الإنسان – الإنسان فى تعاليم العهد الجديد – د.موريس تاوضروس
الإنسان – الإنسان فى تعاليم العهد الجديد – د.موريس تاوضروس
الإنسان – الإنسان فى تعاليم العهد الجديد – د.موريس تاوضروس
(الإنسان بوجه عام ـ الجسد ـ النفس ـ الروح ـ القلب ـ العقل ـ الضمير ـ إنسان الخارج وإنسان الداخل)
” الإنسان ” بوجه عام[1]
استعملت كلمة ” إنسان ” فى العهد الجديد بالمعانى التالية:
1 ـ تشير إلى جنس الإنسان باعتباره متميزًا عن جنس الحيوان ” فالإنسان كم هو أفضل من الخروف ” (مت12:12)، وعن جنس الملائكة ” صرنا منظرًا للعالم للملائكة والناس” (1كو9:4)، وعن السيد المسيح باعتباره ليس مجرد إنسان ” لأنى لم أقبله ـ أى الإنجيل ـ من عند إنسان ولا عُلِّمته، بل بإعلان يسوع المسيح ” (غلا12:1)، وكذلك للتميز بين الله والبشر (مر30:11)، مع التأكيد أن الطبيعة البشرية طبيعة خاطئة، وهى خاضعة للضعف الطبيعى، مثل الآلام (يع17:5) والموت (عب27:9) والخطية (رو4:3، 12:5) ومملوءة من الشر (مت17:10). والمداهنة (لو26:6) ويخضع للخطأ (غلا1:1، 11 وما بعده).
وعبارة ” حسب الإنسان ” لا تعنى مجرد الإشارة إلى العلاقات البشرية أو إلى اعتبارات المنطق البشرى (غلا15:3، 1كو32:15) ولكنها تشير فى العهد الجديد أيضًا إلى الطبيعة المحدودة للتفكير والسلوك البشرى فى تعارضه مع الله والإعلان الإلهى. وهكذا، فإن الرسول بولس فى (رو5:3) يتحدث عن إثم الإنسان فى مقابل بر الله. وفى (1كو8:9)، فإن ما يقوله الإنسان يعتبره فى وضع مضاد لما يقوله الناموس. وفى (غلا11:1) فإن عبارة ” ليس حسب إنسان ” استُخدمت فى وضع مقابل لعبارة “بل بإعلان يسوع المسيح”. وفى (1كو3:3) هناك تأكيد على ضعف الإنسان ” يسلكون بحسب البشر “، “ألستم جسديين “. كذلك أيضًا فى (1بط6:4) ” لكى يُدانوا حسب الناس بالجسد، ولكن ليحيوا حسب الله بالروح “.
2 ـ تُستعمل كلمة ” إنسان” حسب الصياغة السامية، مع المضاف إليه لتعبر عن علاقة بشئ مجرد أو علاقة تملك. وهكذا فإن عبارة ” ¥nqrwpoi eÙdok…aj ” فى (لو14:2) تعنى “أُناس المسرة (الله) ” وتُستعمل لتشير إلى جماعة “المسيَّا” المخلص المختارة. وكذلك فإن عبارة “إنسان الخطية ” فى (2تس3:2) تُشير إلى علاقة الإنسان بالخطية ولهذا فهو يُسمى “ضد المسيح”، وعبارة ” إنسان الله ” فى (1تى11:6، 2تى17:3)، تُستخدم للتعبير عن الإنسان المسيحى الذى يضع نفسه فى خدمة الله.
واستُخدمت عبارة “إنسان الله” فى الترجمة السبعينية كوصف للنبى (1ملوك22:12، 1:13، 18:17، 24،…) وكذلك لموسى (تث1:33)، وبشكل عام فقد قيلت فيما بعد عن “مختار الله ” (مثل داود، كما فى 2أى14:8). كذلك وردت فى الكتابات اليهودية باللغة اليونانية لتعنى عابد الله الحقيقى (Ep. Ar. 140). وكذلك استعملها “فيلون” فى حديثه عن إبراهيم استنادًا إلى (تك1:17)، وكذلك عن الكهنة والأنبياء كنماذج روحية (Gig, 60-63)، وعن موسى كمثال للرجل الكامل استنادًا إلى (تث1:33) (Mut. Nom, 24ff., 125ff.)، وعن إيليا استنادًا إلى (3ملوك18:17) (Deus, Imm., 138f.)، وعن اللوغوس باعتباره الإنسان المثالى المخلوق حسب صورة الله (Conf. Ling., 41- 43). ومن الواضح ارتباط عبارة “إنسان الله” فى الكتابات اليهودية باللغة اليونانية بالترجمة السبعينية.
3 ـ وفى تعاليم القديس بولس الرسول عن الإنسان (الأنثروبولوجى)، استُعملت كلمة “إنسان ” مرتبطة بظرف مكان (خارج ـ داخل) معطيًا لهذا الاستخدام صفات كما سيأتى:
أ ـ إنسان الخارج (Ð œx ¥nqrwpoj) وإنسان الداخل (Ð œsw ¥nqrwpoj):
إنسان الخارج: وذلك بالنسبة لجانبه الطبيعى والمائت
إنسان الداخل: (أو إنسان القلب الخفى 1بط 4:3)، وقد استُخدمت لوصف الإنسان بوجه عام ” بحسب الإنسان الباطن ” (رو22:7) كما استُعملت عن عمل النعمة فى المؤمن ” لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى, فالداخل يتجدد يوما فيوما ” (2كو16:4), وفى (أف16:3) قيل ” لكى يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه فى الإنسان الباطن ” (أف16:3)، وذلك بالنسبة للجانب غير المائت للإنسان[2].
ب ـ وهناك أيضًا الاختلاف بين الإنسان العتيق (palaiÕj ¥nqrwpoj) والإنسان الجديد (kainÕj (nšoj) ¥nqrwpoj). فى (رو6:6، وكو9:3، وأف22:4)، يشير الإنسان العتيق إلى الكيان الخاطئ للإنسان غير المتجدد، بينما الإنسان الجديد فى (أف15:2، 24:4، كو10:3)، يشير إلى الإنسان المتجدد الذى آمن بالمسيحية. وهذه العبارات (الإنسان العتيق والإنسان الجديد) استُعملت فى الحديث عن فاعلية المعمودية، فالإنسان العتيق يُصلب فى المعمودية (رو6:6). وانتقل هذا الاستعمال من مجال الأسرار المقدسة إلى مجال “الأخلاق”، فالمسيحى عليه أن ينزع عن نفسه الإنسان العتيق الذى تحدث عنه الرسول بولس فى رسالته إلى كولوسى حيث قال:
” فأميتوا أعضاءكم التى على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع الذى هو عبادة الأوثان.. اطرحوا عنكم أنتم أيضًا الكل الغضب السخط الخبث التجديف الكلام القبيح من أفواهكم. لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذى يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه.. ” (كو5:3ـ10)، وانظر (أف22:4). واستُعملت نموذج ” الإنسان الجديد ” عن الكنيسة، فالمسيح وحّد الشعبين اليهودى والأممى فى إنسان واحد جديد ” لأنه هو سلامنا الذى جعل الاثنين واحد ونقض حائط السياج المتوسط، أى العداوة، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا فى فرائض لكى يخلق الاثنين فى نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا ” (أف15:2)، ” إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح ” (أف13:4). وفى جميع هذه العبارات يُفترض أن السيد المسيح هو الإنسان الجديد (أنظر أغناطيوس إلى أهل أفسس 1:20).
ج ـ وهناك أيضًا التمييز بين الإنسان النفسانى (yucikÕj ¥nqrwpoj) والإنسان الروحى (pneumatikÕj ¥nqr.) ” الإنسان الطبيعى لا يقبل ما لروح الله.. أما الروحى فيحكم فى كل شئ.. ” (1كو14:2،15).
د ـ واستُعملت كلمة ” إنسان ” عن المسيا (أنظر رو15:5، 1كو21:15، 47، أف32:5، 1تى5:2، عب6:2).
هـ ـ كذلك تُشير كلمة “إنسان” إلى آدم الإنسان الأول، وإلى السيد المسيح آدم الأخير “هكذا مكتوب أيضًا. صار آدم الإنسان الأول نفسًا حية وآدم الأخير روحًا محييًا ” (1كو45:15).
و ـ وقد ورد لفظ (¢nqrèpinoj) بمعنى: الإنسانى، البشرى. واستُعمل عن الإنسان كجزء من العالم المخلوق كما فى (يع7:3)، حيث استُعمل ليشير إلى الطبيعة البشرية متميزة عن الطبيعة الحيوانية ” كل طبع للوحوش.. تذلل للطبع البشرى” (يع7:3)، وفى (1بط13:2) يُشار به إلى ” الترتيب البشرى “.
وتستعمل الكلمة أيضًا للتمييز بين ما هو إنسانى وما هو إلهى (أع25:17)، “وبين عصيان الإنسان وطاعة المسيح ” (رو19:6) وبين الحكمة الإنسانية وما يعلمه الروح القدس (1كو13:2)، وبين “يوم البشر” (1كو3:4) ويوم المسيا للدينونة. وفى (1كو13:10) حديث عن التجربة البشرية التى تنتج عن الضعف البشرى.
1 ـ الاشتقاق اللغوى للكلمة ومعناها فى العهد القديم:
وبالنسبة للاشتقاق اللغوى للكلمة، فهو موضع جدال، وإن كان من الممكن أن يُقال إنها تتركب من جزئين: êy + ¢n¾r وتعنى وجه الرجل [3].
أما الكلمات العبرية التى تقابل كلمة (¥nqrwpoj)، فهى ādām، is، nos. وكلمة “ādām” تشير إلى طبيعة الإنسان فى وضع مختلف عن طبيعة الله، كما (1صم29:15) “وأيضًا نصيح إسرائيل لا يكذب ولا يندم لأنه ليس إنسانًا ليندم”، وفى موضع مختلف عن الحيوانات فى تك26:1 ” فقال الرب نعمل الإنسان على صورتنا وكشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التى تدب على الأرض “. وفى استعمالها عن الجنس، فإنها تُستعمل للرجل والمرأة (أنظر تك7:2 وما بعده، 18 وما بعده). و”is ” يرد استعمالها فى (تك4:2) و nos تشير غالبًا إلى سمة الضعف والموت ” من هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده وتنقصه قليلاً عن الملائكة وبمجد وبهاء تكلله ” (مز5،4:8) [4].
وفى كلا الموضوعين اللذين وردا عن الخلق فى سفر التكوين (تك1:1 وما بعده، 4:2 وما بعده، فإن خلقة الإنسان هى الأمر الأسمى. فى تك ص1، فإن الإنسان هو ذروة الخليقة وتاجها. وفى تك ص2، فإن حياته تقطن فى نسمة الحياة التى نفخها الله فى أنفه، فصار نفسًا حية (تك7:2)، وأيضًا فى كونه خُلق على صورة الله (تك27:1). ولقد اعتبر مستحقًا أن يتكلم الله إليه وأن يكلفه بعمل (تك16:2 وما بعده، تك28:1). وفى عصيانه سقط وصار ضحية للموت. وارتبط آدم الإنسان بالأرض، ليس بعد بسبب خلقته ” وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض” (تك7:2) ولكن الآن بسبب تعديه لوصيته (تك19:3).
ولا يوجد فى العهد القديم هذا التقسيم للإنسان الذى نجده فى الفكر الفلسفى اليونانى، حيث يُقسم إلى عنصرين أو إلى ثلاثة عناصر: العقل، النفس، الجسد. فإن الكلمات: الجسد، النفس، الروح، القلب، الضمير و… هذه لا تمثل أجزاء فى الإنسان ولكنها تمثل اتجاهات مختلفة عند الإنسان مأخوذًا على الدوام فى كيانه ككل، ومنظورًا إليه من جهة وضعه ككل وليس كأجزاء. فالجسد فى العهد القديم (basar) ينظر إليه على أنه يشير إلى الإنسان كله وليس إلى هذا الجزء المادى الظاهرى منه، ويُستعمل غالبًا ليشير إلى فناء الإنسان “ذكر أنهم بشر، ريح تذهب ولا تعود ” (مز39:78)، والروح (ruah) تشير إلى الإنسان ككائن حى ” تخرج روحه فيعود إلى ترابه. فى ذلك اليوم نفسه تهلك أفكاره ” (مز4:146)، وكشخص (حز20،19:11) فإن الروح والقلب يُذكران ليشيران إلى الإنسان فى علاقته بالله “وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل فى داخلهم روحًا جديدًا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم لكى يسلكوا فى فرائضى.. “، وكلمة ” نفس nepes ” تشير إلى الإنسان ككائن حى مرتبط بجسده ” إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة، فإنك تُقتل غدًا ” (1صم11:19)، وكفرد ” وإذا وُجد رجل قد سرق نفسًا من اخوته بنى إسرائيل، واسترقَّه وباعه يموت ذلك السارق فتنزع الشر من وسطك ” (تث7:24)، ” وقل هكذا قال السيد الرب. ويل للواتي يخطن وسائد لكل أوصال الأيدي ويصنعن مخدات لرأس كل قامة لاصطياد النفوس. أفتصطدن نفوس شعبي وتستحيين أنفسكن وتنجسنني عند شعبي لأجل حفنة شعير ولأجل فتات من الخبز لإماتة نفوس لا ينبغي أن تموت واستحياء نفوس لا ينبغي أن تحيا بكذبكن على شعبي السامعين للكذب ” (حز19،18:13).
إن النفس، فضلاً عن أنها لا توجد وجودًا سابقًا كما كان يزعم أفلاطون، فهى الإنسان كله (تك7:2). والقلب (leb) يمثل الإنسان الداخلى الجوهرى فى وضع مضاد لمظهره الخارجى (1صم7:16). ونظرًا للترجمة السبعينية للعهد القديم، فقد اختلط الفكر اليونانى بهذه المفاهيم وامتد أثرها إلى العهد الجديد.
2 ـ أنثروبولوجيا العهد الجديد:
إن العهد الجديد، شأنه شأن العهد القديم، لا يهتم بأن يقدم لنا أنثروبولوجيا منعزلة، فإن القضايا التى تختص بالإنسان هى على الدوام تُناقش من وجه نظر ثيولوجية. إنه على الدوام يتحدث عن الإنسان تجاه الله: فى خلقته، فى اختياره، فى سقطته، فى فدائه وخلاصه. الحديث عن وحدة الإنسانية والمساواة بين البشر، لا يُقدم فى فكر نظرى أو فى مفاهيم مجردة، ولكنها أمور تتحقق فى المجتمع المسيحى (غلا28:3). بالمسيح ومن خلاله يتحقق الإنسان الجديد (أف15:2). وكذلك، وفى نفس الوقت، فإن الاختلافات بين البشر تتحقق من خلال انتخاب الله ” هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين، لأن كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخبون ” (مت16:20)، وأيضًا من خلال اختلاف هبات الروح القدس الخاصة فى الكنيسة (1كو12).
إن دعوة السيد المسيح العامة للبشر لكى يتوبوا عن خطاياهم، تفترض أن الجميع قد أخطأوا وأعوزهم مجد الله (مر15:1)، وفى نفس الوقت هناك من الآيات ما يشير إلى القيمة الكبرى التى وُضع الإنسان فيها من قبل الله ” ألستم أنتم بالحرى أفضل منها (من طيور السماء) ” (مت26:6). وحتى فى وضعه الخاطئ (لو15) فإن الله يدعو الإنسان لكى يحظى بالبنوة للآب ” أن يكون كاملاً مثله ” (مت45:5). وفى (لو14:2)، يتكلم فى صياغة سامية عن البشر الذين هم أُناس مسرة الله (™n ¢nqrèpoij eÙdok…aj) إن حالة المضاف إليه فى هذه العبارة يغير من علاقة الملكية، أى البشر باعتبارهم يمتلكون مسرة الله (أنظر لو22:3). فالمقصود بهذه العبارة الإشارة إلى شعب المسيا المختار للخلاص.
وعند الرسول بولس، فإن الإنسان ” العتيق ” هو إما يلتزم بالناموس (رو17:2، وما بعده) أو يثور على الحق الإلهى (رو18:1 وما بعده). لقد ضل الإنسان فى معرفته لله ولذلك تركه الله إلى ضلاله (رو21:1 وما بعده). والرسول يتحدث عن مسئولية الإنسان (رو1:2)، على أن الإنسان يعجز عن أن يفعل الخير بنفسه (رو18:7، وما بعده). وهذا التوتر الروحى الذى يعيشه الإنسان لا يمكن أن يتغلب عليه الإنسان إلاّ بقدرة الله من خلال الرب يسوع المسيح (فى13،12:2). إن الإنسان الجديد يحصل على حريته من خلال المسيح آدم الثانى (رو9:5، 1كو15) ويصير خليقة جديدة (2كو17:5). والمعمودية هى موت الإنسان العتيق (رو6:6). ومن خلال اتحاد الإنسان بالمسيح يولد الإنسان من جديد (أف22:4). ولكن هذا لا يتحقق من خلال قدرات الإنسان الشخصية ولكن فقط من خلال حياته الجديدة فى المسيح (رو1:8ـ17).
وهناك مفاهيم أنثروبولوجية مهمة فى ثيولوجية الرسول بولس (الجسد، النفس، الروح، العقل، الضمير، إنسان الداخل وإنسان الخارج، نفسانى وروحانى)، وهذه جميعها سوف نعالجها بالتفصيل فيما بعد.
3 ـ العهد الجديد والسيكولوجيا الحديثة:
سيكولوجيا العهد الجديد، هى سيكولوجيا عملية practical أكثر منها علميةscientific، وتُفهم فى مجالها الخاص. فحيث إن العاطفة القوية، غالبًا ما تؤثر على الأجزاء الأدنى للجسد، فإن الأحشاء (spl¦gcnon) (أع18:1) تستعمل كقاعدة الانفعالات، وهى ما يقابل القلب فى الاستعمال الحديث. ومن الأمثلة على ذلك:
” بأحشاء رحمة إلهنا التى بها افتقدنا المشرق من العلاء ” (لو78:1)، ” لستم متضيقين فينا، بل متضيقين فى أحشاءكم ” (2كو12:6)، ” وأحشاؤه هى نحوكم بالزيادة متذكرًا طاعة جميعكم ” (2كو15:7)، ” فإن الله شاهد لي كيف اشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح” (فى8:1)، ” إن كانت أحشاء و رأفة فتمموا فرحي حتى تفتكروا فكرًا واحدًا ” (فى1:2)، “فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفًا وتواضعًا ووداعة وطول أناة محتملين بعضكم بعضًا ” (كو13،12:3)، ” لأن أحشاء القديسين قد استراحت بك أيها الأخ ” (فل7)، ” أرح أحشائي في الرب ” (فل20)، ” وأما من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجا وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه ” (1يو17:3)، وفى فل12 نستعمل كلمة أحشائى بمعنى محبوبى ” فاقبله الذى هو أحشائى”، والفعل (splagcn…zomai) يعنى: يتحنن, يشفق (مت14:14, مر41:1، لو13:7).
وأما العقل (noàj) فكما جاء فى قاموس خنجريشن فيُستعمل بالمعانى التالية:
1 ـ ذهن، العقل كقوة للتفكير (لو45:24، 1كو14:14، فى 4:7 , رؤ17:13). استقرار ذهنى (2تس2:2)، العقل المفكر (رو25،23:7).
2ـ عقل , طريقة التفكير: (رو28:1 , 1كو10:1, أف17:4, كو18:2، تى15:1).
3ـ فكر: (رو34:11؛ 5:14, 1كو16:2) [5].
وأما القلب فيقف موقفا وسطًا بين العاطفة والعقل، لأنه فى بعض الأحيان يمثل العاطفة (ولكن فى درجة أقل من الأحشاء) وفى أحيان أخرى يمثل الحياة الداخلية بما فيها من معنى الإرادة والمشيئة.
وإليك بعض الأمثلة التى تعبر عن مفهوم القلب فى العهد الجديد:
قلب كمركز الحياة الطبيعية (أع17:14)، جوهريًا كمركز ومنبع الحياة الداخلية كلها (مت35:18، لو15:16، 2كو12:5، 1تس4:2، 1بط22:1). عن العواطف (يو6:16، رو24:1، عب22:10). عن الإرادة (أع23:11، رو5:2، 2بط14:2). ويمكن أن تُترجم هذه الكلمة أيضًا إلى فكر (لو25:24، أع23:7، رو21:1، 2كو7:9)، وقريبة من معنى الضمير فى (1يو20:3). وفى (مت40:12) استُعملت بمعنى: الداخل ـ المركز [6].
وسوف نناقش كل هذه الأمور فيما بعد بشئ من التفصيل، عندما نتحدث عن العناصر التى يتكون منها الكيان الإنسانى.
ويتفق علم النفس المبنى على كتاب العهد الجديد، مع اصطلاح علم النفس الحديث “السيكوسوماتيك psychosomatic” من حيث النظر إلى الإنسان كوحدة جسمية نفسية متكاملة. فقد حدثت فى السنوات الأخيرة حركة علمية جديدة ترمى إلى توجيه عناية الطبيب إلى المريض من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مجموعة أعضاء فحسب، وتُعرف هذه الحركة بالطب السيكوسوماتى، أى الطب الجسمى النفسى. ويقول الدكتور يوسف مراد: لقد أقيم الدليل نهائيًا على أن بعض الأمراض العضوية، وعلى الخصوص الأمراض المزمنة التى تعترى أجهزة الهضم والدورة الدموية والتنفس نشأ عن أسباب نفسية، كما أنه لا يمكن شفاء هذه الأمراض، أو على الأقل تخفيف أعراضها إلا بمعالجة المريض معالجة نفسية لا يمكن أن تجدى بدونها وسائل العلاج الطبى الأخرى. كما أنه قد أُتيح لبعضهم مشاهدة ما يعترى غشاء المعدة عندما يكون الشخص فى حالة توتر انفعالى ناشئ عن القلق أو الغضب أو الحرمان، فلوحظ ازدياد حركة جدران المعدة وإفراز السوائل الحمضية واحتقان النسيج المعدى وظهور بقع من النزيف والتقرح [7].
على أننا نأخذ فى اعتبارنا ما قال به Colin Brown:
إن العهد الجديد يمكن أن يتفق مع الاصطلاح الحديث سيكوسوماتيك(Psychosomatic)، ولكنه يحور الكلمة إلى بنفماتو سيكوماتيك(Pneumato Pschosomatic)[8], أى يدخل عامل الروح كعنصر أساسى فى تفسير الكيان الإنسانى.
وعلى العموم نقول: إنه من الخطأ أن نأخذ علم النفس الحديث ونجعله بشكل مطلق أساسًا لتفسير العهد الجديد. بلا شك هناك الكثير من نقاط التلاقى , ولكن أيضًا هناك الكثير من نقاط الاختلاف. والأمر المهم هو أننا يجب أن نفهم المبادئ الأساسية التى يقوم عليها التعليم المسيحى ولا نخضع هذه المبادئ لأية مبادئ أخرى سواء فى مجال علم النفس أو مجال الفلسفة , ولكنه مع ذلك يمكن أن نستفيد مما يكون هناك من معارف صحيحة سليمة فى هذين الميدانين كوسائل توضيحية لفهم التعاليم المسيحية.
ونشير كمثال فى علم النفس إلى محاولة تفسير الإنسان كمجموعة من الأفعال المنعكسة الشرطية (Conditional reflexes). ويمكن شرح الفعل المنعكس على النحو التالى:
الشخص يقرن بين رؤية الحرف , والحركة اللازمة للكتابة. والبصر هنا شرط من شروط أداء الحركة، وتكون الحركة إذن مشروطة بالمنبه البصرى. فإذا ربطنا بين المنبه الحسى والحركة ربطًا آليًا نكون بصدد النظرية التى تقيم عملية التعلم على اكتساب الفعل المنعكس الشرطى. ولكن الواقع أن استجابة الشخص للمنبه الشرطى هى استجابة قائمة على عملية إدراكية، يدرك الشخص أثناءها دلالة المنبه الشرطى. وبموجب هذا الإدراك لدلالة المنبه الشرطى تتم الاستجابة. ومن هنا تختلف الاستجابة بين شخص وآخر حسب اختلاف ما يحمله المنبه له من دلالة. فليست عملية اكتساب الفعل المنعكس الشرطى آلية محضة، فإن أثر الإدراك ظاهر منها بجلاء، إذ ينتقل الموقف من حالة تعميم إلى حالة تخصيص [9]. ومن هنا فإن أعمال السيد المسيح المعجزية لم تُقابل بنوع واحد من الاستجابة من قِبل الذين شاهدوا هذه الأعمال. فلما شفى السيد المسيح اليد اليابسة كان من الممكن أن تكون الاستجابة لهذا الفعل هى الإيمان بالسيد المسيح على هذا العمل المعجزى. ولكن الذى حدث عكس ذلك. فإن الفريسيين خرجوا مع الهيرودسيين وتشاورا عليه لكى يهلكوه، ولذلك نظر السيد المسيح حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم (مر1:3). ولذا يقول الرسول بولس فى رسالته إلى العبرانيين: ” بل عظوا أنفسكم كل يوم ما دام الوقت يُدعى اليوم لكى لا يقسى أحد منكم بغرور الخطية ” (عب13:3). وقد يحدث أن يكون رد الفعل لموقف من المواقف هو انعكاس للاهتمامات الشخصية، كما ظهر هذا فى تصرفات ديمتريوس الصائغ الذى كان يصنع هياكل فضة لأرطاميس وكان يكسب الصناع مكسبًا ليس بقليل، ولذلك أثار الشعب على بولس لأنه كان يقول إن التى تُصنع بالأيادى ليست آلهة (أع21:19ـ29). إن عمل المسيحية واضح فى تأثيرها على الاستجابات الشخصية التى تصدر عن الإنسان. إن تجديد الاستجابات الشخصية بعمل الروح القدس هو نوع من الشروط التى تحدد نوعية الاستجابة، وهذا يدفع الإنسان لأن يستجيب فى سرور وتعقل لإرادة الله، ولذا يقول الرسول بولس: “ولا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ” (رو2:12). وفى كلمات أخرى، فإن الله جعل الإنسان قادرًا لأن يبنى نموذجًا للحياة يصبح بالنسبة له ـ كما نقول ـ طبيعة ثانية له [10].
أما بالنسبة لعلم النفس القديم نقول: إذا كان علم النفس القديم يضع الأهمية فى عنصر ما من عناصر التكوين الإنسانى، فليس الأمر كذلك بالنسبة لسيكولوجيا العهد الجديد. فمثلاً كان لأفلاطون نظرية فى النفس فحواها كالآتى: يرى أفلاطون أن قوى النفس ثلاث: الأولى قوة شريرة منحطة، والثانية قوة عالية نبيلة، ويتوسط بين القوتين، قوة ثالثة تجمع بين كلتا القوتين. أما القوة الأولى، وهى القوة الشريرة، فهو ما يسمى باسم القوة الشهوية. وهى التى تصدر عن الاحساسات والتى يسودها عنصر اللذة والألم بالمعنى الحسى الخالص، وهذه القوة موضعها البطن. وفوق هذه القوة، قوة الكبرياء أو توكيد النفس أو السيطرة أو محاولة السيادة على الآخرين، وهى ما يسمى باسم القوة الغضبية. وهذه القوة موضعها الصدر، أو القلب بعبارة أدق. وهذه القوة الثانية مرتبة فى خدمة قوة عليا هى أعلى هذه القوى الثلاث، وهى مصدر العلم، وهذه القوة (هى القوة العاقلة) وموضعها الدماغ. وما يقابل الإحساس وهو القوة الشهوية، فى أحط المراتب. وما يقابل العلم، وهو القوة العاقلة، فى أعلى المراتب. وما يقابل الشجاعة فى المرتبة الوسطى. والقوة العاقلة تمنع الشهوة من أن تتجاوز حدودها مستعينة فى ذلك بالشجاعة. ولهذا فالواجب أن تكون السيادة دائمًا للقوة العاقلة، وأن تكون الشجاعة فى خدمة القوة العاقلة، وأن تكون الشهوات عارفة لحدودها، خاصة للأوامر التى تصدر إليها من العقل. أما إذا ترتبت هذه القوة ترتيبًا عكسيًا فسينتج من ذلك فساد فى النفس. مظهرة فى الأخلاق الشر والرذيلة. فكان المثل الأعلى للنفس، هو إذن فى انسجام هذه القوى المختلفة. ومعنى هذا الانسجام أداء كل لوظيفته الخاصة [11].
أما أرسطو فقد قال فى النفس ما يلى: لو نظرنا إلى الإنسان فإننا نجد كائنًا مكونًا من جسم ونفس، وله وظائف جسمانية ووظائف عقلية. أما الوظائف الجسمانية فإنما يشترك فيها مع باقى أنواع الحيوان، بل يشترك مع بعض أنواع النبات بما له من نفس نباتية. وإنما يتميز الإنسان عن باقى الكائنات الحية بنفس ناطقة. وفى نشاط هذه النفس الناطقة يمكن تجديد فضيلته.
وهذه القوة الناطقة أو العاقلة تختلف عن باقى قوى النفس الأخرى لأنها غير مرتبطة بالجسم، فالعقل مفارق للبدن. والعقل هو الذى يدرك الماهيات المعقولة ويقوم بتجريد المعانى العقلية والماهيات الكلية. وفى العقل قوتان: قوة قابلة لتلقى جميع المعقولات، وبها المعقولات بالقوة، ولكنها لا تعقل هذه المعقولات بالفعل إلاّ بفضل القوة الأخرى التى هى قوة فعّالة، وتقوم بأخراج المعانى الكلية من الجزئيات كما يظهر ضوء الشمس الألوان ويحولها إلى الوجود بالفعل فى العين الإنسانية.
وهكذا، فإن أرسطو يقول بوجود عقلين فى النفس الإنسانية، عقل منفعل وعقل فعّال. والعقل الفعال خالد ومفارق وأزلى، إنه يأتى الإنسان من الخارج [12].
أما بالنسبة لنظرة المسيحية للإنسان، فنشير إلى ملاحظتين:
1 ـ إن آراء الفلاسفة اليونانيين تقسم الشخصية الإنسانية وتجزئها إلى قوى متحاربة ومتصارعة تحاول كل منها السيطرة على الأخرى. وبهذا الانقسام فى الشخصية يُنظر إلى الشهوات كما لو كانت كائنات مستقلة يمكنها أن تقاوم الذات الأخلاقية. فهل من الممكن أن نسلم بهذا الرأى، نأخذ بهذا الاعتقاد ؟ وهل من الممكن للشخصية الإنسانية الواحدة غير المتجزئة أن تُقسم إلى قوة سامية وقوة منحطة، وإلى قوة أخلاقية وقوة غير أخلاقية، وإلى قوة متحاربة تهدف إلى انتصار الخير أو إلى انتصار الشر ؟
إن مثل هذا الانقسام فى الشخصية لا نجده إلاّ عند هؤلاء الذين لا يتمتعون بالصحة النفسية.
إن كل شئ يصدر عن الإنسان، يصدر عن الذات كلها: الحكم، الإدراك، الأفكار، الشهوات، العواطف. إن الذات تفكر، الذات تدرك، الذات كلها تفعل الخير أو الشر. وعلى ذلك فإن الدوافع والشهوات لا تمثل ذاتًا أخرى هى ذات الشر تقاوم وتعارض الذات الخيرة، وإنما هى قوة فى خدمة الذات الواحدة تعمل تحت إرشادها وتوجيهها ولخدمة الأهداف والأغراض التى تسعى الذات فى تحقيقها [13].
2 ـ إذا كان كل من أفلاطون وأرسطو يضعان الشخصية فى القوة العاقلة، ولذلك يجب أن تكون السيادة دائمًا فى هذه القوة العاقلة، وعن طريق سيادتها على القوى الأخرى تتحقق الفضيلة للإنسان، فإن النظرة المسيحية يعبر عنها الرسول بولس فى رسالته إلى أفسس عندما يجعل السيد المسيح نفسه رأس الجسد وحاكمه، فيقول ” ننمو فى كل شئ إلى ذاك الذى هو الرأس المسيح الذى منه كل الجسد مركبًا معًا ومقترنًا بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه فى المحبة ” (أف16،15:4).
4 ـ العهد القديم كتمهيد أساسى لتعليم العهد الجديد عن الإنسان:
لم يعرف العبرانيون، بحسب تعاليم العهد القديم، ثنائية النفس والجسد فى شخصية الإنسان، كما عرفها الفكر اليونانى. فبالنسبة للفكر العبرانى، فإن العناصر التى يتكون منها الكيان الإنسانى، لا تمثل عناصر متصارعة ولكنها تمثل اتجاهات متعددة للشخصية الإنسانية الواحدة. لقد نظر العبرانيون إلى النفس نظرة فيزيائية، ونظروا إلى العناصر الفيزيائية على اعتبار أن لها وظائف نفسية، حتى أن أى نشاط يقوم به الإنسان يرتبط بالنفس أو القلب أو الوجه أو اليد، فإنه يمثل الإنسان كله ويتضمن باقى العناصر أو الأعضاء. فالدم والشعر والعرق واللعاب وأثر القدم، كل هذه ترتبط بالقوى الحيوية للشخصية بأكملها، فلم يوجد فى الفكر العبرى هذا التمييز بين ما هو طبيعى وما هو ميتافيزيقى. إن السيكولوجية العبرية تبدأ بالإنسان ككل (بأجمعه ـ بأسره)، وهو ككل يفكر ويشعر ويعبر عن نفسه من خلال وسط جسمى وغير جسمى. وعلى ذلك فإن العناصر المتضمنة فى تكوينه ليس لها تحديد عضوى. بلا شك فإن لهذه الأعضاء المتميزة فى الجسد وضعها الخاص، ولكنها فى العمل تتجاوز ذاتها لتشير إلى الإنسان كله وتشمل كل الأعضاء الأخرى. إنه من السهل أن تتحدث عن العضو باعتباره متضمنًا للأعضاء الأخرى من أن تتحدث عن العضو لكى تحدده فاصلاً بينه وبين الأعضاء الأخرى. إن العقل العبرى لا يستحسن التقسيمات التأملية حيث نحاول أن نضع حدودًا بينما لا توجد حدود. إن الجسد والنَفَس الإلهى معًا هما اللذان يكونان الإنسان. فالإنسان ليس ذلك الجسد أو ذلك النَفَس الإلهى، بل هو كلاهما معًا. ولذلك فليس هناك اعتقاد فى الفكر العبرى بوجود سابق للنفس. إلى هذا الحد يرتبط الجسد بالنفس فى الفكر العبرى حتى أنه يتحدث عن النفس فيصفها بصفات جسدية لا تناسب غير الشيء المادى، مثل: ” يبست أنفسنا ” (عدد6:11)، ” أعيت أنفسهم فيهم ” (مز5:107). وفى سفر التثنية تتحد النفس مع الدم اتحادًا كاملاً ” احترز أن لا تأكل الدم، لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم ” (تث23:12). لم يكن يُسمح بأكل الدم لأن الدم يحوى النفس. وهذه ملك لله. لقد اتسع مفهوم النفس عن مجرد مبدأ للحياة، لكى يشمل المشاعر والعواطف والإرادة وحتى الملكة العقلية عند الإنسان. فى (حز9:23) ترتبط النفس بالمشاعر ” لا تضايق الغريب، فإنكم عارفون نفس الغريب لأنكم كنتم غرباء فى أرض مصر ” (حز9:23)، ” وقالوا بعضهم لبعض، حقًا إننا مذنبون إلى أخينا الذى رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع ” (تك21:42)، ” رجال أنفسهم مُرة ” (قض25:18)، ” وهى مُرة النفس ” (1صم10:1). واستُعملت لتعبر عن الرغبة ” فتكون لك زوجة، وإن لم تُسرّ بها فأطلقها لنفسها ” (تث14:21). وترتبط النفس بالمعرفة ” كون النفس بلا معرفة ليس حسنًا ” (أم2:19)، ” كذلك معرفة الحكمة لنفسك، إذا وجدتها فلابد من ثواب ورجاؤك لا يخيب ” (أم14:24). وتعنى الضمير ” لأنه كما شعر فى نفسه هكذا هو ” (أم7:23)، والبصيرة الدينية ” عجيبة هى أعمالك ونفسى تعرف ذلك يقينًا ” (مز14:139).
وحيث إن النفس استُعملت لكى تغطى كل أوجه النشاط الإنسانى، فليس غريبًا أن تُستعمل كمرادفة للإنسان نفسه. لقد كان عدد الأسرات يُحسب باعتبار أن كل نفس تمثل فردًا ” فأخذ ابرآم ساراى امرأته ولوطًا ابن أخيه وكل مقتنياتهما التى اقتنيا والنفوس التى امتلكا فى حاران.. ” (تك5:12)، ” وابنا يوسف اللذان وُلدا له فى مصر نفسان. جميع نفوس بيت يعقوب التى جاءت إلى مصر سبعون ” (تك27:26). وفى (لا25:7) يتحدث عن النفس التى تأكل لحم الذبيحة، كما لو أن النفس تعنى ” شخصًا ” فيقول ” إن كل من أكل شحمًا من البهائم التى يُقرب منها وقودًا للرب، تُقطع من شعبها النفس التى تأكل “، وكذلك فى (لا27:7) يقول ” كل نفس تأكل شيئًا من الدم تُقطع تلك النفس من شعبها “. وهذا الشمول فى المعنى، يرجع إلى أن الفكر العبرى لم يعزل بين الوظائف الجسمية والوظائف الميتافيزيقية، فالإنسان بأكمله يكون متضمنًا فى كل وظيفة. والوظائف فى مجموعها تكشف عن الإنسان فى توجهاته المتعددة.
لم يقتنع الفكر العبرى أن ينظر إلى الإنسان كمجموعة من الانفعالات، بل نظر إلى الانفعالات كلها، كما لو أنها متضمنة فى كل انفعال. إن الإنسان متعدد فى اتجاهاته ولكنه غير منقسم فى الطبيعة. إن الإنسان بأكمله ينفعل ويجوع ويفكر، لأن كلاً من هذه الوظائف يتطلب الشخصية الإنسانية بأكملها، ولا يحدث فصل بين ما هو جسمى أو عاطفى أو عقلى[14].
وهناك اصطلاح ثان فى العهد القديم ـ غير النفس ـ استُعمل للتعبير عن الحياة الروحية، وهو ” الروح “. وفى نبوة حزقيال تبدو وظيفة الروح واضحة، فهى التى أعطت الحياة للعظام اليابسة. ولكن كيف فُهمت الروح فى هذا النص ؟ جاء فى نص النبى حزقيال ما يلى:
” فتنبأت كما أُمرت. وبينما أنا أتنبأ كان صوت وإذا رعش فتقاربت العظام، كل عظم إلى عظمه. ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبُسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح. فقال لي تنبأ للروح. تنبأ يا ابن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا ” (حز7:37ـ10). وعلى ذلك جاءت الروح من الرياح الأربع وملأت الجسد بالنفس أو بنسمة الهواء ومن ثم عادت الحياة. إن المعنى الأصلى لكلمة الروح ـ كما تبدو فى هذا النص، هو ” الهواء فى الحركة “.
واستُعملت الكلمة لكل أنواع الرياح. وفى سفر القضاة قيل أن شمشون شرب الماء فعادت روحه ” فشق الله الكفة التى فى لحى فخرج منها ماء فشرب فرجعت روحه فانتعش ” (قض19:15).
ولسنا هنا فى مجال المناقشة المفصلة للمقارنة بين مفهوم الروح ومفهوم النفس فى العهد القديم، ولكن من الملاحظ أنه حيث يُشار إلى العلاقة بين الإنسان والله تُستعمل كلمة “روح”، وحيث يُشار إلى العلاقة بين الإنسان والإنسان تُستعمل كلمة ” نفس”. أى أن كلمة ” روح ” تعبر عن الاتجاه الروحى للإنسان، وكلمة ” نفس ” تعبر عن الاتجاه النفسى، والمهم أنه فى كلتى الحالتين الروحية أو النفسية، فإن الحديث يتضمن الإشارة إلى الإنسان ككل، وأن الإنسان كله يكون متضمًا فى أى الاتجاهين. وكما قُلت سابقًا، فإن أى عنصر من العناصر التى يتكون منها الإنسان، فهو يشير إلى الإنسان كله.
وما قلناه عن النفس أو الروح، نقوله أيضًا عن الجسد، فإن كلمة الجسد فى العبرية “basas ” تُستعمل أيضًا كعنصر نفسى على الرغم من أنها تشير إلى اللحم. ومن خلال وظائف الأعضاء الجسدية، نمت السيكولوجية العبرية. ومن ناحية أخرى، فإن استعمالها فى العهد القديم يكشف عن أنها تشير إلى الإنسان كله وليس إلى جزء منه، كما يبدو من الآيات التالية:
” قلبى ولحمى يهتفان بالإله الحى ” (مز2:84) (فاللحم هنا يهتف لله الحى)، “يشتاق إليك جسدى فى أرض ناشفة ويابسة بلا ماء ” (مز1:63) (والجسد هنا يشتاق إلى الله)، ” جسدى أيضًا يسكن مطمئنًا ” (مز9:16) (والجسد هنا يثق فى الله ويتكل عليه).
وعندما قال إرميا النبى ” ليس سلام لأحد من البشر ” (إر12:12)، فإنه استعمل كلمة “اللحم ” فى معنى ” البشر “، أى أنه لم يستعمل كلمة اللحم ليشير إلى الجزء المادى من الإنسان، بل إلى الإنسان كله. وعلى ذلك فكلمة ” اللحم ” فى بعض معانيها تعنى: الإنسان كله.
والخلاصة ـ كما قلنا ـ فإن هذه العناصر المكونة للإنسان لا تشير إلى أعضاء متمايزة تُعامل كما لو أنها أعضاء ينفصل الواحد منها عن الآخر، وتخضع لدراسة تشريحية خاصة، بل إن هذه العناصر، تمثل اتجاهات متعددة فى حياة الإنسان.
5 ـ هل نجد فى الفكر اليونانى الفلسفى خلفية لمفهوم الإنسان فى العهد الجديد ؟:
إذا كنا وجدنا فى العهد القديم خلفية تصلح أساسًا لفهم الإنسان فى العهد الجديد، فهل يمكن أن نجد فى الفكر اليونانى الفلسفى مثل هذه الخلفية ؟
هناك من الباحثين من يتطرف فى تقدير قيمة الفلسفة اليونانى بالنسبة إلى الفكر المسيحى، وينظر إلى المسيحية كما لو أنها تستمد أصولها من الفكر اليونانى.
تقول الدكتور أميرة حلمى مطر:
لقد أثرت نظرية فيلون فى العقيدة المسيحية وظهرت آثارها فى إنجيل يوحنا، وهو الإنجيل الرابع الذى يُرجح أن يكون قد كُتب فى القرن الثانى الميلادى وتأثر كاتبه بفيلون.
وشبيه بهذا الزعم الخاطئ، ما نجده فى المقارنة التى أقامها الدكتور عثمان أمين، بين المسيحية والرواقية، حيث يقول:
إذا رجعنا إلى بعض آراء الباحثين المسيحيين ـ فيما يقول ـ وجدنا منهم من يرى فى المذاهب الرواقية ” تمهيدًا للإنجيل ” بل لقد ظهر باللغة الألمانية كتاب ذهب فيه صاحبه إلى أبعد من هذا، فقرر أن ” الرواقية أصل المسيحية ” وجعل هذه العبارة نفسها عنوان كتابه.
ويمضى الدكتور عثمان أمين فيقول:
من المشهور لدى الباحثين فى الإلهيات المسيحية أن رسائل ” بولس الرسول ” هى فى لهجتها ومضمونها قريبة الشبه برسائل ” سنكا ” ومقالات ” ابكتيتوس “. وتعليل ذلك ما هو معلوم من نشأة بولس الرسول ببلاد ” طرسوس ” فى وسط قد شاعت فيه الأفكار الرواقية. فبولس الرسول مثلاً يرى رأى الرواقيين فى عدم الاكتراث بما يحيط الإنسان من ظروف خارجية إذ لا دخل لها عنده فى نجاة الإنسان وسلامة روحه. ثم أن ” أبكتيتوس ” و ” بولس” كانا كلاهما ينشدان فى الثقة بالله مصدر قوتهما، وقد وجد كلاهما من نتائج هذه الثقة إيمانًا وهدوءًا فى كافة ظروف الحياة. ويمكن مقارنة صورة ” الحكيم ” التى رسمها ” أبكتيتوس ” بصورة ” الرسول ” الذى بعثه الله على الأرض. وإذا تأملنا استعمال ” بولس الرسول ” للفظ ” الجسم ” مثلاً وجدناه استعمالاً رواقيًا بحتًا. وكذلك طريقته فى تحليل الأجسام وأنواعها من أرضية وحيوانية وسماوية. وقس على ذلك تحليل بولس ” للطبيعة البشرية ” فنحن نرى ـ فيما يزعم الدكتور عثمان أمين ـ إنه بنى نظريته على أساس رواقى، إذ يرى أن الإنسان وحدة جوهرية، وموضوع هذه الوحدة أشياء ثلاثة: ” الروح والحياة الحيوانية والجسد “. فالنفس يشترك فيها الإنسان والحيوان. والروح يشترك فيها الله والإنسان. وبهذه النظرية يصبح الله والإنسان شريكين فى ناحية من نواحى العالم يخرج فيها الحيوان والنبات والجماد، وناحية المشاركة هى الطبيعة الروحية. ولقد قال الرواقيون بهذا.
ويزعم دكتور عثمان أمين أكثر من هذا بأن النظرية المسيحية التى تذهب إلى أن الله واحد ومتعدد فى وقت واحد، هى نظرة تمت إلى الفلسفة الرواقية بسبب وثيق، وأن أصولها مبسوط فيما كتبه ” سنكا ” فإن سنكا يدعو القوة العظمى التى أبدعت الكون تارة ” الله المسيطر ” وتارة ” الحكمة اللاجسمانية ” التى تخلق جليل الأعمال، وتارة أخرى يسميها “الروح الإلهية ” التى تجوس خلال الأشياء عظيمها وحقيرها ” [15].
كل هذه الادعاءات والمزاعم وغيرها مما لم نذكره هنا سوف يظهر بطلانها عندما نعالج بالتفصيل مفهوم الإنسان فى كتاب العهد الجديد. ويكفى أن نقول هنا ما قاله الدكتور يوسف كرم:
” وأما الرواقية فكان المسيحيون ينكرون منها قولها بوحدة الوجود، والمادية المطلقة، والضرورة العاتية، وفناء الشخصية بالموت، وجواز الانتحار. وكانوا يأخذون على أصحابها تناقضهم فى تقواهم وهم لا يعترفون لله بوجود مفارق وشخصية مستقلة.. ” [16].
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أنظر:
Kittel (G), Theological dictionry of the New Testament, vol.1, Eerdmans, Michigan, U.S.A.1981.
[2] وفى “الجهورية” لأفلاطون (IX, 589a) نجد التعبير “الإنسان الباطن” (Ð ™ntÕj ¥nqrwpoj)، وكذلك فإننا نجد التعبير, “tÕ logistikÕn tÁj yucÁj ” أنظر(IV, 439d)، ويقصد به ” ملكة التفكير” فى توجهها المسكونى. وفيما بعد يسمى أفلاطون “العقل” (noàj): ” الإنسان الذى فينا المتجه نحو الحقيقة ” (Plant, 42), أو “الإنسان فى الإنسان” (Ð ¥nqrwpo ™n ¢nqrèpw) (Congr., 97). وفى موضع آخر , يحدد قوة الإدراك العقلية (logik¾ di£noia) بأنها ” الإنسان المتجه نحو الحق ” (Ð prÕj ¢l»qeian ¥nqr.). وفي الـHermatica هناك تمييز بين الجسد الأرضى للإنسان الأول وبين إنسانه الباطن (Ð œsw aÙtoà ¥nqrwpoj) الروحانى (Ð pneumatikÒj)، ويعتبر الإنسان الخارج (Ð œxw ¥nqrwpoj) كالسجن بالنسبة للإنسان الباطن. والخلاصة أن كل إنسان يحمل فى نفسه كائنا إلهيًا, وهو الإنسان الجوهرى(Ð oÙsièdhj ¥nqropwj) أو الإنسان الأساسى (Corp. Herm., 1, 15).
ويُلاحظ أن هذه العبارات التى تشبه عبارات الرسول بولس، قد وُجدت بشكل متسع فى الفلسفة اليونانية، كما وُجدت عند الغنوسية اليونانية، وفى التصوف المعاصر له، وكذلك عُرفت فى اليهودية الهلينستية. ولكن المهم هو أن الرسول بولس، كما سنوضح ذلك فيما بعد، لم يستعمل هذه العبارات بنفس الاستعمال الثنائى أو الغنوسى، بل لقد أكسب هذه العبارات مضمونًا مسيحيًا.
[3] Thayer’s Greek English Lexicon of the New Testament, Zandervon 1976.
[4] Brown (C.), Dictionary of New Testament Theology, Zandervon, vol. 2. p.564-569.
5 معجم العهد الجديد اليونانى المصغر لمؤلفه ف. ولبر جنجريشن، شيكاغو 1957، ترجمة رابطة الدراسات اللاهوتية فى الشرق الأوسط، بيروت.
6 المرجع السابق.
7 يوسف مراد: مبادئ علم النفس العام ـ دار المعارف بمصر 1954 ص130ـ133.
[8] Brown (C.), ibid, p. 565.
9 يوسف مراد: مبادئ علم النفس العام ـ الطبعة الثانية ـ دار المعارف بمصر 1954 ص 191ـ194.
[10] Brown (C.), ibid, p. 568.
11 عبد الرحمن بدوى: أفلاطون ـ مكتبة النهضة المصرية 1944 ص 205 ـ 207.
12 أميرة حلمى: الفلسفة عند اليونان ـ دار مطابع الشعب ـ 1965 ص 231، 226.
13 أنظر كتابنا: فى الديانة المسيحية ـ مطبعة الناسخ الحديث ص 27، 28.
[14] Stacey (W.D.), The Pauline View of Man, Macmillan, London, 1956, p. 85-87.
15 دكتور عثمان أمين: الفلسفة الرواقية ـ الطبعة الثانية ـ مكتبة النهضة المصرية 1958 ـ الباب الرابع ” الرواقية والمسيحية ” ص 286 ـ 293.
16 يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية ـ دار القلم ـ بيروت ـ لبنان ص 254.