رسائل القديس أنطونيوس – سامح فاروق حنين
رسائل القديس أنطونيوس – سامح فاروق حنين
رسائل القديس أنطونيوس [1]
سامح فاروق حنين[2]
1 ـ سيرة القديس أنطونيوس
إن ظهور الحياة الرهبانية في مصر يُعد من أهم أحداث كنيسة الإسكندرية خاصة والكنيسة الجامعة عامة, ويعتبره بعض الباحثين ” أعظم هبات مصر للعالم”[3]. وإن لم يكن القديس أنطونيوس هو أول الرهبان ولا أول النساك, إذ سبقه إلى هذه السيرة القديس بولا الطيبى, الذي يشير إليه القديس أنطونيوس نفسه كمرشده إلى الحياة النسكية, إلاَّ أن أنطونيوس يُعتبر أب الرهبان ومؤسس الحياة الرهبانية[4].
ولا يُعتبر القديس أنطونيوس أشهر قديسي مصر فقط, بل وأيضًا واحد من أهم الشخصيات التي ساهمت في تطوير الرهبنة ونشرها في العالم أجمع. وحتى أثناء حياته كان يُعتبر أب كل الرهبان وأهم وجهة للزائرين سواء من داخل القطر المصري أو من خارجه. ولكن شهرته وأهميته للحياة الرهبانية يعودان في المقام الأول إلى كتاب سيرة “حياة وتدبير أبينا القديس أنطونيوس”:
«Βίος καὶ πολιτεία τοῦ ὁσίου πατρὸς ἡμῶν Ἀντωνίου»[5].
التي كتبها القديس أثناسيوس الرسولي في شكل رسالة وأرسلها إلى الرهبان الذين في خارج مصر بعد سنوات قليلة من نياحة القديس أنطونيوس[6], إذ أنهم كانوا يبدون اهتمامًا صالحًا نحو الرهبان الذين يعيشون في مصر.
هذا العمل كتبه القديس أثناسيوس بناءً على رغبة هؤلاء الرهبان, ليس فقط لكي يظهر الاحترام اللائق بالقديس أنطونيوس, بل و أيضاً لكي يقدّم لهم سيرة القديس أنطونيوس كنموذج: “لأن حياة القديس أنطونيوس بالنسبة للرهبان تُعتبر نموذجُا يُحتذى في النسك”.
«œsti g¦r monaco‹j ƒkanÕj carakt¾r prÕj ¥skhsin Ð ‘Antwn…ou b…oj»[7].
وهذه السيرة لا تتضمن فقط حياة القديس أنطونيوس, بل أيضًا بداية ظهور الرهبنة. ورغم أنه لا يمكن تحديد زمن معين لكتابة هذه السيرة, إلا أن الدراسات الحديثة تضعها بين عامي 356 و362م[8].
وعن مكانة سيرة القديس أنطونيوس في مجال كتابة سير القديسين يقول أستاذ الدراسات البيزنطيةHerbert Hunger هيربرت هونجر “إن سيرة القديس أنطونيوس لأثناسيوس الرسولي تُعتبر النموذج الأول من نوعه”[9], و يقول عنها كذلك الأستاذMarshall مارشال: “إن سيرة القديس أنطونيوس التي كتبها القديس أثناسيوس تعد عملاً كلاسيكيًا دينيًا, الذي قرأه كل من الشرق وكذاك الغرب الأوربي في ترجمة لاتينية. هذه الفلسفة المسيحية (يقصد بالفلسفة هنا سيرة القديس أنطونيوس) دفعت الكثيرين إلى التوجه إلى وادي النيل والصحارى, ونشرت الرهبنة في الولايات الغربية للإمبراطورية البيزنطية. إن حياة القديس أنطونيوس للقديس أثناسيوس تُعد النموذج الأول الذي اتبعه كُتاب سير القديسين اليونانيون بعد ذلك”[10].
وباستثناء عمل القديس أثناسيوس هذا فثمة مصادر أخرى تحمل أخبارًا عن حياة القديس أنطونيوس, نذكر منها على سبيل المثال: سيرة القديس بولا الطيبى وسيرة القديس هيلاريون اللتان دونهما القديس ﭽيروم, التاريخ اللوزاكى لبلاديوس أسقف هيلينوبوليس, تاريخ رهبان مصر المكتوب أواخر القرن الرابع الميلادي وكذلك التاريخ الكنسي للمؤرخ اللاتيني روفينوس[11].
وبالنسبة إلى عبارة القديس أثناسيوس عن أنطونيوس الكبير أنه ” لم يكن متعلمًا”:
“gr£mmata mn maqe‹n oÙk ºnšsceto”[12]
يعلّق المؤرخ الانجليزى E. Gibbon قائلاً “إن التأكيد على أمية أنطونيوس التامة قد قبلها كل من الكُتّاب القدامى والمحدثين, إلا أن تيلمونت Tillemont[13] يرجح أن القديس أنطونيوس كان يستطيع القراءة والكتابة باللغة القبطية, لغته الأم[14], وأنه كان يجهل فقط اللغة اليونانية”[15]. ويتفق معه في الرأي الأستاذ Gerard Garitte جيرار جاريت الذي يرى أن أنطونيوس لم يكن أميًا, وذلك ضد تقليد طالما تثبّت[16]. وحتى جهل أنطونيوس باللغة اليونانية لم يمنعه من تبنى الحجج الدامغة ضد الأريوسية أي الدفاع عن عقيدة التجسد بنفس منهج وطريقة القديس أثناسيوس. فسيرته التي كتبها القديس أثناسيوس تظهر رجلاً ذا عقل راجح, وحكمة إلهية, ونعمة ولطف[17], قادراً على مناقشة أمور عصره المختلفة, الفلسفية واللاهوتية والعقائدية[18], حتى ولو كان غير متعلّم. وكان إذا سأله أحد المتعلّمين عن ذلك يجيبه متسائلاً “ماذا تقول في العقل والآداب, أيهما أولاً, وأيهما سبب الآخر؟”, هل العقل سبب الآداب أم الآداب سبب العقل؟”. وكان إذا أجابه محدثه بأن العقل هو الأول, وأنه هو مبتدع الآداب, كان أنطونيوس يجيب: “إذن من لديه عقل راجح ليس في حاجة إلى الآداب”[19]. ويقول القديس أثناسيوس فى ذلك: “إن أنطونيوس وإن كان قد نال شهرةً فذلك ليس لأجل كتاباته, ولا لأجل حكمة عالمية, ولا لأجل فنه, بل لأجل طاعته لله”[20].
2 ـ رسائل القديس أنطونيوس:
إن مجموعة كبيرة من الكتابات المعروفة بنسبتها إلى القديس أنطونيوس نُشرت مرات عديدة منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر, ولكن الغريب أن هذه الكتابات لم تجذب تقريبًا الانتباه إليها, والسبب في ذلك هو أن جزءً كبيرًا منها موجود فقط باللغة العربية, أو مُترجم إلى اللاتينية عن العربية, على حين أنه تُنسب إلى القديس أنطونيوس سبعة رسائل, محفوظة في مخطوطة من الدير الأبيض بسوهاج, ولها عدة نسخ باليونانية واللاتينية والجيورجية والسريانية, بالإضافة إلى ذلك توجد أقوال لأنطونيوس وتعاليمه في بستان الرهبان[21].
إن صحة وأصالة هذه الرسائل السبعة لم تصبح يومًا مثار اتفاق الجميع, والسبب في ذلك هو المخطوطات التي تضعنا في هذه المشكلة. فمن النسخة القبطية تبقت فقط شذرات, ومن السريانية الرسالة الأولى, والترجمة اللاتينية, التي قام بها Valerius de Sarasio، بها كثير من الغموض, وكذلك اليونانية بها الكثير من النقص. وأكمل نسختين هما العربية والجيورجية[22].
والمصادر التي تتحدث عن سيرة القديس أنطونيوس تشير إلى هذه الرسائل التي كتبها القديس إلى جهات كثيرة, منها رسالة إلى قسطنطين الكبير وأولاده, وأخرى إلى الأسقف الأريوسي غريغوريوس الكبادوكى, وثالثة إلى أديرة القديس باخوميوس, ورابعة إلى فلاكيوس أحد موظفي الإمبراطور وأحد مؤيدي بدعة أريوس[23] وأخيرة إلى القديس أثناسيوس الرسولي[24].
وقد نشر Valerius de Sarasio في “الباترولوجيا جريكا” مجلد 40 رسائل القديس أنطونيوس السبعة في ترجمة لاتينية على أساس النص اليوناني, وعنوانيها كالتالي:
إلى أخوتي |
Epistula I, ad fraters suos |
إلى رهبان أرسينوى |
Epistula II, ad Arsinoitas |
إلى رهبان الأسقيط |
Epistula III, Scitis |
إلى المنعم عليهم المُكرّمين |
Epistula IV, Charissimis et honorabilibus |
إلى أبنائي الأعزاء الإسرائيليين |
Epistula V, Delictissimis natis, filiis Israelitis[25] |
غير مشار إلى من كُتبت |
Epistula VI |
إلى جميع أخوتنا الأعزاء |
Epistula VII, Omnibus delictissimis fratribus[26] |
وثمة رسالة أخرى تُنسب إلى القديس أنطونيوس موجهة إلى ثيؤدوروس رئيس رهبان طابينيسا, وقد حُفظت هذه الرسالة ضمن كتابات القديس أمونيوس, مؤداها هو أن الله يظهر رحمة لعابدي يسوع الحقيقيين حتى وإن سقطوا, طالما أنهم يتوبون عن خطاياهم بصدق[27].
نُشرت فى الباترولوجيا جريكا مجلد 40، عشرون رسالة تُنسب إلى القديس أنطونيوس, نُشرت جميعها باللاتينية وبعض هذه الرسائل يُشتبه في صحة نسبتها إلى القديس أنطونيوس[28]، وقد تُرجمت هذه الرسائل إلى العربية عن الإنجليزية ونشرها مركز دراسات الآباء بالقاهرة على جزأين[29].
3ـ أدلة من عدة مصادر على صحة نسب الرسائل للقديس انطونيوس
إن صحة نسب هذه الرسائل وأصالتها إلى القديس أنطونيوس ـ مثل غيرها من كتابات الكُتّاب المسيحيين القدامى ـ قد فحصها الكثيرون من المهتمين بالدراسات الآبائية في القرن الأخير. فالبعض يراها نظرية جدًا لأن يكتبها واحد مثل أنطونيوس, وآخرون يعتبرونها أصيلة جدًا ويستخدمونها كمصادر لحياة وأعمال القديس أنطونيوس[30]. ولكن على أساس عدة مصادر أخرى نستطيع أن نبرهن على أن رسائل القديس أنطونيوس أصيلة, وأن المعلومات التي تشير في سيرة القديس أنطونيوس إلى أنه لم يتلق أي نوع من التعليم يتيح له كتابة مثل هذه الرسائل, ليست ذات قيمة.
والأدلة على أن القديس أنطونيوس قد كتب بالفعل هذه الرسائل نجدها في عدة مصادر قديمة نذكر منها:
1ـ ”عن مشاهير الرجال” De Viris Illustribus
في كتابه المؤرخ له بعام 392م, يشير القديس ﭽيروم إلى أن ” الراهب أنطونيوس, الذي دون سيرته أثناسيوس أسقف مدينة الإسكندرية, في كتاب ضخم, قد أرسل إلى عدة أديرة في مصر سبعة رسائل مكتوبة باللغة المصرية (القبطية), وقد تُرجمت إلى اللغة اليونانية”:
«Antonius monachus, cujus vitam Athanasius, Alexamdrinae urbis episcopus, insigni volumine prosecutus est, misit Aegyptiace ad diversa monasteria apostolici sensus sermonisque epistolas septem, quae in Graeciam linguam translatae sunt »[31].
ويُعتبر القديس ﭽيروم هو الكاتب الوحيد الذي أشار حرفيًا إلى هذه الرسائل, على أساس أنه كانت له علاقات حميمة مع رهبان مصر الشيء الذي يرجح أنه استقى منهم هذه المعلومات مباشرةً[32]، أو كما يشير كواستنQuasten، يبدو أنه قد قرأها ليس بالطبع في لغتها التي كُتبت بها أو أملاها فيها القديس أنطونيوس, بل باللغة اليونانية[33].
2ـ ” حياة أنطونيوس ” Vita Antonii
يقول القديس أثناسيوس عن أنطونيوس: “إن شهرته قد وصلت إلى الملوك أيضًا, لأن الأوغسطس قسطنطين وأولاده الأوغسطس قسطنطيوس والأوغسطس قنسطانس عندما علموا بأخباره كتبوا إليه كأب, وكانوا يتمنّون لو تصلهم رسائل منه[34], أما هو فكان لا يريد أن يقبل هذه الخطابات منهم, قائلاً إنه لا يعرف بماذا يرد على مثل هذه الرسائل. ولكن عندما حثه الرهبان على ذلك قائلين إن الملوك مسيحيون، سمح بأن تقرأ الرسائل عليه, ورد عليها”[35].
3ـ تاريخ الأريوسيين لأثناسيوس الرسولىHistoria Arianorum Athanasii :
” ذات مرة كتب الأنبا أنطونيوس من الجبل هكذا….[36].
أما فيما يتعلق بزمن كتابة هذه الرسائل فانه يُؤرخ لها بعامي 340 و 350م[37], ولم يكتبها هو بنفسه بل أملاها على آخرين باللغة المصرية[38].
4 ـ تعليم القديس انطونيوس من خلال رسائله
أحد الباحثين القلائل الذين اهتموا بدراسة رسائل القديس أانطونيوس الكبير هو د.صموئيل روبنسون أستاذ التاريخ بجامعة لوند بالسويد, الذي قام بتحليل الرسائل ودراسة نسخها المختلفة وخلص إلى أن:
1 ـ الرسائل كتبت باللغة القبطية, وبهذا ’يعد أنطونيوس أول كاتب قبطي.
2 ـ أصالة الرسائل وصحة نسبها إلى القديس أنطونيوس قد اعترف بها الكثيرون, وهذا كافٍ لدحض الرأي القائل بأن أنطونيوس, الراهب المصري, كانت تنقصه الثقافة.
3 ـ محتوى الرسائل يوضح أن أنطونيوس كان حقًا عارفًا بالأفلاطونية, ومتأثرًا بتقاليد مدرسة الأسكندرية وعلى رأسه كليمندس وأوريجينوس[39].
وطبقا لدراسة د. روبنسون فإن محتوى رسائل القديس أنطونيوس هو كالتالي:
الرسالة الأولى تختلف عن باقي الرسائل السبعة, فهي ليست رسالة تقليدية بل يمكن أن نطلق عليها ” مقدمة في الحياة الرهبانية”. فيها يركز القديس أنطونيوس على نقاوة العقل والنفس والجسد, ويقدم توجيهات دقيقة إلى الرهبان المبتدئين[40]. وما نجده في هذه الرسالة يعد حقًا مقالاً منظمًا عن التوبة والنقاوة. فبعد وصف الطريقة التي بها يدعو الله الناس إلى التوبة يصف القديس أنطونيوس عمل روح التوبة في الإنسان, وكيفية التأثير على عقل الإنسان ونفسه وجسده. هذا التعليم يخص التوبة العملية لكل عضو من أعضاء الجسد. وليس ثمة إشارة فى هذه الرسالة إلى تاريخ الخلاص, ولا إلى إلوهية المسيح ولا إلى الأخرويات.
قبل تحليل نقاوة كل عضو من أعضاء الجسد الذي يُعد الموضوع الرئيسي للرسالة, يقدّم القديس أنطونيوس رأيه بخصوص “حركات الجسد” مقسمًا إياها إلى ثلاثة أنواع:
1 ـ حركات طبيعية, وهى التي تتحكم فيها النفس, وهى غير ضارة في ذاتها.
2 ـ حركات تنتج عن الطمع والشراهة.
3 ـ وحركات تنتج عن الشرور والأرواح الشريرة[41].
ثمة تقارب شديد بين تعليم أنطونيوس هذا وما ورد في كتاب “عن المبادئ ” لأوريجينوس III.2.2-3, حيث يؤكد الأخير أن الشياطين ليست دائما هي المسئولة عن جميع الأوجاع والشهوات.
في الجزء الأخير من الرسالة يعلّم أنطونيوس كيف أن الإنسان يستطيع أن يطّهر أعضاء جسده, مبتدئًا من العين, ثم اللسان, فالبطن, فالأعضاء التناسلية, ثم أخيرًا الرجلين.
أما الرسائل من7:2 نجد أنه تربطهم معًا نفس البنية ونفس النصوص والاقتباسات. والتفسير الوحيد المقنع لذلك هو أن جميعها كتبها نفس الكاتب في نفس الزمن لنفس الغرض إلى نفس الأشخاص.
الموضوع الرئيسي لهذه الرسائل من 7:2 ما عدا الرسالة الرابعة هو ” تاريخ الخلاص” وحاجة الإنسان الماسة إلى المعرفة. والإرشادات الدقيقة إلى النسك والطهارة التي في الرسالة الأولى لا نجدها في الرسائل الستة الأخيرة. بعد التحية[42] يصف القديس أنطونيوس “تاريخ الخلاص” كتاريخ محاولات الله المستمرة لرعاية الإنسان. فالله أرسل موسى النبي بالناموس المكتوب ومن خلاله أسس “بيت الحق” أي الكنيسة. ولكن لا موسى ولا من جاء بعده من الأنبياء استطاعوا أن يتمّموا الخلاص. وإرسال الابن, طبقا لرأى القديس أنطونيوس, هو نتيجة عدم مقدرة كل هؤلاء على شفاء جُرح البشرية.
في الجزء الأول من “تاريخ الخلاص” هذا نجد أن نص الرسائل تقريبًا واحد, وكل الرسائل تحتوى على نفس العبارات. وإن كانت الفكرة العامة للرسائل الستة الأخيرة متطابقة فإن ثمة اختلافات في شكل الرسالة.
في الرسالة الثالثة يشير القديس أنطونيوس إلى معرفة النفس كطريق يؤدى إلى معرفة الله، وبالتالي إلى معرفة تدابيره في الخليقة. ويعبّر أنطونيوس عن فرحه بالرهبان الذين أعدوا أنفسهم للخلاص بمجيء يسوع, وكذلك عن عميق حزنه على الرهبان الذين يتاجرون باسم يسوع, هؤلاء الذين خارت قواهم فركلوا ميراثهم ومضوا.
الرسالة الرابعة تختلف كثيرًا عن الأخريات, حيث لا توجد أي إشارة إلى “تاريخ الخلاص”, بل تُعد مقالاً مختصرًا عن الفرق بين العبودية والتبني.
في الرسالة الخامسة ـ بعد الإشارة إلى افتقاد الله لخلائقه بواسطة خلاص المسيح ـ يحث أنطونيوس أبنائه على تقديم أنفسهم ذبيحة لله في كل قداسة, وعلى الجهاد والسهر لكي ما ينعشوا القديسين ويعطوا بهجة للملائكة وفرحًا ليسوع المسيح.
الرسالة السادسة بها جزء صغير عن الشياطين وحيلهم لإهلاك البشر, الشيء الذي لا نجده في بقية الرسائل. ولكن نفس العبارات المستخدمة في الرسائل الأخيرة والاقتباسات الكتابية نجدها هناك.
في الرسالة السابعة يحث أنطونيوس على إعداد النفس لملاقاة الخالق في قداسة, لأجل أن ابنه المحبوب قد مات لأجلنا أجمعين. أما عن الحرية فيقول أنطونيوس إن أول ما يحتاج إليه الإنسان العاقل هو أن يعرف أولا نفسه ثم يعرف أمور الله وهباته السخية, ثم أن يعرف أن كل خطية إنما هي غريبة عن طبيعة جوهره العقلي (الروحي). هذه الرسالة هي الوحيدة التي يشير فيها القديس أنطونيوس إلى الاضطرابات التي أحدثتها بدعة أريوس, و هذا يعد دليلا على أن القديس أنطونيوس قد كتب إلى جماعات رهبانية مختلفة يحثهم على الثبات فى مواجهة بدعة آريوس[43].
هذا وقد حلّل د.جيرارد جاريت[44] ما تحت يديه من تفاصيل, وكذلك النسخ المختلفة لرسائل القديس أنطونيوس, ولحياته التي كتبها أثناسيوس, ولأقوال الآباء, وكذلك للمعلومات التي تحويها برديات من القرن الرابع الميلادي عن الحياة اليومية في صعيد مصر, وكذلك أيضًا المعلومات الهامة التي تحويها النصوص الغنوسية, وأثبّت أن رسائل القديس أنطونيوس في نسختها الجيورجية ليست فقط أصلية بل وأيضا تُظهر لنا صورة شخصٍ مثقفٍ, على اتفاق تام مع اللاهوت الأسكندري في عصره[45].
وتعليقًا على عبارة القديس أنطونيوس: “الله واحد, والجوهر الروحاني واحد أيضًا”[46]
” Sed quoniam Deus unus exsistit,
et secundum sensualem essentiam in idipsum est unitas”
والتي تلخص المفهوم الأفلاطوني عن الله كأصل جميع الأشياء, يقول د. روبنسون إنها ترتبط في رسائل القديس أنطونيوس مع تعاليم الكتاب المقدس بخصوص فكرة “الخلق من العدم”Creatio ex nihilo[47]. فأنطونيوس يعترف بوضوح أن كل الأشياء وُجدت من العدم, فالشمس, والقمر, والنجوم, والسماوات, والرجال والنساء, جميعها صدرت عن أصل واحد[48].
وكأفلاطون و أوريجينيس كذلك أيضا أنطونيوس يرفض أي فكرة عن الإثنَيْنية Δυϊσμός فيما يتعلّق بفكرة أصل وطبيعة الخليقة. وحتى بالنسبة إلى المخلوقات الشريرة (الشياطين) فليس ثمة مصدرٌ آخر للوجود سوى الله. فالإنسان والملائكة والشياطين الذين خُلقوا ملائكة ثم سقطوا وصاروا شياطينًا، هذه المخلوقات كلها من مصدر واحد في جوهرها الروحى[49].
وعند أنطونيوس نجد أن أصل الشر هو الحرية التي وهبها الله لكل المخلوقات الروحية. في هذا نجده يتفق مع أوريجينوس الذي يرى أن لا شيء خُلق من البدء حسنًا أو شريرًا[50]. وحتى وإن لم يقدم أنطونيوس شرحًا وافيًا لآرائه فيما يخص نتائج السقوط الأول, وخلق العالم المادي, فإن التقارب الشديد بينه وبين أوريجينوس يمكن أن يُرى كخلفية لأفكاره. فطبقًا لرأى أنطونيوس عن العالم, نجد أن الإنسان لا يوجد وحده مع الله, بل يشاركه الوجود كل من الملائكة والشياطين. فهذه الخلفية لتعاليم أنطونيوس هي تعاليم أوريجينوس بخصوص الشياطين مع تأثره بالتقاليد اليهودية – المسيحية. فكل من أوريجينوس وأنطونيوس يرى أن الشياطين كمخلوقات روحية خلقها الله ككل الطبيعة العاقلة, وتتشارك في نفس الجوهر الروحي. وفى السقوط الأول أى السقوط الذى سبق سقوط الإنسان, فإن الأرواح التي ظلت مُطيعة لله هم الملائكة, والأخرى التي تمردت عليه صارت شياطينًا[51].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أود أن أشكر السادة الأجلاء أعضاء مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية لتفضلهم بنشر هذا المقال، و بما أنه أول بحث ينشر لى فإنى أهديه إلى الأستاذ ستاڤروس يؤانيس كوروسيس أستاذ الأدب البيزنطى بكلية الفلسفة – جامعة أثينا(اليونان) بصفته المشرف على رسالة الماجستير خاصتي و التى يعتبر هذا المقال جزءًا منها.
Τῷ ἀγαπητῷ μου Κυρίῳ Σταύρῳ Ἰώαννῃ Κουρούσῃ.
[2] الأستاذ سامح فاروق، هو مدرس مساعد بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بآداب القاهرة.
[3] N. H. Baynes – L. B. Moss, Βυζάντιο: Εἰσαγωγή στό Βυζαντινό Πολιτισμό, Ἑλληνική μετάφραση, Ἀθήναι 2001, P. 38
[4] Θρησκευτικὴ καὶ Ἠθικὴ Ἐγκυκλοπαίδεια, Τομ. 2, Λήμμα ὑπὸ Ἀθαν. Κ, Ἀρβανίτη, Ἀθήναι 1965, σσ. 965-975.
[5] Athanasii Vita Antonii, MPG 26, Προοίμιον.
[6]Samuel Rubenson, The Arabic version of the letters of St. Antony, OCA 226, Roma 1986, P. 19.
[7] Vita Antonii, MPG 26, C. 837, line 19.
[8] Nicene and Post- Nicene Fathers, 2nd Ser. Vol. 4, P. 556.
[9] H. Hunger, Βυζαντινὴ Λογοτεχνία, Ἡ λόγια κοσμικὴ γραμματεῖα τῶν Βυζαντινῶν, τόμ. Β΄, σ. 22 (Ἑλληνιστί).
[10] N. H. Baynes – L. B. Moss, Βυζάντιο: (Ἡ Βυζαντινή Φιλολογία) P. 318.
[11] Nicene and Post- Nicene Fathers, 2nd Ser. Vol. 4, P. 556.
[12] Vita Antonii, PG 26, C. 841.
[13] L.S. Le Nain De Tillemont, Mémoires pour servir à l’Histoire Ecclésiastique des six premiers Siècles, Vol. VII. Paris, 1693-1712, P. 666.
[14] القديس أنطونيوس كان يتكلم اللغة القبطية, و كل الكتابات التي حُفظت له مترجمة ٌ عن القبطية, ويسميها أثناسيوس أيضًا اللغة المصرية قائلاً هكذا: ” ذات يوم جاء القديس أنطونيوس, و جاء إليه جميع الرهبان ليسمعوا منه كلمة, فقال لهم باللغة المصرية هكذا…”
«Mi´ goàn ¹mšrv proelqën, kaˆ p£ntwn tîn monacîn ™lqÒntwn prÕj aÙtÕn, ¢xioÚntwn te par’ aÙtoà ¢koàsai lÒgon, œlegen aÙto‹j tÍ A„guptiakÍ fwnÍ taàta».
Vide Vita Antonii, PG 26, C. 841, line 5.
[15] Ε. Gibbon, The History of the decline and fall of the Roman Empire, vol. 3, Pp. 589, 599.
[16] G. Garitte, Lettres de saint Antoine. Version Georgienne et fragments Copte, CSCO 148-149, Louvain 1955. vid. U. Zanetti, Du nouveau sur S. Antoine et ses Lettres, AnBoll 108 (1990) P. 278.
[17] Vita Antonii, NPNF, 2nd Ser. Vol. 72f, P. 607.
[18] NPNF. 2nd Ser. Vol. 4. Pp. 562, 563.
[19] Vita Antonii, NPNF, 2nd Ser. Vol. 72f, P. 607.
[20] Op. cit. 93f, P. 618.
[21] تراث الأدب القبطي, القس شنودة ماهر و د. يوحنا نسيم, مؤسسة القديس مرقس لدراسات التاريخ القبطي, القاهرة 2003, ص 180, 181. والرسائل السبعة هذه هي الكتابات الوحيدة لأنطونيوس التي’تعتبر أصلية وانظر كذلك:
Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, Origenist Theology, Monastic Tradition and the Making of a Saint, Lund University Press, 1990, P. 20.
[22] V.Poggi, Recensiones: Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, OCP 57 (1991) Pp. 247-248.
[23] J. Quasten, Patrology, vol. 3, Christian Classics, Inc., Westminster, Maryland, 1992, P. 150.
[24] ΘΗΕ, Τομ. 2, Λήμμα ὑπὸ Ἀθαν. Κ, Ἀρβανίτη, σσ. 965-975.
[25] كثيرا ما يطلق القديس أنطونيوس على الذين يراسلهم ” أولاد إسرائيل” أو” رجال إسرائيل القديسين” وذلك لأنهم يتبعون كلمات الرب التي قالها لإبراهيم exi de terra et de cognatione tua ” ” أي ” اخرج من أرضك ومن عشيرتك” (تك1:12), وذلك لأن المراسل إليهم كانوا من الرهبان. Vid. J. Quasten, Patrology, vol. 3, P. 151.
[26] Patris Antonii Epistolae VII, ex Graeco Latine redditae, interprete Valerio de Sarasio. PG 40, Epis. II, Ad Arsinoitas, C. 981.
[27] Ex epistola Ammonis Episcopi, PG 40, CC. 1065-1066.
[28] وهذه الرسائل العشرون التي تُنسب للقديس أنطونيوس لم يكتبها هو نفسه ولم يملها, بل جزء منها كتبه أحد تلاميذه وهو القديس أمونيوس, والجزء الآخر كاتبه مجهول.
- Quasten, Patrology, vol. 3, P.151 انظر: Ὁ Μέγας Ἀντώνιος, Βίος καὶ Πολιτεία ὑπὸ Μ. Ἀθανασίου Πατριάρχου Ἀλεξανδρείας, 6η εκ. Ἐκδόσεις Β. Ῥηγοπούλου, Θεσσαλονίκη 1971, σ. 13. انظر أيضًا Antonii Magni Monachorum omnium Parentis Epistolae viginti, PG 40, CC. 999- 1066.
[29] المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية, رسائل القديس أنطونيوس الجزءان معا (1-19) القاهرة 2004.
[30] Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, Origenist Theology, Monastic Tradition and the Making of a Saint, Lund University Press, 1990, P. 35.
[31] Ηieronymi, De Viris Illustribus, Μigne PL 23, Cap. 88, C.731.
[32] Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, P. 36.
[33] J. Quasten, Patrology, vol.3, P. 151.
[34] Vita Antonii, PG 26: 835-976b, C. 959, line 14ff.
[35] Idem, P. 956, line 26f.
[36]Historia Arianorum Athanasii, ed. H.G. Opitz, vol.2.1. Berlin: De Gruyter, 1940, ch.14, sec.1, line 1f.
[37] V. Poggi, Recensiones: Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, OCP 57 (1991) Pp. 247-248.
[38] Ὁ Μέγας Ἀντώνιος, Βίος καὶ Πολιτεία, σ. 13.
[39] V. Poggi, The letters, OCP 57 (1991) Pp. 247-248. καὶ βλ. Samuel Rubenson, Origen in the Egyptian monastic tradition of the fourth century, Origeniana Septima, Leuven University press, 1999, Pp. 321, 323.
[40] Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, P. 51.
[41] Ep. Ant. I.35-41. PG 40.
[42] رسائل القديس أنطونيوس من 2-7 تنقسم, بعد التحية, إلى قسمين, الأول مختصر عن تاريخ الخلاص, والثاني مجموعة من الإرشادات. من هذه الوجهة تتشابه رسائل القديس أنطونيوس مع رسائل القديس بولس الرسول وخاصة رسائله إلى رومية وأفسس والعبرانيين Vid. Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, P. 55.
[43] J. Quasten, Patrology, vol.3, P. 151.
[44] G. Garitte, Lettres de saint Antoine. Version Georgienne et fragments Copte, CSCO 148-149, Louvain 1955.
[45] U. Zanetti, Du nouveau sur S. Antoine et ses Lettres, AnBoll 108 (1990) P. 278.
[46] PG 40, Ep. Ant. III, I, c. 997.
[47] De Principiis, I.1.6. و قارن كذلك Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, P. 64.
[48] PG 40, Ep. Ant. V, IV, c. 996.
[49] Samuel Rubenson, The letters of St. Antony, P. 51.
[50] Idem, P. 67. n. 3, καὶ βλ. De Principiis I.5.3.
[51] De Principiis II.9.2-6.