سخرية الله – فيليب يانسي
سخرية الله – فيليب يانسي
“يجب أن يُحرث الحقل، وينصهر الحديد، ويُشذب البستان، وتُذرى الحنطة، ويُغلق المجرى فوق الطاحونة. وربما يحدث نفس الشيء في حياة الإنسان. من الهزيمة تولد المحاولة والسعي العظيم، ومن الدموع يزداد التعلق بالهدف، ومن اليأس يولد الأمل. لماذا يسقط الإنسان إلا ليقف ثانية، ويموت لكي يحيا”.
جورج ديل
نتعلم من رياضة تسلق الجبال استمرار تغير وجهة النظر وتدبر الأمور. في البداية يواجهني حائط ضخم من الجرانيت يرتفع آلاف الأقدام. وأشعر في البداية بأنني لن أستطيع تسلقه. ولكن عندما أقترب من الحائط أتمكن من رؤية ممر صغير وسط الصخر ومن خلاله أستطيع التسلق على هذه الصخرة التي كانت تبدو صعبة على التسلق. وكلما ازداد صعودي يختلف المنظر أسفل الصخرة. فمن فوق يمكنني رؤية الأشجار تحيط ببحيرة جبال الألب، وكل من الغابة والبحيرة يحتضنهما الوادي المملوء بالبحيرات الأخرى التي تجري منها المياه لتغذي نهراً يجري في قناة بالقرب من منزلي على بعد عشرين ميلاً. وعندما أصل للقمة يمكنني رؤية المنظر العام بأكمله. وأي استنتاجات أتحدث عنها قبل وصولي للقمة ستكون خاطئة.
العالم جميل وحسن. العالم سقط. العالم يمكن فداؤه ورجوعه إلى الله. وإذا كان هذا التسلسل يصف قصة الكون، عندئذ يجب أن أنظر إلى العالم وإلى نفسي من خلال هذه الفكرة. والإيمان هو الذي ينمي فينا القدرة لقبول وجهة النظر هذه التي لن أتمكن من فهمها فهماً تاماً وكاملاً حتى أصل للقمة، بغض النظر عن كيفية رؤيتي للأشياء وأنا أواصل عملية التسلق. وهذا يعلمني أن أثق في أسلوب الله الغامض على هذا الكوكب، وبعلاقاتنا مع باقي المخلوقات يمكننا في يوم ما أن نفهم المعنى الصحيح الذي أراده الله.
يشبه الفيلسوف نيقولاس ريتشر اتصالنا مع الله كما لو أننا نتحدث في جهاز تليفون من النوع القديم. الأصوات غير واضحة والخط متقطع ولكننا نستمر في الصراخ “يا مرحبا… هل تسمعني… هل أنت على الخط؟” وطبقاً لما يقوله الرسول بولس أن هذه الصعوبات في طريق معرفتنا لله هي مؤقتة “فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذٍ سأعرف كما عُرفت”. وفي النهاية عندما يسترد الله الخليقة للحالة الأولى التي خلقها عليها فسوف يختفي أي فاصل بين المنظور وغير المنظور. إن هدف الله هو جمع العالمين معاً مرة أخرى ليصالحهما معاً.
من الأصحاح الأول في سفر التكوين وحتى الأصحاح الأخير في سفر الرؤيا يمكنني أن أتبين قوتين رئيسيتين تسريان في تاريخ هذا الكوكب. أولاً، يمسك الشر بكل ما هو خير ويفسده. فمنذ سقوط آدم نحن نعيش في عالم تسيطر عليه قوى شريرة، وهذا ما توضحه كتب التاريخ والصحف اليومية. ولا يجب أن ننزعج من العنف والظلم لأننا موجودون في عصر يحكمه الشر.
وعلى النقيض من ذلك، يُطلق الله قوة لفداء ما أفسدته الخطية والشر. والآن أختار الله أن يمارس قوته من خلال الجنود المشاة وهم البشر الذين أخطأوا. وبسبب هذه الترتيبات والوسائل قد يبدو أحياناً أن الله سوف يخسر المعركة. وسوف نتمتع بالانتصار النهائي فقط عندما ينهي الله – بقوته ومجده – وللأبد سلطان الشر.
وأثق أن اليوم سيأتي عندما تتغلب قوة على الأخرى، ولقد كانت قيامة يسوع كوعد ساطع ومضيء لهذا اليوم. وحتى ذلك الوقت، فإنني أختبر هذه القوى المتصارعة كل يوم بل طوال اليوم. وهذه القوى تعمل سراً، ولا تُرى وأجد نفسي دائماً ممسوكاً من تلك القوتين الموجودتين في التاريخ، إحداهما تواجه الخير وتحاربه والأخرى تسعى لفداء ما أفسده الشر.
إنني أفكر في أسلوب الله “الساخر”. إن التفسير الأكثر استقامة يجيب على كل مشكلة جديدة بحل فوري. امرأة تمرض والله يشفيها. رجل يُسجن ظلماً، والله يخرجه من السجن. ومع ذلك فالله نادراً ما يستخدم هذا الأسلوب. إن بولس يشكر الله من أجل “الشوكة التي في الجسد” لأنها السبب في تقدم عمل الله من خلاله، ويوسف يتذكر الصعوبات التي صادفها في حياته الماضية ويقول لإخوته القساة “أنتم قصدتم بي شراً ولكن الله قصد به خيراً”. ومع أن يوسف لم ينكر الماضي الرهيب ولم يقلل من آثاره السيئة، ولكنه في النهاية يراه جزءاً من قصة ذات معنى خدمت أهدافاً عظيمة أكثر مما كان يتصوره في تلك الأيام. فقط عندما نصل إلى قمة الجبل يمكننا أن نتمتع بجمال المنظر ونفهم معناه.
لا يجب أن نندهش من أن الله صاحب السلطان قد يستخدم أشياء سيئة كمادة خام ليصنع منها خيراً. إن رمز إيماننا الذي نضعه ختماً على الذهب ونلبسه على أعناقنا ونحفره على أحجار كنائسنا هو الصليب. إن الله لم ينقذ المسيح من على الصليب ولكن خلصنا نحن بموت المسيح على الصليب. وفي التجسد تتدفق قوة الله وتنقذ الخير من الشر. إن الله يغلب الشر بالخير، والكراهية بالحب والموت بالقيامة.
يقول فلانري أوكنور وهو من أفضل كتّاب القصة:
“إن كتّاب القصة يتحدثون دائماً ما الذي يُنجح القصة”: “اكتشفت من خبرتي الخاصة في محاولة جعل القصة ناجحة هو حاجتها إلى عمل غير متوقع تماماً، ومع ذلك يمكن تصديقه، واكتشفت أنه حدث يوضح أن النعمة قد قُدمت، وكثيراً ما يكون حدث يكون فيه الشيطان أداة غير مرغوب فيها للنعمة. وليست هذه معلومة أضعها في قصص، ولكنه اكتشاف توصلت إليه عندما قرأتها. وعندما ينمو إيماني وثقتي تشارك حياتي الشخصية بنوع ما في قصة أكبر. إن قصتي تحتوي على تفاصيل أتأسف لكتابتها بل وقد أستاء منها: ألم في الطفولة، مرض، فقر، اختيارات خاطئة، علاقات تحطمت، فرص ضائعة، فشل واكتئاب. هل بإمكاني أن أثق أن الله بتدبير فدائه ومحبته يمكن أن يستخدم كل هذه في قصة حياتي كأدوات غير مرغوب فيها ليقدم لي النعمة من خلالها؟”
ويكتب تيلهارد دي شاردان بتفصيل عن نفس فكرة أوكنور الذي شبّه الله بالفنان قائلاً:
“مثل الفنان الذي يستطيع أن يستفيد من خطأ أو عيب في حجر ينحته، الله – بدون أن يعفينا من الموت الجسدي أو الموت الأبدي وهما جزء أساسي من حياتنا – يحولهما بربطهما بخطة أفضل (بشرط أن نثق فيه بكل حب). وليس فقط أمراضنا التي لم نستطع تجنبها بل أخطاؤنا، حتى التي تعمدنا فعلنا يمكن أن يشملها هذا التغيير. فليس كل شيء خير فوري للذين يعرفون الله، ولكن كل شيء ممكن أن يصبح ويتحول إلى خير للمؤمن”.
وأنا طالب بالمدرسة الثانوية كنت أفتخر بمهارتي في لعب الشطرنج. والتحقت بنادي الشطرنج وأثناء فترة الغذاء كنت أقرأ كتباً عن الشطرنج. ودرست فنون اللعبة، وكنت أكسب معظم مبارياتي، ثم تركت اللعب لمدة عشرون عاماً. وفي شيكاغو التقيت بلاعب شطرنج كان يحاول أن يزيد من مهاراته منذ المدرسة الثانوية وحتى الآن. وعندما لعبنا معاً تعلمت وضع اللاعب عندما يلعب مع إنسان متفوق. فكلما استخدمت طريقة من طرقي القديمة معه كان يواجهني بنفس الأسلوب. حتى أخطائي كان يستفيد منها. ومع أني كنت أشعر بحرية في التحرك بحسب رغبتي أيقنت أن كل استراتيجياتي في اللعب لم تكن مهمة بالنسبة لي. وضمنت له مهارته المتفوقة إن كل محاولاتي كانت تنتهي لصالحه.
ربما يتعامل الله مع هذا الكون، وهو خليقته، بنفس الطريق. فيمنحنا الحرية لكي نثور ضد خطته الأصلية التي وضعها، ومع ذلك ونحن نفعل هذا فالأمر ينتهي بخدمة هدفه لاستعادة البشرية. فإذا قبلت هذا المخطط – وأعترف أنها خطوة كبيرة للإيمان – فسوف يغيّر ذلك نظرتي لكل من الخير والشر الذي يحدث. فالأشياء الخيرة مثل الصحة، الموهبة، والمال يمكن أن أستخدمها لخدمة الله. والأشياء غير الطيبة – مثل العجز والفقر والعائلة غير الموفقة والفشل – يمكن افتداؤها وتغييرها إلى وسائل تقودني إلى الله. وكتب الرسول بولس من السجن “تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه”. ومن الطبيعي أنه كان يفضل التعزية على الحزن والصحة على الضعف (صلاته لكي يرفع الرب عنه شوكة الجسد تُثبت ذلك)، ولكن بولس كانت لديه الثقة في أن الله يمكنه أن يستخدم هذه الظروف سواء طيبة أو سيئة لكي يحقق إرادته.
ومرة أخرى – وقد يتهمني الشخص الذي ينزع إلى الشك بأنني أبرر أمراً خاطئاً – أناقش وأجادل الماضي لكي يناسب الدليل استنتاجاً سابقاً. نعم وهذا ما أفعله تماماً. فالمؤمن يبدأ بالخاتمة والتي تقول بأن الله الصالح سوف يسترد خليقته لخطته الأصلية ويرى التاريخ سائراً في هذا الاتجاه. وعندما يلعب الإنسان المتفوق في الشطرنج مع شخص هاوٍ، فسوف ينتصر بكل تأكيد مهما حدث على لوحة اللعب في أي وقت.
ويعلن الكتاب المقدس نفسه الاستخدام الساخر من الله للأحداث السيئة لخدمة النتيجة التي يرغبها. فمثلاً، يسجل ثلاثة أرباع الكتاب الفشل المذهل لعهد الله مع بني إسرائيل. وفي نهاية العهد القديم يتبدد حلم توصيل النور للأمم عندما تقضي جيوش الأمم على الإناء المختار لتوصيل هذا النور. ومع ذلك فعندما تذكر بولس تاريخ الشعب القديم رأى تقدماً كبيراً. فعندما رفض الشعب المختار توصيل الرسالة، قامت الكنيسة بهذا الدور، وأطلق رفضهم الإنجيل حراً لينتشر عبر كل العالم.
واستخدم بولس ما هو متاح – خير كان او شر – لتقديم الخدمة وتحقيق الرسالة. فعبر الطرق الرومانية التي بناها القياصرة لتسهيل حكمهم على رعاياهم، حمل بولس رسالة محبة الله عبر كل الإمبراطورية. كما لجأ للعدالة الرومانية طلباً للحماية في الأوقات الصعبة. وحتى عندما مات بولس – ومعظم التلاميذ – ويسوع نفسه بين يدي هذه “العدالة” ساد هذا النموذج الساخر الذي استخدمه الله. وحقق صلب المسيح وموته الخلاص للعالم، وكما وعدهم “سيتحول حزنكم إلى فرح”. وفي تلك الأثناء، عجّل موت الشهداء بنمو الكنيسة. وكما قال المؤرخ ترتليان: “إن دماء المؤمنين الشهداء هي بذور المسيحية”. ومنذ ذلك الوقت – بكل سخرية – قادت المحاولات للقضاء على الإيمان إلى تقدمه العظيم.
إن سخرية الله تساعد على توضيح التناقض العميق في الإيمان المسيحي. فتقدم التطويبات المعاناة والفقر كأمور حسنة: إذ قال الرب يسوع طوبى للفقراء والمضطهدين والحزانى. وفي ذات الوقت يشجعنا لمساعدة الفقراء، ومحاربة الظلم وتخفيف المعاناة. ألا تخدم هذه الأمثال والحكم أهدافاً متعارضة؟ إذا كان الكتاب يطوّب الفقراء والمضطهدين فلماذا لا تحاول الكنيسة زيادة الفقر والألم؟
أن تتابع الصلاح والسقوط والفداء هو فقط الذي يوضح هذا التناقض. وإذ أعطانا الله عالماً حسناً، فهو يريدنا أن نستمتع بثماره. “إله كل تعزية” يريدنا أن نكون مستريحين بكل معنى الكلمة. ولكن لأننا نعيش في عالم ساقط مملوء بالشر والظلم فسوف يعاني الكثير من الناس من ظروف الفقر والمعاناة. وبإمكان الله أن يستخدم مثل هذه الظروف لتحقيق أغراضه، مستخرجاً الصالح من الشرير. وكما قالت الأم تريزا، إن الدول الفقيرة هي غالباً غنية روحياً والدول الغنية فقيرة روحياً. وقد اختارت هي ومن معها من مرسلات عمل الخير أسلوب الفداء إذ قبلوا تطوعاً المصاعب الشخصية لكي يربحوا الآخرين.
وفي معجزة من معجزات النعمة، يمكن أن يتحول فشلنا الشخص إلى أداة في يدي الله. وقد اكتشف الكثيرون أن استمرارية التجربة – حتى وإن كان الإدمان – هو نفس الجرح الذي يدفعهم للعودة في يأس إلى الله، ليبدأوا حياة جديدة. وفي هذا الصدد قال بول ترونر:
“إن أجمل ما في هذا العالم ليس هو الأمور الحسنة التي نحققها، ولكن الحقيقة بأن الخير يخرج من الشر الذي فعلناه. وقد قابلت الكثيرين من الذين عادوا إلى الله بسبب التأثير الطيب للذين هم قد أساءوا إليهم قبلاً. إن عملنا هو بناء الخير من الشر. لأننا إذا حاولنا أن نبني خيراً من خير فنحن في خطر فقدان المادة الخام لعملنا”.
وبالرغم من أن ترونر يفضل أن الناس لا يرتكبوا الشر أساساً، فإن هذا أمر يصعب الوصول إليه في هذا العالم الشرير. وهنا، يصلح استخدام الأسلوب الساخر إذا أن هذا سيوفر لنا مادة خاماً للعمل والخدمة.
واصلت التساؤل لفترة طويلة لسؤالي القديم: “لماذا تحدث أمور غير طيبة حتى للناس الصالحين؟ لأن هذه القضية تسبب نوعاً من الارتباك، و ربما إحساس بالخيانة، في علاقتنا مع الله. كيف يمكننا أن نثق في إله محب يسمح لنا بمثل هذه الأمور السيئة؟ هل الأمور المرعبة التي تحدث على الأرض هو إرادة الله؟ لماذا يستخدم الله مثل هذا الأسلوب “الساخر”، ولماذا لا يوقف كل هذه المآسي.
يضع المطران البريطاني ليسلي ويذرهيد تمييزاً لهذه العبارة “إرادة الله” فيقول “يتضمن تفاعل الله المهيمن على خليقة حرة ثلاثة أنواع من “الإرادة”. أولاً، إرادة الله المقصودة: نحن نعلم ما يقصده الله، ففي الفصلين الأولين من سفر التكوين يخلق الله عالماً حسناً وكاملاً، كما أن سفر الرؤيا ينتهي بنفس المنظر. وبذلك يقصد الله للإنسان أن يكون صحيحاً ويعيش مع الآخرين في ظروف طيبة ومزدهرة. وأي شيء آخر – الفقر والمرض والكراهية والألم والعنف والجوع – هي ضد إرادة الله التي يقصدها لخليقته.
ومع ذلك فالسقوط غيّر قوانين هذا الكوكب. وفي يقظة انتصار حاسم لقوى الشر، ظهرت شرور كثيرة على الأرض. وعندئذ كان يجب أن يكون لله “إرادة عريضة” (مستمدة من الظروف) تتوائم مع الشر الذي يحدث على الأرض. ولأن الأمور الحسنة التي عملها الله في الأصل قد فسدت، كان عليه أن يستخرج الخير من الشر. وعوامل كثيرة تحاول هزيمة خطة الله الأصلية، وقد سبب له هذا الكثير من الحزن. هل “إرادة” الله ليوسف ودانيال وإرميا وبولس وآخرين أن يعذبوا في السجن؟ كلا بل بكل تأكيد فهذا لم يكن في قصد إرادته. ورغم ذلك فالظروف الشريرة مثل حسد إخوة يوسف والقهر السياسي، وتهديدات القادة الدينين سبّب لكل منهم أن يقضوا فترة في السجن.
وبالرغم من ذلك – ولثقة كل هؤلاء في الرب – فإن خطة الله نفذت بالرغم من الظروف الشريرة، وإن كانت بطرق مختلفة للغاية. فانتصر يوسف وأصبح ثاني رجل في مصر، واختبر دانيال تحريراً غير عادي، و ترك لنا إرميا شهادة دائمة “كالنبي الباكي” وكتب لنا بولس الكثير من لاهوته خلف الأسوار. ويدعو ويذرهيد هذا النموذج الأخير “بإرادة الله العليا”. إلى أولئك الذين يثقون فيه، يعد الله أن يستخدم أية ظروف لكي يخدم إرادته العليا والأساسية.
الفيلسوف المسيحي نيقولاس ولتر ستروف، الذي فقد ابنه إريك في حادث تسلق للجبال، حاول أن يفهم إرادة الله كشيء مخطط: “كيف يمكننا أن نحتفظ بالشعاع في حين أننا نناضل ضد من جلبه؟ وتساءل في كتابه “رثاء ابن” كيف أتقبل معاناتي كنوع من البركة بينما أرفض الفكر السيئ الذي يقول بأن الله يهز الجبل لكي في حال أفضل؟” وملاً كتابه بأسئلة أكثر من الإجابات، وتضمن وجهة نظرنا المحدودة بأنه ستكون لدينا دائماً الكثير من الأسئلة غير المجابة. وقد وجد ولتر ستروف مساحة ضيقة من الثقة عندما أدرك أن “الله لكي يخلصنا من انسحاقنا وشعورنا بعدم محبته لنا وهو يعاني معنا لم يضربنا بل أرسل ابنه الحبيب لكي يعاني مثلنا ويخلصنا بمعاناته تلك من المعاناة والخطية. وبدلاً من أن يوضح لنا سبب معاناتنا شاركنا الله فيها”. وحقق الله في ابنه الانتصار العظيم لأسلوبه الساخر في الفداء.
وفي الصورة التي ذكرتها سابقاً عن تسلق الجبال، اقترح ليسلي ويذرهيد أن تصور مجرى ماء يجري أسفل الجبل. وبإمكاننا أن نوقف جريان الماء نحو الوادي، ولكن بصورة مؤقته فقط. فقانون الجاذبية يقول بأن الماء الذي يأتي من أعلى سوف يشق طريقه لأسفل. وبالمثل فإن إرادة الله العليا لا يمكن اعتراضها أو مقاومتها. ومع أن التاريخ الإنساني بكل شروره قد يمثل عقبات كثيرة في الطريق، ففي النهاية سوف نتغلب عليها. وسوف يسترد الله عائلته ويعيدها إلى حالتها الأصلية.
وقد يسمح الله لنا ونحن على كوكب الأرض بأن نصاب بأذى. مباني تنهار، تحدث زلازل، تنتشر الفيروسات، يلجأ الأشرار للعنف. ومما نعلمه عن شخصية الله، فلا شيء من تلك الأمور تعكس إرادته وقصده. ولا تعكس إرادته العليا من نحونا. وفي ذات الوقت فإن الفترة التي نقضيها على الأرض سوف تحدث أموراً سيئة لا يمكن تجنبها.
“إن حياتنا فترة قصيرة نقضيها في التوقع، فترة يلتقي فيها الحزن والفرح في كل لحظة. فهناك الحزن الذي يغطي كل لحظات حياتنا. ويبدون لنا أنه لا يوجد ما يسمى بالفرح في هذه الحياة، ولكن حتى في أسعد لحظات وجودنا ينتابنا شعور بالحزن. وفي كل تعزية هناك شعور بالمحدودية. في كل نجاح هناك خوف من الحسد. وخلف كل ابتسامة هناك دمعة. ووسط الشعور بالألفة قد نشعر بالعزلة والوحدة. وفي الصداقة قد نشعر ببعد المسافة. ووسط النور قد نشعر بالظلمة. ولكن في هذا الاختبار الوثيق الذي نشعر فيه بأن في الحياة يوجد أيضاً الموت قد ينقلنا وراء حدود وجودنا، ويحدث هذا عندما ننظر بتوقع إلى اليوم الذي تمتلئ قلوبنا بالفرح الكامل، فرح لا يمكن لأحد أن ينزعه منا هنري نووين |
وفي الخليقة يعمل الله من خلال المادة. أما في الفداء فهو يعمل من خلالنا. وعند مواجهة المآسي يمكنني الاستجابة إما بالشكوى والتذمر والبعد عن الله او بالرجوع إليه، واثقاً في قدرته أن يحول آلامنا إلى أفراح. واختيار واحد يركز على الماضي ويغلق المستقبل. أما الاختيار الثاني فيفتح المستقبل، ويسمح للفنان الأعظم بأن يستخدم الأحداث كمادة خام يصنع منها قصة جديدة تختلف تماماً عما كانت عليه وينتزع منها الألم والفشك بل ستكون اكثر غنى من سابقاتها.