الأنبا شنودة رئيس المتوحدين – حياته وتعاليمه
الأنبا شنودة رئيس المتوحدين – حياته وتعاليمه (2)[1]
للبروفيسور ستيفين إميل
أستاذ القبطيات ـ جامعة مونستير بألمانيا
كان للأنبا شنودة وعيًا أدبيًا ملحوظًا، وأعنى أنه كان يدرك نفسه كمؤلف، فمضى يؤلف ويكتب حتى أنتج ما كان ولا يزال مجموعة ضخمة من الأدب القبطي، التي لم يوجد مثلها من قبل (سوى الترجمة القبطية للكتاب المقدس).
أنا مقتنع أن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين نفسه هو الذي نظم رسائله، وأيضًا بعض عظاته في 9 مجلدات والتي نعرفها الآن باسم قوانينه، ووضع لها مقدمات مختصرة، أو خاتمة لكل منها، ثم رتب إعادة نساختها ووزعها على الأديرة الثلاثة للقراءة المنتظمة تحت إشرافه…… محتويات المجلدات التسع للقوانين يبدو أنها رُتبت ترتيبًا زمنيًا.
المجلدان (1) و(2) هما مصدر معلوماتنا عن السنوات التي سبقت والتي تلت صيرورته أبًا للدير مباشرة. ومن مجلد(8) نعرف أنه عانى لمدة طويلة من مرض عضال منعه من مغادرة صومعته على الأقل لمدة سنة. مجلد (7) يخبرنا عن بناء كنيسة جديدة للدير الرئيسي وهى المبنى الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم والذي يُسمى الدير الأبيض.
ويخبرنا مجلد (7) أيضًا عن ما حدث بعد عدة سنوات عن لجوء حوالي 20 ألف لاجئ إلى الدير باحثين عن مكان ليحيوا فيه لمدة 3 شهور هربًا من الجنود الذين كانوا يغزون مدنهم وقراهم في مصر الوسطى شمال منطقة الدير. توجد إشارة بسيطة فقط عن هذا الحادث في كتاب “حياة شنودة”. ومنه نعرف شيئًا عن صدامه مع مالك أراضى وثنى في أخميم.
وكل أنشطة أنبا شنودة الأخرى، يمكن تجميعها الآن بالتفصيل على أساس عديد من كتابات شنودة المحفوظة خارج “القوانين”. ولا يزال هناك الكثير الذي سنعرفه عن حياة الأنبا شنودة عن طريق كتاباته فى السنوات المقبلة.
ومن كل ما قد عرفته، فأنا مقتنع أن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين كان عبقرية كاريزمية، له سلطان شخصي عظيم وقوة كبيرة. ومن الواضح أنه كان يرى ما بداخل قلوب الناس وعقولهم، مما جعله في نظر معاصريه أنه نبي. كان الكتاب المقدس مألوفًا لديه، وكان يتأثر بالكتاب تأثرًا عميقًا (سواء بالقبطي أم باليوناني)، وغالبًا كان يشعر أنه مدعو من الله ليكون نذيرًا للناس ونبيًا مثل إشعياء أو إرميا، لكي يكشف لشعبه طريق الخلاص الضيق.
ولذلك فهو ليس فقط كان يقتبس من الكتاب في رسائله وعظاته، بل كان أحيانًا يكتب بنفس أسلوب الكتاب، كما لو كان يستعمل صوته ليعبّر الآن وهنا (أى أواخر أيام مصر القديمة)، عن نفس الرسالة التي حملها صوت الأنبياء إلى إسرائيل القديم فى عصر العهد القديم.
تعاليمالأنبا شنودة رئيس المتوحدين:
لم ينضج الوقت للحديث بيقين كبير عن فكر الأنبا شنودة رئيس المتوحدينوتعليمه، لأن كثير مما كتبه لا يزال لم يُنشر ولم يُترجم ولم يُدرس. ولكن أعتقد أنه يمكننا بكل اطمئنان أن نقول ما هو قلب الرسالة التي حملها لأنه كان يكررها مرة بعد أخرى: ” توبوا عن خطاياكم الآن قبل أن تموتوا، لأنه لا تكون رحمة للخطاة الذين يموتون بدون توبة“.
كان أنبا شنودة يؤمن طبعًا بالأبدية، ولابد أنه كان له تصور حي عن ماذا تعنى الأبدية: فإما سعادة أبدية، أو شقاء أبدى، والشقاء الأبدي يمكن تصوره كتكبير للأمور التي تختبر في هذا العالم الآن. كما أن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين كان عميقًا جدًا في نظرته لرحمة الله، فكان يعرف أن رحمة الله لا حدود لها حتى لأشر الخطاة إن كان يتوب حقًا أثناء حياته على الأرض، ولكن الويل والويل إلى الأبد لمن لا يتوب.
ورغم كونه قائدًا بارزًا ليس في الأديرة التابعة له فقط بل أيضًا في المناطق المحيطة ـ حيث كان مشهورًا أثناء حياته كرجل قديس وبطل مدافع عن الفقراء ضد ظلم الأغنياء ومًلاك الأراضي الوثنيين ـ إلاّ أنه قبل كل شئ هو راهب يدرك أنه في النهاية، هناك “قطعة صغيرة من الأرض”، وهو وحده مسئول عنها وهو يعنى بها جسده، بفضائله ورذائله، وحاجاته ورغباته، وقدرته على أن يضبطها أو أن يدعها تتحكم فيه.
الحياة الرهبانية:
في رأى الأنبا شنودة رئيس المتوحدين إن الحياة الرهبانية ليست ضمانًا للنجاح في تحقيق الخلاص الأبدي. وبعكس رأى كان سائدًا في الأديرة الباخومية الأولى وغيرها، أن الأديرة هى قطع من الفردوس على الأرض، والرهبان كالملائكة يحيون مؤقتًا بين الأموات، فإن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أدرك أنه لا يوجد رجل أو امرأة على الأرض محصن تمامًا من خداعات الشيطان، وحتى البسطاء جدًا يمكن أن يخدعهم ويقودهم إلى الخطية.
توجد فقرة جذابة في كتابات أنبا شنودة الأولى، يذكر فيها أن أب الدير حاول أن يؤكد له أن انزعاجه من وجود الخطية وانتشارها في مجتمع الرهبان لا ضرورة له، لأن الأب أحاط الدير بجدار عالي وسميك ليمنع الشيطان من الدخول. فأجابه الأنبا شنودة “هل أنا قلت إن الخطية تأتى من الخارج؟”.
ففي رأيه أن إبليس والشياطين هم في كل مكان، وهم دائمًا مستعدون ومسلحون بأسلحة كثيرة ليجربوا الناس لكي يخطئوا. ومع هذا فهو يعتقد أن الشيطان تحت سلطان الله، ويستطيع الله أن يحطمه إن أراد. ويرى أن البشر لهم إرادة حرة، ودور الشيطان هو أن يعطى الفرصة للناس كي يمارسوا إرادتهم الحرة وأن يختاروا فعل الصلاح، أو على الأقل أن لا يخطئوا.
والدير يهيئ البيئة التي تكون فيها التجارب محدودة، بالمقارنة بكثرتها في “العالم” خارج الدير، والحياة المنظمة بدقة في الدير تجعل الأمر سهلاً نسبيًا للراهب أن يعرف أو تعرف (الراهبة) ما هو المتوقع منه أو منها أن يفعله بمقاومة وتحاشى التجربة والخطية. وهكذا فإن الدير يعمل بمثابة نظام مرتب بدقة ليسند الجميع، فكل واحد فيه يساعد كل واحد آخر والجميع، ليرعى ويحفظ “قطعة الأرض الصغيرة الخاصة به”، استعدادًا لدينونة الله التي تأتى بعد الموت.
الموت، هو لحظة حاسمة لكل إنسان. فلا مفر منه ولا يمكن تحاشيه، بل هو ضروري….
لم يبحث الأنبا شنودة موضوع الموت بطريقة نظامية فهو في الواقع ليس لاهوتيًا بالمعنى المهني للكلمة وبالأحرى ليس لاهوتيًا نظاميًا. ولذلك فالبحث في تعليمه عن الموت نأمل أن نعرف عنه أكثر كلما صارت كتابات الأنبا شنودة في متناول أيدينا للدراسة.
من جهة موضوع مثل الموت والحياة بعد الموت ـ وهى أمور لا يدّعى أحد أنه يعرف عنها كثيرًا ـ والأنبا شنودة نفسه لم يدعِّ لنفسه أى معرفة خاصة عنها ـ بل معرفته عنها هى من الكتاب المقدس ـ ولذلك لا نستغرب أن تكون أفكاره بخصوصها غير واضحة وأحيانًا تبدو متناقضة. وأكثر شئ مثير في رأيي هو أنه كان يميز بين الدينونة التي تواجهها النفس بعد الموت مباشرة وبين الدينونة الأخيرة الآتية في نهاية الزمان.
معظم اهتمام الأنبا شنودة بهذا الموضوع كان عمليًا تمامًا، كما نرى نموذجًا له في عظاته عن “النار والكبريت “، مثلما كان كثير من عظاته في أجزاء منها على الأقل: فهو يصف المخاوف المرعبة وعذابات الجحيم وبذلك كان يحث سامعيه بطريقة مؤثرة أن يسلكوا في حياتهم بحيث يتحاشوا هذا المصير التعس مهما كان الثمن. ولكي يكون التأثير أكثر، فإن الرعب الذي يشعر به السامعون يجب أن يكون واضحًا وقويًا.
ولذلك فمن الأفضل إظهار الدينونة في الجحيم على أنها تحدث للنفس الخاطئة مباشرة بعد الموت بدون تأخير. وحسب وصف الأنبا شنودة، فحينما تنطلق النفس من الجسد، يلاقيها الملائكة ويقودنها إلى كرسي دينونة الرب، ومن هناك إما أن يقودها إلى السماء، أو في الحالة الأخرى يسلّمون النفس إلى الشياطين الذين يلقونها بلا رحمة في الجحيم.
ويرى الأنبا شنودة أن الحكم بالجحيم هو أبدى للخطاة، إلى أبد الآبدين. وحينما يؤكد هذا الأمر في عظاته، فبهدف أن يكون الحديث مؤثرًا جدًا لحث الناس على أن لا يخطئوا.
وكان الأنبا شنودة يؤمن أنه لا يوجد شئ في هذا العالم يعتبر ضمانًا للخلاص الأبدي. إذ يقول: “هناك أناس يُمدحون على الأرض لأجل قداستهم، ولكنهم في السماء يُزدرى بهم، وهناك أناس يُزدرى بهم على الأرض ولكنهم يُمدحون في السماء“.
توجد فقرة واحدة فى كتابات الأنبا شنودة تعطى إشارة واضحة إنه كان يتصور أن دخول الأبرار إلى السماء يتم على مرحلتين. ففي عظته بعد رجوعه من مجمع أفسس سنة 431م، يقول: “يوجد بابان ضيقان واحد خارج الآخر، الباب الأول يقود إلى الباب الثاني، أولئك الذين جاهدوا للعبور من الباب الأول يتركون آلامهم وأتعابهم خارجًا ويدخلون بسهولة إلى الباب الثاني، متحررين تمامًا من كل معاناة وهمّ”.
ومن سياق حديثه، يتضح أن الأنبا شنودة رئيس المتوحدين يتكلم هنا عن مصير النفوس البارة بعد الموت، وأن الباب الثاني هو الدخول إلى ملكوت السموات. ولكن للأسف هو لا يتكلم كثيرًا هنا ليتضح تمامًا ما معنى البابين…
ولكنى آمل أنه فيما بعد سيكون ممكنًا لنا أن نفهم أفكار الأنبا شنودة بوضوح أكثر. وطبعًا إن فهمنا لأفكاره في الموضوع يجب أن يأخذ في اعتباره الفقرات التي يتحدث فيها عن “جسد القيامة”، حسب ما تكلم الرسول بولس فى كورنثوس الأولى عن قيامة أجساد الذين رقدوا قبل مجيء المسيح الثاني، كما يجب أن تُعتبر أيضًا الفقرات التي يناقش فيها موضوع مصير نفوس الأبرار رجالاً ونساءً الذين ماتوا قبل مجيء المسيح الأول.
كما أن هناك مسألة: ” هل هناك اختلاف بين “الجحيم amnte، وجهنم في لغة الأنبا شنودة؟”. حيث إنه في الكتاب المقدس فإن هذين التعبيرين يعبران عن وجود عملية “من مرحلتين” للهلاك الأبدي.
وفى بحثي عن أفكار الأنبا شنودة رئيس المتوحدينالذي أقدمه الليلة، قصدت أن أحذف بعض الموضوعات التي يمكن توقع أنها ترد في الحديث، مثل موضوع “طبيعة المسيح”. توجد كتابات للأنبا شنودة في هذا الموضوع وكذلك بعض الموضوعات اللاهوتية التقليدية، ولكن في رأيي أن هذه الموضوعات ليست هى النواحي الأكثر أهمية في فكره وتعليمه. وعلى قدر ما نعلم حتى الآن فهو لم يساهم كثيرًا أو ربما بالمرة في المجادلات اللاهوتية التي جرت في القرنين الرابع والخامس، رغم أنه كان يعرف عنها.
يوجد له كتاب واحد ـ حسب فهمي لكلماته ـ يشير فيه إلى الاضطرابات التي حدثت في الأسكندرية بعد مجمع خليقدونية، حينما فُرِضَ شخص اسمه بروتوريوس بالقوة كرئيس أساقفة سنة 451م بعد نفى البطريرك ديوسقوروس.
وفى الإجابة على سؤال وجّهه له والى في صعيد مصر، هل الأنبا شنودة هو مع أم ضد الدولة وسياستها في الأمور الدينية ـ فإن الأنبا شنودة لا يتكلم في الأمور اللاهوتية أو السياسية. بل هو يقترح فقط أن الوالي يجب أن يحكم على شنودة بما يستحقه شخصيًا، فيقول: ” إن كنت صالحًا أمكث وتحدث معي. إن كنت رديئًا، فتحاشانى”. “القطعة الصغيرة من الأرض” (أى حياته وجسده) الخاصة بالأنبا شنودة هى في النهاية ذات دلالة في الحكم عليه سواء كان الذي يحكم عليه هو الله أم مجرد إنسان.
الفترة الأخيرة من حيات الأنبا شنودة رئيس المتوحدين:
في وقت مجمع خلقيدونية كان الأنبا شنودة رئيس المتوحدين قد بلغ أكثر من 100 سنة من العمر. وبعد سنوات قليلة، اختار أن يترك مغارته في الصحراء ويرجع إلى الدير ليعيش بين إخوته، الذين بنوا له مسكنًا صغيرًا داخل أسوار الدير، حيث يستطيع أن يعيش متوحدًا، ولكن ليس بعيدًا عن زملائه الرهبان.
وأعتقد أن “روحانية الأنبا شنودة” عمومًا، هى التي ستكون موضوع الاهتمام الكبير في الأبحاث، والتحليلات، وفى تقييم أفكاره .
وكتاباته الضخمة ـ حوالي 20 مجلد مخطوطات من الرقوق السميكة ـ والتي لا يزال كثير منها موجودًا ـ رغم أن ما لدينا كله ربما لا يزيد عن نصف ما كتبه ـ ولكن ما تبقى يستحق أن يصير معروفًا أكثر وأكثر مما عرف حتى الآن.
والبعض منا نحن الدارسون يعتقدون أنه يستحق أن يُحسب من المؤلفين الآبائيين العظام الذين كتبوا باليونانية واللاتينية مثل أثناسيوس وكيرلس وذهبي الفم وأغسطينوس.
وعلى أى الأحوال، أستطيع أن أؤكد لكم أن الأنبا شنودة في طريقه لأن يصير موضوعًا للبحث العلمي أكثر فأكثر، وكذلك موضوعًا للنشر لكتاباته والدراسات عنه في السنوات القادمة. وهذا يعنى أننا جميعًا ستكون لنا الفرصة أن نعرفه بطريقة أفضل مما كان ممكنًا منذ قرون كثيرة ـ عندما بدأت مخطوطاته تعانى من الإهمال، وعندما بدأت اللغة القبطية ـ التي كان الأنبا شنودة معلمًا كبيرًا لها ـ تنزلق إلى النسيان.
+ + + + + + + +
بعض أقوال الأنبا شنودة رئيس المتوحدين
عن النعمة :
- + ” النعمة تمثل قناة إتصال بين الخالق والمخلوق، وتمنح المؤمنين إمكانية أن يكتسبوا قوة مجددة لنفوسهم”[2].
- + ” كل من هو أمين في حفظ وصايا الله يُظهر نقاوة تتفق مع فعل النعمة الإلهية في النفس”[3].
- + ” لنصنع ثمار تليق بالنعمة التي منحنا الله إياها “[4].
- + ” أن نعمة الصلاح هي في حفظ الإنسان لجسده طاهرًا وإلا يكون غير مستحق للنعمة الإلهية”[5].
عن التوبة :
- + ” لو كان البعض يُديننا بشدة، فهذا لا يرجع إلى إننا نخطئ فقط، بل إلى إننا لم نقدم توبة بعد وإن لم نتب، سيُقال عنا في السموات إننا عشّاق الخطية”[6].
- + ” التوبة هي علامة محبة من الله تجاه البشر”.
عن النقاوة والقداسة:
- + ” إن طهارة القلب، تمثل أهمية شديدة من أجل الحياة في نقاوة وقداسة، فالخطية تنشأ في القلب، ولذلك يقول لو أن الإنسان حفظ جسده نقيًا وقلبه طاهرًا فإنه بالحقيقة سينال كل الخيرات”[7].
1 أُلقيت يوم 16 يناير 2006م بالمركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية بالقاهرة، وترجمها د. نصحى عبد الشهيد.
2 – مخطوط قبطي صعيدي، ورقة 88.
3 – المرجع السابق، ورقة 254، 255.
4 – المرجع السابق، ورقة88.
5 – المرجع السابق، ورقة73، 74.
6 – مخطوط قبطي صعيدي، المكتبة الوطنية، باريس، ورقة 146، 147.
[7] Scriptores Coptic, Sinuthi oprera 1V.