تفسير الكتاب المقدس والكنيسة الأولى
تفسير الكتاب المقدس والكنيسة الأولى الباحث جورج عوض إبراهيم [1]
1ـ التفسير فى البيئة اليونانية [2]
لقد أبدع اليونانيون فن الكتابة الذى صاحبه حركة “نقدية” كبيرة وذلك منذ زمن السفسطائيين. كما صاحب أيضًا الإنتاج الوفير للخطابة والشعر تطور الكتابة، ووصل كل من علم اللغة ونقد النص إلى قمته فى الأزمنة الهيللينية، فأعمال أرسطو مثلاً فى هذا المجال قد غذت العالم الهيللينى لأزمنة عديدة، كما يرجع الفضل إلى اليونانيين فى إدخال المنهج الرمزى كمنهج للتفسير.
لقد كان اليونانيون فى احتياج لـ ” تفسير الكتاب الرمزى ” وذلك لمساعدتهم فى التقييم الدينى والتربوى للشعراء والكتاب القدامى وخاصة أشعار هوميروس. لقد كتب هوميروس `/Omhroj روايتين فى قالب شعرى وهما: “الإلياذة والأوديسة” وترجع الإلياذة إلى القرن التاسع والأوديسة إلى أواخر التاسع والنصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد.
والقصائد الهوميرية تعتبر من أهم المؤثرات التى وجهت الفكر اليونانى قبل ظهور الفلسفة بل وأثرت فى الفلسفة نفسها[3].
إن المشكلة التى فُرضت على العالم اليونانى هى: أى قيمة تربوية ودينية للأعمال الدرامية لهوميروس وغيره من الأدباء والشعراء؟ وهذه المشكلة قادت إلى استخدام المنهج الرمزى للتفسير. وهذا المنهج هو وليد الاعتقاد أو الإيمان بالإلهام الإلهى للشعراء، وبحكمة سرية، هذه الحكمة تختفى وراء النص اللغوى. وهكذا فرضت مشكلة فهم النص نفسها على اللاحقين. إذ نجد أيضًا لدى الكتاب اليهود والمسيحيين نفس الاعتقاد بالمعنى الإلهى المخفى وراء النصوص، كما كانت الأسكندرية مركزًا لدراسة النصوص القديمة.
لكن ما هى تلك العوامل التى دفعت العالم اليونانى إلى البحث عن المفاهيم السرية داخل النصوص؟
السبب الأول: أنه عند الأقدمين كانت الكلمة اللغوية تملك سحرًا ما والذى فقدته اليوم.
السبب الثانى: هو الاعتقاد العام عند الأقدمين بأن الإرادة الإلهية تستخدم اللغة والنصوص لتعلن عن نفسها.
السبب الثالث: هم الشعراء والأدباء أنفسهم، إذ بنصوصهم الغامضة قد خلقوا للاحقين مشاكل فكرية كثيرة عن التعاليم الأخلاقية الموجودة فى نصوصهم.
وهكذا قد فُرضت على اللاحقين مسألة القيمة الدينية والتربوية لهذه النصوص والمشكلة هى: هل هذه النصوص الملهمة سوف تهمل أو ستفسر بطريقة مناسبة؟ ومن هنا اُستخدم المنهج الرمزى الذى يتبنى الاعتقاد بأن الكلمات هى ستار أو حجاب يغطى الحقيقة المخفية. إن الأقدمين بسبب عدم معرفتهم لقوانين ومعايير الشرح الرمزى للنصوص، يقرأ كل واحد منهم فى النص ما يريد، وبالتالى جاءت العشوائية. وقد قسّم الرواقيون المنهج الرمزى إلى نظامين: نظام “الرمزية الطبيعية” الذى يهتم أو ينشغل بالآلهة والعالم، ونظام “الرمزية الأخلاقية” الذى يخص واجبات الإنسان، ولقد اتبع فيلون اليهودى هذا التقسيم.
أما بالنسبة للفرق بين تطبيق تفسير الكلام الرمزى فى العالم اليونانى وبين تطبيقه فى اليهودية والمسيحية، فإننا نرى أن العالم اليونانى ـ كما ذكرنا سابقًا ـ ليس لديه إطلاقا قوانين لتطبيق تفسير الكلام الرمزى، بل كان لكل كاتب الحرية فى أن يجد فى النص أى أمر حتى لو كان نتيجة إسقاط شخصى يريد أن يعبر عنه من خلال تفسيره. إذن لدينا هنا عشوائية تامة فى تطبيق المنهج التفسيري، الأمر الذى لا يسري لا على المفسرين اليهود، مثل فيلون ولا على مجموعة قمران وبالأحرى ولا على المفسرين المسيحيين إذ توجد حدود يتحركون داخلها، ونقصد بها الملمح التاريخي للإعلان الإلهي فى العهد القديم والجديد، أى مسيرة شعب الله وخلفها تاريخ التدبير الإلهى لخلاص العالم.
اختلاف آخر بين العالم اليونانى القديم والعالم اليهودى المسيحى هو أنه بالنسبة للعالم اليونانى القديم، النصوص لها أهمية ثانوية لأنها فقط تؤكد على الحقيقة التى يريد أن يعلنها النص، بينما لليهودية والمسيحية فإن نص الكتاب المقدس يعلن الحقيقة ولا يكتفى بمجرد تأكيدها. فلدى اليونانى الحقيقة فى حياته تأتى من اتجاهات كثيرة ولها مصادر كثيرة وتؤكدها مصداقية الشاعر، بينما لدى اليهودي أو المسيحي فإن كل حياته وفكره موّجه من تفسير النص المقدس.
تفسير الكتاب المقدس عند الآباء
2ـ التفسير فى البيئة اليهودية:
لقد كان الناموسيون (الرابيون) والكتبة ـ فى زمن المسيح والرسل هم المفسرون للكتب المقدسة. أما التفسير الرابونى للكتب المقدسة، أى فيما يخص الناموس وتطبيقاته أو ممارساته اليومية كتطهيرات وتقدمات وعلاقات اجتماعية…الخ، فكان مصدره “تقليد الكهنة” وهو ما نسميه بلغة اليوم تقليد شعبى والذى يختلف عن تعليم الناموس الذى يرجع إلى عزرا الكاهن.
فمثلاً عندما يفسر الرابى النص المقدس، وهو يواجه احتياجات يومية أو مسائل يومية مطروحة أمامه، يستخدم مادة تفسيره من الجيل السابق له ويصبغ عليها سلطة تقترب من سلطة النص نفسه. لذا مرات كثيرة نجد أن النص والمادة التفسيرية لهما مصداقية متساوية، وقيمة جوهرية واحدة إذ أن التقليد يُملى على النص مفهومًا معينًا وليس العكس. ونجد فى التقليد اليهودى سبع قوانين منسوبة إلى العالِم اليهودى “هليل”، وقد نظمها من الأصغر إلى الأكبر وأصبحت هذه القوانين كمقياس للتفسير بطريقة التماثل فى التطبيق. فالنصوص تفسر بعضها بعض، والعام يفسر الجزء، والجزء يمكن أن يقود إلى العام. نعطى مثالاً من تطبيقات هليل:
عندما تقع البصخة فى يوم سبت، كيف تقدم ذبيحة الفصح والتى تستلزم أعمال مختلفة والناموس يوصينا براحة كاملة يوم السبت (خروج20: 8)؟ والآن نرى كيف فسر هليل هذا الأمر عن طريق تطبيق مبدأ من الأصغر إلى الأكبر. لقد أقر هليل بأن راحة السبت هى وصية مقدسة يجب أن تُحفظ، وأيضًا فى نفس الوقت فإن التقدمة التى أمر بها الله لأجل البصخة هى أمر مقدس، يجب أن تُحفظ.
ولكى يحل هليل هذه المعضلة لجأ إلى وسيط وهى تقدمة باكر وعشية التى تقدم فى الهيكل يوم السبت. لقد قال إنه من غير الممكن أن تبطل تقدمه باكر وعشية يوم السبت بحجة احترام راحة يوم السبت، فكم بالأحرى يسرى هذا الأمر على تقدمه حمل الفصح: وهنا يبدو واضحًا كيف أنه طبق مبدأ من الأصغر إلى الأعظم أو من الصغائر إلى الكبائر (Babul. TalmoÚd, Pesahim ssa).
لقد عرف السيد المسيح هذه القوانين أو المبادئ التفسيرية التى كانت فى عصره بل واستخدمها وطبقها. إن تطبيق هذه القوانين على المادة الناموسية للعهد القديم يُسمى Halacha، بينما تطبقيها على الحديث الروائى يُسمى Haggada.
أيضًا من ضمن المبادئ التفسيرية للرابى هو النظر إلى السياق العام لكى يفسر النص فمثلاً نجد فى سفر العدد 25: 1 ” وأقام إسرائيل فى شطيم وابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب “، لم يذكر الكتاب من الذى جعل إسرائيل يزنى. لكن لدى المفسر الرابونى، عندما نظر إلى السياق العام من إصحاح 22 إلى24 الذى يروى قصة بلعام، أقر بأن بلعام هو المسئول عن خطية الزنى[4].
إن السبب الذى دفع المفسر الرابى إلى تحليل الناموس وتطبيقه فى تفاصيل الحياة اليومية هو الحفاظ على الهوية اليهودية من ديانة الأمم، فالحفاظ على هذه الهوية ـ فى نظره ـ يتطلب أول كل شئ الحفاظ على الناموس، والناموس كان بمثابة حائط حماية لهذا الشعب الصغير الذى عانى ضغوط رهيبة من الأمم المجاورة. وفى هذا الإطار نفهم الأهمية العظمى لتقليد الكهنة كمبدأ فى المنهج التفسيرى للربوانيين.
ومن هنا كانت القناعة بأن الشعب سوف يتحرر من العبودية ويصير قوة عظيمة وسينعم أبناءه بالمجد والسعادة، وذلك إذا حفظ بكل دقة ناموس الله. لذا فإن كُتَّاب العهد القديم ـ لدى الرابونيون ـ لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم حاولوا إقناع الشعب بحفظ الناموس. والأنبياء عندما كانوا يتطلعون لبعض الآمال فى المستقبل كان تحقيقها مرتبط أيضًا بحفظ الناموس.
أما عن “الإسينيين” ‘Esa…oi (مجموعة وادى قمران) فهم لم يكتفوا بالتقليد التفسيرى الشفهى، بل كتبوا أيضًا مذكرات تفسيرية. بالتأكيد كانوا (الأسينيون) يعرفون تفسير الناموسيين والفريسيين الذين حاولوا أن يكيفوا الناموس مع متطلبات الحياة اليومية للإنسان اليهودى، إلا أنهم لم يفعلوا مثل هذه التنازلات بل حفظوا بصرامة تقليد الكهنوت الصدوقى (نسبة إلى فئة الصدوقيين) فى شرحهم للناموس.
إن صرامتهم لم تكن وسيلة للضغط على الشعب أو من باب النفاق ولكن من قناعتهم بأنهم يعيشون فى الأزمنة الأخيرة، وأنه بعد قليل كل شئ سوف يتحقق لينطلق العالم مرة أخرى من البداية. ويجب أن لا ننسى أن نصوص البحر الميت التى لمجموعة وادى قمران تحتوى على قوانين ونصوص ليتورجية وأسخاتولوجية وتفاسير للأنبياء الأولون واللاحقون وللمزامير، لكن لا تحوى تفسيرات وشروحات للناموس. وهكذا ارتبطت الصرامة بالنظام الذى وضعوه لحياتهم وكم القوانين المنظمة لمعيشتهم. إن الملمح الأساسى لتفسير الكتب عند مجموعة وادى قمران هو التطلع التاريخى الإسخاتولوجى.
بمعنى أن كل شئ فى الكتاب المقدس (العهد القديم) يتحدث عن ما سوف يحدث لهم فى الأيام الأخيرة، أى عن المشقات والصعاب التى لابد أن تواجهها مجموعة الأبرار أى “الأسينيين” وأيضًا عن كل ما يخص معيشة هذه الجماعة والانتصار النهائى لهم. أن النصوص المقدسة فُسرت تمامًا بعشوائية بنظام المردود التاريخى الإسخاتولوجى، والذى يعبر عنه بكلمة “Péser”. هكذا لدينا إذن، فى مجموعة وادى قمران، نوع من التفسير يربط كل شئ داخل العهد القديم سواء من الكتب التاريخية أو النبوية بالعصر الذى يعيشه الذي يقوم بـ تفسير الكلام، أى يطبق كل حوادث العهد القديم على العصر الذى يعيش فيه.
وهذا المنهج يعبّر عنه بكلمة “Péser” وإليكم بعض الأمثلة: حين يُفسر سفر العدد21: 18 ” بئر حفرها رؤساء حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم ومن البرية إلى متانة ” يقول: ” .. وعُيّن من هارون رجالاً ومن حكماء إسرائيل وجعلهم يسمعون ثم حفروا بئر، البئر الذى حفروه الرؤساء،.. البئر هو الناموس والذين حفروا هم أولئك التائبين من إسرائيل، الذين أتوا من يهوذا وظلوا فى دمشق “. فهنا نرى بـ تفسير الكلام التاريخي الاسخاتولوجي تطبيق حوادث الكتاب المقدس على حوادث تاريخية معينة حدثت فى العصر الذى يعيشه الشخص الذي يقوم بـ تفسير الكلام [5].
أيضًا مثال آخر من حبقوق (1: 5) ” انظروا بين الأمم وأبصروا وتجبروا جبرة لأنى عامل عملاً فى أيامكم لا تصدقون به إن أخبر به “. المفسر يقول ـ مطبقًا مبدأ Péser ” الأمر يخص أولئك الذين خانوا مع رجل الكذب.. إذ لم يؤمنوا بكلام معلم البر، والذى استلمه من فم الرب.. الكلام عن غير المؤمنين بالعهد الجديد، بعهد الله، الذين دنسوا اسمه القدوس.. هؤلاء هم الأحياء الذين سوف لا يؤمنون، عندما يسمعون ما الذى سوف يحدث فى الجيل الأخير بواسطة كلمات فم كاهن الله، الذى سكن فى بيت يهوذا لكى يشرح كل كلمات عبيده الأنبياء “.
إن كلمة Péser والتى تعنى التفسير التاريخى الإسخاتولوجى ـ وذلك بتطبيق نبوات وحوادث الكتاب المقدس على الواقع المعاصر ـ أصبحت مبدأً أساسيًا للتفسير لدى مجموعة وادى قمران. ولذا لدى هذه مجموعة، النبوة ليست شيئًا سوف يتحقق فى المستقبل الإسخاتولوجى فى وقت ما، بل المنتظر، قد أتى فعلاً وأنه يتحقق فى التاريخ داخل جماعتهم أى داخل حاضرهم. هذا المستقبل، الذى هو حاضر لديهم، ينبغى أن يمثل هدف كل تاريخ التدبير الإلهى الذى يخبرنا عنه الناموس والأنبياء فى العهد القديم.
لذلك فإن العهد القديم، بحسب مجموعة وادى قمران، ليس كتابًا تاريخيًا يخبرنا ببساطة عن حياة وإيمان وتطلعات شعب، بل أهميته تكمن فى إشارته التاريخية الإسخاتولوجية، أى فى النهاية التى يتحرك إليها. وهكذا فإن العهد القديم يهدف إلى الوطن الإسخاتولوجى أى الأخروى، إلى ملكوت الله وبواسطتهم (أى بواسطة مجموعة وادى قمران) قد بدأ فعلاً هذا الملكوت.
فى هذا الإطار نفهم تبنى الكنيسة لهذا المنهج التفسيري لمجموعة وادي قمران: فالكنيسة قَبِلت المبدأ الأول وهو أن الكتاب المقدس يهدف إلى الإنباء عن ملكوت الله ولكن لم تقبل المبدأ الثانى أى أنه بمجموعة وادي قمران تحقق ملكوت الله، إذ نادت بأن كل هذا قد صار بمجئ يسوع المسيح مؤسس الكنيسة. وهكذا فإن مجموعة وادى قمران قد أعطت الكنيسة مفتاح تفسيرى عن العهد القديم استخدمته فى التشديد على فرادة مسيح الكنيسة المخلص.
أيضًا علينا أن نأخذ فكرة عن منهج تفسير النبوة فى الأدب الرؤيوى أو فى النصوص الرؤيوية، وعندما نتحدث عن النصوص الرؤيوية نقصد سلسلة النصوص المنحولة أى المزيفة والتى ترجع كتابتها من القرن الثانى قبل الميلاد إلى القرن الثانى بعد الميلاد تقريبًا، أى فى العصر الذى أحاط بولادة المسيحية أو صار إطار لها. ففى هذا العصر أُعيد تفسير النبوات القديمة من جديد فى كتب منحولة لـ “نوح” و”عهد الاثنى عشر بطريركًا”، و”صعود موسى”، و”رؤيا باروخ، وعزرا”،.. الخ.
لكن ما هى ضرورة تفسير النبوة القديمة فى الأدب الرؤيوى؟
الإجابة التاريخية المحتملة هى أن الثورة المكابية لعبت دورًا هامًا فى ذلك. إذ ظهرت آنذاك محاولة تفسير النبوات على أساس اللاهوت الشعبى والذى كان يعبر عن التطلعات الجديدة للشعب وتلك التطلعات التى بدأت بالثورة المكابية ضد المحتلين الوثنين. لقد حاول الرؤيويون أن يعطوا إجابة للدعوة الصارخة: “حتى متى يارب، حتى متى؟” فجددوا زمن التحقق. فالنبوة غير المحققة صارت دافعًا ومبررًا لكتابات كثيرة للرؤيويين. الرؤيويون أنفسهم كانوا يؤمنون بأنهم يحيون فى زمن تحقيقها. إنه لأمر حاسم جدًا هذه الطريقة التى فسر بها دانيال (9: 2،..) السبعين سنة لسفر أرميا (25: 11)، هنا دانيال يفسر النبوة لأجل عصره.
هذه الظاهرة لإعادة تفسير الرؤى القديمة امتدت لنجدها لدى الكتاب المسيحيين. وبناءً على ذلك فإن سفر الرؤيا يُفهم فهمًا جيدًا، لو وضعنا فى بالنا، منهج الرؤيويين فى تفسير النبوات القديمة.
أن الأدب الرؤيوي، مثل أدب مجموعة قمران، يحاول أن يجد المفهوم الحقيقى للنبوة القديمة داخل إطار النهاية، يضاف إلى ذلك أن المنهج الرؤيوى قد استخدم فى الكتابات المنحولة تقاليد غير كتابية. فالنصوص الرؤيوية مملوءة من العناصر الأسطورية والتى لها أصل بابلى أو فارسى، ثم أخذها المفسرين منهم وأخضعوها إلى مبدأهم أو إلى أساسهم التفسيرى المرتبط بيهوه فى علاقته بالعالم وبشعبه كما نعرف من العهد القديم.
أيضًا ملمح آخر واضح فى الأدب الرؤيوى هو الميل الشديد نحو “علم الأرقام” “¢riqmolog…a”، هذا الاتجاه نجده فى كتاب “نوح” و”عهد الأثنى عشر بطريركًا”. حيث نجد مفاهيم لاهوتية يُعبّر عنها بواسطة الأرقام. وعلم الأرقام الرؤيوى يأخذ مفهومة من لاهوت العهد القديم. والكاتب بواسطة الأرقام يريد أن يُظهر أن الله يراقب ويتحكم فى التاريخ، فى كل تفاصيله التاريخية والزمنية.
إن كل الأمور التى سوف تأتى هى مخططة من قبل، وهذا ما تشدد عليه نظريتهم عن “الألواح السماوية”، حيث الكل مكتوب مسبقًا. ونحن ينبغى علينا أن نضع كل هذا فى بالنا، لكى نفهم علم أرقام العهد الجديد، خاصة فى “سفر الرؤيا” ليوحنا الحبيب.
3 ـ فيلون اليهودى كمفسر للعهد القديم (+ 50م)
إن النص اليونانى القديم، عند اليونانى، يؤكد فقط على الحقيقة، أما عند اليهودى فإن النص المقدس للعهد القديم لا يؤكد فقط على الحقيقة ولكن هو نفسه مصدرًا لها فهو يكشف ويعلن الحقيقة. لقد تأثر فيلون اليهودى فى منهجه التفسيرى بأفلاطون والرواقيين، وتبنى الطريقة الرمزية الفلسفية للتفسير، ولكنه لا يرفض فى نفس الوقت تفسير الكلام الحرفى. ولذا نجده يعبر دائمًا عن وقارة وتقديره لموسى كإنسان وكشخصية تاريخية، وللكتاب المقدس ككتاب له إطار تاريخى[6]. بل ولقد استنكر هؤلاء الذين من وطنه، بسبب احتقارهم لحرفية الكتاب[7]، لذا قَبِل فيلون السبت بحسب الحرف، ومقطع (تث4:25) ” لا تكم ثورًا دارسًا” قد قبلها فى حالة ما بحسب الحرف[8].
إن الكتاب المقدس، بحسب فيلون، يحكى تاريخ فيه الله هو محركه، وهكذا بينما الله هو فوق هذا العالم والتاريخ هو فى نفس الوقت قريب من الأحداث ويحركها. وبسبب أن التعبيرات البشرية التى استخدمها الكتاب المقدس فى التعبير عن الإيمان كانت غير مقبولة لدى الفكر اليونانى. لهذا وضع فيلون كل قوته لإعطاء مفهومًا رمزيًا آخر لهذه التعبيرات، وبغض النظر إن كانت هذه الرمزية سوف تسبب فى فقدان جوهر هذه التعبيرات أم لا.
ويوجد فى العهد القديم ـ بحسب فيلون ـ تعبيرات بشرية يصعب أن تفسر بحسب الحرف، مثلاً نص (تك2:2) ” وفرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل” وحاول أن يعطى إجابة فى (De Leg. Alleg. II,19) ونص (2: 8) “وغرس الرب الإله جنة…” فى (De plant. 32)، وبالنسبة للتعبيرات التى تصف شخصية الله انشغل بها فى (De post. Caini l,7). لقد تأثر أيضًا فيلون بالرواقيين فى التعليم عن الأخلاق، فحوّل حوادث وشخصيات كثيرة فى الكتاب إلى رموز أخلاقية، وكان أيضًا على دراية بالشفائيين (De vita Contemplative) فى مصر والإسينيين فى فلسطين (Quodomm. Prob.82).
إنه غير معروف على وجه الدقة مدى تأثر كُتَّاب العهد الجديد أمثال بولس الرسول ويوحنا الإنجيلى، بفيلون، لكن بدون شك قد أثر فيلون تأثيرًا عظيمًا على طريقة الأباء التفسيرية خاصة آباء مدرسة الإسكندرية.
(يتبع..)
[1] هذه سلسلة من المحاضرات أُعطيت فى كورس الدراسات الآبائية الذى ينظمه المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية منذ عام 2002م فى مادة الآباء والكتاب المقدس.
[2] انظر البروفيسور سافا أغوريدس، تفسير النصوص المقدسة، أثينا 1984، باللغة اليونانية، وهو من المراجع الأساسية لهذا البحث؛ وأيضًا يوأنس باناغوبلوس، تفسير الكتاب المقدس فى الكنيسة، أثينا 1991 (باللغة اليونانية).
[3] انظر د. رشدى حنا عبد السيد، الفلسفة اليونانية القديمة ـ مقدمات عامة ص5.
[4] Midrash Sifre Numeri 6,131.
[5] سافا أغوريدس، المرجع السابق، ص78 وما بعده.
[6] انظر حياة موسى I,I. II,II
[7] De Migratione Abt.89.
[8] De Virt.146.