اكليمندس الأسكندرى 150 ـ 215م د. موريس تاوضروس
اكليمندس الأسكندرى (150 ـ 215م) د. موريس تاوضروس
تحدثنا فى العددين السابقين عن: البيئة الثقافية للقديس اكليمندس الأسكندرى، وأهم مؤلفاته فى مواجهة الفكر الغنوسى: 1ـ نصائح إلى اليونانيين. وسوف نتكلّم فى هذه العدد عن الكتابين الثانى والثالث: المربى، والمتفرقات.
كتاب المتفرقات (تابع):
الكتاب الرابع (تابع):
+ يشير اكليمندس أن الإنجيل يحقق لنا حياة الكمال والسلوك الكامل (21:4). ويتحقق هذا الكمال للجسد والروح فيتقدس الإنسان كله ” فالغنوسية (المعرفة الحقيقية للمسيحية) ليست مجرد معرفة نظرية لكنها دخول إلى كمال المسيح، دخول من الناموس إلى السيد المسيح مكمل الناموس” (21:4)[1]. ” لقد كانت أهم قضية تشغل بال اكليمندس هى تلك التي اختار أن يسميها “الغنوسية الحقيقية” ورأى أن محبة الله هى العلامة المميزة للغنوسية المسيحية.
والإنسان بواسطة معرفته الغنوسية يمكن أن يفتح الطريق إلى السماء ويشارك الملائكة حول عرش الله، بل قد ذهب إلى القول بأن الغنوسي الحقيقي يصبح مثل الله، عندما يسترجع صورة الله التي فقدها في جنة عدن، فالمعرفة تعطي الخلاص (22:4 ـ لورمر ص52).
+ وفي هذا الكتاب الرابع يتحدث اكليمندس أيضًا عن الفنون البشرية والمعرفة الإلهية ويبيّن أنها جميعها من الله، ” والكتاب المقدس يسمي كل علم دنيوي وكل فن باسم واحد هو الحكمة.
إن الإبداع في الفنون وضروب المهارة هى من الله، ويتضح هذا من العبارة التالية: ” وكلّم الرب موسى قائلاً: انظر قد دعوت بصلئيل بن أورى بن حور من سبط يهوذا باسمه وملآنة من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة لاختراع مخترعات ليعمل في الذهب والفضة والنحاس والأسمانجوني والأرجوان والقُرمز ونفس الحجارة للترصيع، ونجارة الخشب ليعمل في كل صنعة ويستشهد بما جاء في سفر الخروج ” وتكلم جميع حكماء القلوب الذين ملئتهم روح حكمة أن يصنعوا ثياب هرون لتقديسه ليكهن لي” (خر3:28).
إن حكماء القلب يتميزون بصفات طبيعية خاصة بهم والذين يظهرون أنفسهم مستحقين للحكمة ينالون من “الحكمة العظمى” نصيبًا مضاعفًا من روح الحكمة[2].
الكتاب الخامس
+ ليس هناك معرفة بدون إيمان، ولا إيمان بدون معرفة، هكذا أيضًا ليس هناك أب بدون ابن.
+ يرى اكليمندس أن الذبيحة المقدمة لله هى التجرد من الجسد ومن أهوائه، فهذه هى التقوى الحقيقية. وهكذا فإن الفلسفة دُعيت بحق على لسان سقراط بأنها ممارسة الموت. ويرى أننا لا نستطيع أن نصل إلى الحقيقة عن طريق استخدام الحواس، فالوصول إلى معرفة حقيقة الأشياء يتم عن طريق استخدام العقل المجرد، وليس عن طريق استخدام البصر أو الحواس الأخرى، فهذا هو منهج مَنْ يتبع الفلسفة الحقيقية. إن الفلاسفة وصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق موسى.
وعن طريق التحليل يمكن أن نصل إلى التأمل، فنتقدم بالتحليل إلى الفكرة الأولى، فنجرد الجسد من خصائصه الطبيعية. فإذا خلّصنا أجسادنا بكل ما يرتبط بها من أبعاد العمق والاتساع والطول. وألقينا بأنفسنا في بحر المسيح الزاخر وتقدمنا بالطهارة في هذا الاتساع غير المحدود، فإننا بذلك نستطيع أن نصل إلى معرفة الله القدير.
ومعرفتنا بالله لا تجىء عن معرفة ما هو عليه، بل بمعرفة ما ليس هو. إن الشكل والحركة والوقوف والعرش والمكان واليد اليمين أم اليد اليسرى، يجب أن لا تدرك هذه جميعها على أنها تختص بالآب، على الرغم من أنها مكتوبة. إن العلة الأولى لا توجد في مكان، ولكنها فوق كل مكان وكل زمان وكل تصور.
ويمضي اكليمندس ليؤكد أن معرفة الله لا تتم إلاّ عن طريق الله بواسطة ابنه وهكذا أكد لنا سليمان الحكيم ” ليس لي فهم إنسان ولم أتعلم الحكمة ولم أعرف معرفة القدوس” (أم2:30). إن الفطنة (الحكمة) الإلهية يتكلم عنها سليمان فيقول ” هى شجرة حياة لممسكيها والمتمسك بها مغبوط” (أم18:3).
ثم إن القديس اكليمندس ” أعطى اهتمامًا بالحب كمصدر للغنوسية، فإنها عليه تتأسس. الله حب يعرفه الذين يحبونه.. لهذا يلزمنا أن ندخل إلى معرفته خلال الحب الإلهي، فنتأمل الشبه بالشبه. نعرف إله الحب بممارسة الحب، ممارسة الحياة السماوية”[3].
الكتاب السادس
+ يؤكد القديس اكليمندس في الكتاب السادس أن الفهم الصحيح ليس هو اكتشاف بشري، وأن ما وصل إليه اليونانيون من فهم، ليس هو نتاج الفهم البشري بل هو من عند الله. إن المسيح هو الذي يهب المعرفة الحقيقية ويعطينا إدراك الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة. إنه يهب لنا الغنوسية الحقيقية من خلال الكتاب المقدس.
+ الغنوسي الحقيقى يدرك ما يبدو للآخر أنه غير مدرك، فليس شئ غير مدرك لدى ابن الله وليس شئ لا يمكن تعلمه. الذي تألم فينا لا يخفي شيئًا من المعرفة اللازمة لتهذيبنا” (8:6)[4].
+ وهناك أمور ثلاثة في قدرة الغنوسى الحقيقى: معرفة الأشياء. ثانيًا: ينفذ ما تقترحه الكلمة. ثالثًا: القدرة على تقبل الأسرار المخفية في الحق.
+ واعتمد اكليمندس على سفر الحكمة في تأكيد أهمية المعرفة. جاء في سفر الحكمة ” الحكمة براقة لا تذبل. يراها الذين يحبونها بسهولة ويجدها الذين يلتمسونها. وتسبق وتتجلى بالنسبة للذين يشتهون معرفتها. “ من بكر إليها فما تعب بل وجدها عند مداخل كائنة” (حك12:6ـ15). ويلّق على هذه العبارة قائلاً: ” أظن أن الحكيم يعلم بأن التعليم الحقيقي هو الرغبة في المعرفة، والتدريب العملي للتعليم ينجم عن محبة المعرفة” (15:6)[5].
+ ويرى القديس اكليمندس أن الغنوسى الحقيقي لا يخضع لآلام النفس فيقول: “يخضع الغنوسى فقط للمؤثرات الخاصة بالحفاظ على الجسد مثل الجوع والعطش وما أشبه ذلك.. إذ تحدث عن هذه المؤثرات بطريقة متعقلة تكون صالحة، لكن الشخص الكامل لا يقبل مؤثرات أخرى إضافية، فلا يقدر أن يمارس الجسارة (كألم نفسي) إذ لا يواجه شئ بخوف ولا يرى في الحياة ما يرغب، ولا يستطيع أمر أن ينزع عنه محبته لله..
ولا يغضب (ألم نفسي آخر) إذ يرى في الله أنه دائم الحب له، وأنه (هو) دائم الاتجاه نحو الله وحده فلا يبغض أحدًا من خليقة الله، ولا يعود يحسد، لأنه ليس في عوز إلى شئ من الأمور اللازمة لتجعله شخصًا ممتازًا وصالحًا، وبالتبعية لا يحب أحدًا بالمفهوم العام للعاطفة، إنما يحب الخالق في خليقته .. ولا يرغب بشغف أن تبتلعه الأمور الجميلة، إذ هو يملك جمال الحب” (9:6)[6].
+ وفي الكتاب السادس يتحدث عن المسيح الكلمة. وفيما يشير لوريمر: .. تعتبر عقيدة المسيح الكلمة واحدة من مميزات فكر اكليمندس. فالمسيح هو المعلّم الحقيقي الذي يعطى الناس “الكلمة” التي تقودهم إلى الحرية من الخطية وإلى البر والخلود. والكلمة (المسيح) هو فوق عالم البشر وفي عالم البشر، فهو سماوي بل هو الله نفسه وليس أقل من الله أو تابعًا له. فبالكلمة يخلق الله ويحكم ويعلن.
والله في ذاته بعيد جدًا ولا يمكن الوصول إليه، ولكن في “الكلمة” قريب ويحيا في كل كائن. إن الكلمة اتخذ له جسدًا وظهر في يسوع المسيح ليعلّم الناس بأكثر وضوح وإقناع وبواسطة المثال الذي يعطيه في حياته. يؤثر في الناس لكي يختاروا طريق الحياة بدلاً من الموت” ص53، 54.
+ وبالنسبة لموقف اكليمندس من الكتاب المقدس ” فقد كتب اكليمندس يقول إن الكتاب المقدس نافع لكل مسيحي ولكن لا يعرف عمقه أو حقائقه بالكامل إلاّ المسيحي العارف. ولكي يفهم المعنى الأعمق للكتب المقدسة عليه أن يستخدم كل علوم الفلسفة والأخلاق وعلم النفس والطبيعة وما وراء الطبيعة. فبهذه الوسائل يستطيع المسيحي العارف أن “يستخرج من الكتاب المقدس كل المعرفة، يعرف الماضي والحاضر والمستقبل ويصل إلى كل هذه” (6:6) ص54.
الكتاب السابع
+ الغنوسى الحقيقي لا يكتفي بالإصغاء إلى كلمات الكتاب المقدس، ولكنه يذهب إلى ما وراء الكلمات وإلى ما يستتر خلفها من حقائق وأعمال يلتزم بها.
+ تسعى الغنوسية الحقيقية إلى بلوغ معرفة الله وإلى رؤيته وامتلاكه. والمعرفة لا تنحصر في مجالها النظري فقط ولكنها حياة وممارسة تتطلع نحو الحياة السماوية الفائقة متشبهة بالله.
ويتصف الغنوسى الحقيقي بالصفات التالية:
1 ـ التقوى ” الغنوسى إنسان تقي يهتم أولاً بخلاص نفسه، وبعد ذلك بقريبه حتى يكون الكل صالحًا جدًا. فإن الابن يُفرح أباه الصالح بظهوره صالحًا على شبه أبيه.. إن في مقدورنا أن نؤمن وأن نطيع”، “الغنوسى من كل ناحية يشهد للحق بالعمل والكلام، إذ يسلك باستقامة في كل شئ، بالكلام والعمل والفكر أيضًا.. الغنوسى وحده بالحق هو تقي وعادل ويخاف الله ” (9:7).
2 ـ يتمم إرادة الله “يتذوق الغنوسى إرادة الله فلا ينصت للمكتوب (الشريعة المكتوبة) بأذيته إنما بنفسه (11:7). وخلال هذه الطاعة المملوءة حبًا لإرادة الله يظهر كصديق لله وابنًا لله: الغنوسى كمحب للحق الواحد الحقيقي يكون إنسانًا كاملاً صديقًا لله ويحسب ابنًا ” (11:7).
3 ـ لا يخشى الموت: الغنوسى بحق لا يضطرب من شئ ما.. لا يخشى الموت إذ له الضمير الصالح وتهيأ لمعاينة القوات (السمائية) (13:7).
4 ـ رجل الصلاة ” حياته كلها صلاة وحديث مستمر مع الله.. صلاته هى شكر من أجل الماضي والحاضر والمستقبل الذي يراه بالإيمان حاضرًا (11:7).
الكتاب الثامن
+ الكتاب الثامن مفقود، يشير إليه اكليمندس في ختام الجزء السابع من المتفرقات ولكنه يصدر في مجموعة “آباء ما قبل نيقية” ككتاب مستقل بعنوان “الكتاب الثامن”. ولم يبق من هذا الكتاب إلاّ شذرة واحدة هى جزء من رسالة في المنطق. ويشير يوسابيوس إلى كتاب “ستروماتا” فيقول ” إن جميع مؤلفات اكليمندس الثمانية المسماة “ستروماتا” لازالت محفوظة عندنا، وقد سماها هو بنفسه تيطس فلافيوس اكليمندس “ستروماتا”.
وفي هذا المؤلف لم يتحدث بتوسع عن الأسفار الإلهية فحسب، بل اقتبس أيضًا من الكتاب اليونانيين كل ما رآه نافعًا، وشرح آراء لكثيرين يونانيين وبرابرة. وقد فَنَّد أيضًا التعاليم الكاذبة التي نادى بها زعماء الهراطقة. وعلاوة على هذا راجع جزءًا كبيرًا من التاريخ، مقدمًا إلينا عينات من مختلف التعاليم. أما ما تبقى فإنه يمتزج به آراء الفلاسفة”. ولعله لهذا السبب أطلق على مؤلفه ذلك اللقب المناسب “ستروماتا” (يوسابيوس 3:6، 4، 5).
[1] المرجع السابق ص79.
[2] انظر: موسوعة المتنيح الأنبا غريغوريوس ـ الدراسات الفلسفية 2004 ص 241ـ242.
[3] القمص تادرس يعقوب ص 79.
[4] القمص تادرس يعقوب، ص78ـ81.
[5] القمص تادرس يعقوب، ص78ـ81.
[6] القمص تادرس يعقوب، ص78ـ81.