Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الروح القدس فى كتابات القديس غريغوريوس النزينزي (الثيؤلوغوس)

الروح القدس فى كتابات القديس غريغوريوس النزينزي (الثيؤلوغوس)

الروح القدس فى كتابات القديس غريغوريوس النزينزي (الثيؤلوغوس)

الروح القدس فى كتابات القديس غريغوريوس النزينزي (الثيؤلوغوس)

 

فى موضوعى هذا عن الروح القدس عند القديس غريغوريوس ، أدرس على الأخص خطابيه التاليين :

1 ـ خطابه الواحد والثلاثون (وهو الخطاب اللاهوتى الخامس) عن الروح القدس .

2 ـ خطابه الواحد والأربعون .

وقد كان خطابه الأول فى مدينة القسطنطينية عشية المجمع المسكونى الثانى، وقصد به أن يعيد تأكيد الإيمان النيقاوى. وفى بداية خطابه أشار القديس غريغوريوس إلى الفئات المختلفة التى حاربت ضد الروح القدس :

1 ـ أشار فى الفئة الأولى إلى هؤلاء الذين كانوا يسخرون بالروح القدس ويقولون :

ماذا لديك أن تقوله عن الروح القدس؟ من أين أتيت لنا بهذا الإله الغريب والذى لم يشر إليه الكتاب .

على أن هذا الرأى كما يشير القديس غريغوريوس ليس رأيًا جديدًا، فقد أنكر الصدوقيون وجود الروح القدس، كما أنكروا وجود الملائكة والقيامة (أع8:23). وقد أبان القديس غريغوريوس أنهم بهذا يكونون قد رفضوا الشهادات الكثيرة التى وردت فى العهد القديم واختصت بالروح القدس.

2 ـ وفى الفئة الثانية أشار القديس غريغوريوس إلى اليونانيين وقال ” إن اليونانيين اللاهوتيين الذين ينشغلون أكثر من غيرهم بالفكر اللاهوتى والذين يقتربون أكثر إلينا ، قد كَوَّنوا كما يبدو لى بعض التصور عن الروح القدس ، وإن كانوا قد اختلفوا من جهة اسمه ودعوه بـ “عقل العالم ” أو ” العقل الخارجى ” وما يُشبه ذلك .

بهذه العبارة، اعتقد أن القديس غريغوريوس أراد أن يقول إن الروح القدس كان يعمل مع اليونانيين قبل المسيح. وبلا شك فإن اليونانيين لم يصلوا إلى الفهم الصحيح عن الألوهية، على أنهم كما يقول القديس غريغوريوس ” قد اقتربوا كثيرًا منا وكونوا تصورًا عن الله ” .

3 ـ والفئة الثالثة اعتبروا الروح القدس مجرد ” قوة ” .

4 ـ والفئة الرابعة قالوا إن الروح القدس مخلوق .

5 ـ والفئة الخامسة قالت إنه إله .

6 ـ وفى الفئة السادسة يشير إلى البعض الذين لم يعرفوا بأىٍ من هذه يسمونه احترامًا للكتاب المقدس الذى ـ كما يقولون ـ لم يشر بوضوح لأىٍ من هذه التسميات، ومن أجل هذا فإنهم لا يكرِّمون الروح القدس ولا يُحقِرُونه، ولكنهم يتخذون موقفًا وسطًا منه .

7 ـ وفى الفئة السابعة يشير إلى الذين يؤمنون بألوهية الروح القدس، على أن البعض منهم يجلونه بعقولهم، والبعض الآخر يتجرؤون على أن يجلونه أيضًا بشفاههم.

8 ـ وفى الفئة الثامنة يشير إلى هؤلاء الذين يؤمنون بالأقانيم الثلاثة، ولكنهم يُفصلون الواحد عن الآخر، ويصفون الأول منهم بأنه غير متناهٍ من حيث الجوهر والقوة، والثانى غير متناهٍ فى القوة ولكن ليس فى الجوهر، وأما الثالث فهو متناهٍ فى الجوهر والقوة. وهكذا بأسلوب آخر يقلدون الذين يطلقون على الثالوث ” الخالق ” و” المعاون ” و” الخادم ” ويرون أن ما فى الأسماء من نظام وقيمة يتطابق مع الحقيقة (5) .

ثم يتقدم القديس غريغوريوس ليبرهن على أن الروح القدس ليس مجرد قوة، بل هو جوهر، وأيضًا ليس هو مخلوقًا بل هو الله فيقول :

” إن الروح القدس إما أن يُدْرَك بين الكائنات القائمة بذاتها، أو بين الأشياء التى تقوم بغيرها. وحسب هؤلاء الماهرين فى مثل هذه الأمور، يدعون ما فى الحالة الأولى بالجوهر، وما فى الحالة الثانية بالعَرضْ. والآن إذا كان هو عَرَضًا فإنه سوف يكون قوة الله، وإن كان قوة فسيكون خاضعًا للتأثير ولكنه لن يؤثر، وسيتوقف عن الوجود متى توقفت عنه تلك القوة” (6).

وبعد ذلك يتكلم القديس غريغوريوس عن علاقة الروح القدس بالآب والابن، ويقول إن الروح القدس “غير مولود” ولا “مولود” لأنه لو كان “غير مولود” يكون هناك مبدآن، وإذا كان “مولودًا” فهذا يؤدى إلى انقسام أبعد. فهو يولد إما من الآب أو من الابن، وإذا وًلد من الآب يكون لنا ابنان أخوان، وأما إذا ولد من الابن يكون لنا عندئذ إله حفيد. إن الروح القدس الذى ينبثق من الآب ليس هو بالمخلوق. ومن حيث إنه ليس مولودًا فهو ليس ابنًا .

وبقدر ما هو وسط بين اللا مولود والمولود ، فهو الله (8) .

ويطلق على “غير المولود” و”المولود” و”المنبثق” أسماء “الآب والابن والروح القدس“، ويحتفظ بذلك بالتمييز بين الأقانيم الثلاثة ذات الطبيعة الواحدة وكرامة الألوهية الواحدة. فالابن ليس هو الآب لأن هناك أبًا واحدًا، ولكنه يكون ما يكونه الآب. والروح ليس هو الابن لمجرد أنه من الآب، ذلك لأن وحيد الجنس هو واحد ولكنه (أى الروح)، بكون ما يكونه الابن. الثلاثة هم واحد فى الألوهية، والواحد هو ثلاثة فى الأقانيم. وهكذا لا يكون لدينا الواحد الذى قال به سابيليوس، ولا يكون لدينا ثالوث حسب الانقسامات الشريرة المعاصرة(9). ويؤكد القديس غريغوريوس أن الروح القدس هو الله وهو من نفس الجوهر الذى للآب (10).

 

وضع الروح القدس فى العبادة :

إن الروح كما يقول القديس غريغوريوس هو الذى فيه نعبد والذى بواسطته نصلى، فقد قيل “إن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا “، وأيضًا قيل “ إننا لا نعلم كيف نصلى كما ينبغى، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها “، ” وإنى أصلى بالروح وأصلى بالذهن أيضًا ” أى بالعقل والروح، لأن العبادة والصلاة بالروح تعنيان أن الروح يقدم لنفسه الصلاة والعبادة، وأن عبادة الواحد هى عبادة للثلاثة بسبب تساويهم فى الكرامة والألوهية. لا تُدْخِل شيئًا فى الثالوث مما يشبهك خوفًا من أن تنحرف عن الثالوث. لا تُلحق أى انتقاص بهذه الطبيعة الواحدة والمتساوية فى التقدير والإجلال، فأى انتقاص تُلحقه بالواحد من الثلاثة تُلغى به الكل، أى بالحرى تُبعد به ذاتك عن الكل (12) .

 

ثم يتقدم القديس غريغوريوس ليُثبت أن الأقانيم الثلاثة هم إله واحد :

ويتساءل: لماذا تدعوننا “ثلاثيي الآلهة” نحن لنا إله واحد لأن الألوهية واحدة، واللذين يأتيان منه يشيران إلى الواحد وإن كنا نؤمن بهم ثلاثة. وليس الواحد ” الله الأكثر ” والآخر “ الله الأقل “. ليس الواحد أقدم والآخر أحدث. ليس هناك انقسام فى المشيئة ولا تجزئة فى القدرة ولا يوجد فيهم شئ مما تجده فى الأشياء القابلة للقسمة. لكن الألوهية فى تعبير موجز، غير منقسمة فى أقانيم متميزة، كما على سبيل المثال ـ فى شموس ثلاث، الواحدة فى الأخرى يكون لها مزيج واحد من النور. فعندما ننظر إلى الألوهية، إلى العلة الأولى والمونارخيا، فإن ما ندركه هو واحد، بينما عندما نتطلع إلى من فيهم الألوهية واللذين يأتيان من العلة الأولى، لا فى زمن، ولهما نفس المجد، فإنهم يكونون ثلاثة، هؤلاء الذين نعبدهم(41) .

إن كل واحد من هؤلاء الثلاثة يوجد فى وحدة مع الآخر ليست بأقل مما هى مع نفسه ، وذلك بسبب ما لهم من نفس الجوهر ونفس القدرة . هذا هو علة وحدتهم (16) .

إن العهد القديم كرز بالآب وبالابن بغموض. والعهد الجديد أظهر الابن وأوحى بألوهية الروح القدس. والآن، يسكن الروح فينا ويمدنا بشهادة أوضح عن نفسه. ولم يكن مأمونًا ـ فى الوقت الذى لم تكن ألوهية الآب قد عُرفت بعد ـ أن يُعلَن الابن بوضوح. ولا قبل التسليم بألوهية الابن أن نُثَّقل (إذا جاز التكلم بأكثر جرأة) بإعلان الروح القدس، وإلا كان للبشر كمن يتثقلون بطعام أكثر مما يحتملون، أو كمن يوجهون أنظارهم ـ وهى أضعف من أن تُحتمل ـ إلى نور الشمس ويخاطرون بفقدان حتى ما كان فى حدود طاقتهم. ولكن بإضافات تدريجية، وكما يقول داود؛ بالترقى إلى أعلى وبالتقدم من مجد إلى مجد؛ فإن نور الثالوث يتلألأ على من هم أكثر استنارة. ولأجل هذا السبب، كما أظن، جاء بالتدريج ليسكن فى التلاميذ آخذًا فى الاعتبار قدرة الذين يتقبلوه، أى فى بداية الإنجيل عندما يجترحون المعجزات، وبعد الآلام بالنفخ فى وجوههم، وبعد الصعود بالظهور فى ألسنة من نار.

وقد كشف عنه يسوع شيئًا فشيئًا، كما سوف تدرك أنت بنفسك إذا كنت تقرأ بأكثر انتباه ما يقوله “ وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر روح الحق ” (يو16:14،17) حتى لا يعتقد أحد أنه مُضاد لله، أو كما لو أنه يتكلم بسلطان قوة أخرى. وهو بعد ذلك يربط كلمة “سيرسله ” بعبارة ” باسمي ” (يو26:14) أى أنه ترك لفظة ” أطلب ” بـ “سيرسله ” (يو7:16) ويتبع ذلك قوله ” أرسله ” حتى يُظهر بهذا كرامته الخاصة، ثم يقول ” متى جاء ” ليشير إلى سلطان الروح (26) .

إنه ينبغى علينا فيما يقول القديس غريغوريوس ـ أن نُكَرِّم الله الآب ـ والله الابن، والله الروح القدس؛ ثلاثة أقانيم، لاهوت واحد لا ينقسم فى المجد والكرامة والجوهر والمُلك (28).

وعن ” التَأَلُه ” الذى يتحقق بالروح القدس؛ يقول القديس غريغوريوس :

فإذا لم تكن عبادته واجبة فكيف سوف يؤلهني بالمعمودية؟ أما إذا كان يجب أن يُعْبَد، فكيف لا يكون موضوعًا للعبادة؟، وإذا كان موضوعًا للعبادة فكيف لا يكون هو الله؟. إن الواحد يرتبط بالآخر فى سلسلة ذهبية ومخلصة. من الروح يأتى ميلادنا الجديد، ومن ميلادنا الجديد تأتى خلقتنا الجديدة (استعادة حالتنا الأولى)، ومن خلقتنا الجديدة تأتى المعرفة العميقة بكرامة ذاك الذى حقق لنا هذه الخلقة (28) .

وبعد ذلك يتحدث القديس غريغوريوس عن شهادة الكتاب المقدس ويقول :

لاحظ هذه الحقائق : المسيح يولد والروح القدس يُبَشر به. المسيح يعتمد والروح القدس يشهد له. المسيح يُجَرَبّ والروح القدس يقوده إلى أعلى (إلى الجليل). يجترح المعجزات والروح القدس يرافقه. المسيح يصعد والروح القدس يواصل عمله فأى من الأشياء العظيمة التى يمكن لله أن يعملها ولا تكون فى استطاعته؛ وأى من الأسماء تُطلق على الله ولا تُطلق عليه ما عدا ” اللا مولود والمولود“، لأنه كان من الضرورى أن تظل الخصائص المميزة للآب والابن خاصة بهما حتى لا يكون هناك اختلاط فى الألوهة، التى تجعل كل الأشياء، حتى غير المنتظمة فى ترتيب ونظام حسن .

دُعىّ الروح القدس بروح الله، روح المسيح، فكر المسيح، روح الرب، الرب نفسه، روح التبنى، والحق، والحرية، روح الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة والتقوى وخوف الله، لأنه هو الذى صنع كل هذه. وهو يملأ الكل بجوهره ويحتوى الأشياء. يملأ العالم من جهة جوهره، ولا يحد العالم قدرته. إنه صالح، مستقيم، مُرشد يقدس بطبيعته وليس بالتبنى، يقيس ولا يُقاس، يُشترك فيه ولا يُشارك، يملأ ولا يُملأ، يحتوى ولا يُحتوى. يُؤخذ ميراثًا، يُمجد، يُحصى مع الآب والابن، يُؤخذ كعامل للتهديد (للوعيد).

هو إصبع الله، نار مثل الله، حتى يظهر ـ كما أعتقد ـ من نفس جوهر الله. إنه روح خالق، يجدد الخلقة بالمعمودية والقيامة؛ الروح الذى يعرف كل شئ. المعلم الذى يَهُب حيث يشاء وبقدر ما يشاء، الذى يتكلم، الذى يُفرز، الذى يغضب، الذى يُجَرِّب، الذى ينير ويُحيى، وبالأحرى هو النور والحياة. الذى يصنعنا هيكله، ويؤلهنا، ويكملنا، حتى أنه يسبق المعمودية ويُطلب بعد المعمودية. إنه يفعل كل ما يفعله الله، وينقسم إلى ألسنة من نار، ويوزع المواهب. يصنع الرسل والأنبياء والمبشرين والرعاة والمعلمين.

إنه فهم، شامل، واضح، نافذ (صائب)، لا يُعاق ولا يشوبه فساد، كلى القدرة كلى الرقابة، ينفذ فى جميع الأرواح الفهيمة، الطاهرة، اللطيفة (أى القوات الملائكية)، كما بالنسبة إلى الأنبياء والرسل بنفس الطريقة، ولكن ليس فى نفس الأمكنة، لأنهم يعيشون فى أماكن متفرقة، وهذا يدل على أن الروح القدس غير محدود (29) .

 

الصعوبة فى أن نطلب فى الأشياء الأرضية ما نُشَّبه به الطبيعة الإلهية :

يقول القديس غريغوريوس :

لقد فكرت كثيرًا عَلَّنى أجد صورة ما لهذا الأمر الهام جدًا، ولكنى لم أجد فى الأمور الأرضية ما يمكن أن أشبه به الطبيعة الإلهية؛ لأنه حتى وإن وُجد الشئ القليل من هذا التشابه، فإنه يفوتنا الجزء الأكبر، ويتركني تحت مع تشبيهاتي. لقد تصورت كما تصور غيري، نبعًا ومياهًا جارية ونهرًا عَلَّني أجد تماثلاً بين الآب والنبع، وبين الابن والمياه الجارية، وبين النهر والروح القدس، ذلك لأن هذه الأشياء لا تمايز بينها فى الزمن، ولا يحدث تصديع فى ارتباط الواحد بالآخر على الرغم من أنها تظهر متجزئة إلى خصائص ثلاث. ولكن خشيت فى بادئ الأمر أن أتمثل نوعًا من الجريان فى الألوهه غير قادر على التوقف، وثانيًا ربما يتبع هذا التشبيه القول بأقنوم واحد، ذلك لأن النبع والمياه الجارية والنهر شئ واحد فى العدد ومختلفة فى الهيئة (31).

وأيضًا فكرت فى الشمس والشعاع والنور، ولكن هنا أيضًا ثمة تخوف من أن نتصور تركيبًا فى الطبيعة (الإلهية) غير المركبة. على نحو ما يوجد بالنسبة للشمس والأشياء التى فيها. وثانيًا خشية أن نعطى الجوهر للآب وننكر أقنومية الآخرين ونعتبرهما كمجرد قوتين لله، توجدان فيه بدون أقنومية، ذلك لأن الشعاع ليس شمسًا والنور ليس شمسًا، بل هما فيضًا من الشمس وخصائص جوهرية لها، وأيضًا خشية أن يقودنا هذا المثل إلى أن ننسب الوجود وعدم الوجود معًا إلى الله (32) .

أخيرًا فيما يقول القديس غريغوريوس، قد بدا لى من الأفضل أن أترك الصور والظلال من حيث إنها خادعة وتبعد كثيرًا عن الحقيقة، وأن أتمسك بالفكر التقوى، وأكتفى بألفاظ قليلة مستعينًا بإرشاد الروح، وأن أحافظ حتى النهاية على الاستنارة التى تسلمتها منه، لتكون لى كرفيق وشريك أصيل، وأن أسير فى هذا العالم محاولاً إقناع الآخرين أيضًا بقدر استطاعتى ليعبدوا الآب والابن الروح القدس، إلهًا واحدًا وقدرة واحدة، الذى له كل مجد وكرامة وجبروت إلى أبد الآبدين أمين (33) .

 

الخطاب الواحد والأربعون في يوم الخمسين

فى خطابه فى عيد الخمسين ـ على الرغم من أن القديس غريغوريوس يتكلم عن نفس الموضوع الذى تكلم عنه فى خطابه اللاهوتى الخامس؛ أى عن لاهوت الروح القدس؛ فهو يستخدم براهين أخرى تختلف عن تلك التى استخدمها هناك. فنحن هنا إزاء عرض لعمل الروح القدس الخارق فوق الطبيعي، كخالق للعالم وللحياة الجديدة فى الإنسان وهو يتناول فى حديثه النقاط التالية :

أولاً : يتحدث عن الروح القدس من حيث إنه هو الله الخالق، ويؤكد أن الثالوث إله واحد. وهو يشير إلى هؤلاء الذين يضعون الروح القدس بين المخلوقات، ويصفهم بأنهم مجدفون وعبيد أردياء، بل أردأ الأردياء. إن الروح القدس ـ كما يقول ـ وُجِدَ دائمًا وهو يوجد الآن وسوف يوجد على الدوام، ليس له بداية ولن تكون له نهاية، وهو دائمًا يُحسب ويرتب مساويًا للآب والابن لأنه لم يكن من المناسب أبدًا أن يوجد الآب بدون الابن أو الروح بدون الابن، لذلك فهو دائمًا يُشترك فيه ولا يأخذ من أحد، كامل لا يحتاج لأن يتكامل، هو ملء لا يحتاج لأن يمتلئ، هو يُقدِّس ولا يتقدَّس، إله ولا يكتسب الألوهية.

هو دائمًا نفس الشئ لنفسه ولمن يرتب معهما (الآب والابن)، غير مرئى، أبدى، لا يحده مكان، ولا يتغير، لا كيف له ولا كم، بلا هيئة، غير محسوس، ذاتى الحركة، ومتحرك دائمًا، ذو إرادة حرة، له قوة فى ذاته (على الرغم من أن كل ما هو للروح ـ شأن كل ما هو للابن ـ يُنسب إلى العِلة الأولى)، وهو الحياة والمُحيي، النور وواهب النور، صالح بذاته ومصدر الصلاح، روح الاستقامة وروح السيادة، الرب المُرسل، المفرز، بانى الهيكل لنفسه، المرشد الفاعل حسب ما يشاء، موزع المواهب، روح النبوة، والحق والحكمة والفهم والمعرفة والتقوى والمشورة والقوة والخوف (وهى الصفات التى يُنعت بها).

به يُعرف الآب ويُمجد الابن، وبهما فقط هو يُعرف. كيانٌ واحد، عبادة واحدة، سجود واحد، قوة واحدة، كمال واحد، قداسة واحدة، ولماذا أطيل الكلام (فيما يقول القديس غريغوريوس): إن كل ما للآب فهو للابن ما عدا ” اللا ولادة ” وكل ما للابن فهو للروح القدس ما عدا ” الولادة “، وهذه لا تُقسم الجوهر، بل هى تميزات (أقانيم) للجوهر الواحد(9).

من أجل هذا قد جاء بعد المسيح حتى لا ينقصنا المُعَزِّى. على أنه مُعَزٍّ آخر، حتى تدرك أنت المساواة فى الكرامة بين الاثنين، لأن هذه اللفظة ” آخر “ تعنى شخصًا آخر مثلى. وهذه التسمية تشير إلى المساواة فى السيادة، وليس اسمًا لعدم المساواة؛ لأنى أعرف أن كلمة ” آخر” لا تُطلق على نوعيات مختلفة، بل على أشياء بها نفس الجوهر، ولقد جاء فى هيئة ألسنة بسبب اتحاده الوثيق بالكلمة وكانت هذه الألسنة من نار، إما بسبب قوته المُطهرة وإما بسبب جوهره، لأن الرب إلهنا هو نار آكلة يبيد الشر … وفى العليا حتى أن الذين قبلوه يرتفعون روحيًا فوق ما هو تحت .

 

ثانيًا : عن فاعلية الروح القدس فى القوات الملائكية السماوية :

إن الروح القدس فعل أولاً فى القوات الملائكية السماوية من حيث إنها فى المرتبة بعد وحول الله، وليس هناك من مصدر آخر لكمالها واستنارتها، وكذلك صعوبة أو استحالة تحركها نحو الشر سوى الروح القدس (11) .

 

 

 

ثالثًا : فاعلية الروح القدس فى الإنسان :

ثم فعل الروح القدس فى الآباء والأنبياء. ولقد رأى الآباء رؤى إلهية أو عرفوا الله، بينما أن الأنبياء عرفوا مسبقًا المستقبل، إذ قد استنارت عقولهم بالروح القدس وعاشوا أحداث المستقبل كأنها فى الحاضر لأن هذه هى قوة الروح القدس .

وكذلك فعل الروح القدس فى تلاميذ المسيح الذى فيه الروح القدس ليس كمجرد قوة بل كمرافق لمساوٍ له. لقد فعل الروح القدس فى التلاميذ بطرقٍ ثلاث على قدر ما كانت طاقتهم تسمح بتقبله، وكذلك فى مراحل ثلاث: قبل أن يتمجد المسيح بالآلام، وبعد أن تمجد بالقيامة، وبعد صعوده أو رجوعه (أو كما يجب أن نسميها باسم آخر) إلى السماء. فى المرحلة الأولى تمثلت فاعلية الروح القدس فى شفاء المرضى، وفى طرد الشياطين، فهذه الأمور ما كانت لتتم بدون الروح القدس، وبعد القيامة نفخ فيهم وبلا شك كانت نفخة إلهية، وبعد الصعود، تم توزيع ألسنة الروح القدس النارية التى يُحتفل بها فى يوم الخمسين .

فى المرة الأولى كان ظهور الروح القدس غير واضح، وفى المرة الثانية كان أكثر وضوحًا، وأما الآن فالروح يحضر بشكل أكمل حيث إنه لا يحضر فقط كقوة بل كأقنوم، يرافقنا ويُصاحبنا لأنه يكون من المناسب أنه كما أن الابن عاش بيننا فى الجسد، فهكذا يجب أن يظهر الروح فى هيئة جسدية، وإذ يرجع إلى المسيح إلى مكانه الخاص فإن الروح القدس ينزل إلينا وهو (أى الروح القدس) يأتى إلينا لأنه هو، وهو يُرسَّل لأنه ليس إلهًا مناوئًا، فهذه الأسماء تُظْهِر بالأكثر الوحدة ولا تفصل بين الطبائع (11) .

 

رابعًا : العمل المشترك بين المسيح والروح القدس فى الخلقة وفى القيامة :

يشارك الروح القدس المسيح فى الخلقة وفى القيامة كما يبدو من الآيات التالية : “ بكلمة الرب صُنعت السماوات فيه كل جنودها ” (مز6:133) ” روح الله صنعنى ونسمة القدير علمتنى ” (مز4:133) ، وأيضًا ” ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض ” (مز3:104) .

والروح القدس هو الذى يلدنا من جديد روحيًا، وهذا هو البرهان: إن أحدًا لن يستطيع أن يرى أو يدخل ملكوت السموات إلاّ إذا وُلد ثانيةً من الروح القدس، وإلا إذا كان قد تطهر من الميلاد الأول. هذا الروح لأنه الأحكم والأكثر حبًا للبشرية، إذا امتلك الراعى حَوَّله إلى مرتل يقهر الأرواح الشريرة بمزاميره، ونصّبه ملكًا على إسرائيل، وإذا امتلك المَعَّاز (راعى المعز) الذى يجمع التوت حَوَّله إلى نبى. عليك أن تتذكر داود وعاموس. وإذا امتلك شابًا فطنًا جعله قاضيًا للكبار الذين يتجاوزونه فى العمر، كما يشهد على ذلك دانيال الذى قهر الأسود فى عرينها.

وإذا امتلك صيادين، جعلهم يصطادون العالم كله فى شباك المسيح. خذ مثالاً لذلك بطرس وأندراوس وابنى الرعد، الذين كرزوا بالروحيات بكل قوتهم، وإذا امتلك عشارين حوّلهم إلى تلاميذ له وجعلهم تجارًا للنفوس، ويشهد على ذلك متى؛ بالأمس كان عشارًا وأما اليوم فقد صار بشيرًا، وإذا امتلك مُضَطِهِدين شديدى الحمية، حوّل اتجاه غيرتهم وجعلهم بولس بدلاً من شاول، وملأهم بروح التقوى بعد أن كانوا ممتلئين من الشر. إنه روح الوداعة ولكنه يشتط غضبًا على أولئك الذين يجترفون الإثم (14) .

 

خامسًا : موهبة التكلم بألسنة :

تكلم الرسل بلغات أخرى وليس بلغتهم الأصلية (لغة الوطن) وكانت الدهشة عظيمة، فإنهم يتكلمون بلغة لم يتعلموها، وكانت المعجزة لنفع الذين لم يؤمنوا وليس للمؤمنين، لتكون شاهدًا عليهم كما هو مكتوب ” إنه بشفة لكناء وبلسان آخر يكلم هذا الشعب، ولكن لم يشاءوا أن يسمعوا لى، يقول الرب ” (إش 11:38) .

ويؤكد القديس غريغوريوس إن المعجزة كانت فى أفواه المتكلمين لا فى آذان السامعين(15).

 

BIBLOGRAFIA

1 ـ غريغوريوس النزينزى : الخطب 27 ـ 31 اللاهوتية ـ ترجمة الأب حنا الفاخورى ـ منشورات المكتبة البوليسية ـ لبنان ـ 1993م .

2- GRHGORIOS O QEOLOGOS , 5 LOGOI ( PATERIKAI EKDOSEIS GRHGORIOS O PALAMAS QESSALONIKH 1977.

3- GRHGORIOS O QEOLOGOS , MEROS B ( BIBLIOQKH ELLHNWN PATERWN AQHNAI 1979.

4- Phan (P.C.), Grace and The Human Condition (Message of the Fathers of the Church, 15), 1988. Michael Glazier, Wilmington Delaware .

5 – Burgess (S.M.), The Spirit and the Church: Antiquity (Hendrickson Publishers, U.S.A. 1984).

6-PAPADOPOULO (S.G.), GRHGORIOS O QEOLOGOS KAI AI PROPOQESEIS PNEUMATOLOGIAS AUTOY, TEUCOS B EKDOSIS TRIH, AQHNAI. 1989.

الروح القدس فى كتابات القديس غريغوريوس النزينزي (الثيؤلوغوس)

Exit mobile version