قيامة المسيح وثمارها (2) – د. نصحي عبد الشهيد
قيامة المسيح وثمارها (2) – د. نصحي عبد الشهيد
القسم الثانى: فاعلية قيامة المسيح
تحدثنا فى القسم الأول من هذا الموضوع [1] حول أربع نقاط عن:
أولاً: المسيح هو القيامة لأنه هو الحياة بطبيعته.
ثانيًا: القيامة والصليب متلازمان.
ثالثًا: القيامة محور كرازة الرسل.
رابعًا: جسد المسيح فى القيامة والتعرف على شخص المسيح بعد القيامة والتغييرات التى حدثت فى جسده بالقيامة.
والآن نستكمل حديثنا عن فاعلية قيامة المسيح وامتدادتها منه إلى المؤمنين وإلى الخليقة كلها، وفاعليتها فى الحياة الحاضرة وحتى الدهر الآتى.
خامسًا: المسيح باكورة الراقدين:
نتحدث الآن عن فاعلية قيامة المسيح فى المؤمنين به أو بالأحرى فى أجسادهم، فالمسيح هو بذاته الحياة الذى يعطى الحياة لكل المخلوقات، كما ذكرنا فى القسم الأول. ولذلك فإن قيامة المسيح هى بداية القيامة للجميع من بين الأموات كما يعلن الرسول بولس فى الإصحاح الخامس عشر فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. فالرسول بولس يربط ربطًا وثيقًا بدون أدنى إنفكاك بين قيامة المسيح وقيامة الأموات.
حتى أنه يقول إنه ” لو لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام، وإن لم يكن المسيح قد قام فكرازتنا باطلة وباطل أيضًا إيمانكم” (انظر 1كو13:15و14). وهو بهذا يجعل الإيمان بقيامة المسيح وحدة واحدة مع قيامة المؤمنين من بين الأموات، حتى إذا افترضنا أنه لن تكون هناك قيامة للأموات فى المستقبل فهذا يلغى حقيقة أن المسيح قد قام فعلاً.
فلا يمكن الإيمان بأن المسيح قام إلاّ إذا كان هذا معناه أن تكملة قيامته ستكون بإقامة أجساد الراقدين عند مجيئه الثانى. وهكذا يعلّم الرسول أنه بدون وجود رجاء عند المؤمنين بأنه ستكون هناك قيامة للأموات فإن الكرازة بإنجيل المسيح ستصير باطلة، ويكون إيمان الذين آمنوا بالمسيح باطل، لأنه لو كانت قيامة المسيح تتوقف عند مجرد ظهوره هو حيًا لتلاميذه ولا تمتد إلى نهاية الدهر الحاضر وتظهر فاعليتها فى إقامته لأجساد الراقدين، فإن الإيمان بالمسيح يكون عديم الجدوى والفاعلية.
حتى أن الرسول بولس يقول لأهل كورنثوس: ” وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم أنتم بعد فى خطاياكم” (1كو17:15). أى كل ما عمله المسيح بالصلب والقيامة الظافرة من الموت لا يكون له فاعلية لنوال الغفران إن لم نؤمن أن الموتى سيقومون امتدادًا لقيامة المسيح. وهكذا نجد الرسول يتهلل بتسبحة النصرة قائلاً: ” ولكن الآن قد قام المسيح من بين الأموات وصار باكورة الراقدين” (1كو20:15).
الرسول يستعمل كلمة “باكورة” عن قيامة المسيح، والباكورة كلمة مستعارة من حصاد القمح فى العهد القديم. فالحقل الذى يتم حصاده تكون أول حزمة من هذا الحصاد “باكورة”. والباكورة تبشر بأنه سيتلوها حزم حصاد متوالية إلى أن يكتمل حصاد الحقل. فالمسيح هو باكورة الراقدين، أى أول من قام بالجسد الذى لا يسود عليه الموت.
فهناك موتى قاموا فى العهد القديم وموتى قاموا فى العهد الجديد قبل قيامة المسيح، ولكن هؤلاء ليسوا باكورة لأنهم ماتوا مرةً أخرى واضمحلت أجسادهم بعدما أُقيموا بعمل معجزى مثل لعازر الذى أقامه الرب بعدما أنتن فى القبر، فإنه بعد أن عاش فترة وصار أسقفًا، فإنه تنيح ودُفن جسده، ونعيد بتذكار نياحته حسب السنكسار. وهذا التذكار هو غير تذكار إقامة الرب للعازر الذى ذكره القديس يوحنا البشير فى إصحاح 11 من إنجيله.
وهذا هو الفرق بين قيامة المسيح والقيامات الأخرى، أن كل القيامات الأخرى التى حدثت لبشر، مات أصحابها مرة أخرى، أما المسيح فهو باكورة قيامة الأجساد التى لا تموت لأنها أجساد الخلود والحياة الأبدية.
ويقول الرسول بعد ذلك إنه كما ” أن الموت بإنسان، بإنسان أيضًا قيامة الأموات، لأنه كما فى آدم يموت الجميع هكذا فى المسيح سيُحيا الجميع. ولكن كل واحد فى رتبته. المسيح باكورة ثم الذين للمسيح فى مجيئه” (1كو21:15ـ23). فكما دخل الموت إلى طبيعتنا البشرية بآدم الأول، إذ أن آدم هو الذى ورثنا الموت، هكذا فإن المسيح يعطينا القيامة فى المستقبل مبنية ومؤسسة على قيامته الشخصية، ولذلك يقول الرسول ” هكذا فى المسيح سيُحيا الجميع” وهو يقصد أن المسيح سيقيم أجساد جميع المؤمنين فى المستقبل عند مجيئه.
أى أن قيامة المسيح وقيامة المؤمنين هى حصاد واحد ولكن باكورة الحصاد هى قيامة المسيح نفسه. وهذا يعبّر عنه الرسول ” كل واحد فى رتبته” أى فى دوره. المسيح “باكورة” أى المسيح هو الباكورة والبكر للراقدين كما ورد فى رسائل أخرى، ثم بقية الحصاد للذين للمسيح أى المؤمنين به عند مجيئه الثانى، أى أن الباكورة المسيح هو رأس الجسد قام أولاً، ثم ” الذين للمسيح” أى أعضاء الجسد سيقيمهم عند مجيئه، والفرق بين الاثنين هو فى توقيت حدوث القيامة فقط، هو قام أما هم فسيقيمهم. وهذا هو رجاء قيامة الأموات الذى نردده كلما نصلى ونقول ” ننتظر قيامة الأموات “.
فبفعل القوة المحوّلة النابعة من قيامة المسيح ستتغير أجسادنا فتصير أجسادنا الطبيعية أجساد روحانية، ولا يُقصد “بروحانية” أنها غير جسمية، بل أنها تحيا بالروح القدس وليس بمصادر الحياة البيولوجية التى تحيا بها أجسادنا على الأرض. ” والفاسد سيلبس عدم فساد والمائت عدم موت” كما يقول الرسول (1كو53:15).
وهذا التغيّر الذى سيتم للأجساد يرتبط بانعتاق الخليقة نفسها من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله (انظر رو21:8). لقد بيّنَ الرسول أنه يوجد جسم طبيعى وجسم روحانى هكذا أيضًا ” يُزرع جسمًا حيوانيًا (طبيعيًا) ويُقام جسمًا روحانيًا… هكذا مكتوب أيضًا صار آدم الإنسان الأول نفسًا حية وآدم الأخير روحًا محييًا” (1كو44:15و45). ويستعمل الرسول تشبيهات من العالم الطبيعى مثل حبة الحنطة أو أحد البواقى، ولكن رغم كل هذه التشبيهات فإن القيامة العامة من بين الأموات فى حقيقتها الكاملة تظل سرًا يعلو على الفهم.
سادسًا: اكتمال إعلان القيامة فى اليوم الأخير:
ستظهر قيامة المسيح بقوتها الكاملة فى النهاية عندما يكمل المسيح إخضاع كل الأعداء حتى آخر عدو وهو الموت. فبالرغم من أن المسيح غلب الموت وقام حيًا ظافرًا بالموت فى اليوم الثالث، إلاّ أن الموت لا يزال يملك فى اجسادنا نحن. فلابد أن يكمل المسيح نصرته بأن يُبطل الموت من أجسادنا نحن أيضًا وهذا ما يخبرنا به الرسول بولس فى نفس الإصحاح المذكور: ” هوذا سر أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير.
فإنه سيُبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت. ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية” (1كو51:15ـ55).
كلام الرسول هذا متصل طبعًا بمجئ المسيح ثانيةٌ من السماء بالمجد العظيم لكى يلاشى سلطان الموت والفساد عند البوق الأخير. هذا هو بوق القيامة، وعندما يأتى الرب من السماء فبصوته ـ حسب قوله (يو29،28:5) ـ يقيم جميع الذين فى القبور، فيُقام المؤمنون الذين رقدوا، عديمى فساد، أى بأجساد عديمة الاضمحلال. أما المؤمنون الذين يكونون أحياء على الأرض عند ظهوره الثانى، فإنه سيغير أجسادهم من حالة الضعف والهوان إلى حالة المجد أى الأجسام الروحانية.
وكل هذا فى لحظة فى طرفة عين، أى يلاشى الموت والفساد (أى الاضمحلال) من الأجساد التى سبق أن ماتت كما يلاشى القابلية للفساد والاضمحلال من أجساد الذين كانوا أحياء عند مجيئه. وهكذا يُبتلع الموت ويُغلب، إذ أن حياة المسيح تبتلع الموت بصورة كاملة، ليس موته هو فقط فهذا قد انتهى منه منذ أن قام من الأموات، بل إن حياته ستبتلع موتنا نحن أيضًا. وهكذا يكون هتاف النصرة الذى يتهلل به الرسول بولس: ” ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت“. قد كُسرت شوكة الموت، ” أين غلبتك يا هاوية” هُزمت قوات الجحيم والهاوية التى استعبدت الإنسان.
ويقول القديس أثناسيوس عن إبطال الموت والفساد بفاعلية قيامة المسيح فى أجساد المؤمنين: [نحن الذين نؤمن بالمسيح لن نموت بالموت الذى كان سابقًا حسب وعيد الناموس، لأن هذا الحكم قد أُبطل وبما أن الفساد قد بَطُلَ وأُبيد بنعمة القيامة فإننا من ذلك الوقت وبحسب طبيعة أجسادنا المائتة ننحل فى الوقت الذى حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل] (تجسد الكلمة 1:21).
وبعد هذا القول يستشهد القديس أثناسيوس بحديث الرسول بولس عن القيامة (1كو15) الذى أوردناه فى الآيات السابقة. ويقول أيضًا إن أجساد المؤمنين فى القيامة ستكون فى حالة أفضل من الحالة التى كان عليها الإنسان فى الفردوس قبل السقوط، إذ يقول: [ فى المسيح كُمِل الجنس البشرى وأُعيد تأسيسه كما كان فى البدء، بل بالأحرى بنعمة أعظم من الأول… لأننا بعد القيامة من بين الأموات لا نخاف الموت بعد، بل سنملك مع المسيح على الدوام] (ضد الآريوسين67:2، ص104 الطبعة العربية الأولى).
سابعًا: قوة قيامة المسيح تعمل فى حياتنا الحاضرة:
القوة المُحيية والمُخلصة التى تفيض من قيامة المسيح والتى ذكرنا أنها ستُعلن إعلانًا كاملاً عند مجيئه الثانى المخوف والمملوء مجدًا، فى القيامة العامة من بين الأموات، هذه القوة نفسها تعمل بطريقة غير منظورة فى العالم منذ قيامة المسيح وقد وصل عملها الخلاصى إلى قمته فى صعود الرب إلى السماء، إذ جلس ابن الله المتجسد عن يمين الله الآب وبذلك أجلس إنسانيته المتحدة بلاهوته، فى عرشه مع الاب. وهذا الجلوس فى يمين الاب بالجسد المُقام والمُمجد والصاعد إلى السماء يعنى تمجيد ناسوت المسيح بذات القوة والمجد الذى للاهوته مع الآب.
فعندما يقول الإنجيل ونقول أيضًا فى قانون الإيمان، إن ” المسيح صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب” فهذا لا يعنى تحديدًا مكانيًا للمسيح لأن الله ليس له يمين ويسار بالمعنى البشرى وليس له عرش مادى محدود يجلس عليه كما يجلس البشر، حتى يجلس المسيح الصاعد إلى السماء عن جانبه اليمين، بل كما يقول القديس يوحنا ذهبى الفم إن يمين الله تعنى قدرة الله وعظمته. فجلوس المسيح فى يمين الله يعنى أن تصير لناسوته المُمجد نفس القوة والعظمة التى للاهوته مع الآب والروح القدس. وقد تكلم كثيرون من الآباء عن ابن الله نفسه فى تفسيراتهم أنه يمين الله أو قوة الله.
وهذه كلها تعبيرات بشرية لكى تنقل إلينا الإحساس الفائق الذى يعلو عن الفهم عن قوة الله وعظمته وجلاله. وبجلوس المسيح فى يمين الله أخذ موعد الروح القدس من الآب كما يقول بطرس الرسول فى سفر الأعمال (33:2) وأرسل الروح القدس وسكبه على الكنيسة، والروح يعمل فيها منذ يوم الخمسين بلا توقف وسيظل فاعلاً إلى أن يأتى المسيح ثانيةً من السماء.
هذه القوة الخلاصية قوة الروح القدس المُؤسسة على قيامة المسيح والنابعة منها تخلق على الأرض بداية الحياة الأبدية وتُعِد البشر للقيامة من بين الأموات. فالحياة الأبدية تبدأ هنا من الآن رغم أنها ستُعلن بكمالها فى الدهر الآتى. ونعرض هنا بعض فاعليات قيامة المسيح فى حياتنا الحاضرة:
1 ـ القيامة والإيمان:
وهذا ما نجده كثيرًا فى كلمات إنجيل يوحنا ” من يؤمن بى فله حياة أبدية” (يو47:6). ” من يسمع كلامى ويؤمن… فله حياة أبدية ولا يأتى إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة” (يو24:5). وقال الرب أيضًا إن صوته عندما كان على الأرض بالجسد، يسمعه الأموات روحيًا فيحيون ” والسامعون يحيون” (يو25:5). أى يحيون بقوته وهم ينالون حياة منه فى داخلهم وهم لا يزالون فى الجسد.
وآيات أخرى كثيرة يَرد فيها هذا المعنى مثل قول القديس يوحنا فى رسالته الأولى إن ” الحياة الأبدية كانت عند الآب وأُظهرت لنا” (1يو2:1)، ويقصد المسيح نفسه الإله الحى الذى جاء فى الجسد وجعل الحياة الأبدية تسكن فى قلوب الذين يؤمنون به. وقول الرب لمرثا: ” أنا هو القيامة والحياة من آمن بى ولو مات فسيحيا. وكل من كان حيًا ويؤمن بى فلن يموت إلى الأبد” (يو26،25:11). وكلمة ” من يؤمن بى وهو حي“، أى وهو على الأرض فلن يموت، وهذا معناه أنه بالإيمان بالمسيح ينال حياة أبدية منذ الآن تجعل نفسه لا تموت، أما الجسد فبالتأكيد سيموت لكى يقوم فى حالة المجد كما شرحنا سابقًا.
إذن فأول فاعلية لقيامة المسيح بعمل الروح القدس فى العالم تتم عن طريق الإيمان بالمسيح. كما يقول القديس يوحنا إن القيامة والآيات الأخرى التى صنعها يسوع قد كُتبت ” لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكى تكون لكم إذا آمنتم حياة (أبدية) باسمه” (يو31:20).
2 ـ القيامة والمعمودية:
وفاعلية القيامة تظهر فى أسرار الكنيسة، وأولاً فى المعمودية، ففى سر المعمودية بالتغطيس فى الماء والصعود منه ثلاث مرات نحن نشترك فى موت المسيح ودفنه ثم نشترك فى قيامته أيضًا. وهذا ما يكتبه الرسول بولس فى رسالته إلى رومية ” أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟ فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، هكذا نسلك نحن أيضًا فى جِدة الحياة” (رو3:6ـ5).
وهذا معناه أننا بمعوديتنا للمسيح قد دخلنا إلى موته ثم بقوة الروح القدس العامل فى المعمودية نلنا شركة فى قيامة المسيح وصرنا نملك جدة الحياة أى قوة الحياة الجديدة أو الحياة الأبدية التى تعمل فينا لكى نغلب بقايا الموت التى لا تزال موجودة فى إنساننا العتيق. ولكن موتنا وقيامتنا مع المسيح فى المعمودية تكون صادقة وحقيقية فقط حينما نموت فعلاً عن الخطية ونعيش حياة جديدة.
ولهذا يقول الرسول ” كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو11:6). فالمعمودية هى ولادة روحية إلى حياة أبدية بالروح القدس ” الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو5:3) وهذه الولادة نابعة من قيامة المسيح كما يقول الرسول بطرس: ” … الله حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانيةً لرجاء حى بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات” (1بط3:1).
3 ـ القيامة والتوبة:
قيامة المسيح التى تفيض بالحياة الأبدية علينا وننالها بالإيمان والمعمودية كما قال الرب ” من آمن واعتمد خلص” (مر16:16)، هذه الحياة إذًا حدث وتوقف سريانها فى الإنسان الذى اعتمد فيحتاج أن يستعيد هذه الحياة التى سبق وأخذها فى المعمودية، بالتوبة. فالرب عندما كلم التلاميذ قبل صعوده عرّفهم أنه ينبغى بعد أن قام المسيح ” أن يُكرز باسمه للتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم…” (لو47:24). وعندنا سُئل بطرس يوم الخمسين من الجموع ماذا يفعلون لكى يخلصوا أجابهم: ” توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع38:2).
فالذى ينال نعمة الحياة والخلاص بالمعمودية فى طفولته يحتاج إذا فقد شركة الحياة مع المسيح والإيمان به واتباعه، أن يستعيد فاعلية القيامة التى كان قد حصل عليها بالمعمودية وطُمرت فلم تعد فاعلة فى حياته ولا ظاهرة فى سلوكه. ينبغى أن يرجع بالتوبة وهذا أيضًا مجال لعمل الروح القدس كما فى المعمودية. فالتوبة هى معمودية ثانية كما قال مجمع قرطاجنة فى القرن الرابع.
إذ بالتوبة يتجدد فينا فعل الروح القدس الذى قد حصلنا عليه أولاً فى المعمودية. وكما يقول القديس أنطونيوس: [ إن الروح القدس المعزى المأخوذ فى المعمودية يعطينا العمل بالتوبة ليردنا ثانيةً إلى رئاستنا الأولى] (الرسالة السابعة).
فعندما تحدث التوبة الصادقة والرجوع بقلب مخلص إلى المسيح تفيض عطية الروح القدس فى القلب من جديد. عمل الروح هذا الذى كان متعطلاً فى داخلنا لعدم التوبة. فعندما يستجيب الإنسان لنداء التوبة ويرجع تظهر فيه جدة الحياة الكامنة فيه بعمل الروح القدس. ويبدأ الإنسان يعيش الحياة الجديدة مرة أخرى، هذه الحياة التى هى حياة المسيح القائم من بين الأموات.
4 ـ القيامة والإفخارستيا:
وقيامة المسيح تعمل فى حياتنا الحاضرة من خلال سر الإفخارستيا. ففى الإفخارستيا نحن نأخذ جسد المسيح المُحيى أى المُعطى للحياة الأبدية. وهذا الجسد الذى نأخذه فى الكنيسة والدم الذى نشربه بفعل حلول الروح القدس على القرابين فى القداس الإلهى، هو نفسه جسد المسيح الذى غلب الموت وقام ظافرًا. ومن المسيح الحي فى يمين الآب ـ كما ذكرنا ـ يأتى الروح القدس لكى يجعل الخبز والخمر الموضوعان على المائدة المقدسة جسد المسيح ودمه اللذين يفيضان بقوة قيامة المسيح ويعطيان الحياة الأبدية لكل من يتناول منهما.
كما أن الإفخارستيا أيضًا هى إخبار بعمل المسيح الخلاصى بالموت والقيامة والصعود انتظارًا لمجيئه الثانى المجيد ” فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن أجئ” (1كو26:11). والاشتراك فى جسد المسيح ودمه هو ينبوع قيامتنا وهو عربونها، كما يقول الرب نفسه: ” إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليست لكم حياة فيكم.
من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية وأنا أقيمه فى اليوم الأخير… من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو58،54،53:6). ولهذا يقول القديس إغناطيوس الإنطاكى إن جسد المسيح ودمه هما ” دواء عدم الموت” أى الدواء أو المصل أو الترياق الذى نأخذه لكى يحفظنا من الموت (انظر رسالة إغناطيوس إلى أفسس 2:20).
5 ـ قوة قيامة المسيح تعمل فى بقية الأسرار:
قوة قيامة المسيح تعمل أيضًا فى بقية الأسرار، فحياة المسيح الأبدية هى التى تفعل فى سر مسحة المرضى كما تفعل فى المعمودية ووسر التوبة والإفخارستيا. فشفاء النفس وشفاء الجسد يتم بقوة تخرج من جسد المسيح كما يخبرنا معلمنا لوقا البشير: ” أن الجمع طلبوا أن يلمسوه لأن قوة كانت تخرج منه وتشفى الجميع” (لو19:6). كما قال الرب نفسه عندما لمست نازفة الدم هُدب ثوبه: ” قد لمسنى واحد لأنى علمت أن قوة قد خرجت منى” (لو46:8).
هذه القوة هى الحياة الإلهية التى أقامت جسد المسيح بعد أن مات، وهى التى غلبت الموت كما سبق أن ذكرنا، وهى لا تزال تفيض من جسد المسيح الحي المُمجد فى السماء بعمل الروح القدس فى صلاة مسحة المرضى. وعن طريق “ صلاة الإيمان التى تشفى المريض والرب يقيمه، وإن كان قد فعل خطية تُغفر له” (انظر يع15:5).
وهكذا أيضًا تعمل قوة قيامة المسيح فى سر الإكليل لتوّحد العروسين بعمل الروح القدس بالصلاة. هذا الروح الذى ـ كما ذكرنا أكثر من مرة ـ هو نفسه المُنسكب من السماء يوم الخمسين بفضل قيامة المسيح وصعوده. وهو الذى يُعد الزوجين المسيحيين لنوال إكليل الملكوت بالجهاد الروحى فى الحياة اليومية بمعونة الروح القدس.
وهكذا ايضًا فقوة قيامة المسيح هى التى تعمل فى سر الكهنوت بدرجاته المتعددة لإعطاء مواهب الروح القدس الساكن فى الكنيسة جسد المسيح لكل من يُسام فى أى درجة من درجات الخدمة الكهنوتية حتى تصير له القدرة بعمل الروح فيه على إتمام الخدمة التى يؤتمن عليها.
6 ـ قوة قيامة المسيح تعمل فى كل خدمة مسيحية :
وهكذا تعمل قوة قيامة المسيح بالروح القدس فى كل خدمة مسيحية، وتعمل قيامة المسيح بالروح القدس أيضًا فى حياة الصلاة الحقيقية. وهكذا تفعل قيامة المسيح فى إعطائنا القوة لطاعة وصايا المسيح، وفى السلوك حسب الروح وليس حسب الجسد.
7 ـ القيامة والمحبة:
تظهر قوة قيامة المسيح بنوع خاص فى تغيير قلب الإنسان من الأنانية وحب الذات إلى المحبة الأخوية والعطاء. فالرسول يوحنا يعلمنا أن الدليل والبرهان على قيامتنا مع المسيح أو انتقالنا من الموت إلى الحياة هو محبة الاخوة، إذ يقول: ” نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة… من لا يحب أخاه يبقى فى الموت” (1يو14:3). فالبرهان على أن حياة المسيح موجودة فينا وأن قوة قيامته موجودة فينا هو قوة المحبة التى غلب بها المسيح الموت بأن بذل ذاته للموت.
هذه القوة التى غلب بها المسيح تصير موجودة فى المؤمنين به. إذن فمحبة الاخوة هى شهادة على قيامة المسيح التى جعلتنا ننتقل من الموت إلى الحياة، واعطتنا القوة أن نحب ونبذل.
8 ـ قوة قيامة المسيح والشهادة:
تظهر قوة قيامة المسيح فى مواقف الشهادة الحرجة، وهنا يظهر كيف أن موت المسيح وقيامته قد غيّرا صور الموت، فلم يعد الموت مرعبًا بل رأينا الشهداء يزدرون بالموت ويقبلونه بفرح بقوة قيامة المسيح العاملة فيهم. وهذا ما يقوله القديس أثناسيوس فى كتابه “تجسد الكلمة”: [ قديمًا، قبل المجئ الإلهى للمخلص، كان الموت مرعبًا حتى بالنسبة للقديسين، وكان الجميع ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا.
أما الآن بعد أن أقام المخلص جسده، لم يعد الموت مخيفًا لأن جميع الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شئ، بل بالحرى يُفضلون أن يموتوا على أن ينكروا إيمانهم بالمسيح لأنهم يعرفون بكل يقين أنهم حينما يموتون فهم لا يفنون بل بالحرى يحيون عن طريق القيامة ويصيرون عديمى فساد] (تجسد الكلمة2:27، وانظر أيضًا 4،3:27).
وقوة قيامة المسيح لازمة لنا أيضًا فى كل مواقف الشهادة فى الحياة اليومية حتى إن لم نواجه خطر الموت الجسدى. فقوة القيامة تجعلنا لا نكذب، ولا نخاف سلطان البشر بل نتكلم بالحق ولا ننكره وندافع عن الضعيف والمظلوم والفقير ونتعب فى خدمتهم، هؤلاء الذين هم أولى الناس بمحبة الاخوة التى هى علامة انتقالنا من الموت إلى الحياة.
9 ـ قوة القيامة وحياة العفة والطهارة:
يحدثنا القديس أثناسيوس عن وجود براهين على قوة قيامة المسيح فى حياة العذارى والشبان الذين يؤمنون بالمسيح فيقول: [ هناك اختبارات فعلية تشهد بذلك فمن يَرد دعه يذهب ليرى برهان الفضيلة فى عذارى المسيح والشبان الذين يعيشون حياة العفة المقدسة ] (تجسد الكلمة2،1:48). وأيضًا يقول إن الذين آمنوا بالمسيح يعيشون حياة أكثر عفة من اليونانيين (أى الوثنيين) (انظر تجسد الكلمة 2:53).
10 ـ قيامة المسيح تهبنا رجاء لا يضمحل منذ الآن:
يقول القديس بطرس الرسول إن الله ولدنا ثانية لرجاء حى بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات (1بط3:1). فبقوة القيامة يتوّلد فينا رجاء حار من جهة الميراث الذى لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل الذى هو ميراث الملكوت السماوى المحفوظ لنا. وهذا الرجاء النابع من قيامة المسيح يتحدث عنه القديس يوحنا ذهبى الفم فى عظته عن قيامة الأجساد، إذ يشرح معلقًا على قول الرسول بولس ” عالمين أن الذى أقام الرب يسوع سيقيمنا أيضًا ويُحضرنا معكم.. لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2كو 14:4، 16).
إن إنساننا الخارج يفنى أى جسدنا يضمحل طالما نحن فى غربة هذا العالم، ولكن بينما نحن نسير فى حياتنا وتقابلنا ضيقات وصعوبات وآلام تساهم فى اضمحلال الجسد أى إنساننا الخارج الذى يفنى، نستمد من قيامة المسيح رجاءً وقوة. فحتى إن كنا ” متحيرين إلاّ أننا غير يائسين، وإن كنا مضطهدين لكن غير متروكين، وإن كنا مطروحين لكن غير هالكين” بل إن رجاء القيامة يجدد إنساننا الداخلى فى وسط هذه الآلام والضيقات ” لأن الذى أقام الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضًا” (2كو14:4).
وهذا يعنى أنه من الآن وقبل القيامة الآتية فإننا ننال مكافأة احتمال الأتعاب بأن ” تتجدد النفس فى وسط الضيق وتصير أكثر قوة وأكثر إشراقًا” (ذهبى الفم، عظة عن قيامة الأجساد، ص 18،17).
ثامنًا: فاعلية قيامة المسيح فى إنساننا الداخلى منذ الآن:
نجد فى الكتابات الروحية للقديسين شهادات عديدة عن قيامة المسيح التى تعمل منذ الان فى نفوس وأجساد القديسين بصورة سابقة على القيامة العامة. فيقول القديس مقاريوس فى عظاته الرائعة أن [ مملكة النور والصورة السماوية أى يسوع المسيح يضيئ الآن سرًا داخل النفس، ويملك فى نفوس القديسين ولكنه مُخفى عن عيون الناس، وعيون النفس فقط هى التى ترى المسيح حقًا إلى أن يأتى يوم القيامة، فإنه حينئذٍ ستكتسى أجسادنا بنور الرب وتتمجد به، ذلك النور المختفى الآن فى نفس الإنسان، حتى أن أجسادنا تملك هى أيضًا مع نفوسنا التى تكون قد نالت ملكوت المسيح منذ الآن، وتستريح مستنيرة بالنور الأبدى] (عظات القديس مقاريوس5:2).
ويقول سمعان اللاهوتى الحديث فى عظته عن القيامة: [ إن سر قيامة المسيح إلهنا لا تكف عن أن تحقق نفسها فى داخلنا بطريقة سرية، إن كنا نرغب فى ذلك]. ويشرح [ كيف أن المسيح مدفون فى داخلنا كما فى قبره، وكيف إذ يصير متحدًا مع نفوسنا يقوم من الأموات ويقيمنا معه] (عظة36:3ـ40). [ وحينما يكون حاضرًا فينا بالروح فإنه يقيمنا من الأموات، يحيينا ويعطينا الإمكانية أن نراه تمامًا فى داخلنا، حيًا وغير مائت وغير قابل للزوال] (عظة120:13). هذه الأقوال لهؤلاء القديسين حاملى الروح تكشف الجانب الشخصى لقوة قيامة المسيح، أى عربون القيامة وتذوقها مقدمًا فى داخل كل شخص.
ويقول الله فى سفر الرؤيا: ” ها أنا أصنع كل شئ جديدًا” (رؤ5:21). فإن الله يخلق كل شئ جديدًا ابتداءً من قيامة المسيح وفاعليتها فى الكون كله، فى الكون المنظور والكون غير المنظور، حتى لو كان هذا التجديد والتغيير يُرى فقط الآن بواسطة عين الإيمان. ونختم بقول القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات: [ قيامة المسيح، فصح العهد الجديد، هى انتقال إلى وجود جديد. لقد نقلنا المسيح إلهنا من الموت إلى الحياة ومن الأرض إلى السماء] (عظة2:45).
ــــــــــــــــــ
[1] انظر العدد 12 (يوليو 2003) من دورية دراسات آبائية ولاهوتية ص15 ـ 26. يمكنك قراءته من ههنا: قيامة المسيح وثمارها (1)