Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الفردوس المفقود – فيليب يانسي

الفردوس المفقود – فيليب يانسي

الفردوس المفقود – فيليب يانسي

الفردوس المفقود – فيليب يانسي

 

“في أعماق قلب كل إنسان منذ ولادته وحتى مماته، يوجد شيء ما لا يُقهر متوقعاً، إنه في قلب كل جريمة تُرتكب أو يعاني منها، يشعر سراً بأن الأمر الصالح وليس الشرير هو الذي سيحدث…. ومصدر هذا الشعور هو أمر مقدس داخل كل إنسان”.

سيمون ويل

في اليوم الذي انتُخب فيه بيل كلينون للفترة الأولى، انتقلت إلى الفردوس، قمت بقيادة السيارة ومعي زوجتي، محملة ببعض الأوراق على المقعد الخلفي وسرنا عبر ولايتي أيوا، ونبراسكا متجهين إلى منزلنا في كولورادو. وفي اليوم التالي عند الغسق افرغنا ما معنا في السيارة لحين مجيء عربة الشحن التي بها أدواتنا من فردوس رائع.

وفي الأسابيع التالية بدأت أنظم كتبي ومكتبي وبدأت العمل في كتاب كنت قد بدأت كتابته في شيكاغو. يا له من فرق كبير بين ما أراه هنا في كولورادو عندما أتطلع من الشباك وبين شيكاغو. في شيكاغو كنت أعمل في بدروم وعندما كنت أنظر من النافذة كنت أرى أرجل الناس فقط وهي تسير. وكنت أرى الحمام والسنجاب والكلاب التي كانت تترك بقاياها لننظفها. أما هنا في كولورادو فكان يزورنا يومياً الغزلان والثعالب الحمراء والطيور.

كل فصل كانت له مسراته. في فصل الشتاء كنت أسير على الجليد خلف منزلنا محاولاً التعرف على آثار أقدام الحيوانات متتبعاً إياها إلى منازلها وسط الصخور والأشجار. وفي الربيع والصيف تظهر الزهور على التلال. وفي الخريف كانت تظهر الحيوانات لتحاول جمع غذائها قبل الشتاء.

ثم اكتشفنا الجانب الآخر من هذا الفردوس. فعندما كنا نقود السيارة إلى وايمنج لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء اكتشفنا وجود خمسة عشر حفرة بجوار منزلنا. وعندما سألنا الجيران قالوا أننا سمعنا أصوات طرق فاعتقدنا أنكم تبنون أرضية للمنزل. وفي الصباح التالي عند الساعة الخامسة عرفنا سر هذا الصوت عندما رأينا طائر نقار الخشب حول المنزل.

وفي الربيع زرعنا بعض الأشجار وحرثنا التربة ووضعنا بعض السماد ورويناها بالماء. وبعد فترة ازدهرت حتى جاء قطيع من الأيائل وأكل هذه الفروع التي أزهرت.

وجاء السنجاب ليتسلق المدخنة والمواسير، ثم جاء حيوان الراكون ومزق الألواح الخشبية بالسقف وتشوه الفردوس مثلما يحدث للعالم من حولنا، وتخيلت اجتماعاً عقدته الحيوانات عندما بدأ العمال في بناء منزلنا في الغابة: “البشر قادمون! السنجاب والراكون مسؤولان عن السقف، ونقار الخشب مسؤول عن الأشجار….”.

وفي كولورادو اكتشفت قصة الكون. العالم مكان جيد. العالم سقط، العالم يمكن فداؤه. وتعلمت الدرس الأول عندما جئت إلى هنا من مجرد نظرتي من النافذة، ثم تعلمت الدرس الثاني تدريجياً عندما تآمر الفردوس على سكانه من البشر. ومنذ ذلك الوقت بدأت العمل لإصلاح ما حولي: عندما علقت ثعابين من المطاط، وبومة من السراميك، وسنطأ بلاستيكية للزبالة لكي أخيف نقار الخشب، وبوضع مصيدة للفئران، ورش الأزهار والنباتات والأشجار بالكيماويات.

هذه الدورة من الصلاح والسقوط والفداء تنطبق على كل شيء في هذا الكون. الجنس، الأسرة، الكنيسة، الاقتصاد، الحكومات. وفي الحقيقة كل شيء يلمسه الإنسان تخرج منه الرائحة الأصلية للصلاح ثم الرائحة الكريهة للسقوط ثم يحتاج إلى الفداء والتوبة. وهذه هي “الخطة” والفكرة الرئيسية المقدمة في الكتاب المقدس، وهي خطة كل التاريخ.

العالم حسن وجيد. وبعد كل عملية في الخلق في سفر التكوين يقول “ورأى الله أن كل شيء حسن”.

ومن مكاني المفضل في غرفة زجاجية على تلال روكي استمع للموسيقا الهادئة من حولي، وفي هذا الجو الشاعري لا أجد صعوبة في فهم وتصديق أن كل شيء حسن. وفي ظرف ساعة واحدة رأيت ثعلباً يسير بكل قسوة على سنجاب رمادي كان يجلس على فرع شجرة. والعصافير تنتقل من شجرة إلى أخرى. ورجعت إلى سفر المزامير وإلى ترانيم الحمد التي كتبها داود في بيئة جميلة مثل هذه ونسمع منها صدى العبادة الروحية.

في العطلة الأسبوعية الماضية في رحلة إلى شيكاغو حضرت حفلاً موسيقياً وقدمت الأوركسترا حفلتين، واحدة من موسيقا موزارت والثانية أنطوان بروكنر. وكان الذي يغني السوبرانو إيطالي وآخر ألماني، أما التينور فهولندي وكان يقود الجميع دانيال بارنبويم وهو يهودي أرجنتيني وقادهم في عرض رشيق تسانده الآلات والأصوات من أوركسترا شيكاغو السيمفونية.

ورنموا “مجداً لله في الأعالي” وأعطوا مجداً لمن جاء من السماء، حمل الله الذي رفع خطية العالم. وعندما رنم الموسيقيون انفتحت أبواب السماء. وأنا جالس في هذه الصالة الفخمة وأستمع إلى هذه الموسيقا العذبة، ليست لدي مشكلة في أن أثق بأن هذا العالم حسن وجيد.

وبعد عشر ثواني خارج صالة الموسيقا ثارت شكوكي الكامنة. وعلى جانبي الطريق ظهر أناس شرسون يريدون الاعتداء على الأثرياء الذين حضروا الحفل الموسيقي. والليلة الماضية غطى الجليد كل شيء. وسائقو التاكسي بدأوا في الصياح والشجار معاً بحثاً عن مكان لسياراتهم. ورجعنا إلى حالة الفوضى ثانية وهي واقع العالم.

إنه شر الإنسان الذي يفسد حُسن وجمال هذا العالم. إن الناس في شيكاغو يتشردون بسبب الحاجة للعواطف والمشاعر وليس بسبب الحاجة للمكان أو الموارد. وبالمثل، فالعالم ينتج ما يكفي من الطعام ليغذي كل البشرية، ولكن الناس تموت جوعاً كنتيجة للطمع والظلم.

فمنذ أوغسطينوس وما بعده، أصر اللاهوت المسيحي على أن ما نسميه الأشياء السيئة هي في الواقع أشياء حسنة ولكن أسيئ استخدامها. الكذب يُغلف الحق، والفساد الجنسي يلطخ جمال الحب الجسدي، والشراهة والنهم تُفسد الطعام والشراب. إن الشر يجب أن يبتعد عن الخير إذ ليس له القدرة لخلق أي شيء جديد. وكما قال س. إس. لويس: “إن الفرح هو من اختراع الله وليس نحن. إنه هو الذي صنع كل هذا الفرح والسرور: وكل مجهوداتنا وبحثنا حتى الآن لم تمكنّا من أن نصنع شيئاً واحداً مثله”.

وبالطبع، أشياء كثيرة في هذا العالم لا تبدو أنها جيدة. ومع ذلك، فقد تعلمت أن أتطلع إلى ما وراء السلبيات الظاهرة الى الأمور الحسنة المختفية بدءاً من الجسم الإنساني. وتعلمت من الدكتور بول براند الذي شاركني في تأليف ثلاثة كتب، أن أصادق الكثير من الأمراض الجسدية التي نعتبرها أعدائنا.

فكل نشاط لأجسادنا الذي ننظر إليه بنوع من الغضب والضيق والاشمئزاز مثل البثور، والتورم، والحمى، الانفلونزا، السعال، القيئ…. إلخ، كل هذه الأمراض تبين قدرة الجسم على المقاومة والحماية. وبدون هذه الإشارات التحذيرية والخطوات الحرجة في عملية الشفاء، لكنا نعيش في خطر عظيم.

وآلامي العاطفية تكشف أيضاً عن أمور طيبة مختفية. ما هي ميزة الخوف؟ وأحاول أن أتخيل رياضة تسلق الجبال أو التزحلق على التلال بدون أن يحميني هذا الخوف ويحفظني من أي إهمال قد يحدث. أو قد أفكر في عالم بدون وحدة وعزلة، شكل من أشكال الألم الذي شعر به آدم قبل السقوط. هل يوجد الحب والصداقة بدون شعور داخلي يحثنا على ذلك ويبعدنا عن التفكير في الرهبنة والنسك؟ إننا بحاجة إلى قوة الشعور بالوحدة لكي تدفعنا لمصادقة الآخرين.

إن المشاعر السلبية قد يكون لها قيمة إيجابية إذا استجبنا لها بطريقة حسنة. وفي كلمات الطبيب النفسي جيرالد ماي ما يلي: “في الحقيقة إن حاجتنا لتحقيق الذات هي أثمن موهبة لدينا. إنها مصدر مشاعرنا وعواطفنا وإبداعنا وبحثنا عن الله. وكل الأمور الجميلة في حياتنا تأتي من اشتياقاتنا الإنسانية وشعورنا بعد الاكتفاء”. كلما ازداد حبنا ازدادت معاناتنا. ونحن نبتعد عن الموت لأننا نريد أن نحيا. وقد تعلمت تقديراً ثابتاً للأمور الحسنة في هذا العالم، هناك شيء حسن في الشيء السيء المتبقي.

فعندما يحدث أمر سيء، سوء تفاهم مع زوجتي أو صديق لي أو شعور بالذنب لأنني لم أؤدِّ مسؤولية ما، أحاول أن أنظر لهذا الأمر تماماً مثلما انظر لألم جسدي، كإشارة وتنبيه لي لكي أستعد لأمر يحتاج لتغيير. وأحاول أن أشكر ليس الألم ذاته بل الفرصة للاستجابة لاستخراج ما هو جيد مما قد يبدو سيئاً.

لقد سقط العالم. وفيلم الوادي الكبير يظهر بوضوح سقوط العالم بكلمات ربما أُخذت من القديس أوغسطينوس. ويحكي الفيلم قصة سائق شاحنة بمقطورة ويدعى داني جلوفر هدده خمسة مشاغبين وهو يحاول إنقاذ سائق موتوسيكل مرعوب فيقول: “يا رجل، لا يجب أن يكون العالم بهذه الصورة. ربما لا تعرف ذلك، ولكن لا يجب أن تسير الأمور هكذا. من المفروض أن أؤدي عملي بدون إذن منك. وهذا الرجل يجب أن يتمكن من الانتظار بسيارته دون أن تأذنوا له. كل شيء يجب أن يختلف عما هو عليه هنا”.

وفي الأزمنة المتفائلة يجب على المؤمنين أن يجعلوا هذا العالم الساقط قضيتهم. وأولئك الذين لهم النظرة المتفائلة للطبيعة الإنسانية والذين كانت لهم رؤية ثابتة للتقدم نحو خلق “إنسان اجتماعي جديد”، سقطوا في صحراء سيبيريا في المنطقة القطبية الشمالية وفي سهول الصين وربما وصل عدد جثثهم إلى مائة مليون. والآن، فالولايات المتحدة، التي كانت مرة الأمل المشرق لأوروبا المتعبة، ها هي تقود العالم بمقاييس مختلفة من العنف والفوضى الاجتماعية.

وما قاله سائق الشاحنة تقوله المبادئ المسيحية عن سقوط الإنسان: “إيها الأنسان، لا يصح أن يكون العالم هكذا…” وإذا كان الله قد خلق العالم في أحسن صورة فلا بد وأن شيئاً ما قد انحرف. وكلمة سقوط – والتي لم تُستخدم في الكتاب لوصف ما حدث لآدم وحواء – حققت مكاناً مركزياً في اللاهوت لأنها تبدو ملائمة لذلك. فقد وصل آدم وحواء إلى مكانة عالية، ثم فقدا توازنهما، ونزلا إلى الأرض بارتطام شديد.

ولدى اليونانيين قصص مشابهة، فقد سرق رجل يدعى برومثيوس ناراً تخص الآلهة، ثم صعد ولد يدعى إيكاريوس إلى أعلى بأجنحة من الريش وسقط وارتطم بالأرض، وامرأة تدعى باندورا فتحت صندوقاً سرياً للآلهة. وفي كل هذه القصص تتقدم الشخصيات بطريقة ما ولكنها تسقط بشدة. أما آدم وحواء سقطا بسرعة عندما عرفا الخير والشر وجلبا الشر للعالم، وبهذا خسرا فرصة الحياة كما كان يريدها الله.

وفي أزماننا، تكرر التكنولوجيا نفس دورة آدم وحواء، بارمثيوس، وإيكاريوس، باندورا لقد سيطرنا على الذرة ولكن محونا أنفسنا. إننا نتعلم أسرار الحياة فقط لكي نطور أساليب التدمير للأجنة والمسنين. لقد عرفنا الخريطة الجينية وفتحنا صندوق باندورا الأخلاقي. واستأنسنا السهول العظيمة بالصين بزراعتها، وتمكنا من إحداث فيضانات على الغابات وأذبنا الجليد. وربطنا العالم بالإنترنت فقط لنجد فيها أمور فاحشة. وكل تقدم يُدخل نوعاُ من السقوط.

أحد الذين بقوا أحياء من معسكرات النازي ويدعى بريمو ليفي قال: “لم يعط الإنسان الفرصة لكي يتمتع بسعادة غير ملوثة”. وهذا حقيقي. ولا يمكننا أن نعرف محبة أو صلاحاً أو أي شيء آخر غير ملوث. بسبب سقوط آدم تلوث كوكب الأرض كله. كل الاختيارات بها أمر خاطئ. ونحن نبذل جهداً لاختيار أقلها ضرراً. “ومع ذلك…” هاتان الكلمتان – طبقاً لما يقوله إيلي ويسل – تستخدمان دائماً، فحتى في عالم قد سقط بإمكاننا أن نرى لمحات من الحسن الأصلي الذي خُلق به.

كتب الفنان فان جوخ رسالة لأخيه ثيو يقول فيها: “أشعر بطريقة متزايدة أننا لا يجب أن نحكم على الله بما نراه في هذ العالم، إنها مجرد دراسة لم تنته. ماذا بإمكانك أن تفعل بدراسة خاطئة؟ – فإذا كنت معجباً بالفنان، فلن تجد لديه ما تنتقده – وتمنع لسانك عن الكلام. ولكن لك الحق ليك تطلب شيئاً أفضل.

وفيما بعد أضاف فان جوخ ما يلي: “لقد تحطمت هذه الدراسة بعدة طرق” إن السيد فقط هو الذي بإمكانه أن يُحدث مثل هذا الخطأ الفادح، وربما يكون هذا هو أفضل عزاء لنا في هذا الأمر، لأننا في مثل هذه الحالة يكون لنا الحق في أن نأمل بأن نرى نفس هذه اليد الخالقة ستصنع ما هو أفضل. فالأخطاء والأمور الناقصة في العالم وفي فان جوج نفسه أوجدت فيه دافعاً للأمل والرجاء.

يمكن للعالم أن يُفتدى. قالت الكاتبة الروائية مارلين رولنسون: “إنه لأمر حقيقي بالنسبة للعالم المسيحي وللبشرية أيضاً أن الإنسان سقط بسرعة بعد خليقته ليجعل من المسيحية والسقوط حادثتين في حادث واحد. فالموضوع المتكرر في الكتاب المقدس هو دائماً إنقاذ الإنسان، سواء كان نوح وأسرته، أو شعب إسرائيل أو فداء المسيح. والفكرة تقول أن هناك أملاً باقياً وهو أثمن من أن نفقده، وهو الذي سيحي البشرية، وقد كان دائماً أملاً جديراً بالثناء”.

وقد اخترت بعناية كلمة يُفتدى، لأنني أعلم أنه بمرور ضعف قيمتها. في الثقافة التي يُسمح فيها بوجود عبيد، استقر المترجمون الأوائل للكتاب المقدس على الفداء كأقوى صورة لما هو لدى الله ليعطيه للبشر. هل هناك أية صورة أخرى يمكن أن تعبر عن نعمة الله أكثر من شراء عبد لكي تطلقه حراً؟ ولكننا اليوم نحن نفتدي (نحرر) الرهانات والساعات وليس العبيد. لقد كادت الكلمة أن تفقد معناها.

ومع ذلك فلا توجد كلمة أخرى تناسب هذا المعنى. وكلمات مثل يسترد، يُصلح، يعيد خلق، وكلها تشير إلى الأصل الحسن الذي وعد الله يعيد إقراره، كلها كلمات تحتاج إلى معنى جديد. فالعبد الذي تحرر (وافتُدي) لم يُفتد أو يُسترد تماماً وحقيقة: فما زال يحمل جروح الكرباج الذي ضُرب به وصدمة وألم العذاب الذي عاناه في المنزل والأسرة والقارة إلى أن بيع في سلاسل إلى سيده. وبسبب هذا الضيق وهذه الصدمة، فالحرية تعني الكثير لهذا العبد المتحرر أكثر من أي معنى كان في ذهنه من قبل.

بالرغم من كل المصاعب – أو ربما بسببها – فإن شيئاً ما تقدم وتطور. ولمحات الكتاب المقدس عن حالتنا الأبدية توضح أن ما نحتمله على الأرض الآن، وكيف نستجيب له، سوف يكّون هذه الحالة، ويظهرها، وسوف نتذكرها هناك. حتى يسوع المقام احتفظ بجراحه.

إن الفداء لا يعد بإحلال شيء مكان آخر بل التغيير الذي يستفيد مما كان قبلاً. وسوف ندرك تخطيط الله الذي أصلح الأصل مثل الكاتدرائية التي يُعاد بناؤها بعد تدميرها بالقنابل. ويتضمن الفداء نوعاً من الكيمياء أو حجر الفلاسفة الذي يصنع ذهباً من التراب وفي النهاية سوف يتحول الشر إلى أداة للخير.

ويشترك اليهود والمسيحيون في وجهة النظر التاريخية هذه مع اختلاف واحد مهم. فيقبل اليهود فكرة صلاح وسقوط العالم، في حين أن المسيحيون، يرون التاريخ يحقق غايته بطريقة مُشابهة لبدايته. ففي حين ان سفر الرؤيا يرسم صورة لهذا العالم الذي اُفتدي، فهو يستعير مشاهد من أنبياء العبرانيين وينتهي بنفس المشهد الطبيعي الموجود في سفر التكوني.

جنّة، أشجار، نهر، سلام، حضور الله. والفرق في مدة آلاف السنين – أثناء فترة معاناتهم التي أظلمت تاريخهم الطويل – يستغيث اليهود طلباً لوعد الفداء بمجيء المسيا. بينما يؤمن المسيحيون أن المسيا قد جاء فعلاً وحقق ما لم يتحقق في موعده.

وفي كتابه “الصناع” قارن، أمين مكتبة الكونجرس دانيال بورستن، النظرة اليهودية المسيحية بالطرق الأخرى للنظر للعالم. فالبوذيون لا يهتمون كثيراً بالبدايات والنهايات وبدلاً من ذلك يحاولون الهرب من مشاكل هذا العالم. والهندوس والمسلمون يستسلمون للفكرة. ويقول بورستن: إن العلم والفن ازدهرا في التربة اليهودية والمسيحية بسبب ميلنا الفطري للنضال ضد هذا العالم المرتبك، وتنبع هذه الفكرة من الاعتقاد بأن لنا دوراً يجب أن نلعبه في فداء هذا العالم. الوقت مهم، والتاريخ مهم والأفراد مهمون. ونحن نتحرك نحو الفداء.

حتى الحركات التي تُنكر القصة المسيحية تقتبس منها بعض العناصر. فحركة التنوير وعدت بحركة فدائية تتجه نحو يقظة جديدة، والرومانسية سعت لتغطية البراءة الأصلية، والشيوعية وعدت بطريقة ضد السقوط بدون الحاجة للفداء. إن النساء والأقليات، والمعاقين، والناشطين في حقوق الإنسان والبيئة، كل هؤلاء يستمدون قوتهم الأخلاقية من قوة القصة المسيحية التي تعد بالفداء للمظلومين والمستعبدين.

ومع ذلك فالقصة المسيحية تحتاج إلى عناصر ثلاثة لكي تكتمل. افصل أي حلقة، تنفك السلسلة. فينكر الكثيرون اليوم أن الله الصالح هو الذي خلق العالم وبه الكائنات البشرية التي تلعب دوراً رئيسياً، ونتيجة لذلك يجدون صعوبة كبيرة في التمييز بين الخير والشر، وماله قيمة

“القلب نفسه ما هو إلا وعاء صغير، ومع ذلك فالتنين هناك والأسود أيضاً. وتوجد هناك الوحوش السامة وكل كنوز الشر. ولكن الله أيضاً موجود هناك، والملائكة والحياة والملكوت، النور والرسل، والمدن السماوية وكنوز النعمة – كل هذه الأشياء هناك”.

مقاريوس

وما ليس له معنى. (يقول الناشطون من أجل حقوق الحيوان أن الإنسان ليس له قيمة أكثر من خنزير). وكما ذكرت سابقاً، فإنني أسخر من المتفائلين الذين ينكرون سقوط الإنسان ويرسمون صورة وردية عن القوة الكامنة في الإنسان وينتهون إلى خلق أسوء المآسي التي رآها العالم. وأولئك الذين لا أمل لهم في الفداء يصلون إلى فكرة عن التاريخ كتلك التي كانت لماكبث: “إنه قصة سردها غبي أحمق، مملوء بالغضب، وقصة لا معنى لها”.

وتصر القصة المسيحية على أن التاريخ يتجه نحو حل. فكل شرارة جمال وهي ذات قيمة ومعنى جديد نختبره في هذا الوجود الغريب يسطع كأثر مقدس لعالم صالح ما زال يحمل آثار خلقه الأصلي الأول. وكل ألم، وقلق، وقسوة، وظلم هو علامة من علامات السقوط والبعد عن الخطة التي رسمها الله. وكل إعلان للحب والعدل والسلام والمشاعر هي حركة نحو فداء هذا العالم واليوم الذي قال عنه الرسول بولس: “الخليقة كلها سوف تتحرر من عبوديتها وتتمتع بحرية مجد أولاد الله”.

الفردوس المفقود – فيليب يانسي

Exit mobile version