التوبة – محبة الابن وفرح الآب – د. وهيب قزمان بولس
التوبة – محبة الابن وفرح الآب – د. وهيب قزمان بولس
التوبة – محبة الابن وفرح الآب – د. وهيب قزمان بولس
+ حبك غصبك وتجسدت لأجلنا:
التوبة هي إستجابة قلب الإنسان لمحبة الله المتدفقة، التي تجلَّت في ميلاده من العذراء مريم، إذ غصبه حبه حتى تجسد من أجلنا. هذه الإستجابة هي رجوع الإنسان إلى أحضان الله، والإلتفات للمسيح بقلوبنا الهزيلة، لنلتقي به في عمق القلب والنفس. ومهما كانت خطايانا فإن نور محبته وقدرة نعمته تخترق هذه الأعماق، لأنه ” أشرق على الجالسين في الظلمة وظلال الموت”.
+ من محبة الذات إلى محبة الرب يسوع:
إن يسوعنا يعطف علينا بلا حدود، حتى يجعل الخاطئ يتحول من عشق شهواته ونجاساته إلى محبة مخلصنا وفادينا، ] لأن المحبة الإلهية عندما تهبط على الإنسان بغزارة، فإنها تجعل النفس تنجذب إلى الله بقوة[[1]، لأنه قدم نفسه عن خطايانا جميعًا…. يسوع الذي لم يدعنا عبيدًا فحسب بل أحباء وأخصاء لأنه ” صديق الخطاة”، بل و” محب العشارين”.
+ التوبة فرح الآب[2]:
توبة الإنسان جهاد ورجوع إلى الله وإعتراف بالخطية، وندم وشعور بعدم الاستحقاق ” إجعلني كأحد أجراك” (لو19:15)، أي أن التوبة تعني رجوع الابن الضال إلى حضن الآب، وفرح الآب، الله يشعر أن الإنسان كان ميتًا بالخطية فعاش بالتوبة. ومن أجل هذا يركض الله ويقع على عنقه ويقبله.
الله يجد ويبحث عن الخروف الضال، ومتى وجده يضعه على منكبيه فرحًا (لو5:15)، ويفتش بإجتهاد عن الدرهم المفقود، وإذا وجده يدعو الملائكة بلسان المرأة التي أضاعت الدرهم قائلاً: ” أفرحن معي أني وجدت الدرهم الذي أضعته” (لو9:15). ” فالسماء تفرح” (لو7:15)، والملائكة تفرح (لو10:15) والآب السماوي يقول ” نأكل ونفرح” (لو23:15)، وجميع مَنْ في البيت (الكنيسة والسماء) يفرحون (لو24:15).
والآب السماوي يقول: ” كان ينبغي أن تفرح وتُسرَّ لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجد” (لو32:15).
التوبة أعظم تقدمه تفرح قلب الله:
نحن نستعيد بالتوبة مكانتنا الأولى في حضن الآب، ونُحمل على منكبي المسيح. ولكن ينبغي إلاّ ننسى النصيب العظيم الذي يسر به الرب من توبتنا: إنه الفرح … الفرح … الفرح.
لقد قدّم الشهداء دمائهم والنساك أتعابهم، وأنا اليوم ماذا أقدم للرب؟ إن التوبة والرجوع لله تقدمة رائعة تفرح قلبه.
فهيا بنا يا أخي نُفرِح قلب الآب ونتوب، هيا بنا نُسعد قلب الله، ونقدم له تقدمة رائعة جدًا، تُضاف إلى تقدمات الشهداء والقديسين. هيا بنا نتوب كل يوم وكل لحظة. ليكون الآب فرحًا دائمًا: نقف في الصلاة كتائبين، ونخدم كتائبين مقدمين ليسوع أعظم عطية: خروفًا يضعه على منكبيه. أو ابنًا على عنقه ويقبله.
+ ربي يسوع: سأعيش بنعمتك كل أيام حياتي في التوبة، لكي أعيش دائمًا في حضنك وأفرّح قلبك بي.
+ ربي يسوع: سأخدمك في كنيستك، ساعيًا لرجوع الضالين لأفرّح قلبك برجوعهم إليك أمين.
التوبة نقطة إنطلاق الأخبار السارة[3]:
القديس يوحنا المعمدان وربنا يسوع المسيح كلاهما يبدأن كرازتهما بنفس الكلمات المشجعة ” توبوا لأنه قد أقترب ملكوت السموات” (مت2:3). هذه هي نقطة بداية الأخبار السارة؛ إنها التوبة. بدون التوبة لا يمكن أن تكون هناك حياة جديدة ولا خلاص، ولا دخول إلى الملكوت.
وعندما نتحول من “الكتاب” إلى الآباء، نجد نفس الحقيقة يتم التأكيد عليها بقوة. فعندما سُئل أنبا ميلسيوس عما يفعل في الصحراء، أجاب ” جئت هنا لأبكي لأجل خطاياي”[4]، وهذه التوبة ليست مجرد مرحلة تمهيدية فقطن بل تستمر طوال الحياة.
وبينما كان أنبا صيصوي راقدًا على فراش الموت، ويحيط به تلاميذه، رأوه وكأنه يكلم شخصًا. فسأله تلاميذ: مع من تتحدث يا أبانا؟ أجاب ” ها إني أرى الملائكة وقد أتوا ليحملونني، وأنا أستعطفهم أن يمهلوني قليلاً… بعض الوقت لكي أتوب، فقال له تلاميذه: ]لا حاجة لك للتوبة يا أبانا[ فأجابهم الشيخ ]في الحقيقة أنا لست متأكدًا إن كنت قد بدأت أتوب أم لا[[5].
التوبة حياة مستمرة:
والقديس مرقس الناسك يصر على ] أنه ليس أحد صالح ورحيم مثل الله، ولكنه لا يغفر لمن لا يتوب… وصايا الله يمكن أن تُختزل في التوبة. ونحن لا نُدان بسبب تعدياتنا الكثيرة، بل بسبب رفضنا أن نتوب. لأنه التوبة تظل ناقصة حتى تكتمل عند لحظة الموت[[6].
ويقول أنبا إشعياء الإسقيطي ] إن ربنا يسوع المسيح أوصانا أن نستمر في التوبة حتى آخر نفس. لأنه لو لم تكن هناك توبة لما خلص أحد[[7]. والقديس مار إسحق السرياني يقول: ] خلال الأربعة والعشرين ساعة يوميًا نحن نحتاج إلى التوبة في كل لحظة من لحظات هذه الساعات[[8].
صلاة يسوع:
إن صلاة يسوع التي تُمارس اليوم بكثرة عما كانت تُمارس منذ خمسين عامًا مضت، هي صلاة توبة أساسًا، وخاصة حين تُستعمل في صيغتها الطويلة: ” يا ربي يسوع المسيح، ابن الله، أرحمني أنا الخاطئ”. ويجب أن نضع في إعتبارنا الإصرار المستمر على التوبة.
رجاء من ليس له رجاء:
إن ما نحضره أمام المسيح في الاعتراف ليس مجرد خطايا خاصة معينة، بل أيضًا نحضر أمامه حقيقة حالة الإثم العميقة التي في داخلنا…أي الفساد العميق جدًا الذي لا يمكن التعبير عنه تمامًا بالكلمات، والذي يبدو أنه يتملص ويراوغ أمام ذهننا الواعي وإرادتنا.
فنحن نسأل ونطلب أن نُُشفى من هذا الفساد، أهم من كل شيء آخر. إن الإعتراف كسر شفاء ليس هو مجرد أمر ضروري مؤلم، أو نظام مفروض علينا من سلطة الكنيسة، بل هو عمل مملوء بالفرح والنعمة المخلصة، فبواسطة الإعتراف نتعلم أن الله هو في الحقيقة الكاملة ” رجاء من ليس له رجاء” (قداس القديس باسيليوس) إذن فالتوبة والإعتراف ليسا مجرد شيء يمكن أن نفعله بأنفسنا فقط، أو بمساعدة الكاهن، بل هما شيء يقوم الله بعمله معنا، وفي كل من المعترف والكاهن، وبكلمات القديس يوحنا ذهبي الفم: ] دعونا نطبق على أنفسنا دواء التوبة الخلاصي، دعونا نقبل من الله التوبة التي تشفينا. فلسنا نحن الذين نقدم التوبة لله، بل بالأحرى هو الذي ينعم علينا بالتوبة[[9].
الإفخارستيا رحلة توبة، للتمتع بالمجد الإلهي[10]:
الكنيسة كيان “ليتورجي” يتحقق وجوده بتمجيد الله، ويبلغ كماله في العبادة الليتورجية، التي وضعت فيها الكنيسة كل خبرتها الإيمانية والروحية، في أبهى وأتم صورة.
والإفخارستيا (القداس الإلهي) هي مركز وقلب العبادة الليتورجية، بل هي سر الكنيسة. فالمسيحيون يقيمون الإفخارستيا، والإفخارستيا تُقيم المسيحيين.
وإن كنا نحن جميعًا مدعوين لأن نعيش حياة التوبة طوال أيام غربتنا على هذه الأرض، فإن القداس الإلهي رحلة توبة، فيها نتغير عن شكلنا وفكرنا مُعترفين بخطايانا، إكليروس وشعب، إذ يقول الأب الكاهن ” أيها الرب العارف قلب كل أحد، القدوس المستريح في قديسيه، الذي بلا خطية والقادر على مغفرة الخطايا. أنت تعلم إني غير مستحق ولا مستعد ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة، وليس لي وجه أن أقترب وأفتح فمي أمام مجدك الأقدس، بل ككثرة رأفتك إغفر لي أنا الخاطئ، أمتحن أن أجد نعمة ورحمة في هذه الساعة ” (الصلاة السرية).
وإن كنا في بداية القداس نصلي تائبين، لأننا في نور حضور الثالوث القدوس، ومجد الآب، فلأن الكنيسة قد أدركت بوعيها المستنير بالروح القدوس ذلك المشهد القديم جدًا، حين أتى إشعياء النبي ليعاين مجد ابن الله، وكانت أذياله تملأ الهيكل، والسيرافيم يصرخون، فصرخ هو أيضًا تائبًا: ” ويل لي لأني هلكت، لأني نجس الشفتين…”.
فأجابه الحمل المذبوح عن حياة العالم بجمرة وضعها بين شفتيه قائلاً: “ هذه قد مست شفتيك فأنتزع إثمك، فكفر عن خطيئتك” (إش 1:6ـ7). ” وكما طهّرت شفتي عبدك إشعياء النبي، عندما أخذ أحد السيرافيم جمرة بملقط من على المذبح، وطرحها في فيه.. هكذا نحن أيضًا الضعفاء عبيدك الطالبين رحمتك… إعطنا يا سيدنا هذه الجمرة الحقيقية المعطية حياة للنفس والجسد والروح، التي هي الجسد المقدس والدم الكريم اللذان لمسيحك “. (قسمة القداس الكيرلسي).
لذلك رتبت الكنيسة أيضًا أن تكون توبتنا وإعترافنا (سر التوبة والإعتراف) سابقة لتناولنا من جسد الرب ودمه!
+ وأني أعتبر الجزء الأخير من صلاة القسمة أقوى طلبة تقدمها الكنيسة من أجل التوبة، التي تعدنا للشركة في مجد الله: ” يا حمل الله الذي بأوجاعك حملت خطايا العالم، بتحننك إمح آثامنا…عند إصعاد الذبيحة على مذبحك، تضمحِّل الخطية من أعضائنا بنعمتك…
عند إستحالة الخبز والخمر إلى جسدك ودمك، تتحول نفوسنا إلى مشاركة مجدك، وتتحد نفوسنا بألوهيتك (قسمة القداس الكيرلسي).
1 بتصرف عن الابن الضال للقمص بيشوي كامل.
2 القديس اسحق السرياني عن كتاب درجات المحبة المسيحية والكينوسيس، د. رؤوف إبراهيم، تروي، ميتشجان 1998، صـ53.
3 بتصرف عن التوبة في الاختيار الارثوذكسي، للأسقف كاليستوس وير، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، بيت التكريس سنة2003.
[4] The sayings of the desert fathers,
[5] A.P. Sisoes 14, المجمعة الأبجدية
[6] On those who think they are made righteous by works (PGb5: 940D).
[7] Homily 11.
[8] Homily 70.
[9] On repentance 73 (P.G. 49: 3270.
10 بتصرف عن كتاب الإفخارستيا رحلة توبة، للقس بنيامين مرجان.