مراحل عبر الطريق – الوالد – فيليب يانسي
مراحل عبر الطريق – الوالد – فيليب يانسي
إقرأ أيضاً:
“أعتقد أن المحبة تتنازل من أعلى إلى أسفل. الآباء يحبون أطفالهم أكثر من محبة الأطفال لآبائهم،ولذا يمكن للأطفا أن يدركوا عمق هذه المحبة فقط عندما يصبحون هم أنفسهم آباء”.
الأسقف كينج
لأنني لست أباً، فإنني أشعر بالرهبة تجاه الآباء. أصدقائي، من الآباء، يدخرون المال لسنوات ليحضروا أولادهم إلى كولورادو، وينفقون آلاف الدولارات للاستمتاع بالإجازات ثم يحصلون على عائد بسيط لهذا الاستثمار. فالولد الذي بلغ العشر سنوات يود أن يلعب ألعاب الفيديو اليوم. والمراهق يجلس عابساً في المقعد الخلفي ويعبث في مسجل CD مركزاً كل انتباهه في مجلة رياضية ورافضاً حتى أن يلقي نظرة على المناظر الطبيعية الجميلة من شباك السيارة. والأطفال الصغار يتشاجرون فيما بينهم على المقاعد ويتذمرون من طول الوقت الذي قضوه في السيارة، إن الطقس بارد للغاية ولا يصلح للخروج للنزهة. لماذا ذهبنا في هذا الرحلة الغبية؟ كنت أعتقد أننا سنرى حيوانات متوحشة – أين هي؟ ألا نستطيع البقاء في المنزل ونشاهد فيلماً؟
وللدهشة، فإن ردود الأفعال هذه لا تزعج الآباء على الإطلاق. لقد تعودوا على إنفاق الدولارات ويحثون أطفالهم لكي يرتدوا ملابسهم ويتخلصوا من بواقي الطعام من أطباقهم، وينظفوا حجراتهم وكل هذا قد يُقابل بالعناد وعدم الاكتراث. وكآباء لا يتوقعون أكثر من هذا.
ومثلما نتقدم في نمونا البشري من طفل إلى بالغ إلى أب فهذا ما يحدث لنا أيضاً في الحياة الروحية وإن لم يكن بنفس الدرجة تماماً.
وكما يقول جان فانييه: إن لكل شخص “ثلاث صيحات من القلب”. الأولى: نحن نصيح طلباً للحب من الأب والأم الذين بإمكانهما أن يحميانا في ضعفنا. وكل منا يبدأ حياته كطفل عاجز وضعيف، وحتى عند البلوغ لا نستغني عن حب الوالدين. وهذا الاشتياق قد يعيدنا إلى الله، كأطفال يحتاجون إلى الآب السماوي.
والثانية: نشعر بحاجة الشاب إلى صديق، شخص يشاركنا أعمق أسرارنا ونثق فيه بلا خوف ونحبه. وهذه الحاجة قد تقودنا إلى الله الذي يتغلب على كونه غير منظور فيرتبط بنا كبشر، ويعد بأن يعيش فينا “لا أعود أسميكم عبيداً بل أحباء” هكذا قال يسوع لتلاميذه.
وأخيراً، نشعر بالحاجة لخدمة أولئك الذين هم أضعف منا. وبالنسبة للكثيرين، فإن شعور الأبوة يشبع هذه الحاجة. أما آخرون – مثل فانييه القسيس أو يسوع نفسه – يسعون لخدمة الفقراء، والمتروكين، والمرضى، والمعاقين كاستجابة لهذه الحاجة القلبية.
ومثل الوالدين، يعيش المؤمن الناضج لا لنفسه. بل يعيش من أجل الآخرين. ويضع يوحنا لنا هذا المبدأ بكل وضوح:
“بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي أن نضع نفوسنا لأجل الأخوة. وأما من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه. يا أولادي لا نحب بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق” (1يو 3: 16- 18).
وعندما قرأت العهد الجديد ووضعت علامة على ما يُقال للأولاد، والشباب، والآباء، وجدت الكثير من الفقرات موجهة إلى الآباء. ويؤكد الكتاب في كلمة الله تدريجياً وبلطف على القراء أن يتخبطوا ذواتهم. فمثلاً، بعض الفقرات تحث المؤمنين على تجنب قضايا المطالبة بحقوقهم لكي يضعوا مثلاً للآخرين لجذبهم للإيمان. ومع أن الرسول بولس نفسه لا يشعر بوخز الضمير تجاه أمور مثيرة للجدل والخلاف، فقد عدّل من سلوكه من أجل المؤمنين الضعفاء وغير الناضجين. ويقول: “فإنني إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين”.
ويدفعنا العهد الجديد وبإصرار لأن نسمو نحو دوافع أعلى نحو الصلاح. فالطفل يريد أن يعرف ماذا سيأخذ، والبالغ يدرك أن الحدود وُضعت لمصلحته، أما الآب فيضحي بحريته من أجل الآخرين. وكما قال روبرت بروننج: “هذا هو طريق المحبة دائماً، لكي ترتفع لا بد وأن تتنازل وتنحني وتخضع”.
وهاكم حقيقة مدهشة: عندما يحزم أصدقائي شنطهم ويعودون لمنازلهم فلا أحد منهم يتأسف على ما احتملوه من متاعب. ففرحة الأطفال الذين شاهدوا الثعالب في أوكارها، واستمتاع الشباب بتسلق الجبال، وعناق طفل في عمر العشر سنوات في نهاية رحلة متعبة، مثل هذه الذكريات تبدد كل ضيق. إنهم يتقدمون نحو النضوج والثقة والاستقلال، وماذا ينتظر الآباء من مكافأة أكثر من ذلك؟
الله يعلم أننا أولاد، ولهذا فالكتاب يذكر دائماً هذا التشبيه المماثل. ولكن في ذات الوقت يشتاق الله أن ننمو في مرحلة الأبوة والمحبة والتضحية وهي التي تعكس طبيعة الله بكل دقة. إننا نقترب من طبيعة الله عندما نضحي بأنفسنا من أجله. ويقول جان فانييه: أننا نحتاج إلى هذه المرحلة كجزء أساسي للتقدم الروحي إذ أنها تعلمنا ما الذي يجب أن تكون عليه حياتنا وإلا لن نتعلم.
الآباء البشريون يتعلمون شيئاً من المحبة التي لا شروط لها وهي المتمثلة في محبة الله. ويقول رولاند روليهسر:
“قد لا يوجد شيء في هذا العالم يقوى على تحطيم الأنانية مثل النظر إلى أطفالنا. ففي محبتنا لهم نشعر بأن لنا نفس امتياز مشاعر الله نحونا – وهذا يدفعنا لأن نضحي ونفرح ونُسر وتكون لدينا الرغبة لأن ندع حياة الآخر أن تكون أهم وأفضل من حياتنا”.
في كل العلاقات الإنسانية نحن نُقدر بحسب إمكانياتنا. فصاحب العمل يحكم علينا بمهاراتنا ومستوى ذكائنا، والبنوك والمحلات التجارية تتعامل منا إذا كان لدينا رصيد بالبنك، وحتى أصدقاؤنا يختاروننا بناء على المصالح المشتركة. أما في العائلة فالشيء الوحيد المهم هو: الميلاد. هل بإمكانك أن تتخيل مشاعر والدين علما بأن نتيجة اختبار الذكاء الذي أجري لابنهما هو 90 درجة أو هل يتنكران لابنتيهما إذا فشلت في الانضمام لفريق الكرة بالمدرسة. إن الحب في الأسرة النموذجية هو حب غير مشروط. فالابن المعوق يتمتع بنفس المحبة والمشاعر الفياضة كالتي يتمتع بها الابن الرياضي القوي.
حتى بدون ولادة الأطفال يمكننا أن نكتسب الاطفال يمكننا أن نكتسب الاحساس بمحبة الآخرين محبة غير مشروطة كما يحبنا الله. وعندما حصلت زوجتي على برنامج تدريبي لمعاملة المسنين، تعودت أن أجيب كل من يسألني عن عدد أطفالنا أقول: “لدينا العشرات ولكن عمرهم ضعف عمرنا” فقد قامت زوجتي جانيت بخدمة المسنين في بيوت المسنين وفي بعض الفنادق ومنحتهم حباً أبوياً رائعاً.
عندما قُطعت الكهرباء والغاز والتليفون عن سارة، وهي سيدة مسنة، بسبب خطأ وسوء فهم، دافعت عنها جانيت بكل قوة ووبختهم لسوء تصرفهم مع سيدة مسنة وأعادت لها كل شيء. وعندما فقد هانك ساقه بسبب غرغرينا ومرض السكر، مكثت جانيت بجواره وعلمته كيف يمشي بالعكاز. وعندما عانت زيلدا من عدم تدفع الدم لأقدامها لازمتها جانيت بالمستشفى وقامت بعملية التدليك وراقبت الممرضات حتى لا يهملنها.
لم تقم جانيت بهذه الأعمال لأن هؤلاء المسنين استحقوا رعايتها، بل لأنها كانت تؤمن أن الله يحب كل مسن في شيكاغو ولكي يشعر كل منهم بهذه المحبة من خلال أيادي خادمة للرب. وفي أحد الأيام قرأت جانيت هذا الاقتباس: “الفقراء يعبرون عن امتنانهم ليس بأن يقولوا شكراً بطلب المزيد”. وكانت قد أمضت يوماً مرهقاً في الخدمة بين أولئك الذين يطلبون المزيد. وكان هذا الاقتباس مصدر عزاء لها.
حدث أمر عجيب أثناء وجود زوجتي جانيت في مركز خدمة المسنين. وعندما راقبتها هي والآخرين الذي يُشاركون في خدمة الفقراء في المناطق البعيدة، رأيت مدى التضحية الشخصية التي يبذلونها. ويتقاضى الأخصائيون الاجتماعيون مبلغاً بسيطاً نظير الساعات الطويلة التي يقضونها مع المسنين. وقد أدهشني ـ أنه بالرغم من العبء الكبير على جانيت كانت تبدو كما لو أنها تستفيد مثل المسنين تماماً. وقد لاحظ مرة شهيد العمل المرسلي جيم أيلوت أن كثيراً من المؤمنين يصممون على فعل شيء ما لله حتى أنهم ينسون العمل الأساسي الذي يطلبه الله وهو أن يصنع بهم شيئاً. ورأيت هذا المبدأ حياً في زوجتي. فهي عندما تغدق كل مهاراتها ومشاعرها على الناس ولكن يحكم عليها معظم المجتمع بأنها غير مستحقة، إلا أنها في داخلها تزداد قوة في الأمور الهامة.
وفي تناقض ظاهري إنساني، كلما ازداد عطاء الإنسان للآخرين كلما ازداد غنى وعمقاً وكلما أصبح أكثر تشبهاً بالرب. ومن الناحية الأخرى، كلما تقوقع على ذاته، كلما قلت إنسانيته. إن حاجتنا لأن نعطي هي في نفس درجة حاجة الآخرين لأن يتلقوا عطاءنا.
أخبرني د. بول براند عن زائر لا يُنسى قام بزيارته في فولاور في الهند عندما كان يدير مستشفى البرص. ففي أحد الأيام زاره راهب فرنسي يدعى بيري يرتدي ملابس راهب ويحمل حقيبة بها كل ما يمتلك. ولبضعة أسابيع مكث مع مجموعة تدعى براندس وأخبرهم قصة حياته. ولد في عائلة من النبلاء وخدم في البرلمان الفرنسي ثم تركه بسبب التغير السياسي البطيء. وبعد الحرب العالمية الثانية، وباريس مازالت تترنح تحت تأثير الاحتلال النازي، عاش آلاف المشردين في الشوارع. لم يتسامح بيري مع مشاورات النبلاء والسياسين تاركي الآلاف من الشعب يتضورن جوعاً في الشوارع.
وأثناء فصل الشتاء القارص تجمد الشحاذون في باريس حتى الموت. وفي يأسه استقال بيري من وظيفته وأصبح راهباً كاثوليكياً ليعمل وسطهم. وعندما فشل في إرضاء السياسيين أو المجتمع في محنة الشحاذين، قرر أن يركز مجهوده على تنظيم الشحاذين أنفسهم. علمهم كيف يؤدون الأعمال الحقيرة بطريقة أفضل. فبدلاً من جمع الزجاجات والخرق البالية، انقسموا إلى فرق لتنظيف المدينة. ثم قادهم لبناء مخزن للسلع من الطوب ثم يبدأون عملاً تجارياً حيث قاموا بشراء الزجاجات المستعملة من الفنادق. وأخيراً شجع بيري كل شحاذ بتكليفه بمسؤولية مساعدة شحاذ آخر أكثر فقراً منه. ونجح المشروع وفي سنوات قليلة قامت منظمة تدعى عمواس لكي تنقل نوعية العمل لبلاد أخرى.
والآن جاء بيري إلى فولار لأن المنظمة تواجه بعض المشكلات. وبعد سنوات من العمل لم يعد هناك شحاذون في باريس. ثم قال “يجب أن أجد شخصاً ما ليساعد الشحاذين. وأن لم أجد أناساً أشد فقراً من الشحاذين، فسوف تتراجع هذه المنظمة. وقد تصبح منظمة غنية وقوية وعندئذ سوف يضيع منها الهدف والتأثير الروحي إذا لم يجدوا أحداً ليخدوه”.
وفي مستعمرة البرص في الهند – تبعد خمسة آلاف ميل – وجد الأب بيري أخيراً الحل للمشكلة التي في باريس. وقابل المئات من مرضى البرص، والكثيرون منهم أسوأ حالاً من الشحاذين الذين تركهم في باريس. وعندما قابلهم ابتسم ابتسامة عريضة. وبدأ يدفعهم لبناء عنبر في المستشفى في فولاور وقال للمسؤولين: “لقد أنقذتمونا ويجب أن نعمل وإلا سنموت”.
لقد أتقن ومارس الأب بيري مبدأ القائد الخادم، وهذا جزء أساسي في الدور الروحي للآباء. قال يسوع عن نفسه: “لأن ابن الإنسان لم يأتي ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين”. لا أعرف رسالة عاجلة لبلاد الغرب الغنية غير هذه والذين يشاركون كوكباً به ثلاثة بلايين شخص يكسبون أقل من دولارين في اليوم، عالم يموت فيه 40,000 طفل يومياً بسبب سوء التغذية والأمراض المستعصية. وكما قال الأب بيري نفسه، إن الحل لن يأتي من البرامج الكثيرة التي تقيمها الوكالات الدولية، حتى وإن كانت تساعد بعض الشيء، ولكن الحل سيأتي من الأفراد الذين يلتزمون برغباتهم الخالصة بحب الخدمة.
تمثل مرحلة الكبار حالة متقدمة من النضج. إن آجلاً أو عاجلاً، سيجد الآباء أنفسهم يواجهون تجارب صعبة بمفردهم دون أن يرشدهم أحد ماذا يفعلون…. وهذه حقيقة في حياتنا العادية ويمكن تطبيقها على الآباء الروحيين مثلما تحدث مع الآباء الجسديين. وقد تقابلت مع مؤمنين في أماكن صعبة مثل لبنان وروسيا والصومال لم يكن لديهم أي استعداد لمثل هذه المرحلة المتقدمة. لقد تطوعوا لخدمة الآخرين بروح مثالية. وكلما ازدادت التجارب، كانوا يتوقعون الإحساس بحضور الله، وبمساندة أكثر وإيمان أقوى. ولكن بدلاً من ذلل وجدوا العكس.
في احدى روايات س. إس. لويس يُدرك الشيطان – الذي أعطاه اسم “سكروبات” بطريقة كاملة نموذج بناء الإيمان. ونصح أتباعه بأنه في بداية الحياة الروحية قد يشعر المؤمن بقرب حضور الله، وهي حالة خطرة تقل فيها أسلحة الشيطان في مواجهة المؤمن. وفيما بعد سوف تسنح له فرص كثيرة ضد العدو (الله):
“في أثناء مثل هذه الفترات تبدأ حياة المؤمن في النمو. ومن هنا فالصلاة التي تٌقدم في حالة الجفاف هي تلك التي تُسر الله كثيراً… إنه يريدهم أن يتعلموا المشي ولذلك سوف يرفع يده، وإذا حاولوا المسير بمفردهم فسوف يُسر الله حتى لو تعثروا. لا تنخدع يا علقم Wormwoood (وهو اسم الشيطان الآخر). إن قضيتنا سوف تكون في خطر عندما يحاول الإنسان تنفيذ إرادة عدونا (الله) ويتطلع إلى الكون من حوله فيرى آثار عدونا (الله) تبدو كما لو أنها اختفت، ويتساءل لماذا ينساه الله وهو ما يزال يطيعه”.
فكر أحد أصدقائي في عمل كتاب قراءات روحية يومية لمدة 365 يوماً فتحدث مع آلاف القديسين لكي يختار من أقوالهم شيئاً لكتابه وأخبرني أن معظمهم يجتازون في صعوبات متزايدة. ولأن الله يوكل إلينا بمزيد من المسؤوليات لثقته فينا فقد تزداد المتاعب أيضاً. وهنا يظهر الشعور بالإهمال والترك ويضعف الشعور بحضور الله وتتكاثر التجارب والشكوك.
صاغ هنري نووين عباة جريئة “خدمة الغياب” وقال أن خدمتنا ستكون ناقصة إذا كنا نشهد فقط عن حضور الله ولا نُعد الآخرين لكي يختبروا الأوقات التي يبدو فيها الله غائباً. إن خدمة العبادة ذاتها تعبر عن حقيقة غياب الله:
نحن نأكل ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يوقف جوعنا، ونشرب النبيذ ولكن ليس بالقدر الكافي ليقضي على عطشنا، ونقرأ الكتب ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يقضي على جهلنا. وحول هذه “الإشارات الفقيرة” نجتمع ونحتفل. بماذا نحتفل إذاً؟ هذه الإشارات البسيطة التي لا تشبع رغباتنا وتتحدث عن غياب الله. إنه لم يعود بعد، ونحن ما زلنا نسير في الطريق، وما زلنا ننتظر، وما زلنا نرجو، وما زلنا نتوقع وما زلنا نشتاق… إن الخادم لم يستدع لكي يفرّح الناس ولكن لكي يذكرهم أنه في وسط الألم والتجارب يمكننا أن نجد أول علامة للحياة الجديدة ويمكننا أن نختبر الفرح المختبئ في وسط الحزن”.
ولسنا بحاجة لأن ننظر إلى أمثلة أبعد من تلك الموجودة في الكتاب عن غياب الله. يقول أشعياء: “لماذا تحجب وجهك عنا. لماذا أنت كغريب في الأرض، كمسافر يمكث ليلة واحدة؟” وأي علاقة تتضمن أوقاتاً من القرب وأخرى من البعد، وفي علاقتنا مع الله، لا يهم مدى قربنا، فالبندول يتحرك من جانب إلى آخر.
وقد اختبرت الشعور بالبعد والترك وأنا أتقدم روحياً من الإيمان الطفولي إلى المرحلة التي شعرت فيها أنه بإمكاني أن أساعد الآخرين. وفجأة حل الظلام. ولمدة عام كامل لا أشعر باستجابة للصلاة، ولم أثق في أن الله كان يسمع لي. ولم يجهزني أو يعدني أحد “لخدمة الغياب”. وبحثاً عن الراحة بدأت أقرأ لشعراء مثل: جورج هيربرت، فرانك أبوت، وأيضاً جيرد مانلي هوبكنز الذي كتب ما يلي:
يا الله، وإن كنا نرفع مزاميرنا إليك
فلا تأتي أية استجابة من السماء؛
فإليك يصلي الخاطئ الخائف
ويبدو أن صلواتنا فُقدت في الصحراء
وترنيماتنا تموت في السكون الواسع
وهذا ما اختبرته أنا شخصياً. ولم تُجد مع أية وسيلة حتى أنني في يأسي اشتريت “كتاب الساعات” الذي يستخدم في الطقوس الدينية. وخلال هذه السنة كنت أقراً تلك الصلوات وبعض فقرات من الكتاب المقدس مقدماً إياها لله كصلوات لي. وقلت للرب: “ليس لدي ما أقوله. ربما لم يكن لدي إيمان. أرجوك قبول هذه الصلوات التي قالها آخرون كصلوات لي أقدمها لك الآن. وأقبل كلماتها بدلاً من كلماتي أنا”.
وأتذكر الآن هذه الفترة من الشعور بغياب الله عني كفترة هامة للنمو، لأنه أثناءها كنت أحاول جاهداً أن أجد الله أكثر من أي فترة سابقة. وخرجت منها بإيمان متجدد وتقدير لحضور الله كعطية وهبة منه أكثر منه أن نُؤهل لذلك. وتعلمت أن أنظر لفترات غياب الله كنوع من الحضور الغائب. فإذا غاب طالب عن حضور مدرسة أو جامعة لفترة محددة، فسيشعر والداه بغيابه كل يوم. ومع ذلك فهما لا يشعران بالفراغ الكامل لأنهما يتذكران وجوده السابق معهما. ويجدان في كل المنزل ما يذكرهما به، ولديهما امل في عودته. وهذا المعنى ينطبق على غياب الله عنا.
وبعد هذه السنة اجتزت في فترات من الجفاف الروحي ولكن لم يكن في قسوة تلك الفترة التي عانيت فيها من اليباب الشديد. ومن الكتاب المقدس يمكنني أن أفهم أن غياب الله عنا قد يكون نوعاً من الاختبار الذي لم يستثن منه الرب يسوع نفسه “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” ومن الناحية الأخرى قد يمثل وجهاً من علاقة غير مهمة. وأنا لست أول من اختبر هذه الأوقات المظلمة ولن أكون الأخير. وإذا كان رد فعلي منها الابتعاد عن الله فسوف أحرم من مرحلة نمو العلاقة الناضجة. وإذا كان الله قد منحنا الحرية لكي نقترب منه أو نبتعد عنه، ألا يكون له هو نفس الحق في مثل هذه الحرية؟
مع أني لست أباً، فقد جلست مع آباء كثيرين واستمعت إلى شكواهم: لقد فعلنا كل ما نستطيع فعله. أعطيناها كل ما احتاجت إليه، أحببناها بكل الطرق التي نعرفها… والآن حدث ما حدث. تقول أنها كانت تتمنى لو لم تولد، إنها تلومنا وتعتبرنا سبباً في كل مشاكلها وتتمنى أن لا ترانا ثانية.
إن الآباء يعرفون استخدام القوة ويعرفون أيضاً حدودها. بإمكانهم الإصرار على سلوك خارجي معين ولكنهم لا يستطيعون تغيير الداخل. قد يطلبون الطاعة وليس الصلاح ولا الحب. كيف إذا يمكنك بناء شخصية الطفل؟ كيف تغذي فيه صفات مثل الصبر، الشفقة، اللطف، والعاطفة؟ كيف تغفر عن سلوك بغيض بدون عقاب؟
ويكافح الآباء الأرضيين مع نفس القضايا الحساسة مثل القوة والحدود الذاتية وهي أيضاً تعرّف علاقة اله بنا. فمن خلال ما يجتاز فيه الآباء يمكن أن تكون لدينا لمحة عن “المشاكل” التي تحدث مع الكائنات البشرية التي خلقها الله وأعطاها الحرية لكي تثور ضده. وعندما قرأت سفر أرميا منذ فترة وجيزة، سمعت صدى كلمة الله عن الألم الذي يشعر به الآباء. “بعد كل الذي فعلته من أجلكم، وكل الحب الذي منحته لكم، كيف تعاملونني هكذا؟ لماذا تحولون ظهوركم لمن خلقكم؟”.
أنت لست بحاجة لأن يكون لك أولاد حتى تتعلم مثل هذه الدروس. اسأل أي خادم ما إذا كانت فكرته وخبراته مع الاجتماع الذي يخدمه تتفق مع المثاليات التي جذبته للخدمة في بداية حياته. أو اقرأ رسائل الرسول بولس لأهل كورنثوس واصغ إلى مدى توتره وغضبه وحيرته إزاء تصرفاتهم الروحية الصبيانية. إن المحبة ترفض التحكم في الآخرين بل تطلقهم أحراراً وتتحمل النتائج.
قال الرب يسوع هذه الآية ست مرات في الأناجيل: ” من يضع حياته من أجلي يربحها أما من يحتفظ بها فيخسرها”.*
إن حياة يسوع تحمل هذا المبدأ، لأنه اختبر الخسارة حالما التزم بالخدمة الجهورية. فطاردته الجماهير بطلبات متزايدة دائماً. وظهر الاعتراض وأخيراً بذل حياته.
وضع براند Bernard of Clairveaux أربعة مراحل للنمو الروحي:
1 – نحب أنفسنا من أجلنا.
2 – نحب الله من أجل أنفسنا.
3 – نحب الله لذاته وبدون أنانية منا.
4 – نحب أنفسنا من أجل الله عالمين مدى محبة الله العظيمة لنا.
وأنا أود أن أضيف رقم 5 وهي التي تمثل مرحلة الأبوة للنمو الروحي وهي: محبة الآخرين من أجل خاطر الرب.
“كتب على إحدى اللافتات اللاصقة: لتُقد السيارة بحذر، فالحياة التي تنقذها قد تكون حياتك”. هذه هي حكمة الإنسان في كلمات قليلة. ومن الناحية الأخرى يقول الرب “الحياة التي تخلصها هي الحياة التي تضحي بها من أجل الآخرين” وبمعنى آخر، الحياة التي تحفظ بها لذاتك، وتدخرها، وتحاول أن تحافظ عليها فهي في النهاية قليلة القيمة بالنسبة للآخرين بمن فيهم أنت، أما الحياة التي تبذل من أجل الآخرين في محبة فهي التي تستحق أن نعيشها. ولكي يوضح هذا الأمر أرانا الله إنساناً بذل حياته دون أن يكون له أية أموال في البنك. وفي رأي البشر وحكمتهم، إنه كان غبياً وكل من يفكر في اتباعه بدون أن يتبع نفس طريقه فهو بذلك لا يحمل الصليب بل يخدع نفسه”. فريدريك بوتشنر |
ويمكن للمؤمنين أن يؤثروا في العالم بمحبتهم المضحية، وهي أفضل طريقة لتغيير العالم. إن الآباء يعبرون عن محبتهم بالبقاء ساهرين طوال الليل مع أطفالهم المرضى، والعمل في وظيفتين ليتمكنوا من دفع مصروفات المدرسة، ويضحون باحتياجاتهم من أجل أبنائهم. وكل من يتبع يسوع يسلك على نفس النموذج. إن ملكوت الله يعطى في محبة وسخاء، وهذا ما يفعله الله من أجلنا.
في فترة تحقيق الذات، لا يستطيع كل فرد أن يوافق على مبداً إنكار الذات الذي نادى به يسوع والقائل بأننا يجب أن ننكر ذواتنا لكي نتبعه. كتبت جلوريا ستينم في كتابها “ثور من الداخل” ما يلي: “إن السلطة الذاتية هي الفكرة الوحيدة الجوهرية والراديكالية الموجودة” وأنا لا أوافق على ذلك. فعندما نقبل سلطة أعلى وننكر ذواتنا في خدمة تلك السلطة وهذا السلطان، فهذا هو أمر أساسي وجوهري وراديكالي.
إن يسوع لم يستخف بمحبة الذات وقال: “تُحب قريبك كنفسك”. بل بالحري اقترح أقصى تحقيق لنتائج خدمة الآخرين ليست الأنانية أو حب الذات. فنحن نحقق ذواتنا لكي نتمكن من تقاسم تلك المواهب مع الآخرين الأقل موهبة. بعض طلبة الكليات قد يذهبون إلى البرية ليقضوا فترة من التأمل “لاكتشاف أنفسهم. ويقول الرب يسوع أننا نكتشف ذواتنا لا بأن نبدأ من الداخل بل بأن ننظر للخارج، ليس بفحص أفكارنا ومشاعرنا بل من خلال أعمال المحبة للآخرين. ولا يستطيع أحد أن يفهم كيف يصبح أباً بقراءة الكتب وقبل أن يولد أول طفل. أنك تتعلم هذا الدور عند القيام بآلاف الأعمال الدنيوية: استدعاء طبيب عند المرض، إعداد الطفل لأول يوم لذهابه للمدرسة، اللعب معه، تضميد الجراح…. والأب الروحي يمر بنفس المراحل. وفي النهاية سوف يثبت صحة ما قاله الرب يسوع “من يضع نفسه من أجلي يربحها”. فالتواضع يقود للرفعة.
* وهنا يجب أن أذكر تحذيراً للكنيسة لأنه أحياناً يُساء تفسير إنكار الذات. إنه لا يعني إنكار قيمة الفرد، ولم يقصد يسوع هذا على الإطلاق. ولا يُقصد بالآية التقليل من مواهب الشخص وإمكانياته: بل أن الرسول بولس أكد على ذلك وقال إن هذه هي مساهماتنا الرئيسية لجسد المسيح. ولكن ليس كل شخص يستطيع أن ينكر ذاته. يجب أولاً أن نأخذ لكي نتمكن من العطاء ويجب أن يكون لدينا مكان قبل أن نتركه. كثير من المؤمنين يضعفون بسبب الأفكار اللاهوتية الخاطئة ويحتاجون إلى تصحيح أفكارهم من جهة ممتلكاتهم الشخصية قبل أن يفكروا في إنكار الذات. إن الأطفال المجروحين يحب أن يشفوا قبل أن يصبحوا آباء أصحاء.