Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

الرؤية الرعوية واللاهوتية في تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم (2) د. سعيد حكيم يعقوب

الرؤية الرعوية واللاهوتية في تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم (2) د. سعيد حكيم يعقوب

الرؤية الرعوية واللاهوتية في تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم (2) د. سعيد حكيم يعقوب

الرؤية الرعوية واللاهوتية في تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم (2) د. سعيد حكيم يعقوب

إقرأ أيضاً: الرؤية الرعوية واللاهوتية في تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم (1) د. سعيد حكيم يعقوب

تعاليمه اللاهوتية:

لقد اهتم بتقديم كتابات تتسم بالعمق والبساطة والوضوح. وفي هذا المجال قدم سلسلة عظات تحمل رؤيته اللاهوتية في بعض الموضوعات التي تمس الإيمان المسيحي. ورغم أنه قد انشغل بشكل أساسي بأعمال الرحمة في خدمة الفقراء والمعوزين، وكرّس جزءًا كبيرًا من حياته في خدمة كل من له احتياج، ورغم تأكيده على أن الحياة التعبدية لا يمكن ولا ينبغي أن تبقى في عزلة عن الحياة العملية، حيث إن التقوى عنده لم تكن بديلاً عن الخدمة والعمل من أجل المحتاجين، إلاّ أنه قد خصص وقتًا ليس بالقليل للرد على الهرطقات، وللرد على اليهود واليونانيين ثم قدم مجموعة عظات عن جوهر الله غير المدرك، مكونة من 12 عظة، وهى مقسمة إلى قسمين كما يتضح من محتواها:

1 ـ ضد الأنوميين[1] (من عظة 1ـ6).

          2 ـ عن وحدة الجوهر الإلهي (من عظة 7ـ12).

          وقد ألقاها في خريف سنة 386 ومطلع سنة 387 في مدينة أنطاكية، باستثناء العظتين الأخيرتين اللذين ألقاهما في مدينة القسطنطينية سنة 398[2]. ونظرًا لخطورة الأفكار التي نادى بها الأنوميين على نقاوة العقيدة وسلام الكنيسة، فقد قام ق. يوحنا ذهبي الفم بتخصيص مجموعة من العظات للرد عليهم وتفنيد آرائهم المنحرفة وكشف مدى زيف هذه الآراء وخطورتها. ولكي يخصص ق. يوحنا ذهبي الفم سلسلة طويلة من العظات للرد عليهم، فهذا يشير إلى أن المشكلة التي أثاروها، كانت مشكلة خطيرة. فبرغم مرور أكثر من نصف قرن على إدانة الآريوسيين ( من قِبل المجمع المسكوني الأول في نيقية سنة 325) إلاّ أنها كانت موجودة بأشكال متنوعة، وتتسم بالغرابة والتناقض، ولأنه راعي أمين على رعيته، فلم يكن يرغب أن ينحصر في موقف الدفاع، بل شن هجومًا شديدًا على خصومه، وكان يهدف من وراء ذلك، ليس فقط دحض آراء خصومه المنحرفة، بل وأن يُقيم أولئك الذين سقطوا، كما عبّر هو نفسه عن ذلك، بأن هذا كان هدفه وفي ذلك كانت سعادته. هذه العظات تقدم لنا ق. ذهبي الفم كمعلّم لاهوتي مقتدر، صاحب رؤية متميزة تستند على تعاليم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وأيضًا على تقليد الآباء. أيضًا كمعلّم قادر على كشف زيف الهراطقة وإدعائاتهم الباطلة.

          ففي عظاته الخمس الأولى ينقض آراء الأنوميين الخاصة بإمكانية معرفة جوهر الله. لأنهم نادوا بأن الإنسان لديه الإمكانية لمعرفة جوهر الله، وهذا ما اعتبره ق. يوحنا ذهبي الفم تزييف وخداع. وقد استند في رؤيته على الأنبياء وعلى تعاليم القديس بولس. فيرى أن الأنبياء قد تحيروا في إدراك جوهر الحكمة الإلهية، وحكمة الله تأتي من جوهر الله، وطالما أن حكمة الله تظل غير مدركة، إذًا فالجوهر الإلهي، سيبقى على كل الأحوال أمر غير مُدرك. فإذا كنا نجهل طاقات الله (ενεργšιες του θεού) التي استُعلنت في الخليقة، والتي يدعوها ذهبي الفم (oikonom…a)، فهل يمكن أن ندرك جوهر الله؟ وقد ادعى الأنوميون أيضًا ” أن الإنسان يعرف الله معرفة جيدة، تمامًا كما يعرف الله ذاته ” يرفض ق. يوحنا ذهبي الفم هذا الإدعاء، ويستند في هذا على أن الإنسان في ذاته هو (تراب ورماد) (تك27:18). ولكنه كما يؤكد قد أخذ موهبة الحرية كتكريم له، وهذه الموهبة تُعطى له قيمة كبيرة. ومع هذا فلا ينبغي للإرادة الإنسانية أن تتباهى، بالإدعاء بأن لديها إمكانية لإدراك جوهر الله بالعقل. إن الإنسان ليس فقط لا يمكنه إدراك جوهر الله، بل ولا يمكنه إدراك جوهر ذاته، طالما أنه لا يعرف ماهية نفسه، ولا العلاقة بين النفس والجسد. ولذلك فعلى الإنسان أن يُسلّم ذاته لله بلا شروط وبلا نقاش، تمامًا مثل الإناء في يد الفخاري إذًا ما أراد أن يأتي في علاقة مع الله[3].

          والدليل على ضعف الإنسان عن إدراك جوهر الله، هو جهله بالعالم الطبيعي الفوقاني. لكن جهل الإنسان، غير مرتبط بوجود الله، بل بماهية جوهر الله. ثم يشير إلى الكثير من رسائل ق. بولس، ليؤكد على أن الرسول بولس نفسه قد أكد على أن معرفته بالله، هى معرفة محدودة، فإن كان بولس يُنكر على نفسه المعرفة التامة عن الله، كما جاء في رسالته إلى أهل فيلبي (في13:3)، فكيف يستقيم إدعاء الأنوميين حول إمكانية إدراك جوهر الله؟ إن الحقيقة لا يُعلّمها كلام بشري، بل سيُعلنها الله (في15:3).

          ثم يستطرد ق. يوحنا ذهبي الفم قائلاً إن الله غير مدرك من الملائكة أيضًا. ومن المعروف أن الفرق بين البشر والملائكة فرق كبير، بقدر الفرق بين الأعمى والمبصر. بل أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك جوهر الملائكة، ثم يتساءل وهل معرفة الإنسان هى معرفة كافية؟ يقول إن المعرفة الحالية تختلف عن المعرفة المستقبلية على قدر اختلاف الإنسان الناضج الذي يعرف ماهية نفسه، عن المولود الذي يرضع (1كو13). فالمعرفة الحالية هى معرفة جزئية. على سبيل المثال أنني أُدرك أن الله حاضر في كل مكان، وهو بلا بداية وبلا نهاية. وأنه غير مولود، ويلد الابن، ومنه ينبثق الروح القدس، لكنني أجهل كيف يحدث كل هذا. فالله لا يُعبر عنه، لا يمكن إدراكه، وغير مرئي ويعلو على قدرات الإنسان الذهنية، لا يمكن فحصه حتى من الملائكة، ولا يُدركه الشاروبيم، ولا تستطيع الرئاسات والسلطات والقوات أن تفحصه، وأن الابن والروح القدس هما فقط مَن يعرفان الآب[4].

          في العظة السادسة والتي ألقاها سنة 386 قبل الاحتفال بعيد الميلاد بقليل، وهو العيد الذي يصفه بأنه (عيد الأعياد) لأن منه أخذت الاحتفالات الأخرى بدايتها (الظهور الإلهي ـ القيامة ـ الصعود ـ عيد الخمسين). يؤكد بأن تأنس المسيح هو سر يفوق الإدراك.

          وفي القسم الثاني من العظات (من 7ـ12) والذي يحمل عنوان “وحدة الجوهر الإلهي” نجد أن الموضوع يتغير في الفقرة الثانية من العظة السابعة ويبدأ بعبارة ” إن كان الابن له نفس القوة ونفس السلطان وهو من نفس جوهر الآب ” ويعلق بأن هذا الموضوع لا ينبغي أن يكون موضوع بحث خاصةً وأن الكنيسة قد أخذت موقف رسمي في مجمع نيقية سنة 325م. لكنه حين يُناقش هذا الموضوع، فلكي يُقنع المعارضين، بأن الابن هو واحد مع الآب في الجوهر، ويستند في ذلك أولاً، على أساس الكتاب المقدس، وثانيًا، على رؤية البشر المشتركة كيف أن ” ذلك الذي يلد هو واحد في الجوهر مع مَن ولده “، ثالثًا: يستند إلى الطبيعة المشتركة للأشياء.

          أما فيما يتعلق بالعظة الثامنة فهى من حيث المحتوى لا علاقة لها بهذا القسم من العظات، إذ يقول ذهبي الفم ” لقد سبق هذا جدل مع الهراطقة، الذين أشاروا إلى (مت23:20) لكي يؤكدوا على أن المسيح ليس له نفس سلطان الأب. لكنه ينصح بدراسة مُدققة ومتأنية للكتاب المقدس، لأنهم في حالات كثيرة يسيئون التفسير. ومرة أخرى ينقض إدعاء خصومه من خلال نصوص الكتاب المقدس، وفي بقية العظة يُقدم تفسيره الشخصي للجزء المشار إليه (مت21:20)، لكي يُزيل الشكوك التي ربما قد تكون طرأت على أذهان المستمعين.

          وفي العظة التاسعة يُشير إلى قيامة لعازر، ويرد على الهراطقة الذين قالوا بأن المسيح قبل أن يُقيم لعازر صلّى إلى الآب، إذ قالوا ” كيف يمكن لذاك الذي صلى أن يكون واحد في الجوهر مع مَن يصلي إليه ” إذًا فالمسيح ليس واحدًا في الجوهر مع الآب. يرد ق. يوحنا ذهبي الفم ناقضًا هذا الإدعاء، بأسلوبه المعتاد متسلحًا بنصوص الكتاب المقدس. إذ يقول إن الصلاة لم تكن لأجل القيامة، بل لأجل تعليم من كانوا حاضرين في تلك الساعة. فصلاة يسوع لا تمثل برهانًا على عدم وحدته في الجوهر مع الآب. لأنه كثيرًا ما كان يصلي، لكي يعلّم تلاميذه أن يصلوا. وهل هناك طريقة للتعليم أفضل من التعليم بالمثال؟ الصلاة بالنسبة للمسيح لا تعني نقصًا في القوة، والدليل على هذا أن المعجزات التي صنعها لم تكن يسبقها صلاة[5].

          وفي العظة العاشرة يقول إن تجسد الابن وليس الآب ليس دليلاً يُتخذ ضد ألوهية الابن. وحين صار أسقفًا للقسطنطينية في بدايات سنة 398، ألقى العظتين الأخيرتين هناك (عظة11ـ12)، وقد مرّت عشرة سنوات من تاريخ إلقائه للعظات (من 1ـ10) التي ألقاها في مدينة أنطاكية. إلاّ أنه قد واجه في القسطنطينية نفس المشاكل التي واجهها في مدينة أنطاكية، لأن الآريوسية كانت قد انتشرت. في عظة 11 أثناء تجليسه على الكرسي الأسقفي، تحدث عن أن العهد القديم والجديد يتفقان فيما بينهما بشكل مطلق، ويتحدثان عن ألوهية الابن. وفي العظة 12 وهى تعتبر امتدادًا للعظة 11، لأنها ألقيت في وقت قريب جدًا أى في الأحد اللاحق، يتحدث فيها عن شفاء المقعد، ويُدلل بها على ألوهية المسيح، ويدعم هذا من الطريقة التي تحدث بها مع اليهود (يو5ـ17). أما عن عظاته ضد اليهود، فإنه يُظهر فيها أبوة الراعي الذي يعتني بخلاص أبنائه ومصيرهم الأبدي. ثم يشرح موضوع الناموس وأن لا ضرورة له الآن، ولا معنى للتمسك بأحكامه مشيرًا إلى ما كتبه الرسول بولس في هذا الصدد، حيث إن البار أمام الله هو الذي يحيا بالإيمان وليس الذي يحيا بعمل الناموس. وأن ما دعاه لتقديم هذه السلسلة من العظات ضد اليهود هو ما كان يستشعره من خطر جراء تمسك بعض المسيحيين الضعفاء بأحكام الناموس.

لذلك قدم أيضًا سلسلة عظات ضد اليهود، مكونة من 8 عظات ألقيت سنة 386. إذ يذكر في عظته الثانية ضد الأنوميين أن صراعه ضدهم قد تراجع، وأن صراعًا آخرًا ضد اليهود قد بدأ، وهو مُثقل به، حتى يسند الاخوة الضعفاء الذين سقطوا في الخداع اليهودي. إذ كان هناك بعض المسيحيين الذين اعتادوا أن يصوموا وأن يختلطوا مع اليهود. ففي العظة الأولى بدأ يشرح ويوضح أن الناموس كان ضروريًا حتى مجيء المسيح، وبعد مجيئه صار أمرًا زائدًا، فلا معنى للتمسك بأحكام الناموس، مُشيرًا إلى ما كتبه الرسول بولس ” بأعمال الناموس كل ذي حسد لا يتبرر أمامه ” (رو20:3)، لا فرق في هذا بين اليهودي واليوناني ” لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأنه ربًا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص ” (رو12:10). وأن في المسيح ” قد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون ” (رو21:3ـ22). هذا هو كلام القديس بولس، وكلامه يكتسب أهمية خاصة، بسبب أصله اليهودي. فهو كيهودي يعرف أهمية الختان، وأهمية الناموس بشكل عام. إذًا فالناموس يكتسب قيمة عندما يقود للمسيح، وحيث إن المسيح قد أتى، فهو إذًا بلا نفع كما يقول في عظته الثانية. وفي العظة الثالثة يُشير إلى أولئك الذين يحتفلوا بالأصوام والبصخة على أساس اليوم الرابع عشر من شهر نيسان، سواء كان هذا اليوم هو يوم أحد أم لا. هذه المشكلة وجد لها المجمع المسكوني الأول سنة 325م حلاً وأن عدم قبول البعض لقرارات الكنيسة، قد أثار الضعف داخلها. وبحسب رؤية ق. يوحنا ذهبي الفم، ليست هناك أهمية لعدد هؤلاء حتى ولو كان الرافض لقبول هذه القرارات هو واحد فقط، طالما أن الضعف موجود ويثير خطرًا. ويشرح بأننا نصوم أربعين يومًا بالطبع وهذا من أجل خطايانا، دون أن يرتبط الصوم بسر الآلام والصليب، لأن هذه ليست أحداث حزن، بل هى أحداث فرح، لأن بها خَلُص الإنسان. ثم يستطرد قائلاً إن الشركة في الصوم اليهودي كان يُمثل خطوة أولى، تقود لسقوط المسيحي في شباك اليهودية. ويتساءل ق. يوحنا ذهبي الفم، كيف يحتفل اليهود بالبصخة ويصوموا في أرض غريبة ووطن غريب، الأمر الذي يمنعه الناموس، وكان قاطعًا في هذه الجزئية (تث5:16ـ6). والأمر الأكثر غرابة بينما هم يخالفون الناموس، يركض المسيحيون نحوهم ويحاكونهم[6].

          ويختم العظة الثالثة بدعوة المسيحيين (الإخوة الضعفاء) بأن يعودوا للمسيح، ويُصلي بأن يسود الوفاق والوئام بين الاخوة. ويُشير إلى أنه في عصور أخرى كانت خطايا اليهود كثيرة، منها قتل الأبناء، السقوط في عبادة الأوثان، الجحود، ومع هذا لم يفقدوا رضى الله وحنوه، إلاّ أنهم الآن، لا يمكنهم أن يتمتعوا بهذا العطف بعد. لأنه يقول: ” لقد قتلتم المسيح وسفكتم دمه، وصرتم غير قابلين للإصلاح “. هكذا فإن الكوارث التي حلّت بهم، جاءت نتيجة ترك الله لهم. وقد كان بين الذين يسمعون إليه، يهودًا، قد أراد أصدقاؤهم من المسيحيين أن يستمعوا إليه. ثم يوجه كلمته إلى المؤمنين أن ينتزعوا من المجمع، إخوتهم الضعفاء الذين ذهبوا مخدوعين إلى هناك. ويقول إن الناموس الذي اعتلى الشيب رأسه (أى الذي شاخ)، لا يمكنه أن يُصارع. ويعود إلى عبارة الناموس كيف أن العبادة هى في أورشليم فقط، وبالتحديد في الهيكل، وينتهي إلى نتيجة مفادها، أن هذه الأشياء غير موجودة الآن، لأنها دمرت، وبناء عليه فهذه العبادة لا يمكن أن تصير في المجمع الآن، لأنها ستكون عبادة خارجة على ما يُقره الناموس. ثم يتساءل عن مدى صحة الكهنوت اليهودي الآن، بعد مجيء المسيح، ويقول إن الكهنوت القديم قد انتهى، ونشأ كهنوت جديد على طقس ملكي صادق. لقد تراجع الكهنوت اليهودي، كما تراجع الناموس، لكي يُعطي مكانة للكهنوت المسيحي. إذًا لماذا هذا الاهتمام باليهود وبأعيادهم من قبل بعض المسيحيين؟ ويوجه لهم النصح بالابتعاد عن اليهود، أما بخصوص من سقط من الإخوة في الفخاخ اليهودية، فينصح بجذبهم مرة أخرى إلى حظيرة الإيمان. أما عن الأوصاف الثقيلة واللغة القاسية التي استخدمها ضد اليهود، فلأنه كان يرى الخطر الكبير المحدق بالمسيحيين والذي كان يُهدد سلام الكنيسة ووحدتها، ولأنه راعي حقيقي، فقد شعر بالتزام تجاه حماية رعيته من هذا الخطر اليهودي[7]. أما عن كتاباته ضد اليهود واليونانيين الذين أنكروا ألوهية المسيح، فقد أكد ق. يوحنا ذهبي الفم بحجج قاطعة على ألوهية المسيح له المجد، وهذه الحجج على عكس ما يتوقع المرء، لم تستقى من الكتاب المقدس، بل أنها تستند إلى أحداث تحمل حقائق لا يستطيع أحد أن يتشكك فيها وهى:

          1 ـ ما قام به المسيح له المجد من أعمال أثناء فترة حياته على الأرض، هى أعمال متفردة في التاريخ الإنساني، وتتجاوز كل القدرات الإنسانية، وهذا يبرهن على ألوهيته.

          2 ـ موت المسيح على الصليب، لم يُشكّل نهاية لعمله الخلاصي، بل هو محطة وبداية جديدة في حياة الكنيسة التي أسسها بدمه. هذا الحدث غير المعتاد في تاريخ الإنسانية يظهر قوة المسيح الفائقة.

          3 ـ لقد خرجت مدينة بيت لحم من دائرة عدم الاهتمام وصارت موضع للسجود والعبادة، وهذا حدث آخر لا تخطئه العين ويشهد على قوة المسيح الإلهية.

          4 ـ التحول الشامل الذي حدث في نفس ق. بطرس بعد القيامة، وأيضًا في نفوس التلاميذ الآخرين، والذي جعلهم مبشرين بالحقيقة وشهودًا لجراحات المسيح، يُشكّل أيضًا شهادة أخرى لألوهية المسيح.

          5 ـ تأسيس الكنيسة في مدة زمنية قصيرة، وفي مناخ مُحاط بالصعوبات والأخطار، في عذابات وميتات، من قبل 12 تلميذ مزدرى بهم، ثم اختيار الصليب الذي كان رمزًا للعنة ليكون أجمل ما في الكنيسة، وسندًا للمؤمنين، بما يشهد كل هذا، سوى بألوهية المسيح.

          6 ـ حدث آخر يفوق الفكر البشري بحسب ق. يوحنا ذهبي الفم، وهو أن التعاليم والعقيدة المسيحية، برغم الظروف الصعبة والمعقدة قد انتشرت في كل مكان، وليس هذا فقط بل وازدهرت بشكل فائق. ومن خلال التعاليم المسيحية انفتحت طرق حياة جديدة، وتغيرت العادات والتقاليد القديمة، وحلّت الفضائل محل الشهوات القديمة، وجذب الطريق الضيق والكرب الكثيرين إليه. هكذا تغير شكل العالم، وهكذا تجددت حياة الكنيسة، وهكذا شهد التاريخ أكبر وأعظم ثورة، ثورة النور ضد الظلام، ثورة الحياة ضد الموت، النعمة والبركة ضد لعنة الناموس[8].

بالإضافة إلى هذا كله، يعود ق. يوحنا ذهبي الفم، فيدلل على ألوهية المسيح من خلال النبوات أيضًا، والتي تمت جميعها بلا استثناء في شخصية المسيح. وبشكل خاص يذكر النبوات الخاصة بتأسيس الكنيسة، خراب أورشليم وهيكل سليمان والذي حدث كما هو معروف سنة 70م عندما احتل الإمبراطور الروماني تيطس المدينة. ولم يتجاهل ذكر محاولة الإمبراطور يوليانوس الجاحد، إعادة بناء الهيكل، والتدخل الإلهي لوقف هذا العمل. من ناحية أخرى فإن كتّاب الأسفار المقدسة يُشكّلون بحسب ذهبي الفم دليلاً قويًا جدًا، في مواجهة الرافضين لألوهية المسيح. فهم لا يسجلون فقط معجزات المسيح، بل أيضًا أصله المتواضع، وآلامه وصلبه، وهى أمور كان من الممكن جدًا، بسبب الامتنان والوقار الفائق لمعلّمهم، أن يعبروا عليها ولا يذكرونها.

       أخيرًا فيما يتعلق بنهجه اللاهوتي في مجال التعاليم الخريستولوجية فقد كان ق. يوحنا ذهبي الفم يؤكد دومًا على حقيقة المسيح الواحد. ورغم أنه أخذ جسدًا، إلاّ أنه لازال هو الله الكلمة، بلا انفصال أو اختلاط. فما حدث في التجسد هو إتحاد وليس امتزاج، فطبيعته لم تتحول إلى طبيعة أخرى، بل اتحدت بالأخرى.

            ويُميز بين تعبير جوهر (ous…a) وطبيعة (fÚsh) ويقول إنها كلمات تعبر عن الطبيعة، وبين تعبير أقنوم (upÒstash) وشخص (prÒswpo) وهى كلمات تعبر عن الشخص. ويقول إن المسيح هو من نفس جوهر الآب[9]. أما من جهة علاقة الابن بالآب، فهو يستخدم صيغة مجمع نيقية سنة 325م، في تفسيره للجزء الخاص بصلاة المسيح في بستان جثسيماني (مت39:26). وقد واجه هرطقات كثيرة ظهرت في ذلك الحين ونادت بأن الابن لم يتجسد، بل كان هذا مجرد اعتقاد وخيال (ماركيون ـ ماني ـ وهرطقات أخرى). قال ” إن هؤلاء شرعوا في هدم التعليم عن التدبير الإلهي. على الرغم من أن الآلام والموت والقبر الفارغ، أمور قد حدثت بالفعل.

 

[1] الأنوميين: مجموعة من الهراطقة خرجت من رحم الآريوسية، وكانت تتسم بالتطرف الشديد في أفكارها. وهى تنتسب إلى أفنوميوس وهو هرطوقي ظهر في القرن الرابع وقد نادى بأن الابن هو من جوهر مختلف أقل من جوهر الآب، وإن كان قد أخذ وجوده من جوهر الآب وبطريقة مماثلة قالوا إن جوهر الروح مختلف عن جوهر الآب وعن جوهر الابن. إلاّ أنه أتى من طاقة الابن، كأول وأعظم مخلوقاته.   (κατά Ευνομίου PG. 30, 861 Δ)

[2] ιωὰννου χρυσοστόμου, Εργα Δογματικά, Αθήνα 1975, σε 13.

[3]  ο.π, σελ. 14.

[4]  κατα Ευνομίου, Λογος 5,1.

[5] ιωὰννου χρυσοστόμου, Εργα Δογματικά, σελ.15.

[6] ο.π, σελ. 16.

[7] Ο.π, σελ. 174-176.

[8] Χριστου. κρικώνη ” Η προσωπικότητα Ενὸς πολυπὰθους Αγὶου ” θεσσαλονίκη 1996, σελ 235-240.

9 انظر مذكرة علم الآباء للكورسات المتخصصة (القديس يوحنا ذهبي الفم) د. نصحي عبد الشهيد.

الرؤية الرعوية واللاهوتية في تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم (2) د. سعيد حكيم يعقوب

Exit mobile version