعهد الجديد)، وقد حاول أن يدخل مباشرة فى التكوينات الناشئة للجماعات المسيحية[6]. ومن ثمَّ فإن ” ضبط النفس ”  و ” النسك ”  كانتا ظاهرة تاريخية عامة لذلك العصر. لقد بدأ الاعتقاد، بأنه بقيامة المسيح قد دخل العالم إلى واقع تاريخى جديد متطلع للأخرويات، بدأت هذه القناعة فى إعاقة الزواج.

هذا يظهر بوضوح فى الرسالة الأولى لكورنثوس، حيث يحاول بولس أن يغير اتجاه الأعمال النسكية التى ترفض الزواج وذلك من منظور أنها تعوق الحياة الروحية. إن الزواج عند بولس ليس شيئًا شريرًا وخاطئًا حتى من وجهة نظر أننا فى الأيام الأخيرة[7]، إذ يعطى لنا نصيحة مسهلاً الأمر قائلاً: ” لكنك وإن تزوجت لم تخطئ. وإن تزوجت العذراء لم تخطئ ” ولكن لو كان أحدًا ” يعمل بدون لياقة نحو عذرائه ” عندئذ فهذا يجب أن يُقاد إلى الزواج حيث إنه أيضًا ” لا يخطئ ” (1كو28:7و36).

هذه الأمور قد جعلت كثير من الدارسين يرون فى 1كو1:7 ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” أنه لا يعبر عن رأى بولس الرسول، لكن هو تعبير نُسكى لأهل كورنثوس قد أرسلوه فى رسالة إلى بولس لكى يرد على بعض الاستفسارات. لذلك فى بداية عدد 1 يقول ” وأما من جهة الأمور التى كتبتم لى عنها”. وعلى ذلك فإن الإصحاح السابع من الرسالة الأولى لكورنثوس هو مكتوب ضد الحركة النسكية الشديدة التى كانت فى ذلك الوقت، والقديس بولس أراد بكل ما كتبه أن يواجه هذه الحالة بفهم عظيم وحكمة رعوية [8].

إذن علينا أن نفهم ما يحويه هذا العدد من فكر لاهوتى وكيف فُهمت هذه الحركة النسكية المسيحية الأولى فى كنيسة كورنثوس، حيث توجد دراسات ومراجع كثيرة تُبين أنه كان يوجد فى مجمع كورنثوس تيار نُسكى فى ازدياد دائم له أصل أفلاطونى[9].

ولكى نفهم الجزء الأول من الإصحاح السابع الأعداد 1ـ7، فهمًا صحيحًا، يجب أن نفسر العدد1 تفسيرًا سليمًا، وذلك لأن مفسرين كثيرين لكتابات القديس بولس فى الشرق والغرب قد رأوا أن التعبير “حسن للرجل أن لا يمس امرأة” يمثل ـ حسب رأيهم ـ موقف بولس إذ تلخص كل آرائه السلبية وموقفه تجاه الزواج والعلاقات الزوجية، وموافقته على الاتجاه النُسكى للكورنثيين.

واليوم صارت هناك محاولات فى كل اتجاه لإعادة تفسير هذا العدد من الإصحاح السابع للرسالة الأولى لكورنثوس والتى أسفرت عن عدة آراء وتساؤلات حول محتوى هذا العدد:

  1. هل يعبر عن موقف بولس الرسول بصياغة شخصية له.
  2. هل أُخذ التعبير من الكورنثيين ويعبر عن رأيهم وموافقته هو شخصيًا على هذا الرأى.
  3. هل مجرد أنه ذكر تعبير يتعلق بالنسك الشديد لأهل كورنثوس بينما هو يرفض محتوى هذا العدد بعد ذلك.

بهذه المقدمة السريعة سوف نقدم الآراء التى صيغت لكى يُفهم محتوى هذا العدد بترجمة سليمة للنص ولكى يتضح الرأى الثالث أنه هو الرأى السليم بحسب اعتقادنا، أن بولس لا يوافق إطلاقًا هذا الفكر النسكى المتشدد ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” والمتأثر بالأفكار الأفلاطونية.

على الجانب الآخر فإن اليهودية المعتدلة كانت تضاد أى أيديولوجية ثنائية نسكية ولم تكن توافق على التيارات التى تنادى بعدم الزواج[10]. وبولس الرسول كمسيحى من أصل يهودى منحدر من الجماعات الفريسية الغيورة، كان يجب أن يكون تقليديًا إيجابيًا تجاه الزواج والأسرة والتى كانتا تعتبران عطايا مقدسة من الله. وبالتالى يكون اتجاه بولس الرسول هو رفض هذا التعبير ” حسنًا للرجل أن لا يمس امرأة “، مقاومًا بذلك النُسك الأممى الذى حاول أن يتسلل إلى الجماعات المسيحية الناشئة.

إن الاعتقاد بأن بولس الرسول قد اعتبر الزواج والعلاقات الجنسية كشئ ملوم أخلاقيًا “تُبعد الإنسان عن الله وتقلل من شأنه ” بحسب رأى J. Weiss [11]. وكثيرين من الدارسين فى الغرب يدعون إلى الحاجة إلى إعادة النظر جذريًا فى هذا الموضوع لأن هذا الاعتقاد يستند على مواقف اللاهوتيين والآباء الغربيين وليس على آبائنا الشرقيين.

إن العلامة ترتليان أحد الآباء المدافعين والكاتب الكنسى المعروف فى القرن الثالث، وأحد المؤسسين للتقليد الغربى، ليس فقط هو صاحب فكر لاهوتى مختلف ولكن مؤسس لثقافة مختلفة تمامًا عن تلك التى كانت فى الشرق فى الفترة عينها ويمثلها كليمندس الأسكندرى وأوريجينوس. إن تأثير الفكر الرؤيوى واللاهوتى للجماعات النسكية لوادى قمران لهو عظيم فى نصوص ترتليان.

هذه حقيقة أن ترتليان فى البداية قد دخل فى الهرطقة المونتانية MontanismÒj والتى لها سمات نسكية شديدة، والتى أظهرت تشديدًا على الاحتفاظ بالتيارات العرقية والإسخاتولوجية[12] كان هذا هو المناخ الذى فيه تشكلت آراؤه تجاه الزواج.

إن ترتليان هو مؤسس وأب اللاهوت اللاتينى ومن الأساسيين الذين شكلوا الروحانية الغربية، وهو يعتبر المؤمن جنديًا فى صراعه ضد الشر. وتستند مبادئه التفسيرية بناء على ذلك على فهم المسيحية على أنها تجنيد روحى مستمر فى الزمن الحاضر، ومثل المجند لا ” يرتبك بأعمال الحياة ” (2تى4:2)، وهكذا كل مسيحى له التزام أساسى أن ” لا يمس امرأة ” (1كو1:7).

فالإيمان يُختبر والمؤمنون يُضطهدون، والاضطهادات اليومية والشهادة تعنى عنده تسليحًا مستمرًا ودعوة إلى جهاد روحى، إلى صوم، ومحبة، وبتولية. لذلك ينادى ترتليان بأنه ” شر عظيم ” أن ينشأ الرجل علاقة مع المرأة [13]، وأعمال كثيرة له مشحونة بالروح النسكية فى تفسير (1كو1:7). وبالرغم من أنه قَبِل أن هذا العدد يعبر عن موقف أهل كورنثوس وليس رأى بولس الرسول إلاّ أنه لم يتأثر جوهريًا بهذا الرأى وأصر على أولوياته النسكية الشديدة.

والقديس أمبروسيوس أسقف ميلانو فى القرن الرابع، وهو الذى عاش فى فترة طويلة فى الشرق وعرف هناك الحياة التوحدية فى قمة ازدهارها، أراد أن يصير هو مؤسس الرهبنة فى الغرب. أثر بكتاباته عن البتولية تأثيرًا قويًا على فهم الحياة المسيحية من خلال الروح النسكية الشديدة ودعا الجميع إلى ممارسات نسكية شديدة، وهو يعتبر (1كو1:7ـ7) هو نص أساسى وجوهرى ومقبول فى هذا الاتجاه.

لا يوجد شك لدى أمبروسيوس أن ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” يعبر عن اعتقاد القديس بولس، وأمبروسيوس نفسه يعطى تشديدًا خاصًا على علاقة هذا المقطع بالكهنوت مساهمًا بذلك فى تشجيع بتولية الإكليروس فى الغرب.

أما جيروم وأغسطينوس هذان الكاتبان العظيمان فى القرن الرابع وبداية الخامس (عصر ازدهار الكتابات اللاهوتية فى الغرب) إليهما ترجع النظرة النسكية للحياة التى تحتقر الزواج. إن حياتهما الشخصية لها انعكاس على هذه النظرة النسكية، فبعد رجوعهم إلى المسيحية ليس فقط هجروا حياتهم السابقة لأجل المسيح بل المجد العالمى وكرسوا الجسد والنفس للمسيح متدربين على أعمال النسك وضبط النفس بطريقة متشددة جدًا.

إنه من المتعارف عليه أن جيروم عاش فى البداية حياة شبابية خاطئة وعالمية وفوضوية وبعد ذلك زار الشرق حيث تعرف على جماعة بدعة مانى ManicaismÒj، وفيما بعد صار راهبًا ورئيسًا وأبًا فى أديرة كثيرة فى بيت لحم اليهودية. ثم عاد إلى الغرب ناقلاً المانوية إلى هناك، هذا الراهب العظيم فى القرن الرابع عبر عن معارضته للزواج بطريقة قاطعة، وحياته الرهبانية اعتُبرت كنوع من الشهادة اليومية (Cotidianum Martyrium).

لذلك اعتقد أنه لكى يعيش أحد الإيمان المسيحى فى هذا الزمان الحاضر عليه أن يسلك بنفس هذا المنهج [14]. ومن ضمن الأشياء التى دعا المؤمن أن يجحدها فى العالم هى المرأة. فبحسب رأيه يرى جيروم أن البتولية لا تُقارن بالنسبة للزواج، والشيء الحسن الوحيد الذى يمكن أن يعترف به فى الزواج هو ولادة البتوليين والبتوليات. لقد صاغ آراء تحط كثيرًا من شأن الزواج، لدرجة تجعل أى أحد يتساءل هل حقيقة كُتبت هذه الأمور من يد إنسان مسيحى [15].

عندما يذكر جيروم (1كو7:1) يكتب: [ إن كان من الأفضل للإنسان أن لا يمس امرأة عندئذ يكون من الشر أن يلمس أى امرأة، لأن الشر مضاد للصلاح…. لاحظتم إذن حكمة الرسول، لا يقول فقط إنه حسن للرجل أن يكون لديه زوجة بل يقول أيضًا لكن حسن للرجل أن لا يمس امرأة، لدرجة أنه يوجد خطر من مجرد لمس المرأة، فإن من يلمس النار بدون شك يُحرق.. ][16].

وبناء على ذلك فمن فكر القديس جيروم أن (1كو1:7) يعبر عن رأى القديس بولس وأن الرسول هو أول من فتح الطريق للحط من شأن الزواج والنظر للانجذاب الجنسى على أنه شئ شرير وغير مقبول لدى المؤمن. وهكذا اعتبر جيروم أن المرأة مصدرًا للشر ونار تحرق !. والإنسان الروحى يجب أن يختار طريق الرهبنة.

أما القديس أغسطينوس فهو الذى أثر تأثيرًا كبيرًا فى خلق أفكار سلبية فى الغرب بالنسبة للزواج والعلاقات الجنسية. هذا المعلم العظيم للمسيحية فى الغرب قد تأثر بشدة من تيارين مضادين لبعضهما فى موقفهما تجاه الزواج فى عصره. الموقف الأول كان تيار المانوية أى أتباع مانى الذين اعتبروا الجسد الإنسانى كشئ شرير، والحياة وفق ما يمليه الجسد، هى شئ بائس وتعيس تمامًا.

الحياة الجنسية، كتعبير للجسد، تقلل وتحط من شأن الإنسان. هكذا، فإن أغسطينوس من البداية انخدع لفترة زمنية كبيرة بالمذهب العقلى لهرطقة المانويين[17]، وهناك يستطيع المرء أن يجد جذور أفكاره المانوية ذات المذهب العقلى عندما يتحدث عن الأمور الأنثروبولوجية [18].

التيار الثانى المضاد للأول والذى تأثر به أغسطينوس هو الهرطقة البيلاجية والتى كانت منتشرة فى عصره. هذه الهرطقة تعتبر العمل الجنسى فى حد ذاته كشئ شرير، ولكن تربطه رباطًا محكمًا فقط بولادة البنين وتعتبر ولادة الأولاد كوصية لله، وإنجاب أولاد بدلاً من الذين يموتون.

تحت تأثير هذان التياران اتبع أغسطينوس فيما بعد طريقًا متوسطًا بين التيارين، فولادة الأبناء كوصية لله هى حسنة، ليس بالطبع لكى نكمل الأبناء، ولكن لنمو أعداد المختارين. وبهذا المفهوم فالولادة هى مفيدة ولا يجب أن تُرفض. أما الشهوة الجنسية والجسدية أو Concupiscentia تعتبر عند القديس أغسطينوس دنس وشر ومن بقايا الخطية الجدية وواقع لابد أن يخلق بغض وكراهية فى الإنسان الروحى.

إن الغرابة فى تعليم القديس أغسطينوس هى فى الواقع تُوجد فى أنه بينما يقبل الزواج على أنه حسنٌ من أجل الحياة، يعتبر العلاقات الزوجية غير مقبولة ومبتذلة. الجنس والميل الطبيعى للمارسة الجنسية هى عند أغسطينوس قناة بواسطتها يُنقل ذنب الخطية الجدية لآدم إلى أولاده. ولأجل هذا السبب، الزواج، من حيث إنه يستلزم الاتصال الجنسى، يتصل بالخطية ويمكن أن يُبرر فقط لغرض ولادة البنين[19].

كنتيجة لكل هذا، اعتبر أغسطينوس أن الآية ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” لم تأت من أهل كورنثوس، ولا يعبر عن رأى شخصى للرسول بولس فقط بل يأتى أيضًا من الله نفسه.. هنا يتكلم الله نفسه. وبالتالى يعطى لهذه الآية ثقل إلهى مكرسًا بذلك الموقف السلبى من موضوع العلاقة بين الجنسين سواء كانت هذه العلاقة داخل إطار الزواج أو خارجه.

إن أغسطينوس الذى ادخل الممارسات النسكية الشديدة إلى الجماعات الرهبانية [20]، قد علّم بناء على المقطع (1كو1:7ـ7) أن العلاقات الزوجية والتى تحدث فقط لأجل إرضاء متبادل للطرفين يجب أن تعتبر مرفوضة إذ أننا نتحدث هنا عن فعل خاطئ أو بطريقة أكثر تسامحًا نتحدث عن خطيئة قابلة للغفران [21].

هذا التقليد الغربى القديم عن الزواج والعلاقات الجنسية لم يظل بلا فاعلية لكنه أثر بطريقة سلبية فى كل التاريخ الكنسى والتفاسير اللاهوتية فى الغرب بعد ذلك. ومن الجدير بالملاحظة أن الفكر الغربى للجسد الإنسانى والعلاقات بين الجنسين، والزواج والجنس كان مستقى كله، حتى وقت قريب، من هذه التعاليم الغربية للمعلمين المشهورين وآباء الكنيسة فى الغرب ترتليان وأمبروسيوس وجيروم وخاصة أغسطينوس من القرن الثالث حتى القرن الخامس[22].

إذن، قد سيطر على اللاهوت الغربى حتى العصر الحديث الاعتقاد بأن (1كو1:7) يعبر عن رأى بولس الرسول وأنه بهذا العدد يسجل بطريقة شديدة جدًا رفضه للعلاقات الجنسية.

إن كالفن Calvin كان من القلائل الذين مارسوا نقدًا لهذا التقليد التفسيرى لكن دون أن ينجح فى خلق تقليد تفسيرى جديد لـ(1كو1:7) للأجيال اللاحقة. كان كالفن من ضمن الإصلاحيين المشهورين والمؤسسين للتيار البروتستانتى فى القرن السادس عشر، حاول حقيقةً أن يمارس تصحيح ما على مواقف جيروم.

وبالرغم من أنه لم يوصى بهجران العالم ولا رفض الزواج، إلاّ أنه شدّد على النُسك داخل العالم والابتعاد عن كل أنواع الاستمتاع والبهجة [23]. لقد رأى (1كو1:7) تحت نور الأفكار الإسخاتولوجية أن الوقت منذ الآن مقصر واعتبر أنه من المفيد والنافع أن يتورط أحدًا فى علاقة زواج[24].

فى القرن العشرين، عصر نمو العلم الكتابى واللاهوت التفسيرى الحديث، هناك تياران: الأول : المذهب العقلى والتحررى الذى هو مُؤسس على التقليد التفسيرى القديم والذى ذكرناه سابقًا، هذا المذهب يتهم بولس والمسيحية عامة بالتشدد فى الزهد والأعمال النسكية المحافظة واللاإنسانية. والثانى : يرى بولس من خلال (1كو1:7ـ7) والمسيحية الأولى على أنهما كانا ضد الأفكار الثنائية والنسكية المتشددة وتيارات الوسط المحيط بالعهد الجديد.

هكذا وفى عصرنا سيطر الفكر بأن (1كو1:7) يعبر جوهريًا عن موقف بولس نفسه تجاه العلاقات الجنسية وأن هذه العلاقات أساسًا تحط من شأن الإنسان وتبعده عن الله، لذلك ” فإنه حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” هذه الكلمات تعبر عن رأى J. Weiss الذى يُعتبر من المفسرين الأساسيين الذين شكلوا اللاهوت التفسيرى الحديث[25].

أيضًا لقد قَبِل بولتمان R. Bultman بدون تحفظ أن الرسول بولس كان متأثر تأثرًا شديدًا بالنظرة اليونانية الثنائية التى تحتقر الجسد (أنظر 2كو1:5ـ إلخ، 2:12ـ4) وهذا التأثير يتضح بشدة فى إجابات بولس على أسئلة أهل كورنثوس المتعلقة بالزواج والجنس (1كو1:7ـ7). إن بولس الرسول، بحسب رأى بولتمان، اتبع التيارات النُسكية الثنائية (التضاد بين الروح والجسد) ولم يعط للزواج قيمة كبيرة بل اعتبره شرًا لا مناص منه بسبب خطر الزنا (1كو2:7)، بالرغم من أنه كان من الأفضل أن يطبق أحد هذه النصيحة المطلقة “لا تمس امرأة ” (1كو1:7) [26].

إن الزهد فى الجنس عند بولس الرسول ـ بحسب رأى بولتمان ـ هو حالة أساسية[27] خصوصًا عندما يُنظر له من خلال الرؤية الإسخاتولوجية للتاريخ، لأنه حقيقةً فى الفصل السابع من رسالة كورنثوس الأولى نجد هذان العنصران مرتبطان [28].

إن كثير من المفسرين الذين أتوا بعد بولتمان استمروا فى أن يروا بولس على أنه متأثر بالثنائية التى كانت فى عصره. يقول C.S.C. Williams وهو أحد المفسرين الإنجليز المشهورين لكتابات بولس : [ إنه معروف أن بعض الغنوسيين من أهل كورنثوس رفضوا الزواج واعتقدوا أن كل المسيحيين يجب أن يعيشوا روحيًا، الأمر الذى يعنى أن لا يكون لديهم علاقات بالنساء، ويكونوا ممارسين حياة العفة فى علاقاتهم الزوجية.

إن فكرة عدم الزواج لم تكن يهودية مع أن بعض الربونيين Rabb…noi كانوا غير متزوجين، لكن بولس والذى كان ربونى (معلم) وكان غير متزوج، فضل أن يظل كل المسيحيين كما هو، غير متزوج وهو فى هذا يتطلع إلى الحالة الجديدة التى دشنها إعلان ملكوت الله ومجيء الرب القريب [29].

لكن كثيرون من المفسرين فى الكنيسة الكاثوليكية يتحركون فى نفس هذا الاتجاه، وقبلوا أن فى الإصحاح السابع من الرسالة الأولى لكورنثوس، يرد بولس الرسول ببساطة على الأسئلة التى أُرسلت إليه من أهل كورنثوس، ومن كل سياق النص وخاصة (1:7، 36:7) يظهر جليًا الاعتقاد السائد عند أهل كورنثوس أن الزواج كان خطية، وحسن لو تجنب أحدًا العلاقات بالنساء.

التأثير هنا واضح سواء من أفكار جماعات وادى قمران أو تعاليم الهراطقة عن الثنائية : أن المادة والجسد هما شر غير مرغوب فيه. بجانب كل هذا فإن تعبير ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” هى كلمات بولس وليس مقطع من رسالة ما[30]. كل هذا من الكتابات الكاثوليكية الحديثة، حيث هذا التفسير فى A New Catholic Commentary on Holy Scripture . نفس هذا الرأى تقريبًا، هو الرأى الرسمى للكنيسة الكاثوليكية والذى يعتقد بأن بولس حاول بهذا العدد من (1كو1:7) أن يؤثر على أهل كورنثوس لدفعهم لحياة البتولية كعمل روحى فائق وشكل كامل للحياة [31].

وهكذا فى نفس الاتجاه يتحرك هؤلاء المفسرون الذين بينما يقبلون مبدئيًا أن (1كو1:7) يعبر عن موقف مجموعة مؤمنين فى كورنثوس، يؤمنون بأن الرسول بولس يتفق مع أهل كورنثوس وأنه هنا يستحسن موقفهم تجاه التقشف والأعمال النسكية وضبط النفس، وبشكل عام يفرض علينا كمسيحيين عدم الزواج والبتولية كشكل كامل للحياة. أحد هؤلاء المفسرين فى بريطانيا والذى يتبنى هذا الرأى هو James Moffatto، حيث ترجم (1كو1:7) هكذا “إنه حقيقة شئ فائق (عظيم) للرجل أن لا يكون لديه علاقات مع امرأة ” [32].

إن ديفيد سميثDavid Smith هو من أدخل فى اللاهوت التفسيرى الحديث فى الغرب الرأى بأن الرسول بولس فى (1كو1:7) يذكر رأى أهل كورنثوس وهو نفسه يرفضه فى مناقشاته حول الزواج والبتولية [33].

وقد تبعه خاصة فى العشر سنوات الأخيرة كثيرون من الدارسين للعهد الجديد [34]، والذين ساعدوا الكتابات التفسيرية الغربية لكى تتحرر من خط التقليد اللاتينى القديم، والذى قد شددنا عليه فى بحثنا. والشهادة على ذلك ترجمة (1كو1:7) إلى الإنجليزية الحديثة للكتاب المقدس سنة 1991 بواسطة Bruce Metzger and Roland Murphy والناشر Oxford University :

“Now concerning the matters about which you wrote; “it is well for a man not to touch a woman”.

ومن أسفل كُتب كهامش أن هذا المقطع الذى بين القوسين هو من رسالة أهل كورنثوس (لبولس) والتى فيها يدافعون عن الأعمال النسكية [35].

نفس الترجمة صدرت فى اليونان سنة 1985 باللغة اليونانية الحديثة وعبارة ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” وُضعت بين قوسين على أنها مقطع من الرسالة التى توضح موقف مؤمنى كورنثوس والتى وُجهت إلى بولس الرسول والتى جاء بها بعض التساؤلات.

لكن هذا المنحنى الجديد للفهم الصحيح ولترجمة (1كو1:7) أصبح من المسائل الثابتة إذ له ما يؤكده من آباء وكُتّاب الكنيسة الشرقية والذى ساعد فى فهم كل ما جاء فى الآيات من (1ـ7)، فى عصرنا هذا خصوصًا فى العشر سنوات الأخيرة. إن التفسير السليم الأول ينتمى إلى المفسر العظيم أوريجينوس من القرن الثالث، والذى من خلال تفسير الإصحاح السابع من رسالة كورنثوس الأولى أَمّن كل الكتابات التفسيرية لآباء الكنيسة فيما بعد وفى التقليد الآبائى بخصوص هذا الموضوع.

فبحسب أوريجينوس فإن الرسول بولس ينقل ببساطة مقطع من رسالة أهل كورنثوس المرسلة له، وهو يرد على تساؤلات مؤمنى كورنثوس[36]. وبناء على ذلك ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” عند أوريجينوس لا تعبر عن رأى أو حتى عن وصية لبولس الرسول [37].

هذا التفسير قد تبناه مفسرًا آخر عظيم لكنيستنا هو القديس يوحنا ذهبى الفم الذى أسس تقليدًا كاملاً ثابتًا فى الشرق، فى فترة تفسيرية خصبة استمرت حتى القرن الثانى عشر، من خلال الآباء : ثيؤدوروس كيروس Qeodèrhto KÚrou[38]، يوحنا الدمشقى[39]، إيكونوموس تريكاس [40]، ثيوفيلاكتوس الفلغارى [41]، حتى أفثيميوس EuqÚmio ZugabinÒ[42]. لقد خصص ذهبى الفم عظة موسعة على تفسير العدد الأول للإصحاح السابع من الرسالة الأولى لكورنثوس [43]، ويفضل الرأى القائل بأن أهل كورنثوس هم هؤلاء الذين يسألون الرسول ” أتمس المرأة أم لا “[44].

ومن هنا يمكننا أن نعتمد فى تفسير هذا العدد على آبائنا الشرقيين الذين أكدوا أن ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة ” لا يعبر بالقطع عن رأى بولس الرسول فى الزواج، بل هو فى رسالته هذه يعيد كتابة عبارة وردت من أهل كورنثوس له، ثم يعطى ردًا على تساؤلاتهم هذه، حيث مثلت إجاباته محتوى الرسالة كله، وبناء على ذلك فنحن نفضل قراءة الآية هكذا:(وأما من جهة الأمور التى كتبتم لى عنها : ” حسن للرجل أن لا يمس امرأة “…. ) (1كو1:7).

ــــــــــــــــــــــ

[1] مقال مترجم بتصرف عن اليونانية الحديثة عن كتاب : Marriage- Gelibacy, Hermenutical Approach to 1Cor. 1:1, By GEORGIOS PATRONOS, Professor of the University of Athens قام بترجمة المقال المهندس جورج عوض إبراهيم الباحث بالمركز.

[2] لمزيد من التفاصيل أنظر :

  1. Strathmann and P. Keseling, “Askese II (christlich)”, in R.A.C., I, p. 758-995. H. Chadwick, “enkrateia”, in R.A.C., V, p. 344-365. W. Rordorf, “marriage in the New Testament and in the Early Church” in journal of Ecclesiastical History, XX (1969), p. 1930210.

[3] لمزيد من التفاصيل عن التأثير الهيللينى على الأعمال النُسكية فى المسيحية الأولى أنظر :

  1. Reitzenstein, Hellenistische Wundererzählungen, Leipzig 1906.

[4] راجع : J. Leipoldt, Griechische Philosophie und Frühchristliche Askese, Berlin 1961.

[5] G. Quispel, “The Syrian Thomas and The Syrian Maccarius” in Vigiliae Christianae XVIII (1964) p. 226-235.

[6] H. F. Von Campenhausen, “Die Askese im Urchristentum”, in Tradition Und Leben, Krafte der Kirchengeschichte, Tubingen 1960.

[7] أى تحت ضغط التشديد على البُعد الأسخاتولوجى والاعتقاد بسرعة مجيء الرب.

[8] G. Patrènou, G£moj ka… Agam…a kat£ tÒn ¢pÒstolo Paàlo. ‘Aq»nai 1985, sel. 43.

[9] أنظر D. L. Balch, Backgrounds of 1Cor. VII: sauings of the Lord in Q? Moses as an Ascetic Qe‹j ‘An»r in II Cor. III, in New Testament studies, 18 (1972), p. 358.

[10] راجع : A. Robertson- A. Plummer, A criticl and exegetical commentary on the 1st Epistle of St. Paul to the Corinthians, Edinburgh 1958, p.132. 

[11] J. Weiss, Earliest Christianity, N. York 1937, p.582.

[12] راجع : استفانيدس، تاريخ الكنيسة، أثينا 1959، ص 79ـ80.

[13] أنظر ترتليان، ضد مرقيان 7:5.

[14] جيروم، رسالة 108 فقرة 31.

[15] أنظر : R.M. Bainton, Sex, Love and Marriage, A Critical Survey, London 1964, p. 31-32.

[16] جيروم، ضد يوفيانوس 1 فقرة 7.

[17] راجع استفانيدس، المرجع السابق ص 249.

[18] أنظر أغسطينوس، الاعترافات 5 فقرة 10، 7 فقرة 3.

[19] J. Meyendorf, Marriage, Athens 1983, p. 54.

[20] راجع استفانيدس، المرجع السابق، ص 304، 337.

[21] أنظر أغسطينوس، الاعترافات 2، 3.

[22] J. Meyendorf, ibid, p. 54.

[23] استفانيدس، المرجع السابق، ص 605،601.

[24] John Calvin, The First Epistle of Paul the Apostle to The Corinthians, Edinburgh 1960, p. 143-135.

[25] J. Wiess، المسيحية الأولى، تاريخ الفترة ما بين 30ـ 150م، أثينا 1983، ص 8.

[26] بولتمان، لاهوت العهد الجديد، الترجمة الإنجليزية، الجزء الأول، لندن 1959، ص 202.

[27] بولتمان، المرجع السابق، ص 102.

[28] بولتمان، المرجع السابق، ص 107.

[29] See C. S. C. Williams, I and II Cor., in Peake’s Commentary of the Bible 1962, p.873.

[30] W. Rees, I and II Cor., in A Catholic Commentary Holy Scripture, N. York 1953, p. 873.

[31] J.J. O’Rourke, I and II Cor., in A New Catholic Commentary Holy Scripture, N. York 1975, p. 1149.

[32] J. Moffatt, The First Epistle of Paul to The Corinthians, N. York 1938, p. 75.

[33] D. Smith, The Life amd Letters of St. Paul, N. York 1920, p. 262.

[34] E.W. Hunt, Portrait of Paul, London 1968, p. 207-209.

[35] The New Oxford Annotated Bible, ed. By Bruce M. Metzger and Ronal E. Murphy, New revised standard version, Oxford University Press, New your, 1991, p. 235NT.

[36] أوريجينوس، شرح رسالة كورنثوس الأولى، أكسفورد 1967، ص121.

[37] W. E. Phipps, “Is Paul’s attitude toward sexual relation contained in 1cor. 7:1” in New Testament studies, 28 (1982), p. 127.

[38] أنظر ثيودوريتوس كيروس، تفسير رسالة كورنثوس الأولى PG82, 272.

[39] PG 95, 621.

[40] PG 118, 724.

[41] PG 124, 649.

[42] أفثيميوس : تفسير رسائل بولس الرسول الأربعة عشر، ج1، أثينا 1878، ص245 وما بعدها.

[43] PG 61, 151-160.

[44] المرجع السابق، PG 61, 151.

الزواج والبتولية – عرض لتفسير الآية 1كو1:7 

Exit mobile version