المحبة (2) – المحبة الأخوية – د. وهيب قزمان
المحبة (2) – المحبة الأخوية – د. وهيب قزمان
لقراءة الجزء الأول من هذا الموضوع: اضغط هنا
مقدمة:
في مقالنا السابق عن المحبة تناولنا وفي إيجاز محبة القريب في معرض حديثنا عن محبة الله، ذاكرين أن الجديد الذي أتي به ربنا يسوع المسيح في وصية المحبة هو التعريف الإيجابي لمعني الجار أو القريب. وهو التعريف الذي حرر محبة القريب تحريرًا كاملاً من كل رباطات قرابة الجسد أو السبط، كما في الناموس والتقليد اليهودي، لتصبح المحبة الأخوية هي ذلك الفعل الذي يهتم بالإنسان العاجز الذي قد نصادفه في الطريق (لو25:10 37).
وفي كلمات الرب يسوع في (مت43:5و44) يوصينا بمحبة الأعداء؛ ومن هنا يبدأ موضوعنا الجديد عن محبة الأخوة التي تبلغ حد الموت وبذل النفس. ويقول ربنا يسوع أيضًا ” ها أنا أرسلكم كغنم وسط ذئاب” بمعنى ليس أن تقتربوا من الذئاب فقط، بل أن تكونوا في وسطها أيضًا. وهنا نتذكر الشرح الذى ذكره القديس أغسطينوس عندما أشار إلى أن الذئاب حينما تفترس الغنم تتحول إلى غنم: [لهذا فإن اسطفانوس شهيد المسيحية الأول حين سلك بروح المسيح قائلاً في لحظات رجمه وموته: ” يارب لا تقم لهم هذه الخطية” تحول الذئب الخاطف (يقصد شاول الذى كان واقفًا وراضيًا بقتله) إلى حمل][1].
محبة الإخوة هي عمل الله فينا:
الله محبة، والثالوث القدوس هو ثالوث حب. المحبة هي عمل الله فينا، الذي يساعدنا أن نكون رحماء متمثلين بالآب السماوي (لو6: 36). ولن نحب بعضنا بعضاً ما لم يعلّمنا الله، ويسكب الروح القدس المحبة في قلوبنا (رو5:5). وإذ يدرك القديس يوحنا الحبيب المحبة التى بين الآب والابن، يوصينا بالتمثل بهذه المحبة، وهذه المحبة الأخوية يسبقها إعداد إلهي للنفس لتدخل في طاعة الله ومحبته، وليصبح الإنسان من أبناء النور (قابل 1يو2: 711). وتنبع المحبة من عمق القلب، ولا تتأثر بأيه منفعة ذاتية، لأنها ليست عملاً بشريًا[2].
من هو القريب أو الأخ؟
في حديث الرب يسوع عن وصية المحبة (مر12: 2831) أوضح أن أول كل الوصايا ” أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولي، والثانية مثلها هى تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخري أعظم من هاتين“.
من هو القريب الذي تتحدث عنه هذه الوصية ؟
في العهد القديم (لا19: 18) كانت كلمة قريب تعني القريب اليهودي فقط ” لا تنتقم ولا تحتد علي أبناء شعبك (من اليهود طبعاً)، بل تحب قريبك كنفسك“. ومن سؤال الناموسي الذي تقابل مع الرب يسوع ” من هو قريبي” (لو10: 29) يتضح أن القريب كان له معني شائع بين اليهود. لكن ربنا يسوع خرج بالمفهوم من محدودية الجنس إلي عمومية الإخوة البشرية. ووسع دائرة محبة القريب لتشمل كل الناس: من كل لون وجنس وعِرق ومذهب. ولهذا ضرب مثل السامري الصالح الذي اعتبرته الكنيسة مدخلاً إلي محبة الناس جميعًا[3].
وإن بدا تعريف القريب صعباً علي المستوي النظري، لكنه سهل التطبيق علي المستوي العملي. ولتعريف القريب يسمو الرب يسوع بوصية المحبة من محبة القريب إلي محبة الأعداء (مت5: 43، 44). لأن الإنسان إذا أراد أن يعرف من هو القريب الذي يحبه، فإنه مطالب أن يعرف أيضاً ما هو الحب الذي يقدمه للآخرين. فالمحبة ليست مجرد وصية ملزمة، بل هي في الحقيقة كيان، المحبة هي ابن الله نفسه، المحبة الكاملة الباذلة (مت5: 4348). “سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم… لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم.. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل“. لهذا فالمحبة التي تنبع من الإنسان الذى اختبر محبة الله لا تستطيع أن تضع لنفسها حدودًا. وأفضل إجابة علي سؤال من هو قريبي، هو مثل السامري الصالح. وصاحب السؤال إن لم يكن علي مستوي محبة السامري الصالح، فهو في نظرالرب يسوع غير قادر على محبة الآخرين التي تتجاوز القريب والأخ إلي الأعداء… فإن أحببت عدوي هل أسأل من هو قريبي؟
1 تجسد الكلمة ينبوع الحب الإلهى
أ أعظم تعبير عن المحبة
” والكلمة صار جسداً وحل بيننا” (يو14:1) وبسبب التجسد الإلهى دعانا نحن المؤمنين باسم المسيح لاقتناء مجده (2تس14:2). وهكذا حضور المسيح فينا لا ينفصل أبدًا عن أعمال المحبة، التى نمارسها، فالكيان والأعمال واحد. والذين فى المسيح يسوع هم الإنسان الجديد (غل28:3، 2 كو10:3) وقد حلّ المسيح فى داخلهم (أف17:3) الذى هو ” قوة الله” (1كو24:1). وبالمسيح الذى فينا، نشع المحبة بين الاخوة فى وسط جيل معوج، كأنوار فى العالم (قابل فى2: 1416)[4]. وفى داخل الانسان تتصارع قوة محبة الذاتEgoistic فتجذبه نحو الإنفصال عن الغير والعزلة عن العالم، وقوة محبة الغيرAltruistic والتى تجذبه نحو الإتحاد مع الآخر، بكل تحدياته. ولكن سولوفيوف[5] يؤكد أن الانسان سعياً وراء المعنى من وجوده يميل بطبيعته نحو نبذ العزلة والفرقة، فيترك نفسه تنجذب بقوة تربطه بالكل. وتصبح المحبة أعظم وأقوى تلك الروابط التى تصنع الوحدة فى الحياة.
ب – محبتنا للاخوة ثمرة التبنى :
من يحب هو مولود من الله ويعرف الله (1يو7:4) والمحبة والبر هما من أبرز ثمار بنوتنا الروحية لله الآب: ” بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد أبليس، كل من لا يفعل البر فليس من الله، وكذا من لا يحب أخاه. لأن هذا هو الخبر الذى سمعتموه من البدء أن نحب بعضنا بعضًا” (1يو3: 10 12). فعل البر إذن علامة على أننا مولودون من الله ” اعلموا أن كل من يصنع البر هو مولود من الله” (1يو29:2) وُيعرف البار من أعماله. والمسيح هوبرنا الذى يعطينا المثال الأكمل لتحقيق كل أعمال الانسان الصالحة، ففيه وحده يكون البر تعبيراً عن المحبة[6] .
2 المحبة الأخوية أعظم العطايا والوصايا
المحبة هبة مصدرها الله الآب، وعلي المسيحي الذي يسلك في جدة الحياة أن يتطلع إلي المواهب الحسني “جدّوا للمواهب الحسني، وأيضاً أريكم طريقاً أفضل” (1كو12: 31). وهذا الطريق الأفضل هو المحبة، وهي التي يجب أن نجتهد لاقتنائها، فما من عطية تضاهيها. والمحبة الأخوية تبني الكنيسة جسد المسيح لأنها الرابطة التي تربط كل أعضاء الجسد الواحد، بل هي حجر الزاوية في بنيان كنيسة الله الواحدة (اف4: 16)[7].
+ وفى قوانين القديس باسيليوس ما يؤكد على أهمية المحبة الأخوية: [يوّحد الرب بين وصيتي محبة الله ومحبة القريب بأن يجعل كل ما يُحْسَن به للآخرين أيًا كانوا (ولا سيما المحتاجين) يعود عليه هو نفسه. فيقول: ” كنت جوعاناً فأطعمتموني…“ ثم يضيف: ” كل ما فعلتموه بأحد إخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم“ (مت35:2540). فإن كنا نراعى الوصية الأولى يمكننا أن نراعى الثانية، وبتطبيقنا للثانية نعود للأولى: فمحبتنا للرب، هى محبة للقريب، إذ يقول الرب: ” الذى يحبنى يحفظ وصاياي“ و“ وصيتى هى أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم“ (يو15:14؛ 34:13)][8].
+ محبة القريب والصلاة :
يقول القديس يوحنا الدرجى: [قد يحدث ونحن فى وقت الصلاة، أن يأتى إلينا إخوة ضيوف من أماكن بعيدة يطرقون أبوابنا. فنكون مخيرين بين أن نتوقف عن الصلاة، أو أن نُكدِّر الأخ الذى يطرق الباب برفضنا الاستجابة إلى طلبه. ولكن المحبة فى الواقع هى أعظم من الصلاة: فالصلاة هى واحدة من بين الفضائل، بينما المحبة هى أمهم جميعًا][9].
+ محبة الاخوة والنسك :
قال راهب لأبيه الروحى: يوجد أخان أحدهما لم يترك قلايته قط حيث يصلى ويصوم ستة أيام مرة واحدة، ويُلزِم نفسه بكل أنواع النسك؛ أما الآخر فقد أخذ على عاتقه أن يعتنى بالمرضى. فأيٌّ من الاثنين هو الأكثر قبولاً لدى الله؟. فأجاب الأب الروحى: “فحتى إذا تعلق الأخ الذى يصوم ستة أيام متواصلة من أنفه، فلن يتساوى مع من يعتنى بالمرضى“[10].
البيئة الروحية التى قيلت فيها هذه الأقوال، كان يوجد فيها بعض الرهبان الذين كانوا يُبالغون فى تقدير أهمية النُسك والتوحد، لدرجة أنهم كانوا يهملون محبة الاخوة وخدمتهم. فلكى يعالج الشيوخ هذه المُبالغة ويضبطوا النُساك المتوحدين قدموا هذه النصائح والإرشادات للتأكيد على أهمية المحبة الأخوية مع النُسك والتوحد.
+ محبة الاخوة أقوى من الموت :
يقول مار اسحق السريانى: [هذه هى العلامة المميزة التى بها نعرف الذين بلغوا الكمال المسيحى: إنهم حتى لو أسلموا أنفسهم للنار عشر مرات فى اليوم من أجل محبة الناس، لا يروون عطش حبهم. وهذا ماقاله موسى النبى لله: “إن غفرت خطيتهم. اغفرها لهم. وإلا فامْحُنى من كتابك الذى كتبت” (خر 32:22) وهذا أيضاً ما عبر عنه المغبوط بولس: ” فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروماً من المسيح لأجل إخوتى…“ (رو3:9) بل إن الله نفسه فى محبته للخليقة، أسلم ابنه وحيده للموت على الصليب: ” لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو16:3).. وهكذا القديسون المتمثلون بالله قد سكبوا من فيض حبهم على الكل][11].
المحبة الأخوية كوصية جديدة[12] :
” وصية جديدة Καινήν أنا أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضاً، كما أحببتكم أنا، تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضًا” (يو34:13). كلمة “جديدة”Καινήν باليونانية تحمل معنى التجديد، والسلوك في جدة الحياة، ووصية المحبة كما وردت فى سفر اللاويين (لا18:19) قديمة، لكنها صارت جديدة لأن المسيح بالصليب قدمها لنا بأعماق جديدة؛ إذ وهبنا إمكانيات أقوى لممارستها بمفهوم جديد يمتد ليحب الشخص حتى أعداءه ومقاوميه، متمثلاً بالمسيح، وبمحبته التى تسمو على كل عاطفة جسدية، إذ يضيف المسيح ” كما أحببتكم أنا” (عدد34)؛ فصار الحب المتبادل بيننا هو علامة تلمذتنا للمسيح.
ونقدم الآن بعض أقوال الآباء ومعلمى الكنيسة وشروحهم عن المحبة الأخوية:
يخبرنا العلامة ترتليان أن الوثنيين كانوا يقولون عن المسيحيين: ” أنظروا كيف يحبون بعضهم بعضًا“. وجاء فى تقرير فيلكس كاسيليوس الوثنى عن المسيحيين: إنهم “يحبون الواحد الآخر حتى قبل أن يعرفوا بعضهم بعضًا”.
“ بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى، إن كان لكم حبٌ بعضٌ لبعض” (يو13: 35)
يعلق القديس يوحنا ذهبى الفم على هذه الآية: [ يقصد المسيح أن يقول إن هذا الحب الأخوى أعظم الفضائل، فهو الذى يجعل الناس قديسين][13].
” هذه هي وصيتي : أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم ” (يو15: 12)
يقول القديس جيروم إن القديس يوحنا الحبيب كان يُحمل إلي اجتماعات المؤمنين، وكان حديثه دائمًا ” يا أولادي حبوا بعضكم بعضًا”. ولما سألوه عن سبب مداومته علي ذلك أجاب ” لأن هذه هي وصية الرب، و في حفظها وحدها الكفاية”[14]..
” ليس لأحد حب أعظم من هذا ، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه( أصدقائه) τών φίλων αύτοῦ “ (يو 15: 13)
يقول القديس أغسطينوس: ” المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان صادق” هي حقاً فضيلة حقيقية، إذ هي “غاية الوصية” (1تي1: 5) قيل بصدق إنها” قوية كالموت” (نش6:8). كما يقول الرب ” أي حب أعظم من أن يبذل الانسان حياته لأجل أصدقائه (أحبائه)؟” (راجع يو15: 13)[15].
” أنتم أحبائي (أصدقائي) φίλοι μού إن فعلتم ما أوصيكم به” (يو15: 14)
هنا يؤكد القديس أمبروسيوس على أنه لا يوجد: [أي شئ أثمن من الصداقة التي يشترك فيها الملائكة مع البشر؟ لذا يقول الرب يسوع ” اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتي يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو16: 9). ومن يفعل إرادة الله (بمحبة بعضنا البعض) هو صديقه، ويكرمه الله بهذا الوصف][16].
” بهذا أوصيكم حتي تحبوا بعضكم بعضًا” (يو15: 17)
يشير القديس أغسطينوس إلى أن: [المحبة هي الثمر الذي لا يمكننا أن نقتنيه بعيداً عن المسيح، كما أن الاغصان لا تقدر أن تأتي بثمر بدون الكرمة. فثمرنا هو المحبة… لذا يجب أن نحب بعضنا البعض، وهكذا نحب الله. لأن كل واحد يحب أخاه كنفسه إن كان يحب الله. وأما من لا يحب الله فلا يحب نفسه[17].
3 سمات المحبة الأخوية
أ.المحبة المسيحية مصلوبة ومعطاءة
ينبغي أن تكون محبة المسيح الباذلة[18] نموذجاً لمحبتنا بعضنا البعض، تلك المحبة التى أعلنها بذبيحة حبه لنا (قابل 1يو3: 16) والتى تمتد لتشمل مسيرة حياتنا كلها (عدد17) حبًا فاعلاً وحقيقيًا (عدد18) ” بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك (المسيح) وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الأخوة” (1يو3: 1617).
وتعليم بولس الرسول لا يعرف أي شكل من أشكال “الانعزالية”، بل تعليمه هو الكرازة بخلاص المسيح، وبذل النفس الذي تم علي الصليب. المسيح بذل نفسه لأجلنا لنبذل نحن نفوسنا لأجل الأخوة والأقرباء. ليصبح قول الرسول بولس “متشبهًا بموته” قولاً عمليًا (في 10:3). هذا هو ناموس المحبة في مواجهة ناموس المظاهر الفريسي. علينا أن نكسر نير الناموس ونطرح قيوده، لنسمح بدخول ” ناموس روح الحياة في المسيح يسوع” (رو2:8).
فالإيمان العامل بالمحبة ينقل السلطان من الجسد إلي الروح، ليعطي للروح سلطة أكبر. فيُكتب الناموس علي ألواح قلبية لا حجرية، ويصير الناموس والمحبة منصهرين في الإنسان الذي يحيا بالمسيح، بل ويصير الاثنان واحدًا. وتصبح المحبة غالبة علي الدوام، فتصبر المحبة وتتأني وتحتمل آلاف المخاطر، وتحفظ الأيادي منشغلة بالعمل وخدمة الآخرين، والعين ساهرة يقظة، والقدم مسرعة إلي الافتقاد وفعل الخير ليل نهار[19].
نحن هنا أمام أختبارلمعرفة الله والشركة معه، وهو ما يتناوله القديس يوحنا في رسالته الأولي (2: 36) ” من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه وأما من حفظ كلمته، فحقاً في هذا قد تكملت محبة الله“. ويقودنا هذا الإعلان الكتابي إلي التحقيق الفعلى لهذا الاختبار المطروح علينا[20]. وهو الاختبارالذى يتحقق عملياً بسلوكنا كما سلك المسيح. ” من قال إنه ثابت فيه ينبغى أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً” . وإذ نسلك كما سلك الرب يسوع نقتنى مجده فينا (قابل 2تس14:2)، لأن المسيح هو الذى أحبنى وأسلم نفسه لأجلى” (غل20:2).
ولهذا يجب أن أحب الاخوة كما أحبني المسيح (قابل 1كو10: 24) عملاً بقول الكتاب ” لا يطلب أحد ما هو لنفسه بل كل واحد ما هو للآخرين“. وكما قادتنا محبة المسيح لخلاصنا، هكذا محبتنا للأخوة تقودهم إلي خلاصهم ” كما أنا أرضى الجميع فى كل شئ، غير طالب ما يوافق نفسى، بل الكثيرين لكي يخلصوا” (1كو10: 33). والاقتداء بالمسيح هو تحقيق وصية الحب، والذي يعيدنا إلي مشهد غسل الأرجل: ” فإن كنت وأنا السيد قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض” (يو13: 14). وهكذا تتمثل محبة الاخوة بمحبة المسيح، لأننا من المسيح نستمد كل أفعال المحبة.
ب. تسبحة المحبة الخالدة : ( 1كو 13)[21]
” المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب مالنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق. وتحتمل كل شئ، وتصدق كل شئ، وترجو كل شئ، وتصبر على كل شئ، المحبة لا تسقط أبداً” (1كو4:138).
فالمحبة فعلاً تتأنى وترفق بالآخرين، وهى عطوفة على الإخوة: تتحمل الضرر لأجلهم وتحول الشر خيراً. لا تثأر ولا تستفزها التوافه والأخطاء، بل تسعى أن تبذل نفسها فى رأفة وحنو. ليس فيها حسد ولا مجد باطل ولا أنانية[22].
يقول القديس يوحنا ذهبى الفم: [ إن طول الأناة سلاح ماض وقلعة حصينة، يمكن بسهولة أن تقف ضد كل المضايقات. وكما أن الشرارة البسيطة إذا سقطت فى جب لا تؤذى بل تنطفئ سريعاً، هكذا كل مايسقط على النفس الطويلة الأناة سرعان ما يتلاشى.
يتمتع الشخص المتأنى بهدوء مملوء تعقلاً كمن فى ميناء، ومتى أحاطت به خسارة يكون كالصخرة ثابتاً لا يتحرك، وكالقلعة لا يهتز إذا شتموه، وأصلب من الماس لا ينجرح إذا ضربوه.
أضاف القديس بولس الترفق إلى طول الأناة لأن هناك من يعاقبون مثيريهم بطول الأناة لكى يفجروا فيهم الغضب، لهذا يقول الرسول بأن المحبة لا تقبل هذا السلوك، بل تترفق بقصد إخماد غضبهم. فنحن لا نعالج جراحات الغضب باحتمالنا الآخرين بنبل فقط، بل بإحتمالهم بلطف وتعزية أيضًا][23].
والمحبة لا تحسد الآخرين على مواهبهم، ولا تعرض مواهبها أمامهم. ولا تتفاخر ولا تنتفخ بأن تلقى بصاحبها فى مراكز أعلى من قدراته، بل تجعله يقيم علاقات سوية مع الآخرين: فيقدر مواهبهم أكثر مما يُقيِّم مواهبه الشخصية. ولا تطلب المحبة ما لنفسها أبدًا، ولا تسعى إلى المديح والتهليل، ولا تحتد ولا تظن السوء، ولا تختزن أخطاء الناس ولا تنشغل بنفسها، لأنها مشغولة على الدوام بالآخرين. عيناها مثبتتان على المسيح وعلى حاجات الآخرين وآلامهم ومتاعبهم لتريحهم وتخفف عنهم وتسد أعوازهم. وهى لا تفرح بالاثم، ولا تسر برؤية عيوب الآخرين وأخطائهم.
وهى تفرح بالحق عندما يظهر بطلان الإشاعات والإفتراءات. ومهما أفلح الشر ضدها فهى لا تهتم به، لأنها لا ُتسر بالإثم بل تفرح بالحق، وتسرع إلى من كان ينافسها وانهزم لكى تستره وتحنو عليه وتحميه !
فالمحبة تحتمل كل شئ (حرفيًا تستر كل شئ It covers all things) وتصدق كل شئ وترجو كل شئ. (1كو7:13)[24].
هى ” تحتمل كل شئ “
هكذا يقول العلامة أوريجينوس: [إن من يحب محبة كاملة يحتمل كل شئ، لكننا لا نحتمل أموراً كثيرة لأننا لم نقتن بعد المحبة التى تحتمل كل شئ. إن كنا لا نحتمل أثقالاً بعينها، فهذا بسبب نقص المحبة، وكثيرًا ما نسقط فى صراعنا مع الشيطان لأنه ليس لدينا المحبة التى لا تسقط أبدًا][25].
وفى أنشودة القديس اسحق السريانى متأملاً سمات المحبة الأخوية ” المحبة تتأنى وترفق… تحتمل كل شئ، تصدق كل شئ (من الله)، وترجو كل شئ، وتصبر على كل شئ” (1كو 4:137 ) يقول :
[ اقبل أن تكون مُضْطَّهَداً لا مُضطهِداً.
اقبل أن تكون مصلوباً لا صالباً.
اقبل أن تكون مُهاناً لا مُهيناً.
اقبل أن تكون مُفتَرىِّ عليك لا مُفْتَرِيًا…
افرح مع الفرحين، وابكِ مع الباكين هذه هى علامة نقاوة القلب. تألم مع المرضى. احزن مع الخطاة. ابتهج مع التائبين. كن حبيباً للكل، لكن ابقِ روحك متوحداً (مع الله)][26].
كما أن القديس يوحنا ذهبى الفم يشير إلى: [إن المحبة لا تعطى رجاءً فقط، بل تصدق كل شئ. فإنه حتى وإن لم تتم الأمور الصالحة كما كنا نترجى، فإن المحبة تصبر عليها، إذ ” تحتمل كل شئ”.
و” ترجو كل شئ ” : فلا تحتقر تفاهات المحبوب، بل تداوم على إصلاحه والعناية به][27].
” المحبة لا تسقط أبداً ” (1كو8:13)
فهى غير قابلة للفناء أو الزوال، وهى تنمو من الأقل إلى الأكثر ولا تقلل من قيمتها أبداً، ولا يأتى وقت فيه يشعر الإنسان بعدم أهميتها. المحبة هى أعظم هبات الكنيسة[28].
أيضًا تقول القديسة ماكرينا: [ الحب هو الأول بين كل العطايا والوصايا. فإذا أقتنت النفس هذا الحب لا تحتاج بعد إلى شئ آخر، إذ تبلغ كمال وجودها][29].
ج المحبة الأخوية عتاب و مغفرة[30]:
1 عتاب المحبة :
“ إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما، إن سمع منك فقد ربحت أخاك” (مت18: 15).
يذهب الانسان إلي أخيه المخطئ حتي لا يتحول العتاب إلي نوع من التشهير، ولكي يعطي أخاه الفرصة لمراجعة نفسه، وليحمله على التوبة لله لا للاعتذار له. لهذا يقول السيد المسيح إنك بهذا تربح أخاك.
وكما يشرح القديس يوحنا ذهبي الفم ” ولم يقل إنك تنتقم إنتقاماً كافياً بل تربح أخاك، فهناك خسارة مشتركة للطرفين بسبب العداوة، إذ لم يقل يربح نفسه، بل “تربح نفسه”، موضحاً أن الخسارة قد لحقت قبلاً بالاثنين، الواحد خسر أخاه، والآخر خسر خلاصه.
لماذا أذهب للأخ المخطئ؟ يجيب ذهبى الفم قائلاً: لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه، وذلك بسبب الخجل. لذا يطالب السيد المسيح الشخص الذي وقع عليه الخطأ لا بالذهاب إلى أخيه فقط، بل أن يذهب إليه بطريقة يصحح بها هذا الخطأ، فلم يقل له: اذهب اتهمه أو انصحه، وإنما أذهب عاتبه… اخبره، بما حل بك علي يديه بطريقة لائقة كمن يلتمس له العذر، ويشجعه علي المصالحة[31].
2 المحبة الغافرة
“حينئذ تقدم إليه بطرس وقال: يارب كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له، هل إلي سبع مرات؟ قال له لا أقول لك إلي سبع مرات، بل إلي سبعين مرة سبع مرات” (مت21:18، 22).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: لا يقدم المسيح هنا عدداً معيناً 70×7=490، بل عددًا غير محدود، فلا يحدد رقمًا للمغفرة إنما يطلب أن تكون دائمة وأبدية[32].
ويري القديس أمبروسيوس أن رقم 7 يشير إلي السبت الأبدي أو الراحة، وكأن المسيحى إذ يغفر لأخيه يدخل إلي الراحة الأبدية، فالغفران هو بلا حدود ما دام الإنسان يطلب راحة بلا حدود[33].
4 المحبة الأخوية تنقلنا إلى الحياة والنور والحرية
أ. المحبة الأخوية تنقلنا من الموت إلى الحياة
” لا تتعجبوا يا إخوتى إن كان العالم يبغضكم، نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة” (1يو3: 15).
إن كانت الكراهية سمة العالم الحاضر فلأنه عالم “ميت”، أما المحبة المسيحية فهى سمة الحياة الأبدية ( قابل عدد13، 14). فإن غابت المحبة عنا، لا تغيب الحياة فقط بل إنها تفنى أيضًا! (قابل عدد 15)[34].
ب. المحبة الأخوية تنقلنا من الظلمة إلى النور
” من يحب أخاه يثبت فى النور، وليس فيه عثرة” (1يو10:2) تجعل المحبة الإنسان الجديد فى حالة من النور فتكون كل أعماله صالحة، وفى الحق… ويقول القديس يوحنا ” أيضًا وصية جديدة اكتب إليكم: ماهو حق فيه وفيكم أن الظلمة قد مضت، والنور الحقيقى الآن يضئ” (1يو8:2). فالعالم الذى يعرفه القديس يوحنا ويعلنه لنا هو إما نور أو ظلمة، لا يعرف منطقة الوسط، حيث نقتحم الظلمة وينسحب النور[35].
وعلينا أن نسأل أنفسنا : هل نحن فى النور؟
وهو سؤال يطرحه القديس يوحنا الحبيب بنوع من فحص الذات: ” من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه” (1يو4:2).
فالمعرفة الحقيقية لله والمسيح تعنى عمل المحبة، والنور الحقيقى مرادف للمجد الإلهى. ” فالنور الحقيقى الآن يضئ“؛ أى أن مجد الله الآن فينا. فهل نحن سالكون بحسب النور والمجد ؟ ” إن سلكنا فى النور كما هو فى النور فلنا شركة بعضاً مع بعض“(1يو7:1).
ج الحرية عبودية محبة للمسيح والاخوة
” فإنكم إنما دعيتم للحرية أيها الأخوة. غير أنه لا تُصيِّروا الحرية فرصة للجسد، بل بالمحبة اخدموا δουλεύετε بعضكم بعضاً، لأن كل الناموس فى كلمة واحدة يكمل: تحب قريبك كنفسك” (غل5: 13 ،14).
ويأتى فعل اخدموا δουλεύετεفى أصله اليونانى بمعنى استعبدوا، أى “بالمحبة استعبدو أنفسكم بعضكم لبعض” لأن الحرية فى المسيح تصير عبودية محبة للمسيح وللاخوة. ” فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع رباً، ولكن بأنفسنا عبيداًδούλους لكم من أجل يسوع” (2كو5:4). وهكذا من فرط محبة القديس بولس للمخدومين، استعبد نفسه للمسيح ولهم[36]، إذ عاش ما قاله لأهل غلاطية وكورنثوس، لأن المسيح هو مصلوب المحبة، وعبيده الأمناء يعيشون مصلوبين حباً من أجل إخوتهم. وهذا نفس ما قاله القديس يوحنا الحبيب ” بهذا قد عرفنا المحبة أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغى لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة” (1يو16:3).
[1] St. Augustin, Sermon on N.T. Lessons.
[2] Marcus Dods and others, Exposition of the Bible vol. V, 1903, the First Epistle to the Corinthians, p. 690
[3] Lightfoot, the Epistle to the Galatians, London 1887, p. 209
[4] Lorenzo L., Freedom and Love, The Guide for Christian Life, 1981, p 37
[5] St. Vladimir’s Theological Quarterly vol 39, 1995-pp 162 the Spiritual Foundations of Society-S.V. Solovyov.
[6] Westcott, the Epistles of St. John, p.105.
[7] Exposition of the Bible , vol v , 1903 ,p 69 ff.
[8] بتصرف عن كتاب ” المحبة فى المفهوم المسيحى” ص 8.
[9] المرجع السابق، ص18و19.
[10] المرجع السابق، ص 19.
[11] المرجع السابق ص13، 14.
[12] بتصرف عن كتاب الإنجيل بحسب يوحنا ، الجزء الثاني للقمص تادرس يعقوب ملطي كنيسة مارجرجس باسبورتنج 2003م ص 920 1016.
[13] المرجع السابق، ص 922.
[14] الإنجيل بحسب يوحنا (12:5) ص 1006، 1007.
[15] المرجع السابق، ص 1008، 1009.
[16] المرجع السابق ص 1010.
[17] المرجع السابق، ص 1016.
[18] Westcott, the Epistles of St. John, p.105.
[19] Exposition, The Epistle to the Galatians, p. 895
[20] Westcott, the Epistles of St. John, p.54,116.
[21] بتصرف عن الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، للقمص تادرس يعقوب ملطى، كنيسة مارجرجس سبورتنج2002م، ص 438451.
[22] Exposition of the Bible , vol. V , 1903, the First Epistle to the Corinthians ,p 691 ff.
[23] الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، للقمص تادرس يعقوب، ص 438، 439.
[24] Exposition p. 695.
[25] الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، ص448.
[26] عن كتاب المحبة فى المفهوم المسيحى.. بتصرف، ص16.
[27] الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس ص 448.
[28] Exposition of the Bible , I Corinthians ,p 692 .
[29] الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، ص 449، 450.
[30] عن كتاب تفسير إنجيل متي للقمص تادرس يعقوب ملطي، كنيسة مارجرجس باسبورتنج 1994، ص 395 401.
[31] المرجع السابق، ص 396، 397.
[32] المرجع السابق، ص 400.
[33] المرجع السابق، ص 400.
[34] Westcott, St. John’s Epistles , p 112.
[35] Ibid . 113.
[36] Lightfoot Epistle to the Galatians, pp 209 ff.