زواج معد – فيليب يانسي
زواج معد – فيليب يانسي
في كل شيء يستحق أن تمتلكه، وفي كل فرحة تشعر بها يوجد نوع من الألم والضجر، ولكي يثبت وينتعش هذا الفرح. وفرح المعركة يأتي بعد الخوف الأول من الموت، ومتعة قراءة فيرجيل Virgil لا تأتي إلا بعد معاناة تعلم أفكاره وأسلوبه، ونجاح الزواج يأتي بعد فشل شهر العسل”.
لو استمعت إلى أي محطة إذاعية تذيع الموسيقا الشعبية المشهورة أو شاهدت قناة تلفزيونية للموسيقا تجد في كل أغنية موضوعاً عن الحب الرومانسي. وهل يوجد أي مسلسل تليفزيوني بدون أن يكون الحب الرومانسي جزءاً أساسياً في فكرته الرئيسية؟ والعبارات التي نسمعها مثل “امسكي رجلاً” أو “اصطد امرأة” تصف المبدأ الأساسي للحياة والحب… إلى أن نسافر إلى أجزاء أخرى من العالم. ومن الملاحظ أن معظم حالات الزواج في العالم تجمع بين رجال ونساء لم يشعروا إطلاقاً بمتاعب الحب الرومانسي وقد لا يدركونه إذا طرق باب قلوبهم. والمراهقون في أفريقيا وآسيا يستسلمون لاختيار والديهم لزوجاتهم تماماً كما نسلم نحن للحب الرومانسي.
شرح لي زوجان من الهند تزوجا حديثاً كيف حدث زواجهما وهما يدعيان مارثا وفيجاي، لقد قام والدي فيجاي بفحص كل بنات القرية قبل أن يقررا زواج ابنهما من مارثا. كان فيجاي يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً أما مارثا فكانت في الثالثة عشر من عمرها ومع أن العروسين التقيا مرة واحدة، فقد اتفقا والديهما على زواجهما منذ ثمانية سنوات. وعندئذ أبلغا كل من الولد والبنت بمن سيتزوج ومتى. وخلال الثماني سنوات التالية سُمح لهما بتبادل خطاب واحد بينهما كل شهر ويشاهدا بعضهما بحضور مرافق. وبالرغم من أنهما في بداية الزواج كانا يشعران كما لو أنهما غرباء، فقد بدا زواجهما آمناً ومتسماً بالحب مثل أي زواج آخر.
وفي الحقيقة، إن المجتمعات التي تمارس الزواج المنظم والمرتب سابقاً فيما بينهم يوجد نسبة طلاق أقل من التي تؤكد على زواج المراهقين المحبين. وإنني أشك في أن الغرب سوف يتخلى عن فكرة الحب الرومانسي حتى وإن كان لا يساعد على إقامة الاستقرار العائلي. ولكن من خلال مناقشاتي مع مؤمنين من ثقافات مختلفة بدأت أقتنع بأن الزواج المرتب والمنظم قد يكون عاملاً مساعداً في إقامة علاقة مع الله.
وفي كل من الولايات المتحدة والثقافات الأخرى التي تتبع الأسلوب الغربي في الحياة، يميل الناس للزواج لما في الطرف الآخر من صفات جذابة مثل: الابتسامة المشرقة، الذكاء، الجمال، القدرات الرياضية، الجاذبية. وقد تتغير تلك الصفات بمرور الزمن وخاصة عند تقدم العمر. وفي أثناء ذلك قد تظهر على السطح أمور تثير الدهشة – عدم العناية بالبيت، فترات من الاكتئاب، عدم توافق جنسي – وقد تقضي على الحب الرومانسي. وعلى النقيض من ذلك، فالزوجان اللذان تزوجا زواجاً منظماً مرتباً لا يركزان علاقتهما على الجاذبية المتبادلة. فبعد قرار الوالدين، أنت تقبل بأنك ستعيش لعدة سنوات مع شخص تعرفه معرفة محدودة وضعيفة. ويتجول السؤال المهيمن “من الذي يجب أن أتزوجه؟” إلى “بعد أن عينوا لي هذا الشريك، أي نوع من الزواج يمكننا أن نبنيه معاً؟”
ويمكن تطبيق نموذج مماثل في علاقتنا مع الله. فلا يمكنني أن أتحكم في صفات الله مثل كونه غير منظور. فالله له شخصيته وصفاته الخاصة به سواء أحببتها أم لا. ليس لدي أي اختيار في ملامحي أنا أيضاً: ملامح الوجه، الشعر المجعّد، إعاقتي أو محدودية إمكانياتي، عناصر شخصيتي، خلفية الأسرة التي نشأت فيها. وطبقاً للأسلوب الغربي في التعامل يمكنني أن أرفض هذه الصفة أو تلك التي لله وأتمنى أن يدير العالم بطريقة مختلفة. ويمكنني أن أطلب أن يغير الله ظروفي قبل أن أثق في وضع حياتي بين يديه. كما يمكنني اتباع اسلوب آخر. فبإمكاني أن أقبل الله بكل تواضع كما أظهر نفسه في المسيح وأقبل نفسي، أنا المملوء بالخطية، كالشخص الذي اختاره الله. فأنا لا أدخل في علاقة مع الله ومعي قائمة بالطلبات التي يجب أن تستجاب قبل أن أعزم بأن أعيش معه؛ وكما يحدث في الزواج المرتب فأنا ألتزم مسبقاً بالعيش مع الله بالرغم من كل ما يحدث.
إن الإيمان يعني أن نأخذ عهداً بأن نحب الله ونتعلق به مهما حدث “في الصحة أو المرض، في الفقر أو الغنى…” وبالطبع فإن هذا يتضمن نوعاً من المغامرة، فقد اكتشفت أن ما يطلبه الله مني يتعارض مع رغباتي الذاتية. ولحسن الحظ، فإن الزواج المرتب يعمل بطريقتين: إن الله أيضاً يلتزم مسبقاً برعايته لي، يعدني بحياة أبدية ستفتدي ظروفي التي أناضل فيها. إن الله لا يقبلني بشروط، على أساس ما أقدمه، ولكنه يمنحني محبته وغفرانه مجاناً، بالرغم من أخطائي التي لا تُعد.
بعض الناس يتوقعون أن حياتهم مع الله سوف تحل كل مشاكلهم ويختارون الله كما يختار الشخص شريكه في الزواج على أساس رومانسي ويبحثون عن نتائج يرغبون فيها. كما يتوقعون من الله أن يمنحهم أشياء طيبة، ويقدمون عشورهم لأنهم يعتقدون بأنهم سيتلقون عشرة أضعاف، ويحاولون أن يعيشوا باستقامة آملين أن الله سوف يجعل حياتهم حياة مزدهرة. وبغض النظر عن المشكلة – البطالة، طفل متخلف، زواج منهار، ساق مبتورة، وجه قبيح – يتوقعون تدخل الله نيابة عنهم بإيجاد وظيفة، علاج مشاكل الزواج، شفاء الطفل المتخلف والساق التي ستبتر والوجه القبيح. وكما نعرف كلنا، فإن الحياة لا تسير دائماً بحسب رغباتنا أو بهدوء. وفي الحقيقة في بعض البلدان يعتقد الناس أنهم إذا آمنوا بالرب فسوف يضمن لهم هذا حياة ضد البطالة والمشاكل العائلية، والكراهية من المجتمع وحتى السجن.
كل زواج لابد أن يعاني من أزمات، فقد تأتي لحظات يشعر فيها الشريكان بالحاجة للانفصال. ويقول قدامى المتزوجين أنهم في أثناء تلك الفترات راجعوا العلاقة بينهما من جميع جوانبها. والآن مع أنهم يستعيدون هذه القصص بنوع من المزاح والشوق للماضي، يشعرون أن الأزمات وبتعاونهم معاً تحولت إلى نموذج من الحب والثقة. وعندما يفكرون في فترات الوفاق القليلة الماضية بينهما يتضح لهما أن تجاوبهما معاً هو الذي أعطاهما الغلبة على هذه العواصف ومنحهما القوة على الاحتمال والثبات. وكذلك علاقتنا مع الله تحدث بطريقة مشابهة.
وأخذ الرسول بولس روح هذا الزواج المنظم إلى أقصى مدى حتى أنه يعتبر خبيراً في علم الأمراض (الباثولوجي) بحسب التعبير الحديث. فيقول لأهل فيلبي انه فرح في سجنه لأن السلاسل التي قُيد بها ساعدت على تقدم الإنجيل. وفي رسالته لأهل كورنثوس كان يفتخر بضعفاته والصعوبات التي واجهها. وذكر الجلد والرجم والسفينة التي تحطمت والكوارث الطبيعية الأخرى، الجوع والعطش وآلام الجسد والصلاة غير المستجابة. “إن كنت أفتخر فسأفتخر بضعفاتي. ومن أجل المسيح أسر بالضعفات والإهانات والصعوبات والاضطهادات. لأنه بينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قوي”.
وأقرأ هذه الكلمات ثم أتساءل وسط كتبي المسيحية التي أقرأ فيها عن كيفية إنقاذ زواجي، وكيف أرى الأولاد في مخافة الله، وكيف أختبر بركات الله، وكيف أقاوم التجربة، وكيف أجد السعادة. وكل سنة تظهر مثل هذه الكتب وتزداد الحاجة إليها. وإذا كان أي كتاب بإمكانه حقيقة أن ينقذ زواجاً من الانهيار، فإن معدلات الطلاق كان يجب أن تقل بين المؤمنين الذين يشترون هذه الكتب، وكن أود أن ألاحظ هذا يحدث. وبالمثل، فتتطلب علاقتنا مع الله شيئاً أكثر من مجرد محاولة لحل المشكلة.
وتقترح دورثي ساير طريقة أخرى لرؤية مشاركة الله معنا. وهي تشير إلى وجه الشبه مع الفنان الذي “لا يرى الحياة على أنها مشكلة تحتاج إلى حل ولكنها وسيلة للإبداع” وتقول ساير: ربما استخدمنا الله بشيء من الحرية كالفنان، ويسمح لنا ان نعمل بمختلف المواد. فالنحات يعمل بالصلصال أو المعدن ولكنه لا يستخدم الألوان كثيراً، أما الرسام فيعمل بالكثير من الألوان. ومع أن هذه المواد الخام المستخدمة للإبداع لها محدودية معينة، فالفنان الماهر يمكنه أن يصنع بها عملاً فنياً رائعاً.
وكأفراد، فكل منا يبدأ بوسيلة مختلفة. البعض منا قبيح والبعض جميل والبعض ذكي والبعض غبي والبعض الآخر جذاب وآخرون يشعرون بالخجل. وقد نقضي حياتنا كلها في حالة كراهية لله بسبب عيب خلقي أو تشوه في الوجه أو الأسرة التي نشئنا فيها. وقد نطلب من الله أن يحل هذه المشاكل نيابة عنا (كيف يمكن أن يحدث هذا… بتغيير الجينات الوراثية أو بإعادة اختراع أسرة خاصة لنا). ومع ذلك فإن نفس هذه الخامات التي توّلد الكراهية لله لدى بعض الناس، قد تكون هي نفسها المكونات التي يستخدمها لكي يشكلنا بالطريقة التي يراها حسنة بالنسبة لنا.
وفي الحقيقة يحتاج الإنسان لمشاكل أكثر من الحلول. فالمشاكل تقربنا أكثر إلى الله لكي نعتمد عليه. ويكرر الكتاب المقدس القول بأن النجاح يمثل خطراً عظيماً. فشمشون وشاول وسليمان وعشرات غيرهم يوضحوا لنا أن النجاح يقود إلى الكبرياء والغرور، وهو الطريق إلى الاستقلال عن الله وغالباً ما يكون المقدمة للسقوط.
إن الله لم يعد بأن يحل كل مشاكلنا وعلى الأقل ليس بالصورة التي نراها نحن. (ولا أجد شخصية واحدة في الكتاب لم تعان من مشاكل). إن الله يدعونا أن نثق فيه ونطيعه، سواء عشنا حياتنا في بركة ونجاح – مثل بعض المؤمنين – أو نقضي أيامنا في معسكرات اعتقال. وما يهم الله في هذا الأمر هو ما نصنعه بهذه المواد التي بين أيدينا.
وفي الحقيقة كانت حياة دورثي تسير طبقاً لهذا المبدأ التي تحدثت عنه. كانت تتمتع بذكاء خارق ولكنها لم تكن جميلة. والرجل الذي أحبته في شبابها لم يبادلها هذا الحب. وفي توترها وغضبها – وهي العالمة المتخرجة من جامعة أكسفورد – لجأت إلى ميكانيكي غير متعلم والذي جذبها معه إلى الخمر والتدخين والرقص والجنس. ومع أنه اصطحبها كشريك في حفل لفترة وجيزة، فلم تكن لديه الرغبة في الزواج منها. وتركها ومعها طفل منه، وهي الآن تشعر بثقل المسؤولية وفضيحة طفل غير شرعي. وأخيراً تزوجت رجل مطلق عجوز كان يصعب عليها أن تبادله الحب.
ولكن ساير استفادت من خبرات الفشل والذل والخطية والأخطاء هذه وعادت إلى الله. والذين يقرأون كتبها اليوم يستفيدون كثيراً مما شكلته من المواد الخام في حياتها الصعبة. قد تكون مشكلاتها لم تحل بالطريقة التي أرادتها، ولكن من هذه المواد خلقت عملاً فنياً رائعاً.
ووسط هذا العمل الشاق لدينا نموذج الرب يسوع نفسه الذي – عندما جاء لأرضنا – كان بإمكانه أن يختار أية مجموعة من “المواد الخام” ولكنه أصر على اختيار الفقر، والعار العائلي، والمعاناة والرفض. وهو لم يستثن نفسه من مضايقات هذه الحياة على هذا الكوكب، كما لو انه يريد أن يثبت أنه ولا واحدة من هذه الظروف لا توجد في علاقة صحيحة مع الآب. وربما نقول: “إن المسيح هو النموذج” وليس “يسوع هو الإجابة” لأن حياة يسوع لم تقدم الإجابات التي يبحث عنها معظم الناس. ولا مرة واحدة استخدم يسوع القوى غير الطبيعية لكي يحسن من وضع عائلة، أو يحمي نفسه من الضرر، أو يزيد من راحته وثروته.
أعرف عائلة ازدادت مشغوليتها بسبب الآثار السيئة للمدرسة الثانوية على ابنتهم. وبعد الصلاة من أجل هذا الأمر وطلب مشورة الآخرين، نقلوها من هذه المدرسة السيئة إلى مدرسة أخرى، وهناك في السنة التالية قُتلت وماتت. وأعرف رجلاً في نفس عمري والذي وثق أن الله حقق أحلامه، وأصبح مديراً لأحد المعاهد ووضع خططاً للنهوض بهذا المعهد حتى أصابه ورم في المخ ومات في ظرف سنة واحدة. وأعرف امرأة اختبرت كأم قصة الابن الضال التي حكاها يسوع واحتفلت بعودة ابنتها من هوة السقوط في المخدرات والدعارة، ولكنها فوجئت بهروب ابنتها ثانية لتعود للكورة البعيدة.
كيف يمكننا أن نستوعب ما يحدث في الحياة ونفهم مثل هذا القصص؟ فلا تستطيع أية معادلة لحل المشاكل أن تفسر لنا ما يحدث. كما لم تستطع أية معادلة أن تفسر لنا ما تعرض له بولس وبطرس والمسيح نفسه. إن الحياة ليست مشكلة لكي تُحل ولكنها عمل يُنجز، وهذا العمل قد يستخدم الكثير من المواد الخام التي نفضل نحن العمل بدونها. إن صلاح الله معنا لا يعني أنه لن يصيبنا أي أذى وعلى الأقل ليس في هذا العالم الساقط.. وصلاحه أعمق من السرور أو الألم ولكن يشمل كليهما.
وعندما كتب الرسول بولس قائلاً: “كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله” ذكر في نفس هذه الفقرة بعض هذه الأشياء التي استخدمها الله في حياته: المتاعب، المصاعب، الاضطهاد، الجوع، العري، الخطر، السيف. وفي الثلاث عائلات التي ذكرتها سابقاً يمكنني أن أرى استمرار عمل الله الفدائي. ولا عائلة منها كانت ستختار ما حدث ولا يلومون الله بسبب هذه المآسي، ومع ذلك فالجميع يتفق على أن الله يفعل الصلاح في حياتهم من خلال الأمور المحزنة التي حدثت لهم.
فلانري أوكنور التي عانت من مرض الذئبة وماتت في عمل التاسعة والثلاثين كتبت لصديقة ما يلي: “ما من مكان ذهبت إليه إلا وأنا مريضة” وفي نفس الخطاب تحدثت عن المعلمين غير المدعوين اللذين جاءا إلى حياتها المتأخرة وهما: المرض والنجاح. “المرض هو مكان تعلمت فيه أكثر مما كنت سأتعلمه من رحلة إلى أوربا”. ثم كتبت جملة أثارت الخوف في أولئك الذين يعرفون قدر معاناتها: “إن المرض قبل الموت هو شيء مناسب للغاية وأعتقد أن أولئك الذين لا يصابون بالمرض قبل وفاتهم يفقدون إحدى مراحم الرب علينا”. وعلى النقيض من ذلك اعتبرت النجاح أمراً سلبياً تماماً إنه يعزل صاحبه ويولد الغرور ويُبعد الشخص عن العمل الحقيقي الذي كان سبباً في هذا النجاح.
وبمقارنة ما حدث مع فلانري بما حدث معي فقد عانيت بعض الشيء. ألم شعرت به في طفولتي أذى روحي أكثر مما آذى جسدي: ألم بسبب وفاة والدي مشلولاً والفقر الذي تبع ذلك، معاناتي من بعض الكنائس، العار، العزلة، الشعور بالنقص الذي عانيت منه في فترة المراهقة. والأن أقابل بعض المراهقين الذين يذكرونني بحالتي السابقة: الخجل، عدم الكفاءة الاجتماعية، ضعف جسماني. إنهم يعيشون في عالم يمجد الجمال والرياضة والثقة. وإذا حدث مرة وصلوا فهم يصلون لله لكي يغيرهم ليصبحوا مثل أبطال السينما أو الرياضيين. وليس مهماً مدى حماسهم لاستجابة الصلاة بحسب رغباتهم.
لو أنهم تمكنوا من أن يروا كيف أن الله يرى العالم بطريقة مختلفة. ونحن نعلم من هم أولئك الذين أحبهم يسوع وفضلهم على الآخرين: جباة الضرائب، سيدات سيئات السمعة، البرص، المرفوضين، الصيادين. وبولس أيضاً قال: “ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء. بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه” (اكو 1: 26- 29).
إن الله لم يدعُنا لنزيل كل الأشياء السيئة من العالم بل أن نفتدي الشر ونحوله إلى خير.
قالت الشاعرة كاثلين نوريس بعد أن فكرت في آلام طفولتها وخاصة تلك التي جاءت من ميراثها الديني: “لكي نغير ميراثاً مؤلماً إلى شيء صالح فهذا أمر يحتاج إلى كل الحكمة والفطنة التي لدينا أو من مرشدين آخرين. فكل اللعنات التي يصبها الناس علينا والشتائم الرعب الذي يسببونه لنا لا يمكن أن يُنسى ولكن يكمن أن نحسن استخدامه في حياتنا الجديدة مع الله”. فكثير من الأمور التي نعاني منها اليوم سوف نظل نعاني منها غداً وبعد غد. وبعض الآلام لن تنتهي. والجراح لن تندمل تماماً، والمشكلة لن تجد حلاً نهائياً. وبدلاً من ذلك سوف يقدم لنا الله رجاء حقيقياً قادراً على شفاء جروحنا.
إن أولئك الذين يحاولون استخدام الله كوسيلة لتحقيق مآربهم سوف يصابون بخيبة الأمل. ففي ذهن الله أمر آخر غير ذلك: إنه سوف يستخدمنا نحن، نحن أوعية نعمته، ليحقق بنا أهدافه على الأرض.
الكاتب التشيكي المولد الذي يدعى ميلان كوندرا كتب مرة أنه اعترض دائماً على ما قاله جوته Goeth “إن الحياة يجب أن تمثل عملاً فنياً”. وبدلاً من ذلك، تساءل كوندرا ما إذا كان الفن قد ظهر لأن الحياة كانت عديمة الشكل ولا يمكن التنبؤ بها، ولهذا فالفن ينشئ ويترجم ما تحتاجه الحياة. ولكنه وضع استثناء في حالة صديقه فاسلاف هافل الذي بدأ ككاتب مثل كوندرا واستمر حتى أصبح رئيساً لجمهورية التشيك وأصبح واحداً من أقوى الأصوات في عصرنا. ومن وجهة نظر كوندرا أظهرت حياته الفكرة الرئيسية للوحدة والتقدم التدريجي والمتواصل نحو الهدف.
وبعد قراءتي كتباً لكلا الكاتبين، أتساءل ما إذا كان الاختلاف موجود في وجهة نظرهما الأساسية. فبالنسبة إلى كوندرا – كما كان بالنسبة للمفكرين ما قبل الحداثة – ليس للحياة تركيبة ذات معنى لكي نوضح من أين أتت وإلى أين تذهب. أما بالنسبة إلى هافل فللحياة معنى. إنه يرثي حال العالم ويقول: “لقد ازداد اقتناعي بأن أزمة حاجتنا العالمية الماسة للمسؤولية هي في المبدأ وهذا يُعزى إلى حقيقة أننا فقدنا روح التأكد من أن الكون والطبيعة والوجود وحياتنا هي من عمل الخليقة التي يرشدها هدف محدد وأن لها معنى محدداً وتتبع غرضاً محدداً”.
إن المؤمن – ولم يصف هافل نفسه على أنه مؤمن – لا يرى الحياة ككل بل الحياة الفردية لكل شخص كعمل فني رائع. إننا نشارك الله في تشكيل شيء جميل من المادة الخام. إننا نكتب قصة قصيرة بحياتنا وهي جزء من قصة كبيرة نحن نعرف كل تفاصيلها. وكل من القصة القصيرة والطويلة لها بداية ونهاية وهدف وأحداث تقاومها كما أن لها نتائج لا يمكن تجنبها وأحداث غير متوقعة قد تعترضها. وفي النهاية يجمع كاتب القصة كل التفاصيل في خط قصصي واجد يحقق هدفاً مرضياً.
ويقول قول قديم في التلمود: “ليس من حقك أن تُنهي هذا العمل (الحياة)، كما أنك لست حراً في الاستمرار فيه”. إن العمل هو عمل الله، وإصلاح وافتداء هذا الكوكب قد تعرض لتدمير شديد. وبالنسبة لكل من اليهود والمسيحيين فالعمل هنا يحتاج إلى لمسة سلام وعدالة وأمل وشفاء حيثما تمتد أيدينا. وبالنسبة للمؤمن فإنه يفعل هذا كمن يتبع المسيح الذي أعد لنا فداء ما كان باستطاعتنا الحصول عليه بمفردنا.
في كاتدرائية ونشستر في إنجلترا توجد نافذة زجاجية فريدة في شكلها. إنها لا تحكي قصة كتابية ولا تذكرنا بقديس والقطع الزجاجية لها مشهد متغير الألوان كما لو كان تصميماً حديثاً مدهشاً. وهذه النافذة هي أثر مقدس من فترة تاريخية اتسمت بالعنف عندما استخدمت فرق من جيش أوليفر كرومل قضباناً حديدية لتحطم نوافذ الكاتدرائية وتماثيلها. وتركت هذه الفرق العسكرية بقايا الزجاج على الأرض، وقام أهل المدينة بجمع بقايا الزجاج و وضعوه في مخزن حتى انتهت هذه الفترة المؤلمة. وبعد عدة سنوات، تطوع أحد العاملين بالكاتدرائية بإعادة النافذة إلى ما كانت عليها. ووضع السقالة وجمع قطع الزجاج الملونة ووضعها في مكانها. إنها لم تمثل شيئاً في أوروبا في ذلك الوقت وحتى اليوم يبدو شكلها غريباً. ومع ذلك فلا ينكر أحد أن إعادة القطع الزجاجية إلى مكانها يشكل عملاً فنياً جميلاً. وينساب من خلالها ضوء الشمس ليضيء الكاتدرائية.
“إن الله الذي يمنح البداية هو الذي يمنح النهاية… والذي يعطي الراحة لأشياء مكسورة هو أيضاً يكسر ويجبر”. جون ماسفليد |
وهذه الصورة التوضيحية للفداء والاستعادة تتحدث إليّ برسالة شخصية عن الرجاء لأن الكثير من جراحي كانت نتيجة لنفس النوع من الحماس الديني التي أشعلت جنود كرومل، وأحياناً تكون الكنيسة سبباً في التدمير تماماً كما تسعى للفداء, ويجب أن يفتدى ثانية نوعاً جديدً من السقوط. وهذه العملية المستمرة تلخص نفسها في العالم والكنيسة في كل نفس ملتزمة بقصة الله على الأرض.