انتصار الشهداء دراسة عن الاستشهاد فى مصر (1)
انتصار الشهداء – دراسة عن الاستشهاد فى مصر (1)
انتصار الشهداء – دراسة عن الاستشهاد فى مصر فى عصر الإمبراطور دقلديانوس (1) [1]
الباحث جورج ميشيل أندراوس
من يطلّع على تاريخ وأحداث اضطهاد دقلديانوس وأعوانه يتوقع عدم بقاء المسيحية فى مصر، خاصة وأن من كان يقاوم المسيحية إمبراطورية عسكرية كبرى، اضطهدت المسيحيين وعذبتهم بأسلحة متنوعة ووسائل عنيفة ووحشية، لكن هذا لم يحدث إطلاقًا بل على العكس، فإن هناك عدد غير قليل من بين جمع الوثنيين ومن المضطهدين، والذين شاهدوا بعيونهم ثبات الشهداء وشجاعتهم، تحوّل للمسيحية، كما أن هذا الاضطهاد الدقلديانى انتهى بتحوّل الإمبراطورية نفسها إلى المسيحية.
لأجل هذا فإننا نمجد الشهداء ونمدحهم ونعتبر استشهادهم انتصار عظيم على قوى الشر، وهزيمة للشيطان المحرك الحقيقى للاضطهاد، والذى يقف ضد عمل الخلاص الذى قدمه المسيح.
فى هذا المقال نريد أن نجيب على عدة تساؤلات وهى:
أ ـ لماذا فضّل الشهداء ” الموت ” ؟.
ب ـ وبأى قوة غلبوا ؟.
ج ـ ولماذا نعتبر أن استشهادهم انتصار ؟
فى إجاباتنا على هذه التساؤلات سنستخدم أقوالهم، وإجاباتهم فى المحاكمات المسجلة، واعترافاتهم أمام الولاة، وشهادتهم أمام الوثنيين وإرشادهم وعظاتهم للمؤمنين. ولنقسم الموضوع إلى العناصر التالية:
محبة الشهداء للمسيح:
لقد أحب الشهداء المسيح أكثر من كل ممتلكاتهم بل وأكثر من حياتهم نفسها، وانطبق عليهم قول الكتاب: “.. ولم يحبوا حياتهم حتى الموت” (رؤ11:12). ولم يكونوا فاقدى العقل أو يائسين من الحياة كما ظن البعض[2]، كما أن محبتهم لعائلاتهم لم تمنعهم من أن يقدموا حياتهم محبة للمسيح الملك الحقيقى على نفوسهم. كل هذا فعلوه بسبب محبتهم وطاعتهم لإرادة الله. وحينما كانت محبتهم لذويهم تتعارض مع إرادة الله، نجدهم يضحون بهذا التعلق العاطفى والزمنى من أجل طاعة الله (انظر مت37:10). لقد تلقى أبادير وإيرائى أخته دعوة إلهية للاستشهاد ولذلك ذهبوا إلى الأسكندرية على الرغم من معارضة أمهم[3].
وفى سيرة الشهيد بقطر بن رومانوس[4]، نجد توبيخه المستمر لأبيه لابتعاده عن الإله الحقيقي وعبادته للآلهة الوثنية، كما أن محبته الشديدة لأمه لم تقف حائلاً ضد محبته النارية لله حتى أنه رفض التضحية للأوثان، وبذلك ضحى بحياته وموقعه العسكرى وعائلته. كما أن والده نفذ تهديده له وسلمه إلى دقلديانوس.
كان هدف الشهداء إرضاء الله ضابط الكل، الأزلى الأبدى، وليس إرضاء إمبراطور أرضى زائل. لذا يوجه الشهيد بفنوتيوس الناسك كلامه للوالى اريانوس قائلاً: [.. لا أقدم ذبيحة لأى شخص إلاّ لإلهى ضابط الكل والملك الأبدى][5].
لقد شعر هؤلاء الشهداء أنهم يشاركون بدمائهم فى المحبة التى قدمها الرب أولاً بسفك دمه، لذلك اخضعوا إرادتهم للإرادة الإلهية من أجل محبتهم لله. يقول البابا بطرس خاتم الشهداء [… لأنه كما ترون فإننى أسير فى طريق محبة الله، ومن أجله فإننى أخضع إرادتى له][6].
أصبح الألم شعارًا للمجد والنصرة، حينما صار هذا الألم شركة مع الرب المتألم محب البشر. وحيث يوجد الصليب توجد المحبة، لأنه علامة الحب الذى غلب الموت وقهر الهاوية واستهان بالخزى والعار والألم[7].معنى ذلك أن المحبة هى الحلقة التى ربطت بين قلب المسيح المصلوب وبين قلوب هؤلاء المتألمين من أجله. ومن خلال هذه الوحدة بين المسيح والشهداء، فإن الرب غالب الموت وهب هؤلاء الشهداء النصرة على الموت أيضًا.
الرجاء فى القيامة والحياة الأبدية:
التوجه الإسخاتولوجى (الأخروى) للشهداء هو عنصر أساسى فى اعترافاتهم، ومُشجع لهم على صبرهم واحتمالهم. كان لدى الشهداء رجاءً راسخًا أنهم بعد هذا الموت الجسدى سيتمتعون بالحياة الأبدية مع المسيح، والتى من أجلها كانوا يتحملون عذاباتهم وآلامهم حتى الاستشهاد. ونلاحظ فى اعتراف الأسقف الشهيد أمونيوس تعبيرًا واضحًا عن هذا التوجه مستخدمًا كلمات المسيح معلّمه، مثل من يضيع نفسه من أجلى يجد الحياة الأبدية. إن أراد أحد أن يخدمنى فليتبعنى، وغيرها[8].
كذلك نجد أن اهتمام الشهداء بالأرضيات يتلاشى أمام الاهتمام بالأبديات. ففى حديث القديسة كاترينة، شهيدة الأسكندرية الشهيرة، نرى ذلك واضحًا: [ الجمال الذى يزهر اليوم، غدًا يذبل ويفنى بالموت][9].
والقديسة مورا زوجة القارئ تيموثاوس أجابت على تساؤل أمها، لمن ستترك مجوهراتها وملابسها، بنفس المنطق السابق قائلة: [ إن الذهب يُفقد، والملابس تأكلها العثة، والجمال يذبل وينتهى مع الزمن، ولكن إكليل يسوع المسيح يبقى غير فاسد فى الأبدية][10].
يوجه القديس بقطر كلامه لأمه قائلاً: [ فى الأرض يفسد السوس، وذكرى (الشرير) تُباد من الأرض ولا اسم له على وجه البَّرِ. لهذا فإن الإنسان لابد أن يعمل مشيئة الله لكى يعيش الأبدية][11]. لذا نجد أن الأسقف أمونيوس يطلب من رعيته أن يصبروا على الألم فى هذا العالم، لأنه لا شئ يساوى المجد الذى يهبه الله لهؤلاء الذين يحبونه[12]. لأجل هذا فإن الشهداء لم يغلبهم الحزن على جروحاتهم ولا على أوجاعهم، ولا على أعضاء جسدهم المُمزقة أمام أعينهم عالمين ومُدركين أنه فى العالم كل الأشياء تقود للفناء.
إذن فإن الشهداء كانوا يؤمنون بالحياة الأبدية، وأن حياتهم الأبدية تتطلب أن يكونوا أمناء فى حياتهم الأرضية، يعرفون جيدًا من هو ملكهم الحقيقى. ولم يكونوا ضد الحياة أو بلا عقل كما وصفهم الوثنيون جهلاً.
القديس بفنوتيوس المتوحد وجه كلامه للأربعين قائدًا، الذين كانوا معه فى السجن، والذين كان قد جذبهم للمسيح قائلاً: [ … حينما تعترفون باسم المسيح فإنكم تتحررون من عصيانكم وتمحون صك خطاياكم. وكمواطنين تتذوقون أورشليم السمائية، مسجلين أسماءكم فى كتاب القديسين الأحياء فى الأبدية ][13].
أبلغ القديس مار مينا الحاكم قبل شهادته قائلاً: [ موطننا هو فى السموات. أما المجد والكرامة فى هذا العالم فهما مؤقتان، ولا يُحسبا شيئًا بالمقارنة بمجد الله. والإيمان والاعتراف بالمسيح يجعلنا وارثين للنور الأزلى والحياة الأبدية ][14].
الوعد بالحياة الأبدية لم يبق مجرد كلام، وإنما تذوقه الشهداء بالفعل عن طريق الأحلام والرؤى؛ فالشهداء رأوا المسيح أو الملائكة فى ظهورات ورؤى. وفى هذه الظهورات قد تكلم المسيح أو الملائكة عن الخيرات السماوية، عن المجد وعن الأكاليل التى تنتظرهم، وكان هذا عاملاً مشجعًا أمام آلامهم، كما كان تذوقًا مسّبَقًا لهذا المجد وللحياة الأبدية[15].
كانت الشجاعة والأخلاق التى أظهرها الشهداء تعكس حقيقة الأبدية، على عكس الحال فى العالم الوثنى، الذى لم يكن يفكر أو يهتم أو يؤمن بهذا. لقد أدرك الشهداء أنهم إذا ذبحوا للأوثان أو أظهروا أية إماءة أو إشارة لتكريم الآلهة الوثنية والإمبراطور، سيتجنبون العقاب والموت. لكنهم عرفوا فى الوقت نفسه، أن ذلك كان سيعنى خسارة أبديتهم.
لما كان هؤلاء الشهداء يخافون الموت الأبدى الروحى، ولا يخافون موت الجسد فإنهم رفضوا كل المحاولات التى بُذلت من السلطة الإمبراطورية، والتى حاولت إغراءهم بالتكريم والمكانة، على حساب الإيمان بالله ضابط الكل.
كان كل من الشهيدين فيلورومس (الذى كان يشغل مركزًا ممتازًا ربما وزير الخزانة فى مصر أو قائد عسكرى رفيع المقام) وفيلياس (أسقف تيمى) من هؤلاء الذين رفضوا أن يذبحوا للأوثان، لأنهم فضلوا ألاّ يختاروا الحياة الحاضرة. عن أن يحتقروا وصايا المخلص[16]. حينما رفض فيلياس أن يذبح للأوثان فإن كلسيانوس الوالى سأله لماذا لا تذبح، فأجابه الأسقف القديس: [يقول الكتاب المقدس: “من ذبح لآلهة غير الرب وحده يهلك” (خر20:22)][17].
طالما أن الحرب كانت روحية، مبعثها ومحركها هو الشيطان نفسه (انظر أف12:6)، لذلك فإن الدافع لقبول الاستشهاد لم يكن سياسيًا وإنما اسخاطولوجيًا أخرويًا. كما أن الانتصار النهائى هو أبدى والاستشهاد بالتالى لم يكن هزيمة وإنما أكبر انتصار. وفى هذا الإطار يقول القديس يوحنا ذهبى الفم: [ .. موت الشهداء انتصار للشهداء][18]، وفى موضع آخر يبيّن أن موت الشهداء هو انتصار لهم، وهزيمة لمن قتلوهم[19].
من أجل هذا فإن أيقونة الاستشهاد القبطية تعبّر عن هذا التصور وهذا المفهوم، إذ الشهداء يظهرون فيها منتصرين، فرحين وهادئين كمن نسوا عذاباتهم وجراحاتهم منذ زمن طويل. كما نجد من القديسين الشهداء من يظهر مرتادًا حصانًا، محاربًا مع تنين، والذى يمثل الشيطان[20]. كما أنها عادة لا تصور عذاباتهم وآلامهم التى اجتازوها. (يتبع)
[1] انظر لكاتب المقال، رسالة ماجيستير بعنوان ” اضطهاد دقلديانوس وخلفائه فى مصر”، تسالونيكى 2002 (باللغة اليونانية).
[2] أوضح الأسقف أمونيوس أسقف إسنا ذلك لاريانوس الوالى معلنًا أن الشهداء ليسوا مجانين، ولكنهم أحبوا المسيح أكثر من أنفسهم. انظر مخطوط 638 البطريركية القبطية، تاريخ 44، ورقة 97 ـ ظهر 99 وجه، المنشور فى كتاب شهداء مدينة إسنا، د. أنطون خاطر، القاهرة، أورشليم 1981.
[3] R. Graffin, F. Nau, Patrologia Orientalis, Vol 1, Paris 1903, p. 303.سنكسار 28 توت
[4] مخطوط 7022 المتحف البريطانى، انظر E.A. Budge, Coptic Martyrdom in the Dialect of Upper Egypt, London 1914.، سنكسار 27 برمودة.
[5] مخطوط يونانى رقم 1660، بمكتبة الفاتيكان، ورقة 349 ظهر، نُشر فى Analecta Bollandiana, Bruxelles, Vol. 40 (1922) p. 330 ، سنكسار 20 برمودة.
[6] راجع :J. Viteau, Passion des Saints Ecaterine et Pierre d’ Alexandrie Barbara et Anysia, Paris 1897, p. 73
[7] المتنيح الأنبا يؤانس، المسيحية والألم، القاهرة 1999، ص 27.
[8] انظر د. أنطون خاطر، المرجع السابق، ص 27، راجع مر34:8ـ35، لو23:9ـ25، يو16:12.
[9] انظر ديمترى تسامس، استشهاد القديسة كاترينة أ: 19 فى كتابه سجل شهداء سيناء، تسالونيكى 1989، ص66ـ68 (باليونانية)؛ انظر القديسة كاترينة لسمعان المترجم، تعريب الأب افرام كرياكوس (عن اليونانية الحديثة)، مشنورات النور، 1984.
[10] استشهاد تيموثاوس ومورا انظر: Acta Sanctorum, Mai I, p. 743؛ انظر أيضًا المتنيح الأنبا يؤانس، الاستشهاد فى المسيحية، القاهرة 1969، ص 211 ـ 217.
[11] انظر مخطوط 7022 ورقة 10 أ. راجع مت19:6، أي17:18.
[12] انظر مخطوط 638 ورقة 91 ظهر.
[13] راجع مخطوط 1660 ورقة 352 ظهر، منشور فى Analecta Bollandiana Vol. 40 (1922) p. 332.
[14] Bibliotheca Hagiographica Graeca, no. 1254, Bruxelles 1957 ed. F.Halkin (نص الاستشهاد بحسب Krumbacher, Miscellen Zu Romanos, pp. 31 – 43).
[15] فى بعض سير الاستشهاد يُذكر انسكاب دم وسائل أبيض كاللبن عند قطع الرأس. السائل الأبيض يرمز للغذاء الروحى الذى تناوله الشهداء أثناء حياتهم على الأرض، وأيضًا عربون ورمز لهبة الأبدية. انظر Κ. Π. Χαραλαμπίδου قطع رأس الشهداء، تسالونيكى 1983، ص 79 ـ 82 (باليونانية).
[16] انظر يوسابيوس القيصرى، تاريخ الكنيسة 8:9:8.
[17] انظر سلسلة آباء الكنيسة اليونانية، مجلد 30، ص 338.
[18] PG50, 581.
[19] PG 50, 671.
[20] مثل أيقونة الشهيد العظيم مارجرجس والشهيد الأمير تادرس الشطبى والشهيد العظيم مرقوريوس أبو سيفين.