مراحل عبر الطريق – الطفل – فيليب يانسي
مراحل عبر الطريق – الطفل – فيليب يانسي
إقرأ أيضاً:
“نحن نفضل أن ننهار على أن نتغير”
و. ه. أودين
لقد تدربت على معرفة حضور الله وغيابه، والمليء وغير المليء (الفراغ)، الشركة الروحية القوية والبعد في الظلام. وفي رحلة حياتي أدهشني تتابع واختلاف تلك الخطوات التي اتخذتها في حياتي، وبينما كنت أنظر حول بحثاً عن خريطة الطريق التي قد تساعدني في معرفة ما أتوقعه، فإنه على عكس ذلك تماماً، إذ قد ازداد ارتباكي.
بعض مجموعات من المؤمنين يساوون بين النضوج الروحي والتقشف والزهد: فمن يسير طبقاً للمبادئ الصارمة يتمتع بالقرب من الله. وأعلم أن هذا أمر خاطئ وغير صحيح، لأن المسيح نفسه كان يتمتع بحرية نسبية بمقارنة مع يوحنا المعمدان او الفريسيين.
كما أن بعض المؤمنين الآخرين يقللون من قيمة وقدر البحث والاجتهاد، كي تكون لنا شركة قريبة من الله. ولديّ أصدقاء يعملون في القضاء ينتقدون النظم الروحية ويعتبرونها نوعاً من التزمت والتصوف”. ومع أنني معجب بالتزامهم وأوافق على بعض ما يقولونه، فلا يمكنني أن أتجاهل الفقرات الكتابية الكثيرة عن الاتحاد بالله، والحاجة للقداسة. إذاً من هو المؤمن الناضج؟ وكيف يؤثر سلوكي على علاقتي مع الله؟
واضعاً هذه الموضوعات في ذهني، بدأت أقرأ ببطء العهد الجديد بأكمله، ووضعت علامة صفراء على كل فقرة تشجع المؤمنين لكي ينمو روحياً. وحاولت أن أبحث بعمق في كل الوصايا والأوامر المباشرة: لا يسرق السارق فيما بعد…. ساعدوا الفقراء…، لكي أعرف المعاني والدوافع التي وراء هذه الوصايا. ما هو هدف المسيح وبولس والآخرين من أقوالهم؟ وملأت صفحات كثيرة بملاحظاتي التي نقحتها بحثاً عن اتجاهات معينة.
يقدم العهد الجديد الحياة مع الله في صورة رحلة مع أتباع آخرين، موجودين في أماكن مختلفة كثيرة عبر الطريق. ولتسهيل الأمور قررت تقسيم هذا الأمر إلى ثلاث مجموعات: الطفل، البالغ، والوالد. واضعاً بعض العلامات في الهوامش معرفة أي مستوى من النمو سأوجه إليه الكلام. وتلخص هذه الفئات الثلاث بالنسبة لي مراحل النمو في الحياة الروحية. ونظرت أولاً إلى كل الفقرات الموجهة للمؤمنين الذين بدأوا رحلتهم مع الرب، أو ربما تعثروا في مرحلة الطفولة.
يعلم أي شخص قام بتربية طفل أن التطلع إلى المبادئ السامية منذ البداية قد لا يُجدي. وأعرف زوجين حاولا منذ البداية أن يدفعا ابنهما لكي يتخذ كل قرار بنفسه، موضحين له نتائج سلوكه، ثم يتركون الولد يتخذ القرار الأخير. ورأيت بنفسي ما حدث، في أحد أيام فصل الشتاء في شيكاغو، وكانت درجة الحرارة تحت الصفر، والأرض مغطاة بالجليد. وأعتقد الولد – وكان اسمه “درو”، وعمره 4 سنوات – أنه سوف يستمتع كثيراً إذا خرج للخارج لكي يلعب مرتدياً ال تي شيرت، وبنطلوناً قصيراً. وشرح الوالدين للطفل كيف أن مقاومة الجسم ضعيفة وخاصة في الطقس البارد، وستؤدي للإصابة بالأمراض… ولكن الولد أصرّ على موقفه قائلاً: “أريد الخروج الآن”. وتركاه والداه للخروج آملين أنه سيعود بعد قليل بسبب البرودة الشديدة.
وفي الصيف يحدث منظر مختلف تماماً على شاطئ بحيرة ميتشجان. هناك يجلس طفل على مقعد اسمنتي وهو ينظر إلى مياه البحيرة، ويقول: “لا، لا، لا” مكرراً لنفسه التعليمات التي حاول الوالدين أن يقنعاه بها. قد لا يستطيع الطفل أن يعبّر لماذا يريدان منعه من التمتع بالبحيرة، ولكنه يعرف الأوامر. وبلا شك، ربما فكّر الوالدان في اللجوء إلى التهديد بالعقاب.
وعندما رجعت إلى العهد الجديد، وجدت أنني كتبت كلمة طفل على فقرات كثيرة. إن يسوع نفسه لم يتردد بالتهديد بالعقاب الصارم لمن يعصي الوصية، كما وعد بالمكافأة لمن يطيع. هناك بعض السلوكيات ضارة للغاية، لذلك يجب أن نتجنبها. والشخص الذي يعطي المشورة لا يمكن أن ينصح السكير بالتقليل من شرب الخمر، أو أن يشرب في المساء فقط. كما أن القاضي لا يطلب من اللص أن يحاول كبح نفسه، أو يقترح عليه بأن يسرق المنازل أثناء العطلة الأسبوعية فقط بدلاً من كل يوم. إن الرسالة المناسبة في هذا الوضع هي ما قاله بولس: “لا يسرق السارق فيما بعد…”
إن رسائل بولس الأخلاقية مملوءة بالسخط والغضب: “ألا تعلمون… ألا تدركون…؟”، إنه يتحدث بكل اندهاش وغضب عن أناس مدعوين من الله لكي يكونوا قديسين، ولكن بدلاً من ذلك يتنازعون على قضايا أخرى مثل: أكل اللحم، الختان. إنه يتحدث بكلام نشط وحيوي مثل الأب الذي يشجع ابنه لكي يأكل الخضراوات لفائدته الشخصية.
لا يستطيع من دونوا العهد الجديد أن يفهموا لماذا يتراجع بعض المؤمنين إلى مرحلة المراهقة الروحية، في حين كان يجب عليهم أن يسلكوا ككبار. ومع أنهم قد يفضلون مناشدتهم لإتباع الدوافع السامية، فإن الذين دونوا العهد الجديد يواصلون توضيح النتائج المخيفة التي تنتظر الذين يتصرفون بطريقة خاطئة، لأنهم يعلمون أن الاختيار الحكيم الناجم عن دوافع ناضجة يتغلب على الاختيار الخاطئ. فإذا امتنع المراهقون عن ممارسة الجنس غير الشرعي، وعن تدخين السجائر، خوفاً من المرض، وليس لأي سبب آخر، فلن تستفيد أرواحهم، ولكن أجسادهم سوف تستفيد، بكل تأكيد.
تجنبت، حتى الآن الكتابة عن أصعب فترة في حياتي، تلك الفترة التي عانيت فيها من متاعب جسدية صعبة، ولم أتمكن فيها من أن أتحدث أو أمشي. رقدت على سريري طوال اليوم، غير قادر على تحريك ذراعي أو رجلي. ولم أتمكن من التركيز على شيء بعيني، ولا أستطيع أن أطعم نفسي، أو أن أتحكم في عضلاتي. ولم أتمكن من فهم ما يدور حولي، واستسلمت لما أنا فيه، ولم أتوقع أي تحسن.
والآن؛ بعد أن شفيت تماماً، أنظر إلى تلك الفترة على أنها فترة انتقالية ضرورية، طفولة إنسانية. فلا يصل أحد لمرحلة الشباب دون المرور بفترة من عدم النضج. وبالمثل؛ لا يظل الإنسان السليم صحيحاً إلى الأبد. لا أعرف شيئاً أكثر حزناً في الحياة من توقف عملية النضوج والنمو: يرقة دودة القز التي لا تتحول إلى فراشة كاملة، فرخ الضفدع الذي لا يتحول إلى ضفدع كامل، طفل معاق ذهنياً يظل في سريره لمدة 30 عام.
إن الطفل، المولود حديثاً، له كل أجزاء الجسم التي يحتاجها، ومع ذلك فيجب أن تنمو هذه الأعضاء لكي تُستخدم في أداء وظائفها. وينطبق نفس المبدأ روحياً على حياة الإيمان. يوبخ بولس الرسول أهل كورنثوس بالقول: “وأنا أيها الأخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين كأطفال في المسيح. سقيتكم لبناً لا طعاماً لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الآن أيضاً لا تستطيعون”. ومن الكثير من صغار المؤمنين عجز أهل كورنثوس عن تخطي مرحلة الطفولة، وعدم النضج إلى مرحلة أكثر نضجاً وتقدماً.
وعلى الجانب الآخر يقول يسوع بكل وضوح: “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات”. يجب علينا أن نتعلم التمييز بين سلوك الطفل الذي يناسبنا، وهو شرط أساسي لدخول ملكوت السماوات، وبين السلوك الطفولي الذي لا يناسبنا، وهي علاقة تعوق النمو.
مزمور 131، وهو من أقصر المزامير، يُشير إلى الفرق بين الثقة الطفولية والثقة كالأطفال في الله:
يا رب لم يرتفع قلبي
ولم تستعل عيناي
ولم أسلك في العظائم
ولا في عجائب فوقي.
بل هدأت وسكت نفسي
كفطيم نحو أمه.
نفسي نحوي كفطيم.
يعلق “أرتر ويسر” قائلاً:
“إن المؤمن ليس طفلاً يصرخ لكي تضمه أمه في حضنها، ولكنه كطفل مفطوم يستريح في هدوء بجانب أمه، وهو يشعر بالسعادة لكونه جالساً بجوار أمه. وكما أن الطفل يتخلص تدريجياً من عادة التفكير في أمه على أنها هي التي تُشبع رغباته، ويتعلم أن يحبها لذاتها، لهذا وبعد معاناة وجهد يصل المؤمن المتعبد إلى حالة ذهنية يطلب فيها الله لذاته، وليس لأنه يلبي رغباته. وبذلك يتحول مركز الجاذبية في حياته”.
أحن في بعض الأحيان لمرحلة الطفولة ودلالها. عندما يدور العالم من حولي، وعندما تلفت انتباهي صرخة طفل، وعندما يستجيب من حولي لطلباتي دون مجهود مني. وأحيان أخرى أتذكر الماضي في مرحلة مبكرة من رحلة حياتي الروحية عندما كنت أشعر بقرب الله مني، وكان الإيمان قوياً، مرحلة لم تحدث فيها أية اختبارات أو خيبة أمل، إنها مرحلة ما قبل الفطام. ثم يحدث أنني في الكنيسة أو في السوبر ماركت أقابل طفلاً بالصدفة المحضة، ضعيفاً ولا يقوى على الحركة ولا الفهم، وأدرك من جديد حكمة الخلق التي تدفعنا نحو النمو الذي يتطلب طعاماً لا لبناً.
بينما أحلم آثار النمو وآلامه، أتعلم كيف أتكيف وأتجنب بعض مطالب الإيمان الطفولي: توقعات غير حقيقية، التقيد بالناموس والاعتماد غير الصحي على الآخرين.
قد أشرت مرات عديدة إلى خطورة التوقعات غير الواقعية. فالطفل يجب، في بعض الأمور، أن يتعلم قبول العالم كما هو وليس كما يريده هو. فالطفل الذي يضرب الأرض بقدميه قائلاً: “هذا ليس عدلاً”، عندما يكبر ويكتسب حكمة الكبار يقول: “ليس هناك عدل مطلق في الحياة”. ويختلف الناس في الجمال والمستور الاجتماعي، والمهارات الرياضية، والذكاء، والصحة، والثروة، والشخص الذي يتوقع العدالة الكاملة في هذا العالم سوف يعاني من مرارة اليأس. وبالمثل؛ فالمؤمن الذي يتوقع من الله أن يحل كل مشاكله العائلية، ويشفي كل الأمراض، ويوقف الصلع في رأسه، والتجاعيد في وجهه، وأية آثار أخرى لكبر السن، هو مؤمن واهم ولا يتمتع بالإيمان الناضج.
يقول ج. أ. بيكر:
“إن الله رقيق للغاية مع المؤمنين الصغار، تماماً مثلما تفعل الأم مع صغارها. غالباً ما تكون بداياتهم في حياة الإيمان مملوءة بالفرح العاطفي والعناية الإلهية الواضحة، واستجابة الصلوات والثمار السريعة لشهاداتهم الأولى، وهكذا يشجعهم الله ويؤسسهم في الحياة الروحية. ولكن عندما يزداد نموهم وقوتهم يدربهم على ما هو أقوى من ذلك. فيعرضهم لاختبارات من خلال ظروف صعبة على قدر ما يحتملون، ليس أكثر (اكو 10: 13) ولا أقل (أع 14: 22). بهذا يبني الله شخصيتنا ويقوي إيماننا، ويُعدنا لكي نساعد الآخرين.
عند كتابتي لهذا الكتاب، تمنيت مرات عديدة أن أعد بكتابة المزيد من الكتب. وأتمنى أن أشجع المؤمنين، وأزيد من توقعاتهم بأن الله سوف يغير القوانين نيابة عنا ليسهل الحياة. وفي كل مرة تمنيت هذا أواجه تجربة الإيمان الطفولي وهي نفس التجربة التي قاومها المسيح في البرية.
طبقاً لما قاله الرب يسوع وبولس فإن التمسك بالقانون والناموس يمثل عرضاً من أعراض الإيمان الطفولي. وكما وضح بولس الرسول قائلاً: إن صرامة الناموس في العهد القديم لم يُقصد بها تقديم طريق آخر بديل للوصول إلى الله، بل بالحري لكي يثبت أن هذه الصرامة مهما بلغت لا تستطيع أن تحقق قصد الله. فالله يريد الكمال، لهذا نحن بحاجة إلى طريق آخر، وهو طريق النعمة.
كتب داود، في أحد مزاميره: “مع الأمين تكون أميناً، ومع الطاهر تكون طاهراً”. وهو بهذا يعبر عن عهد الإيمان المذكور في العهد القديم. وأتساءل: كيف تمكن داود من كتابة هذا المزمور بعد سقوطه في خطية الزنا مع بثشبع، وقتله لزوجها في الحرب. لقد تعامل الله بالأمانة مع الخائن، وغير الأمين أعدُه للعدالة، وليس للنعمة.
إن التمسك بالناموس والشريعة له مكانة في التقدم الروحي – مثلما يفعل بالتأكيد في نمو الطفل – لكن التمسك الدائم والمستمر بالقانون يعوق النمو: لا تعبر الطريق بمفردك، ابتعد عن الأنهار، لا تلعب بالسكين”. استمعت إلى هذه الأوامر وأنا في مرحلة الطفولة، وكنت أطيعها. والآن عندما كبرت فأنا أهرول وسط مرور المدينة، وأبحر في قارب، وأستخدم السكاكين بمهارة. ومع أنني أتذكر الصرامة التي لقيتها في طفولتي فإنها ساعدت في إعدادي للحرية المسئولة في الشباب، فإنني نادراً ما أتطلع للوراء، لأيامي الأولى بنوع من الحنين أو الأسف.
إن الرسول بولس، الذي تربى بحسب التقاليد اليهودية الصارمة، يعرف مخاطر الإيمان المبني على حفظ الناموس. وفي الحقيقة، لقد وضع إصبعه على نع السخرية الغريبة على السلوك الإنساني: التمسك بالقانون والناموس غالباً ما يشجع على العصيان، وعدم الطاعة، ويتضح هذا كثيراً في العهد القديم. وكما قال بولس لأهل كولوسي: ” تُفرض عليكم فرائض: لا تمس، لا تذق، ولا تجس… التي لها حكاية حكمة بعبادة نافلة، وتواضع زائف، وقهر الجسد ليس بقيمة ما من جهة إشباع البشرية”. إن رسول النعمة لم يستطع أن يتخيل لماذا يريد أي واحد أن يعود في علاقة مع الله تتسم بالتهيج والفشل. وهو يشير إلى حرية غير مبنية على القواعد والقوانين بل على المحبة: “لأن كل الناموس في كلمة واحدة يُكمل: “تحب قريبك كنفسك”.
فإذا رجعنا إلى أزمنة العهد القديم، رأى بولس أيضاً نموذجاً من الاتكال غير الصحي. فمثل الأطفال الذين نشأوا مع آباء أثرياء يمدونهم بكل احتياجاتهم، هكذا وجد الإسرائيليون هويتهم في رفضهم الاتكال على الله. وظلوا في حالة من الثورة الطفولية في حين ان الله أرادهم أن يتحركوا باستمرار نحو الرجولة.
أعرف رجلاً بلغ السبعين من عمره، وما زال يعيش مع أمه، ويطلب منها الإذن عند الخروج، كما يعطيها أجره الأسبوعي في نهاية كل أسبوع. وبعدما أجبرته على ترك خطيبته منذ عدة سنوات عاش تحت سلطانها. وأعرف أيضاً أناساً كبار في السن مستمرين في التصرف كالأطفال بسبب ضغط والديهم عليهم، وعدم رغبتهم في تحريرهم من هذا السلطان. وهم بذلك معاندون لقانون الطبيعة: فهدف الرعاية الأبوية هو تربية أناس تربية صحيحة وليس أطفالاً يعتمدون عليهم حتى في الرجولة. إن أنثى التمساح تساعد صغارها للخروج من البيضة بكسرها، والنسر يحرك عشه ليجبر الفراخ الصغيرة على الطيران، والأب يدع ابنه يتعثر في المسير ويسقط، وبهذا يعلمه كيف يمشي. فالنمو يتضمن ولادة جديدة وتعرضنا للألم واستقلالاً تدريجياً.
يُبنى الإيمان الطفولي على اختبارات غير واقعية، والاستناد على الناموس والقانون، وقد يصلح الاعتماد الخاطئ على الغير فترة محدودة إلى أن يُصدم الشخص بحقيقة جديدة. والاختبار العملي حطم هذا الحاجز مثلما فعل إبراهيم والأنبياء وتلاميذ المسيح. قال لهم يسوع: “لعازر مات، وأنا أفرح لأجلكم، أني لم أكن هناك لتؤمنوا”. لقد كان يُعدهم لحقيقة جديدة وهي القيامة، ولكن ليس قبل الخطوة الضرورية، وهي الموت.
عندما قال يسوع: “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، لن تدخلوا ملكوت السماوات”، فهو لم يكن يتحدث عن الإيمان غير الناضج الذي وصفته سابقاً. ولا عن صفات الأطفال التي نراها واضحة وهم يلعبون: مضايقة بعضهم البعض، والمنافسة، والصراخ، والثرثرة. ماذا كان يقصد إذاً؟ وأنا أبحث في أحد خدمات “فريدريك بوتشنر”، وجدت ثلاث صفات للطفولة قد تساعدنا على فهم معنى أن نصير مثل الأطفال.
يقول بوتشنر: “ليس للأطفال أفكار مسبقة عن الحقيقة. فكثير من الأطفال نظروا بقلق إلى المدخنة المغلقة ليتساءلوا: كيف تمكّن بابا نويل من اختراقها لكي يحضر لهم الهدايا.
ونحن نقول عن الأطفال الذين يصدقون الألعاب السحرية: “إنهم لا يعرفون أفضل من ذلك”. غير أنه في بعض الأحيان يعرفون أكثر من ذلك. إن الإيمان الطفولي البسيط هو الذي دفع قائد المائة لأن يطلب من الرب يسوع أن يشفي خادمه، وهو نفسه الذي دفع أصدقاء المشلول لأن ينزلوه من السقف أمام يسوع ليشفيه، ودفع بطرس لكي يمشي على الماء، وهو الذي قاد التلاميذ لأن يدركوا أن الذي بينهم هو يسوع نفسه الذي شاهدوه مصلوباً، ومدفوناً في القبر منذ عدة أيام. في حين أن الكبار في ذلك الوقت، الذين لهم الحكمة ويعرفون أكثر وأفضل من الأطفال حاولوا إقناع الرجل الأعمى الذي فتح يسوع عينيه، أنه من المحتمل لا يستطيع أن يرى، كما أنهم دبروا مؤامرة لقتل لعازر الذي أقامه يسوع من بين الأموات، ودفعوا رشوة للحراس الرومان لكي يشهدوا ضد يسوع.
قد أدهش الإيمان الطفولي البسيط يسوع، وأشعر بالتبكيت لحاجتي إلى هذا الإيمان عندما أقرأ الأناجيل. وكثيراً ما أشعر بضعف الإيمان عند يُسيطر عليّ أمل ضعيف للتغيير، ولا أصدق بقدرة الله على شفاء جراح كثيرة في داخلي، أعيش بها منذ فترة طويلة. الميزان بين الإيمان البسيط والإيمان الطفولي قد يكون غير ثابت، أو مستقر، ولكننا لا نجرؤ أن نميل نحو واحد في محاولة لتجنب الآخر.
ثانياً؛ يقول “بوتشنر”: إن الأطفال يعرفون كيف يتقبلون الهدية. فلأنهم يعتمدون على والديهم منذ الميلاد، فهم يتلقونها بسرور، وبغير وعي. إنهم لا يجادلون فيما إذا كانوا يستحقونها أم لا، كما أنهم لا ينزعجون بخصوص رد هدية بمثلها للآخرين. إنهم يمزقون الأربطة بكل سرعة، ويستمتعون بالهدية. اعتادت جدتي، وهي سيدة حكيمة، أن تعطيني هدية في عيد مولدي، أقل مما تعطيه لأخي. ولم أعاتبها هديتي الطبيعية في عيد مولدي.
يشاركني الله نفسه، في بساطة الأطفال هذه، وهو يقبل الهدايا بلا أية مشاكل. والعهد القديم يوضح ذلك. وعندما كان المسيح على الأرض قبل الهدايا الغالية من المجوس، والناردين غالي الثمن من المرأة الخاطئة والتي سكبته على قدميه، وقبل هدية الوقت والالتزام، من تلاميذه، وهدية السجود من مريم أخت لعازر.
لقد علمني الأطفال الكثير عن تقديم الحمد والشكر لله. أنهم يشكرون كل يوم من أجل الكلب الموجود في البيت، والسنجاب الذي يلعب في الخارج. إنها روح الطفولة فقط هي التي تساعد على تقبل عطايا الله العادية، كل يوم، دون أن أعتقد أنها أمور عادية. وهي نفس الروح التي تسمح لي أن أفتح فمي لأتقبل نعمة الله المجانية، والتي لا صلة لها بما أفعله.
ثالثاً؛ يعرف الأطفال كيف يثقون. فالشارع المزدحم لا يُزعج الطفل، طالما هو ممسك بيد أبيه. ويجب أن تُعلم الأطفال أن لا يثقوا في الغرباء، لأن عدم الثقة ليس من طباعهم.
عندما صلى الرب يسوع في بستان جثسيماني استخدم الكلمة التي يستخدمها الأطفال اليهود عندما ينادون على والدهم: “يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لديك، فأجز عني هذه الكأس ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت”. وقد وثق تماماً في الله بالرغم مما كان يراه أمامه، اتكال طفولي حتى وهو على الصليب عندما صلى: “يا أبتاه بين يديك أستودع روحي”.
تحكي لنا “كاثلين نوريس” عن معركة ذهنية طويلة ضد إيمان طفولتها، وقالت إنها وجدت صعوبة لفترة ما في تصديق الكثير من التعاليم المسيحية. وفيما بعد، عندما اختبرت المشاكل في حياتها الشخصية، شعرت أنها بحاجة إلى لقاء بعض المرشدين الروحيين، ولدهشتها، لم يُبد الكثير من الرهبان اهتماماً بشكوكها، وتشتتها الذهني. فكتبت تقول: “لقد تضايقت بعض الشيء… وقد تصورت أن شكوكي هي العقبة أمام إيماني، وشعرت بنوع من الخديعة عندما قال لي أحد الرهبان من كبار السن، أن شكوكي هي بذور الإيمان، وأنها علامة على أن الإيمان ما زال حياً وسينمو”. وبدلاً من مناقشة هذه الشكوك واحداً تلو الآخر، أعطاها الرهبان تعليمات عن العبادة والتقوى.
لقد تعلمت “نوريس” أن كلمة “يؤمن” في أصلها اليوناني تعني “أن يعطي قلبه ل…”، ووجدت أن عملية العبادة يمكن أن تحل محل صورة الإيمان المادي. ولم تجد أية غرابة في ترديد قانون الإيمان الذي قد لا تفهمه، لأنه كما قالت هي: “تعودت كشاعرة أن أقول ما لا أفهمه تماماً”. وتدريجياً أتضح لها أنه لكي تكون لها علاقة مع الله، مثل أية علاقة أخرى يجب أن تندمج فيها دون أن تعرف إلى أين ستأخذها هذه العلاقة. وابتدأت بالثقة، ومن هناك بدأ ينمو الإيمان الناضج.
التوقعات غير الحقيقية، عكس الإيمان المنفتح، والناموس عكس النعمة، والاتكال الخاطئ عكس الثقة البسيطة للإيمان. وغالباً ما أشعر أنني أسير على حبل مشدود بين الإيمان الطفولي والإيمان البسيط الواثق. الفرق بين الاثنين دقيق مع أن: أحدهما يُبقيني في حالة طفولة مستمرة، بينما يقودني الآخر نحو علاقة ناضجة مع الله.
الكتيب الشهير “هو يقودني” الذي كتبه “والترسيزيل” يوضح إيمان الأطفال الذي يمارس في الظروف الصعبة. “سيزيك” كاثوليكي مخلص من بنسلفانيا، التحق بجماعة اليسوعيين، وتطوع للخدمة في بنسلفانيا، التحق بجماعة اليسوعيين، وتطوع للخدمة في الاتحاد السوفيتي وهو في قمة إلحاده. ولدهشته الشديدة عينه رئيسه، بدلاً من ذلك، لأن يذهب للخدمة في بولندا. وبعد مضي بضع سنين اندلعت الحرب وغزا جيش هتلر بولندا. ووسط مجموعة من اللاجئين البولنديين الهاربين إلى روسيا، وجد “سيزيك” فرصة إلهية للذهاب إلى روسيا. وتنكر في زي أحد العمال وهرب مع الهاربين إلى روسيا حيث كان يريد أن يخدم. لقد استجاب الله لصلواته.
ورغم ذلك؛ وبعد فترة بسيطة قبض عليه البوليس السوفيتين، وقضى في أحد سجون موسكون خمسة أعوام، مجتازاً في الكثير من المضايقات والمعاناة. وأثناء وحدته في سجن لوبيانكا في موسكو، قضى سيزيل الليل والنهار موجهاً الأسئلة لله: ما ها هو الخطأ الذي ارتكبته؟ لقد شعر أنه دُعي كخادم وقسيس، ولكن كيف له الآن أن يخدم وهو في الحبس الانفرادي؟ وما فائدة كل التدريب الذي تلقاه؟ لماذا يعاقب؟ وأخيراً استسلم لضغوط البوليس السري K. G. B. ووقع على اعتراف مكتوب بأنه يمارس الجاسوسية. وعندما رفض التعاون معهم فيما بعد، حكموا عليه بخمسة عشر عاماً مع الأشغال الشاقة في سيبيريا.
في منطقة جولاج حيث الظروف الصعبة، والبرد القارس، والعمل لمدة 14 ساعة حصل سيزيل أخيراً على الفرصة للخدمة كقسيس، بعدما اكتسب تدريجياً ثقة الكاثوليك الأوكرانيين. وقام بمغامرات واحتمل العقوبات وناضل مع الله، وتبددت بقايا الإيمان الطفولي واحدة تلو الأخرى. بدلاً منها نمي إيمان الأطفال البسيط اليانع على المثال الذي اقترحه “فريدريك بوتشنر”.
أولاً؛ كان على سيزيل أن يتكيف مع حقائق جديدة. ففي سنوات تدريبه على الكهنوت لم يعرف شيئاً ولو لمرة واحدة عن كيفية العمل في روسيا، فاجتاز في بولندا أولاً، ثم لوبيانكا، ثم معسكر العمل في سبيريا، وأخيراً في منفى للعمل في إحدى القرى. وفي كل هذا الأماكن واجه ظروفاً ما كان يختارها لنفسه. ولم تكن لديه أية كتب لاهوتية أو روحية يقرأها. وكان عليه أن يهرّب النبيذ والخبز لممارسة شعائر مائدة الرب. ومنعت السلطات كل أنواع التبشير. ولفترة ما شعر سيزيل بالخيانة لأن دعوته للكهنوت لم تسير كما يتوقع لها.
وتعلم سيزيل أن يقبل إرادة الله “ليس كما يريد هو أو كما يعتقد بحكمته البشرية الفقيرة”، بل بالحري “مثل ساعات اليوم الأربع والعشرين: الناس والأماكن، والظروف التي وضعها أمامنا في ذلك الوقت”. وأدرك أن عليه أن يتقبل الحياة ويتوقعها بحسب مشيئة الله وانتظر أن يساعده الله على تحقيق ذلك. وبدلاً من ذلك تعلم أن يقبل المواقف التي يسمح له بها الله بأن يواجهها كل يوم، ومعظمها لا تخضع لسيطرته. وانحصرت رؤية سيزيل في إطار الأربع والعشرين ساعة يومياً.
ثانياً؛ اكتشف سيزيك مواهب جديدة أعطاه إياها الله. وكما كان يصلي “خبزنا كفافنا أعطنا اليوم” بدأ في قبول هذه المواهب المقدمة له:
“كل يون بالنسبة لي يجب أن يكون أكثر من عقبة أحاول أن أتخطاها أو فترة زمنية عليّ أن احتملها، أو ساعات متتابعة يجب أن أعيشها. كل يوم، بالنسبة لي، يأتيني من يدي الله مخلوق بفرص جديدة لكي أتمم إرادته…. ومن جانبنا يمكننا أن نقبل وأن نقدم له كل صلاة، وعمل، ومعاناة تصادفنا في هذا اليوم، بغض النظر عن مدى أهميتها بالنسبة لنا. ومع ذلك فبين الله والإنسان لا توجد لحظات غير هامة، وهذا هو سر العناية الإلهية”.
وأخيراً؛ وفوق كل ذلك، تعلم سيزيك الثقة في الله. ويسجل كتابه الحزن والألم الذي يعانيه للتغلب على شكوكه والثقة في الله عندما يجد كل شيء في الحياة يظهر كما لو كان ضده. وتعلم ذلك بمراقبة إيمان الفلاحين من حوله. “كان الله بالنسبة لهم حقيقة مثل والدهم، أو أخيهم، أو أعز أصدقائهم”. وقد لا يستطيعون التعبير عن ذلك بالكلام، ولكن في أعماقهم يؤمنون بأمانة الله. ويثقون في الله، ويلجأون إليه في الأوقات الصعبة، ويشكرونه في أزمنة الانفراج والرحب، وإن كانت قليلة، وهم على استعداد لأن يفقدوا كل شيء في العالم على أن يُغضبوا الله، ويتوقعون أن يكون معهم طوال الأبدية.
تحير سيزيك في فهم الشعور بحضور الله. ففي معسكر سجن سيبيريا تعلم حقيقة هامة: “بالإيمان نعلم أن الله موجود في كل مكان، ويوجد لنا عندما نطلبه. ولهذا فنحن الذين يجب علينا أن نضع أنفسنا في حضرته، ونعود إليه بالإيمان، وننتقل من الخيال إلى الإيمان بأننا في حضرة أب محب يقف دائماً على استعداد لأن يستمع لقصصنا الطفولية، ويستجيب لثقتنا الطفولية البسيطة”.
وعندما قرر أن يسلم نفسه لإرادة الله، علم سيزيك أنه كان حينئذ يعبر حاجز الثقة الذي كان يخافه دائماً. ومع ذلك وعندما عبره “كانت النتيجة لا شعوراً بالخوف، بل شعور بالتحرر”.
عندما أراجع رحلتي في الحياة يمكنني أن أرى المخاطر المحزنة في الإيمان الطفولي. كان عليّ أن أتعلم أن الحياة ليست عادلة، وأن الله لن يمهد لي بطريقة سحرية أرض الملعب. وتعلمت
” من هو الأعظم في ملكوت السماوات؟ سأل التلاميذ هذا السؤال لأنهم كانوا يحاولون باجتهاد معرفة الإجابة، وأراهم الرب طفلاً لا يعرف ما هو ملكوت السماوات، ولا معنى السؤال الذي سأله التلاميذ. ثم طلب منهم يسوع أن يكونوا مثل هذا الطفل الصغير، لا يعرف بمعنى يفهم، ولا يهتم بمعنى يقلق” فريدرك بوتشنر |
أن الناموس لا يعلمني الفضيلة، أو النضج، بل ربما يعلمني عكس ذلك. وتعلمت أن الاتكال الخاطئ على الآخرين يمكن أن يوقف النمو الروحي.
إنني ما زلت أسعى لبساطة إيمان الأطفال الناضج. وقد استفدت من أفكار والتر سيزيك. وبالرغم من أن ظروفنا مختلفة فالتحدي متشابه: أن نثق بأن طريق الله هو الأفضل دائماً. وحالة الطفل تمثل حالتي في علاقتي مع الله، لأنني خليقة ساقطة تبحث عن علاقة مع الخالق الكامل.