الخلاص عند القديس أثناسيوس – د. نصحي عبد الشهيد
الخلاص عند القديس أثناسيوس – د. نصحي عبد الشهيد
الخلاص عند القديس أثناسيوس – د. نصحي عبد الشهيد
1 ـ تجسد ابن الله وموته على الصليب وقيامته هى محور الإيمان المسيحى والحياة المسيحية:
كان القديس أثناسيوس الرسولى يملك رؤية واضحة لرسالة المسيح في عمقها واتساعها. هذه الرؤية الواضحة كانت ثمرة للتسليم الذي استلمه من الآباء الذين سبقوه والذي تفاعل مع إختباره الروحى الحى. فهو يؤكد في كتاباته أن تجسد ابن الله الكلمة وموته على الصليب وقيامته، هذه الثلاث عناصر المرتبطة معًا هى محور الإيمان المسيحى كله والحياة المسيحية كلها، هى مركز الإيمان والتقوى.
أ ـ إذ يقول: ” إن أساس إيماننا هو أن نتحدث عن الهدف الذي من أجله جاء وعاش فيما بيننا بالجسد، وعن كيفية موت جسده”[1]. فأساس الإيمان هو الحديث عن تجسد المسيح وعن موت جسده.
ب ـ وأيضًا الكلمة ” ببذله لجسده الذي إتخذه لنفسه كتقدمة مناسبة، فإنه رفع الموت فورًا عن جميع نظرائه البشر… فقد كان لائقًا به أن يقدم هيكله الخاص فدية عن حياة الجميع موفيًا دين الجميع بموته. وهكذا.. بإتحاده بالبشر.. فإنه ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة من الأموات، ولم يعد الفساد الفعلى بالموت له أى سلطان على البشر بسبب الكلمة الذي سكن بينهم بواسطة جسده”[2].
فعندما يتحدث القديس أثناسيوس عن الفدية عن حياة الجميع فهو يقصد طبعًا أنه يخلّص البشر من الموت ويهبهم الحياة الأبدية وعدم الفساد. فهذا هو أول أهداف تجسده حسب شرحه في نفس كتاب تجسد الكلمة.
ج ـ التجسد لأجل خلاصنا: وأيضًا في تقديمه لكتاب تجسد الكلمة يقول: ” ولكونه هو الكلمة فإنه بسبب صلاح أبيه ومحبته للبشر، ظهر لنا في جسد بشرى لأجل خلاصنا “[3]. ويظهر مرات عديدة من كلام القديس أثناسيوس أن الدافع للتجسد وعمل الخلاص هو محبة الله للبشر وصلاحه. وهذا يوضح كما ذكرنا أنه استلم روح الإنجيل وخبرة الرسل من الآباء السابقين مع إختياره الروحى. أى أن محبة الله وحنان الله وصلاحه هى سبب التجسد، هى سبب البذل، هى سبب الخلاص. إذ يقول: ” لأجل قضيتنا تجسد لكى يخلّصنا، وبسبب محبته للبشر قبل أن يتأنس ويظهر في جسد بشرى”[4]. وأيضًا ” أتى (الكلمة) إلينا في تنازله، ليظهر محبته لنا ويفتقدنا (بخلاصه)”[5].
2 ـ معنى الخلاص عند القديس أثناسيوس:
لكى نعرف معنى الخلاص عند القديس أثناسيوس، يحسن أن نطرح 3 أسئلة:
أولاً: من ماذا نخلص؟ أى ما هو الذي يخلّصنا المسيح منه؟
ثانيًا: ما معنى موت المسيح وقيامته بالجسد عند القديس أثناسيوس؟ أى ما هو معنى موت الممسيح عنده؟
ثالثًا: ما هو المصير الذي يوصلنا إليه موت المسيح وقيامته؟ أى نتائج الموت والقيامة.
للإجابة على هذه الأسئلة من كتابات القديس أثناسيوس نلاحظ ما يلى:
أولاً: من ماذا نخلص؟
لكى نعرف ” من ماذا نخلص “، نحتاج أن نحصل على إيضاحات من كلام القديس أثناسيوس عن:
أولاً: أ ـ حالة الإنسان الأصلية قبل السقوط.
ب ـ وما هى الحالة التي صار عليها بالسقوط.
ج ـ ما الذي يحتاج إليه الإنسان لعلاجه من نتيجة السقوط.
أ ـ من جهة حالة الإنسان الأصلية قبل السقوط، يعرفنا القديس أثناسيوس أن الإنسان عند خلقته، هو قابل للموت والإضمحلال حتى قبل السقوط، وأنه بدون نعمة الخلق على صورة الله لم يكن ممكنًا للإنسان أن يحيا الحياة الحقيقية ويعيش في السعادة إلى الأبد وليس له خلود في ذاته بدون الكلمة. فالموت بالنسبة للجسد بل وحتى النفس هو أمر طبيعى للمخلوقات كلها. فيقول إن البشر ” إذ صاروا أشرارًا فليعلموا أنهم سيجلبون الموت على أنفسهم حسب طبيعتهم”[6].
ويقول القديس أثناسيوس، إن الإنسان ” كان عاجزًا بطبيعة تكوينه عند خلقته عن البقاء على الحالة التي خلق فيها .. ولذلك فإن الله تحنن عليه وأعطاه نعمة إضافية.. بأن خلقه على صورته.. حتى يستطيع وله بعض من ظل الكلمة أن يبقى في السعادة ويحيا الحياة الحقيقية في الفردوس “[7].
أى أن الإنسان خلق على غير فساد بكونه مخلوقًا على صورة الله ـ صورة الله الذي هو الكلمة اللوغوس. وعدم الفساد ليس من طبيعة الإنسان بل من صورة الله فيه. الله غير المائت غير الفاسد غير المضمحل، الخالد. وهنا يتميز تعليم القديس أثناسيوس عن نظرة اللاهوت الغربى الذي يقول إن الإنسان وُهب عطية فائقة للطبيعة بعد خلقته أى أن النعمة مخلوقة، ولذلك فيمكن أن يفقد النعمة تمامًا. أما القديس أثناسيوس فيقول إن النعمة الإضافية وهى الخلق على صورة الله هى عنصر رئيسى في تكوين طبيعة الإنسان منذ البداية. ومعنى كلامه هذا هو أن الإنسان يملك في داخله إمكانية إلهية بطبيعة خلقته، وأن النظرة الصحيحة للإنسان بحسب الكتاب المقدس هى أنه يكون إنسانًا بإرتباطه بالله وبدون الوجود في الله لا يكون الإنسان إنسانًا حقًا. فالإنسان الأصلى هو الإنسان الموجود في الله أو هذه هى حالة الإنسان الأصلية. ولذلك يرى القديس أثناسيوس أن الصورة لا يمكن أن تتلاشى تمامًا ولكن يمكن أن تتشوه أو تعتم أو تضعف، ولكن لا تفقد فقدانًا مطلقًا. وهذا ما يشرحه في كتاب تجسد الكلمة فصل14 عندما يعطى مثلاً بالصورة المرسومة على قماش ثم تلطخت من الخارج بالأقذار مما أدى لإختفاء ملامحها، فلابد من حضور صاحب الصورة نفسه لكى يمكن إعادة تجديد الصورة وعلى نفس القماش ولا يلقى بالقماش.. “[8].
كما يوضح القديس أثناسيوس أننا رغم أننا قد خلقنا على صورة الله، وندعى صورة الله، ومجد الله معًا، فهذا ليس من ذواتنا بل بسبب ذلك الذي هو صورة الله، وهو مجد الله الحقيقي الساكن فينا ـ الذي هو كلمته، الذي من أجلنا صار جسدًا فيما بعد ـ بسببه هو ننال نحن نعمة دعوتنا هذه[9]، أى نعمة كوننا على صورة الله وندعى صورة الله ومجده. فالمسيح هو “صورة الله غير المنظور ” كما يقول الرسول بولس في رسالة كولوسى15:1 أما الإنسان فهو مخلوق على صورة الله، أى هو صورة الصورة.
+ معنى الخلق على صورة الله:
1 ـ معرفة الله وكلمته ورؤيته في عقل أو قلب الإنسان وإدراك الأمور العقلية مثل الكائنات العقلية والأفكار والحقائق العقلية[10].
2 ـ الشركة مع الله الآب ومع الكلمة (اللوغوس) والحياة والخلود مع الله[11].
ب ـ الحالة التي صار عليها الإنسان بالسقوط:
1 ـ أى ما صار إليه بالعصيان بتحويل فكره إلى الأشياء الحسية المخلوقة بدلاً من النظر في الله والتأمل فيه[12]، وذلك بمشورة الشيطان.
2 ـ ونتج عن تحويل فكر الإنسان من النظر في الله أن البشر فقدوا معرفة الله.
3 ـ وعادوا إلى العدم. وعادوا تعنى أنهم خلقوا أصلاً من العدم، فعادوا إلى العدم، لأنهم كانوا يستمدون وجودهم من الله الذي هو “الكائن”، ولذلك فإنهم يُحرمون إلى الأبد من الوجود.
4 ـ والنتيجة هى الإنحلال والبقاء في حالة الموت والفساد (الفناء)[13].
+ ولكن مشابهة الإنسان لله ـ أى صورة الله فيه ـ فقدها الإنسان تدريجيًا، وبدأ الفساد يسود على البشر بصورة أقوى من سيادته الطبيعية، وذلك نتيجة عصيان الوصية .. والفساد يعتبر عملية Process خطيرة تؤدى إلى العدم مع مرور الزمن[14].
وفقدان الإنسان لصورة الله الكلمة الساكن فيه، أدى بالبشر إلى إزدياد جهلهم بالله، وإزدياد الجهل بالله يؤدى إلى السقوط في الشرور بكثرة وهذا بدوره يؤدى إلى إزدياد جهلهم أكثر بالله. وهكذا صارت الأمور عبارة عن خلقة خبيثة: خطأ يؤدى إلى فساد، فساد يؤدى إلى جهل بالله، جهل بالله يؤدى إلى شرور أكثر. وهذا يؤدى إلى فساد أكثر حتى يؤدى إلى العدم.
بفضل الكلمة وحده كان البشر يستطيعون أن يقرأوا في الكتاب المفتوح (أى الخليقة المنظورة) عن معرفة الله، وإظهاره لنفسه في الكون المخلوق[15].
فالقديس أثناسيوس يركز في وصفه لإنحراف الإنسان وسقوطه على النظرة المرضية أى التغيير المرضى الذي أصاب طبيعة الإنسان بسبب تحوله من النظر في الله، أكثر من النواحى الأخرى التي نتجت عن السقوط مثل الإنحرافات السلوكية والأخلاقية، وإن كان يذكر هذه الإنحرافات بإعتبارها أعراض طبيعية للمرض الروحى داخل نفس الإنسان في طبيعته وكيانه. وهكذا فإن إنحراف الإرداة وكذلك إنحراف السلوك بالتالى يدخلان ضمن الفكرة العامة عند القديس أثناسيوس ألا وهى fqÒra = الفساد[16] أى التحلل والإضحلال مما يؤدى إلى الفناء. فالفساد في طبيعة الإنسان الداخلية يؤدى إلى فساد في المعاملات والسلوك والأخلاق كنتيجة طبيعية لفساد الداخل.
ج ـ ما يحتاج إليه الإنسان:
يحتاج الإنسان أساسًا وقبل كل شئ إلى شفاء الطبيعة التي مرضت أى إلى تغيير جذرى في كيانه وطبيعته، أى بالأحرى إعادة غرس الطبيعة الإلهية السامية من جديد، وهى الحياة الإلهية التي كانت له، والتي فقدها تدريجيًا كما ذكرنا.
وهذا ما يشرحه القديس أثناسيوس في فصل كامل من تجسد الكلمة، يبين فيه لماذا كان من الضرورى أن يتجسد الكلمة، وأنه كما إلتصق الفساد بالجسد يحتاج الأمر أن تلتصق به الحياة بدلاً من الفساد، لابد أن تتحد الحياة بالجسد لتطرح عنه الفساد، ويتم تغيير الطبيعة البشرية وتجديدها بإتحاد الكلمة بالجسد[17].
ثانيًا: الخلاص بالتجسد والصلب والقيامة:
1 ـ يعتبر القديس أثناسيوس أن مجرد التجسد أى حضور الكلمة في الجسد هو في ذاته له دور في إعادة الحياة الإلهية إلى طبيعتنا البشرية .. فيعطى تشبيهًا بالمدينة التي سكن الملك في أحد بيوتها وكيف أنه لا يجرؤ أى عدو أو عصابة أن تدخل إليها بسبب سكنى الملك في أحد بيوتها وهكذا لأن الكلمة جاء وسكن في جسد بشرى فبدأت تبطل مؤامرة العدو ضد البشر وأبطل فساد الموت[18]، كل هذا بدأ بالتجسد ويكتمل طبعًا بالصليب والقيامة. كما يذكر في المقالة الثانية ضد الآريوسيين أن الإنسان المخلوق يتحد بالله عن طريق تجسد الكلمة خالق الجسد[19]. وفي نفس هذه المقالة يذكر أيضًا أن ” الكلمة قد لبس الجسد البشرى المخلوق لكى بعد أن يجدده فإنه يؤله هذا الجسد ففي ذاته. صار الإتحاد هكذا: أن يتحد ما هو بشرى بالطبيعة بهذا الذي له طبيعة الألوهية، ويصير خلاص للإنسان وتأليهه مؤكدًا[20].
2 ـ صلب المسيح وقيامته:
يقدم القديس أثناسيوس الخطوات التالية:
1 ـ معضلة سقوط الإنسان:
أ ـ الإنسان بعد أن خلقه الله على صورته ـ الكلمة الابن الوحيد ـ خالف الوصية، فساد عليه الموت سيادة شرعية، وفسدت طبيعة الإنسان وصار سلطان الفساد على كل الجنس البشرى أكثر من سلطانه الطبيعى وذلك بالموت والبقاء فى حالة الموت والفساد والحرمان من الوجود إلى الأبد ـ أى الحرمان من الوجود الحقيقى مع الله[21].
ب ـ لم يكن ممكنًا أن يترك الله الصالح المحب ـ فى صلاحه وحبه ـ الإنسان المخلوق على صورته ليهلك ويصير تحت سلطان الفساد والموت ويرجع إلى عدم الوجود[22].
ج ـ فإهمال الإنسان لا يتفق مع صلاحه ولا مع قدرته بل يعلن ضعفه[23].
د ـ ولكن فى نفس الوقت لابد أن يتم حكم الموت على الإنسان فهو عقوبة الخطية العادلة، فالإنسان ورط نفسه بالتعدى فوقع عدلاً تحت حكم الموت لذلك يلزم أن يتم الموت إيفاءً لمطلب الله العادل ـ “إيفاء الدين المستحق على الجميع”.[24]
هـ ـ التوبة بدون التجسد والفداء لا تكفى[25] :
1 ـ لأنها لا تستطيع أن توفى مطلب الله العادل الذى هو حكم الموت على المخالف.
2 ـ تعجز التوبة عن أن تغير وتجدد طبيعتة الإنسان. وتجديد خلقه على الصورة الإلهية التى هى حالته الأولى.
2 ـ حل المعضلة:
لذلك أخذ الكلمة من أجسادنا جسدًا مماثلاً لطبيعتنا (من العذراء ـ كهيكل له ـ وجعله جسده الخاص واتخذه أداة له، وفيه أعلن ذاته إذ حلّ فيه)[26]. وبذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدمه للآب. كل هذا فعله بمحبته لنا وشفقته علينا، وذلك لكى:
أولاً: يبطل الناموس الذى كان يقضى بهلاك البشر، إذ أن الكل قد ماتوا فيه، لأن قوة الموت قد استنفدت تمامًا فى جسد الرب، ولم يعد الموت يجد له أى أساس يمسك به ضد البشر نظراء الرب.
ثانيًا: لكى يعيد البشر الذين انحدروا فى الفساد، يعيدهم إلى عدم الفساد، ويحييهم من الموت بامتلاك جسده وبنعمة القيامة مبيدًا الموت منهم كما تلتهم النار القش[27].
” إذ أن الكلمة هو وحده الذى بطبيعته يستطيع أن يجدد خلقة كل شئ ويتحمل الآلام عن الجميع ويكون شفيعًا عن الجميع عند الاب” تجسد الكلمة[28].
3 ـ عند القديس أثناسيوس المسيح كلمة الله تجسد وقدم جسده ذبيحة بالصليب لسببين رئيسيين:
أولاً: ليوفى الدين علينا ـ وهو حكم الموت الناتج عن الخطية.
ثانيًا: ويبطل الموت والفساد ويجدد خلقة الإنسان على صورة الله بموته وقيامته، إذ يقول:
أ ـ [ لما كان ضروريًا أيضًا وفاء الدين المستحق على الجميع ـ وهو سبب جوهرى حقيقى لمجئ المسيح بيننا ـ لأجل هذه الغاية ـ قدم نفسه أيضًا ذبيحة عن الجميع، إذ سلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع… لكى يحرر البشر من معصيتهم القديمة (أولاً)، (وثانيًا لكى يظهر أنه أقوى من الموت) بإظهار أن جسده عديم الفساد كباكورة لقيامة الجميع][29].
ب ـ وفى المقالة الثانية ضد الآريوسيين: [ لأجل ذلك فإن كلمة الله الكامل قد لبس الجسد الناقص… لكى بعد أن يوفى الدين بدلاً منا، يكمل بنفسه ما هو ناقص عند الإنسان، فالإنسان ينقصه الخلود والطريق إلى الفردوس]. [30]
ج ـ وأيضًا [ وعندما أراد الآب أن تُقدم فدية لأجل الجميع، وأن تُعطى النعمة للكل، … عندئذ أخذ هو جسدًا من الأرض.. حتى إذ يكون له ـ كرئيس كهنة شئ يقدمه، فهو يقدم نفسه للآب ويطهرنا جميعًا من الخطايا بدم نفسه ” ويقيمنا من بين الأموات” ][31].
د ـ [ لهذا أخذ الكلمة لنفسه جسدًا قابلاً للموت… وإذ قدم للموت ذلك الجسد… كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فورًا عن جميع نظرائه، إذ قدم عوضًا عنهم جسدًا ممائلاً لأجسادهم..
ولأن كلمة الله متعالٍ فوق الكل، كان من الطبيعى بواسطة تقديم هيكله الخاص وأداته البشرية لأجل حياة الجميع، أن يوفى الدين بموته]. وإذ اتحد ابن الله عديم الفساد بالجميع بطبيعة مماثلة فقد ألبس الجميع عدم فساد كأمر طبيعى بوعد القيامة[32].
هـ ـ [ لأنه سابقًا إذ كان العالم ـ كمسئول ـ يُدان بواسطة الناموس، أما الآن فإن اللوغوس أخذ الدينونة على نفسه، وبتألمه لأجل الجميع بالجسد، وهب الخلاص للجميع ][33].
و ـ [ أرسل الله ابنه الخاص وصار ابن الإنسان باتخاذه الجسد المخلوق. وحيث إن الجميع كانوا خاضعين للموت، وكان هو مختلفًا عن الجميع (فى عدم الخضوع للموت) فقد قدم جسده الخاص للموت من أجل الجميع. إذن حيث إن الجميع ماتوا بواسطته هكذا قد تمت كلمة ذلك الحكم (إذ أن الجميع ماتوا فى المسيح). وهكذا فإن الجميع يصيرون بواسطته أحرارًا من الخطية ومن اللعنة الناتجة عنها، ويبقون على الدوام قائمين من الأموات ولابسين عدم موت وعدم فسادٍ ][34].
[… وحيث إن أعمال إبليس قد نُقضت من الجسد فقد تحررنا جميعًا بسبب علاقتنا بجسده، وصرنا متحدين مع الكلمة…][35].
4 ـ نظرة القديس أثناسيوس لموت المسيح:
أ ـ يرى القديس أثناسيوس أن المسيح سلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع ليوفى العقوبة على المعصية (حسب إنذار الله)، وبذلك فإن الصليب وضع نهاية للموت كعقاب وكعرض من أعراض فساد الطبيعة البشرية. ولكنه لا يدخل فى النظرة القضائية للفداء التى نشأت فى اللاهوت الغربى منذ ترتليانوس ووصلت إلى ذروتها عند أنسلم فى القرن 11.
ورغم أن القديس أثناسيوس يذكر أن السبب الأول الذي من أجله قدم جسده للموت هو أن يوفى العقوبة على المعصية إلاّ أنه يركز أكثر فى شرحه للفداء على ناحية الكيان والطبيعة: إبطال الموت والفساد، تجديد الطبيعة، إعادة خلق الإنسان حسب الصورة التى خُلق عليها أصلاً [ والآن إذ قد مات مخلّص الجميع نيابة عنا فإننا نحن الذين نؤمن بالمسيح لن نموت (بحكم) الموت الذى كان سابقًاحسب وعيد الناموس لأن هذا الحكم قد أُبطل؛ وبما أن الفساد قد بَطُل وأُبيدَ بنعمة القيامة فإننا من ذلك الوقت وبحسب طبيعة أجسادنا المائتة ننحلّ فى الوقت الذى حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل ] [36].
ب ـ الناحية التى يركز عليها أكثر فى موت المسيح هى أن قوة الموت قد استنفدت تمامًا فى جسد الرب، ولم يعد له سلطان على البشر، ولم يعد الموت يجد له أساسًا يمسك به ضد البشر، وأن فساد الجنس البشرى يستهلك فى جسد الرب، فيتلاشى الفساد والموت من طبيعة الإنسان، فقوة حياة الكلمة قد ابتعلت الموت فى موت جسده وحوّل فساد الإنسان إلى عدم فساد[37].
5 ـ انتصار المسيح هذا على الموت وعلى الشياطين تم بالموت، ولكن أُعلن وأُظهر بقيامته فالقيامة هى الدليل على الانتصار:
” أبطلت الموت بموتك، وأظهرت القيامة بقيامتك” (الساعة التاسعة)
لذلك فموت المسيح هو ” بداية جديدة للحياة “[38].
[ لأنه بذبيحة جسده وضع حدًا لحكم الموت الذى كان قائمًا ضدنا، ووضع لنا بداية جديدة للحياة αρχή Ζωής، برجاء القيامة من الأموات الذى أعطاه لنا… بطل الموت، وتمت قيامة الحياة بتأنس كلمة الله… وهكذا نحن الآن لا نموت بعد كخاضعين للدينونة بل كأناس يقومون من الموت ننتظر القيامة العامة للجميع، التى سيبينها فى أوقاتها الله، الذى أكملها ، والذى وهبنا إياها (1تى15:6)][39].
+ وبموت المسيح مات الموت حقيقة[40].
6 ـ [ الآن بعد قيامة المخلص بالجسد ـ لم يعد الموت مرعبًا والمؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شئ، ويفضلون أن يموتوا عن أن ينكروا المسيح. لأنهم يعلمون يقينًا أنهم لا يهلكون بالموت، بل يبداون الحياة فعلاً، .. ويصبحون عديمى الفساد بفضل القيامة][41].
[ احتمل الموت لا من أجل نفسه بل من أجل خلود الجميع وخلاصهم][42].
ثالثًا: النتيجة التي يوصلنا إليها تجسد المسيح وموته وقيامته
أى ما نناله نتيجة إبطال الموت والفساد
يؤكد القديس أثناسيوس في مواضع عديدة جدًا من كتاباته على الحالة السامية جدًا التي يهبها المسيح للإنسان بفضل إبطاله لقوة الموت والفساد فهو يوضح أن الإنسان بفضل نعمة المسيح وعمل الروح القدس فيه كنتيجة للإنتصار على الموت وعلى الفساد ينال نعمة البنوة لله بسكنى المسيح في داخل الإنسان وفي مرات كثيرة يستعمل تعبير يؤلهنا بدلاً من تعبير يصيرنا أبناء، وأحيانًا يستعمل تعبير “نصير شركاء الطبيعة الإلهية” الوارد في رسالة بطرس الرسول الثانية.
وفي بعض الأحيان يستعمل تعبير الإتحاد بالله أو يوحدنا بالله بدلاً من تعبير التأليه أو يؤلهنا. كل هذه التعبيرات البنوة، التأليه، الشركة في الطبيعة الإلهية، الإتحاد بالله يقصد بها القديس أثناسيوس أن المسيح بعمله الفائق في تجديد الطبيعة البشرية يوصل الإنسان إلى حالة أسمى من الحالة التي كان عليها الإنسان قبل السقوط، وعندما يستعمل تعبير يؤلهنا لا يقصد إننا نصير من جوهر الله فهذا مستحيل طبعًا فلا يمكن أن يكون في جوهر الله أى أقنوم سوى الآب والابن والروح القدس الذين هم واحد في جوهر الألوهية. ولكنه يقصد بإشتراكنا في الله أو إتحادنا به أو تأليهنا إننا ننال فيضًا من غنى الحياة الإلهية التي تنسكب في داخلنا بالروح القدس الذي يعمل فينا من خلال الأسرار المقدسة.
والآن نذكر بعض أقوال القديس أثناسيوس عن نتائج إبطال الموت والفساد:
+ [ لأن كلمة الله صار إنسانًا لكى يؤلهنا نحن، وأظهر نفسه في جسد لكى نحصل على معرفة الآب غير المنظور وإحتمل إهانة البشر لكى نرث نحن عدم الموت (أى نرث الخلود)][43].
+ [ إذًا فقد كمل فيه الجنس البشرى وأُعيد تأسيسه كما كان في البدء (عند خلقته) بل بالأحرى بنعمة أعظم من الأول … وهذا لأن كلمة الله الذاتى عينه الذي من الآب قد لبس الجسد وصار إنسانًا … لأنه بدون ذلك لبقى الإنسان كما كان دون أن يتحد بالله ][44].
+ [ الكلمة صار جسدًا لكى يقدم جسده من أجل الجميع، ولكى إذا اشتركنا في روحه القدوس نصير آلهة ][45].
+ [ المخلص لم يكن إنسانًا ثم صار فيما بعد إلهًا، بل كان إلهًا وفيما بعد صار إنسانًا كى يؤلهنا ][46].
+ [ فهذه النعمة وهذا التمجيد العالى إنما هو لنا، فبالرغم من أنه صار إنسانًا … فإنه يُعبد. لذلك لن تدهش القوات السمائية حينما ترانا نحن جميعًا المتحدين معه في نفس الجسد داخلين إلى مناطقهم السمائية ][47].
+ [ حيث إننا أبناء وآلهة بسبب الكلمة الذي فينا هكذا أيضًا سنصير في الابن وفي الآب، وسوف نُحسب أننا صرنا واحدًا في الابن وفي الآب، بسبب وجود ذلك االروح فينا نحن، وهو الروح الذي في الكلمة الكائن في الآب ][48].
+ [ لأنه كما أن الرب نفسه بلبسه الجسد قد صار إنسانًا، هكذا نحن البشر فإننا نتأله بالكلمة بإتحادنا به بواسطة جسده، ولهذا فنحن نرث الحياة الأبدية ][49].
+ [ وكما أنه لو لم يكن الجسد الذي لبسه الكلمة جسدًا بشريًا لما كنا قد تحررنا من الخطية ومن اللعنة. هكذا لم يكن للإنسان أن يُؤله لو لم يكن الكلمة هو ابن طبيعى حقيقي وذاتى من الآب. لهذا إذًا صار الإتحاد هكذا: أن يتحد ما هو بشرى بالطبيعة بهذا الذي له طبيعة الألوهية، فيصير خلاص الإنسان وتأليهه مؤكدًا ][50].
التأليه يتممه الروح القدس:
+ [ ولكن إن كنا بالإشتراك في الروح نصير “شركاء الطبيعة الإلهية” فإنه يكون من الجنون أن نقول إن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يتألهون. وإن كان هو يؤله البشر فلا ينبغى أن يُشك أن طبيعته هى طبيعة إلهية ][51].
بالمعمودية نصير أبناء بالحق:
+ [ حينما نعتمد باسم الآب والابن والروح القدس فإننا نصير أبناء بالحق وإذ ندعو اسم الآب فإننا نعترف بالابن الكلمة في الآب ][52].
التأليه بالتناول من جسد المسيح:
+ [ ونحن نتأله ليس باشتراكنا في جسد إنسان ما، بل بنوالنا جسد الكلمة ذاته ][53].
وفي الختام يتضح أن نتيجة التجسد والموت والقيامة أى البنوة أو التأليه تبدأ في الحياة الحاضرة بفعل الروح القدس في الإيمان والمعمودية والافخارستيا، وتصل إلى كمالها في الدهر الآتى بإكتمال البنوة بافتداء الجسد وتجديده والتمجيد مع المسيح عند مجيئه بالمجد العظيم من السماء حسب وعده.
[1] تجسد الكلمة 4:19، ص55 الترجمة الجديدة عن اليونانية، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية 2003.
[2] المرجع السابق 1:9، 2، ص23، 24.
[3] المرجع السابق 3:1، ص2.
[4] تجسد الكلمة 3:4، ص10.
[5] المرجع السابق 1:8، ص20.
[6] المرجع السابق 4:3، ص9.
[7] انظر تجسد الكلمة فصل 3 فقرة 3 كلها. وانظر أيضًا ضد الوثنيين 2:2ـ4 و 2:34ـ3.
[8] انظر المرجع السابق فص 1:14، 2.
[9] انظر ضد الآريوسيين 10:3.
[10] انظر ضد الوثنيين 2:2ـ4، 2:34ـ3
[11] تجسد الكلمة 3:3.
[12] ضد الوثنيين 3:3، تجسد الكلمة 4:4.
[13] تجسد الكلمة 5:4ـ6.
[14] المرجع السابق 4:4 و 3:5ـ4.
[15] ضد الوثنيين 4:34.
[16] تجسد الكلمة 3:5.
[17] المرجع السابق فصل 44 كله.
[18] انظر تجسد الكلمة 3:9ـ4.
[19] انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين فصل 67.
[20] المرجع السابق 7.
[21] تجسد الكلمة فصول 4و5و6.
[22] فصل6
[23] فصل6
[24] تجسد الكلمة 2:20، 5 ص 67، وضد الآريوسيين69:2 ص 107.
[25] تجسد الكلمة 3:7و4.
[26] تجسد الكلمة3:8.
[27] 4:8.
[28] 5:7 ص35.
[29] تجسد الكلمة2:20.
[30] ضد الآريوسيين 66:2.
[31] ضد الآريوسيين 7:2.
[32] تجسد الكلمة 1:9، ص 38و39.
[33] ضد الآريوسيين60:1.
[34] ضد الآريوسيين69:2.
[35] ضد الآريوسيين 69:2.
[36] انظر تجسد الكلمة 1:21.
[37] انظر تجسد الكلمة4:8.
[38] تجسد الكلمة5:10.
[39] المرجع السابق.
[40] تجسد الكلمة 1:27.
[41] تجسد الكلمة2:27.
[42] تجسد الكلمة 1:34.
[43] تجسد الكلمة 3:54.
[44] ضد الآريوسيين 67:2.
[45] De Decritis 14.
[46] ضد الآريوسيين 39:1.
[47] ضد الآريوسيين 42:1.
[48] ضد الآريوسيين 25:1.
[49] ضد الآريوسيين 34:3.
[50] ضد الآريوسيين 70:2.
[51] الرسالة الأولى إلى سرابيون 24.
[52] De Decritis 31.
[53] Letter to Maximus 2.
الخلاص عند القديس أثناسيوس – د. نصحي عبد الشهيد
انجيل توما الأبوكريفي لماذا لا نثق به؟ – ترجمة مريم سليمان
هل أخطأ الكتاب المقدس في ذِكر موت راحيل أم يوسف؟! علماء الإسلام يُجيبون أحمد سبيع ويكشفون جهله!