الرمز والحقيقة في العبادة الأرثوذكسية – دكتور جورج عوض إبراهيم
الرمز والحقيقة في العبادة الأرثوذكسية – دكتور جورج عوض إبراهيم
مقدمة:
يتميّز الإنسان وحده بقدرته على العمل في الحياة مستخدمًا الرموز، بينما يتعذر ذلك بالنسبة للحيوان. فالإنسان وحده هو الذي يتواصل مع غيره من الناس عن طريق اللغة، وهو وحده الذي يصوغ القوانين ويراعى قواعد السلوك العامة، ويمارس طقوسًا معينة، في حالة الولادة والزواج والموت، مملوءة بالرموز والدلالات والمعاني. فالرمز هو أحد السمات الأساسية للجنس البشرى. فالسلوك الإنساني هو سلوك رمزي في جوهره، كما أن السلوك الرمزي هو بالضرورة سلوك إنساني [1].
ليس غريبًا ـ في هذا الإطار ـ أن تكون العبادة الكنسية مملوءة بالرموز، ولا توجد صلاة تعبدية أو عمل ليتورجي يتحقق في الكنيسة بدون استخدام رموز معينة.
لكن ما هو مفهوم الرمزية Symbolism؟ وما هو المغزى التعليمي من استخدامه؟
المفهوم العام للرمزية Symbolism:
الرمز Symbol في معناه العام هو أي شيء يحيل إلى شيء آخر، أو يقوم مقامه أو يدل عليه. فهو من ناحية ما يرتبط بالموضوع الذي نود الكشف عن فكرته، ومن ناحية أخرى هو مصطلح يُطلق على موضوع مرئي يمثل تشابهًا مع ما هو غير مرئي. وقد تؤدى كلمة علامة sign أو إشارة signal أو معنى meaning نفس دلالة الرموز. وتعتبر اللغة أو الكلام رموزًا لأنها وسيلة لتسهيل واختصار التعامل ونقل المعاني [2].
الرمزية إذن هي شيئًا ما يقف بديلاً عن شيء آخر أو يحل محله أو يمثله بحيث تكون العلاقة بين الاثنين هي علامة الملموس بالمجرد، وذلك على اعتبار أن الرمز هو شيء له وجود محسوس ولكنه يرمز إلى فكرة أو معنى مجرد. فالميزان مثلاً يرمز إلى العدالة، والحمامة ترمز إلى السلام، والصليب يرمز إلى المسيحية. بينما الصليب المعقوف يشير إلى النازية. وقد تستخدم بعض الأفعال والحركات والإشارات كرموز.. وهذا ما نراه في العبادة؛ فرفع الذراعين إلى أعلى في الصلاة يشير إلى التماس المعونة من الله والتضرع إليه، أيضًا السجود وانحناء الرأس، كلها لها دلالات تعبّر عن التقوى والخشوع في حضرة الله.
هكذا فإن الرمز هو كل ما يحل محل شيء آخر في الدلالة عليه، لا بطريق المطابقة التامة وإنما بوجود علامة عرضية أو متعارف عليها من الجماعة البشرية التي تستخدم هذا الرمز، هكذا الرمز لا يتطابق تمامًا مع الحقيقة المُعلنة من خلاله، وفى نفس الوقت هناك تشابه بين الرمز والحقيقة، فالرمز ليس غريبًا تمامًا عن الحقيقة التي يُعلنها.
تكمن الخطورة في استخدام الرموز في العبادة إذا أخضعنا هذه الرموز للمفاهيم السحرية. فالرمز ليس أداءً حركيًا آليًا أو مجرد قول ننال بمقتضاه بركة بعيدًا عن الفهم والإدراك والتمييز من جانبنا نحن.
لقد عانت الكنيسة الغربية في العصور الوسطى من وجود هذه الأفكار السحرية بكثرة في الحياة التعبدية، مما أسهم في ظهور معارضين كثيرين للكنيسة وانشقوا عنها، نقصد البروتستانت. هذا الأمر هو الذي جعل الكنيسة الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني تُبسط الليتورجيا وتُلغى الملابس الكهنوتية المُبالغ في زخرفتها وأثمانها وتلجأ إلى الملابس البيضاء البسيطة مثل التي نستخدمها نحن في العبادة في كنيستنا القبطية، وأيضًا إلغاء أمور كثيرة كانت تحدث في أثناء العبادة وتسبّب تشويشًا وعائقًا للإيمان البسيط والعميق.
فالصلوات الطويلة والمُبالغ في أدائها والملابس المُزينة بأحجار ثمينة، والرموز الكثيرة جدًا والمتنوعة كانت في نظر المعارضين للكنيسة الغربية وقتذاك غير متوافقة مع السمة الروحية للعبادة المسيحية، وبساطة حياة المسيح الأرضية وكذلك فضيلة التواضع وبقية سمات الحياة المسيحية[3].
تأخذ مسألة الرمزية ـ في هذا الإطار ـ أبعادًا هامة في الكنيسة، خاصةً أنه توجد هوة كبيرة بين الفهم المستنير لما يؤدى في أثناء العبادة وبين الفهم السطحي الذي قد يتبناه البعض من بسطاء الشعب. إذن من الضروري أن نواجه موضوع الرمزية المستخدمة بكثرة ـ كما قلنا ـ في عبادتنا. ونبحث في ما هو المفهوم المسيحي للرمزية؟
المفهوم المسيحي للرمزية:
لقد رأينا أن الرمزية ليست مجرد ابتداع مسيحي كنسى، بل هي مغروسة في الطبيعة البشرية، وتظهر في حياتنا اليومية. وبحسب تعليم كنيستنا الأرثوذكسية، فإن سبب الالتجاء لاستخدام الرمز يتمثل في نزوع الكائن البشرى نحو عبور المسافة بين المحدود واللانهائي، وبلغة آباء الكنيسة بين المخلوق وغير المخلوق. هذا العبور لا يمكن أن يتحقق إلاّ باستخدام الوسائل المُتاحة للمخلوق (الإنسان)، والتي هي وسائل مادية وقابلة للفساد.
حتى لو تجنب الإنسان استخدام المادة في هذا العبور، ولجأ إلى الكلمة البشرية فهي أيضًا غير كافية حتى أن آباء الكنيسة عبّروا عن ذلك بما يُسمى “اللاهوت السلبي”، أي التعبير عن الله (غير المخلوق) بأسلوب النفى أو الأسلوب السلبى. وهذا ما نراه في القداس الغريغورى: [مستحق وعادل.. أيها الواحد وحده الحقيقي محب البشر، الذي لا يُنطق به، غير المرئي، غير المُحوى، غير المبتدئ، الأبدى، غير الزمنى، الذي لا يُحد، غير المفحوص، غير المستحيل، خالق الكل].
وكما قلنا فإن الرمز لا يتطابق تمامًا مع الحقيقة المُعلنة من خلاله، وفى نفس الوقت هناك تشابه ما بين الرمز والحقيقة. وهناك تمييز بين الرمز Σύμβολο والعلامة Σημείου. فالعلامة تشير إلى حقيقة ما دون أن يكون بالضرورة هناك تشابهًا بينهما، بينما الرمز يتشابه إلى حد ما مع الحقيقة، أو هناك عناصر مشتركة فيما بينهما.
ومن هنا تأتى الخطورة المتمثلة في سوء شرح مفهوم الرمز، فمرات كثيرة نشرح الرمز لنصل إلى مفهوم وحقيقة بعيدة جدًا عن الرمز. وقد يكون هذا المفهوم مضاد لما أراد الرمز أن يعلنه. وهذا الخطأ يقودنا إلى العشوائية في تفسير الرموز الليتورجية أو يقودنا إلى إهمال نماذج أو أمثلة في الليتورجية تعبّر عن حقائق لاهوتية عميقة للحياة الكنسية.
لكن لو التزمنا بتعريف الرمز بأنه وسيلة لعبور المسافة بين المخلوق (الإنسان) وغير المخلوق (الله) وذلك باستخدام وسائل معروفة وممكنة للمخلوق، عندئذٍ نستطيع أن نعرف المعنى المسيحي الصحيح للرمز في عبور الهوة بين المخلوق وغير المخلوق في شخص المسيح. وهذا سيقودنا إلى معرفة الاختلاف بين الرمزية المسيحية والرمزية في أي مذهب آخر.
الاختلاف بين الرمزية المسيحية والرمزية في الديانات الوثنية:
إن الاختلاف الأساسي بين الإيمان المسيحي الكتابي والإيمان في الديانات الوثنية بخصوص عبور الهوة بين المخلوق وغير المخلوق، هو أن الديانات الوثنية تعبر هذه الهوة بمعونة الطبيعة، بينما في الإيمان المسيحي، الطبيعة لا تملك في ذاتها أي إمكانية أو خاصية لعبور الهوة. فالمسيحي يعبر هذه الهوة بكامل حريته. بينما في الديانات الوثنية، فإن الرمز الذي يصنع جسرًا بين المخلوق والخالق هو الذي يُخضِع الحرية الشخصية للعبودية للطبيعة مثل السحر أو حركة النجوم… إلخ. عبور المخلوق إلى غير المخلوق في الإيمان المسيحي يعتمد على الحرية الشخصية. هكذا لا يوجد في العهد القديم ولا في العهد الجديد رمزية مرتبطة بالطبيعة.
ويعلن هذه الحقيقة بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية قائلاً: ” لكن حينئذٍ إِذْ كنتم لا تعرِفونَ اللهَ استعبدتم للذِين ليسوا بالطبيعة آلِهَةً. وأمَّا الآنَ إِذْ عَرَفتمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِي عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ، فَكَيْفَ تَرجِعونَ أَيضًا إلى الأَرْكَانِ الضعيفَة الفقيرة التي تُرِيدُونَ أَنْ تُستَعبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟ أَتَحفَظُونَ أَيامًا وشهورًا وَأَوقَاتًا وسنين” (غلا8:4ـ10).
إن الرمزية المسيحية مُؤسسة على الكلمة المتأنس، ابن الله الذي تأنس واتحد بالمخلوق ـ بدافع من محبته ـ وعبر هذه الهوة بين المخلوق وغير المخلوق. وبدون التجسد سيظل أي رمز عاجزًا عن عبور الهوة بين المخلوق والخالق (انظر أى32:9). والقديس كيرلس الإسكندري يصف عبور هذه الهوة بالمسيح قائلاً: [إن الإنجيلي (يوحنا) يصف الابن الوحيد بكل الصفات الخاصة بالله ولاسيما أنه حاضر بدون انقطاع في العالم لأنه بالطبيعة هو الحياة وهو نور بجوهره ويملأ الخليقة كإله غير محصور في مكان، ولا يُقاس بمقاييس، ولا يُدرك بالكم، ولا يحيط به شيء. ولا يتحرك من مكانٍ إلى آخر، ولكنه يسكن في الكل ولا يفارق أحدًا، ومع كل هذا يُقال إنه أتى إلى العالم رغم حضوره الدائم فيه.
وهذا المجيء إلى العالم هو التجسد، لأنه أعلن نفسه للذين على الأرض وتحدّث مع البشر (باروخ37:3) عندما تجسد، وجعل حضوره في العالم ظاهرًا للكل. والذي كان في الماضي معروفًا لفكر الإنسان صار مرئيًا بعيون الجسد أيضًا ولاسيما عندما صار ظاهرًا بالعجائب والقوات. ويترجى المرنم مجيء النور والحق لكي ينير الكلمة العالم عندما يأتي متجسدًا][4].
هكذا عبر الإنسان الهوة، إذ أعلن غير المخلوق عن نفسه بالتجسد، وتحدث مع البشر. ويوضح القديس كيرلس هذه الحقيقة بقوله: [فالابن ينير الخليقة كخالق لأنه النور الحقيقي، وعندما تشترك الخليقة في نور الابن تُشرق بنوره وتصبح في هذه الحالة نورًا، لأنه بتعطف الابن ترتفع إلى فوق، لأنه مَجَّد الخليقة وكلّلها بأكاليل متنوعة من الكرامة، لكى يأتي إليه كل من نال كرامة ويرفع صلوات الشكر بصوتٍ عالٍ: ” باركي يا نفسى الرب ولا تنسى كل حساناته” (مز2:103)][5].
هكذا بتأنس ابن الله وعبور الهوة أصبح ممكنًا تحقيق الهدف من الرمز، لكن تحت مبادئ لا تُخترق:
أ ـ أي رمزية لا يمكن أن تتأسس فقط على التشابه الشكلي بين ملامح الوسيلة الرمزية المخلوقة والملامح الإلهية غير المخلوقة. فالعالم المادى والعالم المعنوى والعقلى أيضًا لا يمكن لهم أن يصوِّروا الله غير المنظور. عبور الهوة تم في المسيح فقط، إذ هو ذاته الوسيلة التي تم بها هذا العبور.
ب ـ وطالما أن أي رمزية لا تكون مُؤسسة فقط على الخواص الطبيعية للوسيلة الرمزية لكن على الحرية الشخصية، فكل الرموز في الكنيسة تُؤسس على الحوادث التاريخية لتدبير الله الخلاصى لأنها نابعة من محبة الله وخضوع الابن وفعل الروح القدس.
ج ـ وحيث إن كل الحوادث التاريخية لتدبير الله الخلاصي يكتمل فهمها ليس بالرجوع إلى الماضي بل في بُعدها الأخروي، إذن فكل رمز يشير إلى حدث أخروي، أي إلى ملكوت الله في ملئه. هكذا كل رمز يشير إلى حقيقة أُخروية، وهذه الحقيقة ليست موجودة في طبيعة المواد المُستخدمة أو الوسائل التي يستخدمها الرمز، وهي ليست فقط موجودة في الحوادث التي حدثت في الماضي بل المهم هو مدى دلالة الرمز تجاه الحقيقة الأخروية.
نستطيع أن نطبق هذه المبادئ في العبادة الأرثوذكسية:
الرمزية في العبادة الأرثوذكسية:
لقد بدأت العبادة الكنسية بقيامة الرب. لأن قبل قيامة المسيح لم تكن العبادة المسيحية ” في الروح والحق” (يو23:4)، ” لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد” (يو39:7). الكلام هنا عن الروح القدس الذي أعطاه المسيح بعد قيامته إلى تلاميذه (يو22:20)، وبواسطة هؤلاء التلاميذ أُعطى الروح لكل الكنيسة. وهذا ما جعل العبادة المسيحية عبادة روحية تتطّلع وتدخل إلى “الأيام الأخيرة”، لذا قال القديس بطرس في عظته يوم الخمسين: ” يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة أنى أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلامًا. وعلى عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون” (أع17:2ـ18، يؤ28:2).
هكذا بالقيامة تحقق بالتمام عبور الهوة التي كانت تفصل بين الخالق والمخلوق. فالسجود للمسيح القائم والعبادة التي قُدمت له، إذ هو الرب الجالس في يمين الآب، هما بمثابة محور العبادة المسيحية. وكذلك إتمام العشاء السري (لو30:24) من جانب التلاميذ، أي الإفخارستيا التي هي حدثٌ أخروي بعد قيامة الرب هي أيضًا محور عبادتنا، لأن القيامة هي حدثٌ أخروي وليست مجرد حدث تاريخي. فالقيامة هي انتصار على “العدو الأخير” أي الموت وإشراق “اليوم الأبدي”. لكن ماذا يعنى كل هذا للرمزية؟
يعنى أن رمزية العبادة المسيحية لا تتحرك بعد القيامة بين العالم الطبيعي والعالم العقلي أو بين حوادث العهد القديم، لكن بالحري بين القيامة والمجيء الثاني. بشكل عام لدينا مستويان من الرموز. المستوى الأول: يربط رمزية العبادة بالحوادث التاريخية في الماضي. أما المستوى الثاني: فيربط العبادة بحوادث سوف تحدث أي أخروية.
إن كل الرمزية الموجودة في العبادة الكنسية لها هذان المستويان. الأول يرتبط بحوادث الماضي التاريخية ويمكن أن ندعوها نماذجية Τυπολογικός وهذا نراه بكثرة في العظات السرائرية للقديس كيرلس الأورشليمي وأيضًا في كتاب جان دانيلو المعروف: “الإنجيل والليتورجيا”[6]. وعبادة الكنيسة كانت منذ البداية مملوءة من الملامح النماذجية: فالمعمودية لها نماذجها في العهد القديم: الختان، عبور البحر الأحمر، الطوفان.. إلخ. نفس الأمر يسرى على بقية الأسرار الأخرى. وأى رمزية في العبادة لا تتجه ناحية طبيعة الوسيلة الرمزية وخصائصها.
على سبيل المثال: الماء في المعمودية لا ينحصر دلالته على الخصائص الطبيعية للماء الذي ينقى الجسد فقط، بل على الحدث التاريخي الذي تم في الماء من خلال عبور البحر الأحمر مثلاً أو الطوفان. فقوة الرمز لا تنبع من أي خاصية طبيعية للوسيلة المستخدمة. والجدير بالذكر أن دلالة الخصائص الطبيعية موجودة ولكن ليست هي منبع القوة، فمثلاً ارتباط الغرب بالظلام أثناء التفات المُعمّد ناحية الغرب وجحد الشيطان، وإلى الشرق أثناء إقرار الإيمان والانضمام للمسيح، يدل على أن الخصائص الطبيعية لها دور ألاّ وهو التشابه بين الرمز والمرموز إليه والذي قلنا عنه أنه لابد أن يكون موجودًا.
فالغرب حيث غروب الشمس وحلول الظلام يشير إلى المكان المُظلم الذي هو مسكن الشيطان، أما الشرق المضيء بشروق الشمس فهى مكان شمس البر مسكن المسيح. وهذا لا يعنى أن الله ليس موجودًا في كل مكان، حاشا، بل إن الله موجود في كل مكان، فهو “الحاضر في كل مكان والمالئ الكل”. وفى يوم الجمعة العظيمة نصلى كيرياليسون في الاتجاهات الأربعة. إذن رمزية الغرب والشرق لها دور محدد يخدم المعنى والدلالة المُشار إليها.
أما المستوى الثاني فيختص بالرمزية التي تتحرك بين القيامة والمستقبل في شكله الأخروي. هذه الرمزية يمكننا أن نسميها التصويرية Εικονολογικός، فإن كان الآباء قد استخدموا المثال والنموذج “Τύπος” بكثرة لتفسير حوادث العهد القديم، فإن مصطلح الأيقونة “Εικών” قد استخدمه الآباء للعهد الجديد. ومن الجدير بالملاحظة أن آباء مدرسة الإسكندرية: إكليمندس وأوريجانوس قد فسروا حوادث العهد القديم على أنها أيقونة للحقيقة التي تمت في العهد الجديد، وهذا ما نجده عند يوسابيوس القيصري أيضًا[7].
ويستخدم ديونيسيوس الأريوباغى مصطلح أيقونة أو صورة ليبرهن على أن العبادة الأرضية هي صورة وأيقونة للعبادة السماوية[8]. ولعل الصلاة التي نصليها في الأجبية تعبّر بوضوح عن هذه الحقيقة: ” إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نُحسب كالقيام في السماء..”.
إذن، الفرق بين الأيقونة والمِثال والظل، هو أن الأيقونة تستند على نعمة العهد الجديد وعلى الكلمة المتجسد الذي تجسد بالفعل وتمّم خلاصنا، وليس على انتظار تجسد الكلمة. وفى هذا الإطار دافع يوحنا الدمشقي عن الأيقونة بأن التأنس أعطى إمكانية أن يكون لدينا صورة أو أيقونة لأنه بالتجسد صار ابن الله حقيقة تاريخية [9].
الأيقونة هي بمثابة حضور شخصي لصاحبها، وأيقونات القديسين تمثل سحابة الشهود المحيطة بنا. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما تقوم به الكنيسة من تدشين الأيقونات ومسحها بالمسحة المقدسة. ومن يرفض الأيقونة كحضور شخصي لا يستطيع أن يتمتع بالعبادة بحسب كنيستنا الأرثوذكسية. إذن لا نستطيع أن نختزل الأيقونة باعتبارها فقط مجرد صورة تعبيرية يتواصل معها البسطاء، وإلاّ ما الداعي لتمسك الكنيسة بالأيقونات وتكريمها وتدشينها. ولا نستطيع أن نحصر قوة الأيقونة في المواد المصنوعة منها أو الرسم والألوان ولكن قوتها هي في الحضور الشخصي لصاحب الأيقونة.
الرمزية التصويرية:
كما سبق أن قُلنا إن الأيقونة هي بمثابة حضور شخصي وهي في حد ذاتها كمواد طبيعية لا تحتوي في داخلها على أي قوة. إذن حقيقة الرمزية هي في الحضور الشخصي والحدث التاريخي. وقول يوحنا الدمشقي المعروف: ” نحن لا نعبد المادة بل نسجد لخالق المادة”، هو قول ينسحب على إكرامنا لرفات القديسين، وتكريمنا للأواني المقدسة، والملابس الكهنوتية، والمذابح، …إلخ.
فالفعل الإلهي الذي ننال منه البركة لا يسكن في طبيعة الأشياء، إذ أنه فعل إلهي مقدس يتطلب قبولاً شخصيًا. فالبركة التي أنالها عندما ألمس أيقونة القديس وأصلى أمامها تنبع من الحضور الشخصي للقديس، وقبولي وتجاوبي مع الحضور، وليس مجرد اللمس والاتصال الطبيعي بالأيقونة.
وعندما نتحدث عن الإفخارستيا أو القداس الإلهي نرى أيقونة السماء على الأرض، أو بالحري نرى تجلّى الكنيسة الأرضية وتحوّلها إلى سماء. إنها أيقونة السماء كما ذكرنا عندما نصلى قائلين: ” إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء…”. هكذا نرى ليتورجية سماوية، فالهيكل هو ملكوت الله ويسوع الملك مُحاط بالقديسين. والأسقف صورة للمسيح الجالس على العرش. والكهنة هم صورة الرسل الذين يحيطون بالمسيح. والشمامسة هم صورة الملائكة الذين هم أرواح خادمة مرسلة للخدمة (انظر عب14:1)، يتحركون بين الشعب والإكليروس.
الشعب المجتمع الذي يحمل التقدمات (خبز، خمر، زيت،… إلخ) هم صورة لشعب الله. ومجيء الأسقف إلى الكنيسة هو حدث ليتورجي عظيم له طقس في كنيستنا لأنه يصور مجيء المسيح إلى العالم في حضوره الأول وكذلك في حضوره الثاني، واستقباله من جانب الإكليروس والشعب هو قبول للمسيح.
هكذا فإن الرمزية موجودة في عبادتنا، ولكن الرمزية ليست هدفًا في ذاتها، هي فقط تشير إلى الحقيقة. والرمزية المسيحية هي مُؤسسة على التجسد الإلهي. وقوة الرمز لا تكمن في الرمز نفسه كمادة بل في إشارته إلى الحدث الخلاصي الذي تمّمه المسيح، وبذلك يتحقق عبور الهوة بين غير المخلوق والمخلوق في شخص المسيح.
كذلك رأينا كيف أن “المثال” يشير إلى حوادث خلاصية سوف يتممها المسيح، ويتناسب مصطلح “المثال” مع حوادث العهد القديم، فعلى سبيل المثال “ماء الخلق الأول” يشير إلى المعمودية، وكذلك عبور البحر الأحمر يشير أيضًا إلى المعمودية، وأمثلة كثيرة في العهد القديم نجدها تشير إلى بقية الأسرار مثل المن الذي يشير إلى الإفخارستيا. أما “الصورة” فهي تحقيق لما تم بالفعل في المسيح: ” إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نُحسب كالقيام في السماء..”. لذا نرى أن القداس الإلهي هو صورة لتجلى الأرض لتصير سماءً. هذه هي الرمزية الموجودة في عبادتنا الأرثوذكسية والتي تستمد قوتها من شخص المسيح.
[1] أ. د. عادل كمال خضر، مفهوم الرمزية في التحليل النفسي، مجلة علم النفس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد التاسع والخمسون، يوليو ـ أغسطس ـ سبتمبر 2001، ص 17.
[2] المرجع السابق، ص18.
[3] انظر المطران يوحنا زيزيولاس، الرمزية والحقيقة في العبادة الأرثوذكسية، مجلسة سيناكس، المجلد 71 يوليو ـ سبتمبر 1971، ص6ـ21 (باللغة اليونانية)، وهو مرجع أساسي في هذا البحث.
[4] القديس كيرلس الإسكندري، شرح إنجيل يوحنا، الجزء الأول، مركز دراسات الآباء 1989، ص106.
[5] القديس كيرلس الأسكندرى، المرجع السابق، ص104.
[6] ترجمة القمص ميخائيل ميخائيل مليكه، القاهرة 1996.
[7] انظر إكليمندس الإسكندري، المتفرقات22:4؛ أوريجينوس، في تفسير ليوحنا16:10؛ يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة I,3,4.
[8] ديونيسيوس الأريوباغي، عن الهيكل السماوى3:1، وعن الأسماء الإلهية4:4.
[9] Λόγ. πρός τούς διαβ. τάς αγ. Εικόνος. Α’, 8-16.