نظرة المسيحيّة إلى الإنسان وإلى الآخر المختلف دينيًا خاصةً من وجهة نظر أرثوذكسية شرقيّة
نظرة المسيحيّة إلى الإنسان وإلى الآخر المختلف دينيًا خاصةً من وجهة نظر أرثوذكسية شرقيّة
د. جوزيف موريس فلتس
العلاقة المتبادلة:
في موضوعنا الذي نتناوله اليوم يصدق القول:
” عندما تتحدث عن الله يجب أن تتحدث عن الإنسان، وعندما تتحدث عن الإنسان يجب أن تتحدث عن الله”.
فهناك إذن علاقة متبادلة بين الله والإنسان. والحديث عن الله ـ وباليونانية Θεολογία أو Theology ـ في المسيحيّة بصفة عامة وفى الكنيسة الشرقية بصفة خاصة، كان له معتقده ونظرته للإنسان، ولهذا فإننا صرنا “نفهم” الله من خلال الإنسان و”نفهم” الإنسان من وراء “فهمنا” لله.
العِلّة والغاية من خلق الإنسان:
وفى إطار حديثنا عن نظرة الأرثوذكسية الشرقية إلى الإنسان بصفة عامة يجب أن نتحدث أولاً عن عقيدة الكنيسة من جهة “خلق الإنسان”. فالكنيسة الأرثوذكسية الشرقيّة تعتقد أن الإنسان قد “خُلِق على صورة الله ومثاله”[1].
لأن هذه العقيدة تمثل بُعدًا أساسيًا وجوهريًا في التعاطي مع موضوع الإنسان وغاية وجوده. فلا يمكن أن يكون هناك إجابة على التساؤل عن غاية الإنسان وهدف وجوده إلاّ إذا وضعنا أمامنا هذه الحقيقة الكتابية والإيمانية بأن الإنسان قد خُلق على صورة الله ومثاله. ولقد حاول الكثير من آباء الكنيسة المعلّمين تفسير آية سفر التكوين هذه ليس فقط في حديثهم عن ماهية الإنسان Anqrwpologίa) ـ Anthropology) بل وأيضًا في سياق حديثهم عن ما فعله الله منذ أن خلق الإنسان حتى جاء المسيح، أو ما يُسمى “بسرّ التدبير الإلهي” أو بعبارات أبسط سر “عناية” الله بالإنسان.
معنى ”الخلق على صورة الله ومثاله”:
ولم يكتف آباء الكنيسة الذين شرحوا عقيدتها بإيضاح هذه الحقيقة بل عملوا على شرح كل ما تعنيه هذه العقيدة[2] حتى وإن كانوا لم يتفقوا على تحديد صفة واحدة بعينها في الإنسان لتعبر عن أنه مخلوق على صورة الله ومثاله. ومنذ وقت مبكر كان من الأمور المُسلّم بها أن الصورة تقوم على الاتصال بالأصل، وبما أن الله حال حلولاً مباشرًا في أعماله فإن الصورة الإلهية تعنى أولاً أن الإنسان يكون له صلة وجودية مع الله من عمق قلبه وصميم كيانه لأننا مخلوقين للدخول في علاقة مع الله لكي يكون لنا نصيبًا في الحياة الإلهية. وكما يقول القديس أثناسيوس بأن الله [ لم يكتف بخلق الإنسان مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريقة ما، ولهم بعض من ظل (الكلمة) وقد صاروا عقلاء أن يبقوا في سعادة ويحيوا الحياة الحقيقية حياة القديسين في الفردوس ][3].
غير أن الصورة الإلهية ترتبط بصفات إنسانية محددة مثل العقل والعقلانية والحرية والقدرة على إدراك الحقائق الروحية والتمسك بالفضائل مثل الصلاح والحكمة والعدل والرأفة والمحبة والإحساس بالآخر والتألم بألمه والفرح لفرحه. ويرتبط بهذا كله ما قد أُعطى للإنسان من أن يكون “متسلطًا” ليس فقط على شهواته أى على تلك النزعات الحيوانية في داخله بل أيضًا التسلط على الأرض وبقية الكائنات الحيّة. كما أننا يمكن أن نعتبر أن ما “يبدع” فيه الإنسان فيما تمتد إليه يديه فى المجالات المتعددة، هو صورة لما نراه من “إبداع” الله الخالق.
أبعاد ”الخلق على صورة الله ومثاله”:
كل هذا يعنى أن الصورة الإلهية في الإنسان هى متعدّدة ولا يمكن حصرها في صفة واحدة بعينها وبالتالي كما يقول القديس غريغوريوس النيسى إن الإنسان يعكس صورة الله غير المدرك[4]. وكثير من الآباء الشرقيين ـ وإن لم يكن كلهم ـ يميّز بين: على “صورة” الله وعلى “مثال الله”. فالصورة بالنسبة لأولئك الذين يميزون بين اللفظين تدل على “إمكانية” الإنسان على الحياة في الله، و”المثال” يدل على تحقيقه لهذه القدرة أو الإمكانية. الصورة هى كل ما يمتلكه الإنسان منذ البداية والتي تمكنه من أن يضع خطاه في المحل الأول على الطريق الروحي. أما الشبه فهو ما يرجو أن يصل إليه في نهاية رحلته… وبحسب القديس إيريناؤس فإن الإنسان في بدء خلقته كان “مثل طفل صغير”[5] واحتاج أن “ينمو” إلى كماله. بعبارة أخرى فإن الإنسان في بدء خلقته كان بريئًا وقادرًا على التطوّر روحيًا (الصورة) لكن هذا التطوّر لم يكن حتميًا أو أوتوماتيكيًا، فلقد دُعى الإنسان للتعاون مع نعمة الله. هكذا من خلال الاستخدام الصحيح لإرادته الحرة فإنه ببطء وتدريجيًا يمكن أن يصير كاملاً في الله (الشبه أو المثال). ويُظهر هذا الأمر كيف يمكن لمفهوم الإنسان كمخلوق “على صورة الله” أن يُفسر بالأحرى بمعنى ديناميكى متحرّك لا استاتيكى ساكن. وهذا لا يعنى بالضرورة أن الإنسان قد وهبه (الله) منذ البداية كمالاً محققًا بالكامل وأعلى معرفة ممكنة، بل إنه ببساطة قد أُعطى الفرصة لينمو إلى علاقة كاملة مع الله”[6] وأيضًا علاقة مع الآخرين. هذه العلاقة التي هى غاية الإنسان وهدف وجوده.
إرادة الله الحرّة في خلق الإنسان:
فَخَلقْ الإنسان بحسب القديس كيرلس هو فعل من إرادة الله الحرة. “إرادة الله كانت كافية لخلق كل شئ“[7]. الله خَلَقَ الإنسان لأنه أراد ذلك وليس لأنه كان مضطرًا. “الله حر وليس مقيدًا بشئ“[8]. لهذا السبب يشدّد القديس كيرلس على حقيقة أن “الله كائن فوق كل احتياج“[9]. الله لا يمكن التحكم فيه من أي ضرورة خارجية حتى لو كانت هذه الضرورة تتفق مع إرادته، لأنه إن فرضنا ذلك سيكون هناك شيء خارجي أعلى وأقوى من الله.
إذن فعبارة “إرادة الله فقط كانت كافية لخلق كل شئ” يُفهم منها:
* أن إرادة الله هي المصدر الوحيد للخلق.
* وأن إرادته كانت كافية للخلق.
وعليه فَخلْق الإنسان هو نتاج إرادة الله الحرّة ومحبته وقصده، وفعله الحر. وفي فقرة واحدة ـ على الأقل ـ يتكلّم ق. كيرلس عن نوع من الالتزام من جهة الله نحو خلق الإنسان. بما أن الله صالح أو بالأحرى هو الصلاح ذاته “كان من الضروري أن تمتلئ الأرض بالخليقة العاقلة التي تَقدِر أن تمجده (تسبحه)“[10]. وهنا يتكلّم القديس كيرلس عن التزام أدبي لله، هو خلق الإنسان لأنه أراد ذلك، وليس لأنه كان غير ممكن أن يفعل غير ذلك. لقد أراد الله أن يخلق كائنات أخرى لكي تشترك في سعادته وغبطته ومجده.
بما أن خلق الإنسان هو فعل من إرادة الله، فلا يكون الخلق عملية ضرورية للطبيعة الإلهية، ولا فيض من جوهر الله. “الله الآب لم يخلقنا من طبيعته الخاصة”[11]. وعليه فالإنسان ليس هو من جوهر الله بل هو ابن الله بالتبني أو بمعنى آخر هو مخلوق دُعى للدخول في علاقة حميمية مع الله.
معنى الخلق من العدم:
وفي حديثه عن الخلق “من العدم”، لا يفهم القديس كيرلس الخلق كإنتاج من العدم، كأن هذا العدم مادة شكَّل الله منها العالم المخلوق والإنسان. لكن الخلق من العدم عند ق. كيرلس ـ كمثل جميع الآباء ـ يعنى أنه خلق بدون استخدام أي مادة سابقة. فيقول: “المادة لم تكن شريكة مع الله في الأزلية، ولا غير مولودة مثل الله، ولا شاركت الله الأزلي في الوجود، نظرًا لأنها جُلبَّت ذات مرّة للوجود، أما الله فكائن على الدوام. ولا المادة المتغيرة كانت مشابهة لله غير المتغير والثابت على الدوام، ولا القابلة للفساد كانت مشابهة لله الغير قابل للفساد، لكن العالم المادي جُلِبَّ من اللا وجود إلى الوجود وفقًا لإرادة الله. مرّة أخرى نحن لا نقول أن الله شَكَّل العالم من مادة سابقة، بل بقدرته الإلهية جَلبَ إلى الوجود ما لم يكن موجودًا بتاتًا قبلاً”[12].
أما عن الكيفيّة التي خلق الله بها العالم والإنسان خاصةً فهذه تبقى مسألة مخفية، لذلك يجب أن تُقبَل بالإيمان. فيقول: “الكتاب المقدس يقول أن الله خلق الإنسان، لذلك هذه حقيقة وفوق أي شك، ونقبلها بالإيمان، لكن كيف، من أين، من ماذا خلق الله العالم، السماء والأرض وكل الخليقة؟ ـ ليس هناك ضرورة من مناقشتها – فما يقوله الكتاب المقدس بغير وضوح كثير، ينبغي أن يُقبَل في صمت”[13].
الإنسان وغاية وجوده:
في كل ما سبق يتكلّم القديس كيرلس عن عِلة خلق الإنسان، إلاّ أنه يشير إلى هدف نهائي لخلق الإنسان، لأننا لا نستطيع أن نفصل كلاً من النقطتين: أى عِلة خلق الإنسان عن الغاية من خلقه.
فبما أن الإنسان خُلق بإرادة الله الحرّة وليس كمسألة قَدَرية، إذن فمن الضروري أن نفكر في غاية خلق الإنسان. الله بكل تأكيد هو كائن عاقل وأعماله مستحيل أن تكون غير عاقلة. وعليه فقضية نهاية أو غاية العالم، وبناءً عليه غاية الإنسان أيضًا، يجب أن تُفهَم ضمنيًا حسب الإيمان المسيحي بشكل مباشر في إطار محبة الله وحكمته. فالعالم والإنسان لهما نصيبًا في محبة الله وحكمته.
ولهذا السبب يقدّم ق. كيرلس في كتاباته غاية وقَصد خاص لخلق الإنسان، هذه الغاية يجب أن تكون بلا شك أفضل الغايات، غاية جديرة بالله وهى الأفضل لسعادة الإنسان. ” نحن قد خُلِقنا من أجل أن نوقره وحده ونُقدِّم له ترانيم حَمدَنا”[14]. يجد القديس كيرلس الهدف الخاص لخلق الإنسان في الله ذاته، في مجده، في تعظيم اسمه وصفاته المميزة.
فإن كانت غاية الإنسان خارج الله، لكان يبدو الله كمعتمد على غيره، لكن الله في كماله مستحق لكل تعظيم، وحيث إنه لا يوجد شئ أعظم من الله نستطيع أن نجد بسهولة غاية الخلق، ليس في الخليقة بل في الله.
الإنسان يَخُّص الله، لذلك فغايته توجد في بقائه أمينًا لخالقه، في كونه متآلفًا مع إلهه، وفى علاقة وشركة مع الإنسان الآخر، وفي تعظيمه لاسم الله. ويتكلّم القديس كيرلس عن الإنسان بتعبير أنه مخلوق ويفهم العلاقة بين الله والإنسان كعلاقة بين الخالق والمخلوق. “العالم هو ملك الله لأنه قد خُلِق بالله”[15]. وعندما يتكلّم ق. كيرلس عن دور الإنسان فإنه يجد غاية الإنسان تكمن في تمجيد الله، وفى تفهمه واحتوائه للآخر.
من ناحية أخرى، الله ليس لديه احتياج لشيء، وبالتالي لا يحتاج لأي تمجيد من خارج، من أي خليقة. هو إله المجد بذاته. الإنسان في تمجيده لله لا يضيف أي مجد أكثر أو أية غبطة أكثر للخالق، لأن الله هو السعادة ذاتها. الإنسان يُمَجِّد الله في وعي لما يفعل لأنه كائن عاقل، فهو خُلق بطريقة خاصة ومختلفة عن جميع الخلائق ولذلك كرَّمهُ الله بطريقة خاصة، إذ خلقه على صورته ومثاله.
أخيرًا، تمجيد الله عند القديس كيرلس يُحسَّب كغاية للخليقة كلها. الله يُمَجَّد بواسطة جميع خلائقه[16]. الإنسان وجميع الخليقة يُظهرون مجد الله لأنهم يُعلنون تحقيق إرادة الله ومشيئته الكاملة[17]، وحكمته، وقدرته، ومحبته[18]. فمجد الله يتجلّى من تلقاء ذاته في الخليقة. بجانب هذه السمة الموضوعية لتمجيد الله، يضيف الإنسان كخليقة عاقلة رغبته في تمجيد شخصي لله. الإنسان يفعل ذلك بطريقة أكثر كمالاً مما تستطيع أن تفعله الطبيعة بطريقة بدائية. وهكذا كل الخليقة تُمجِّد الله بكل الطرق.
بينما يجد ق. كيرلس غاية الإنسان الأولى والأساسية في الله، أى في تمجيده، نجده مع ذلك يفحص مسألة خلق الإنسان من جانب آخر، ويجد غاية أخرى ثانية لخلق الإنسان، فهو يقول: ” المعرفة الحقيقية لله متصلة بتمجيد الله “[19]، أي بقدر ما يعرف الإنسان الله بقدر ما يُحبه ويُمجده.
هذه المعرفة ليست مزيد من المعرفة العقليّة عن الله، بل حياة جديدة حقيقية فيها يَحصُل الإنسان على كل البركة والنعمة من الله. فعندما يرغب الإنسان في هذه الغاية في الله، فهو يتوق إلى بركته وسعادته لأنه ليس هناك شئ حسن ومبهج في ذاته لأن السعادة الحقيقية هى في الله. كما أن المعرفة الحقيقية التي يتكلّم عنها ق. كيرلس هي الحالة التي يكون فيها الإنسان في اتحاد مع الله. هذا الاتحاد هو مصدر البركة والغبطة الحقيقية للإنسان. “الله هو مصدر كل شيء صالح”[20]، وبالتالي تحقيق غاية الإنسان يعني الاشتراك في سعادة الله. يُعبِّر ق. كيرلس عن هذه الفكرة بأكثر وضوح في فقرة أخرى، هكذا: “في البدء خلق الله الإنسان على صورته… لكي ما يعيش في سعادة وقداسة”[21]. ومجد الله وسعادة الإنسان والحياة الفاضلة هى أمور متلازمة بحسب تعاليم ق. كيرلس. و”القداسة تُعطَى من الله للإنسان“[22]. السعادة الحقيقية تتمثل في امتلاك الصلاح والفضيلة. وغاية الإنسان الموضوعية هى مجد الله. وبما أن الله هو سعادة الإنسان، لذلك يصبح الله أيضًا غاية الإنسان الشخصية. الإنسان المنفصل عن الله ليس بالحقيقة إنسانًا، فهو يحقق شخصيته في الله فقط، لأن الله هو أصل وجوده.
القداسة والسعادة عنصران متلازمان نظرًا لأن القداسة هي ـ بتعبير آخر ـ إتحاد الإنسان بالله، هذا الاتحاد هو الذي يجعل الإنسان بالحقيقة سعيد.
الله في محبته الأبدية هو الذي يضع في قلب الإنسان الرغبة الرائعة للفضيلة، بل ما هو أكثر، إذ أن كل المواهب الصالحة تُعطى له من قِبَل الله لكي ما يعيش دائمًا في قداسة وبركة وسعادة.
بما أن الله محبة، وليس فقط صالح بل الصلاح ذاته، فإن محبته تظهر في العِلَّة وتحقيق الغاية من خلق الإنسان. فلقد أراد الله أن يخلق البشر كنطاق يتجلّى فيه مجده، وأن يكون هذا الاستعلان المجيد مصدر سعادة الإنسان. وحيث إن الله محبة فإن غايته وغايتنا تتطابق.
هذا الإتحاد والعلاقة بين الإنسان والله لا يمكن أن تكون ساكنة، بل آخذة في التقدم، بقدر ما تتحقق غاية الإنسان بقدر ما تزداد سعادته.
الله ـ الإنسان ـ الآخر:
فإن كان الإنسان قد خُلِق على صورة الله ومثاله وهذا هو اعتقاد المسيحية عامةً وبالتالي فهو اعتقاد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، فإن حياة الإنسان يجب أن تُختم بختم الصورة الإلهية، أى ختم علاقة “الله ـ الإنسان”، وكذلك علاقة “الإنسان ـ الإنسان”، لهذا يجب أن تكون غايته ليس فقط في إقامة علاقة أحادية مع الله، بل في أن تنسكب محبته لله في الآخر، فهو لم يُخلق للعزلة بل للمشاركة مع الآخرين.
وهنا يجب أن نشدّد على أن هذه الشركة بين شخص وشخص لا تتم على حساب ذوبان أحدهما في الآخر أو انصهاره فيه، بل إنها شركة شخصية تحفظ لكلٍ منهما مقوّمات شخصيته وهويته، هى في الحقيقة هى انفتاح كل منهما على الآخر.
فكل شخص منّا هو شخص متميّز بصورة فريدة، هو شخص “نادر” بمعنى أن كل واحد فينا له قيمة نادرة في عينى الله الذي خلقنا وأحبنا، لذا أتى إلى عالمنا البشرى لتكون لنا حياة ولتكون لنا هذه الحياة أفضل. لهذا فكل شخص يستحق احترامنا وإجلالنا وتقديرنا بدون تمييز.
وخِلقة الإنسان على صورة الله ومثاله حسب عقيدتنا وارتباطها بإيماننا بأن المسيح قد جاء ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد تعطى للإنسان هدفًا كونيًا، هذا الهدف هو توحيد كل انقسامات العالم المضطرب والمنقسم وتقديمها “قربانًا” واحدًا ومُوَحدًا في محبة إلى الله، مظهرًا بذلك عمل الله الواحد في الكون وكل الخليقة. متخطيًا بذلك كل الحواجز والحدود والفواصل سواء كانت عرقيّة أو جنسيّة أو ثقافيّة أو لونيّة أو اقتصادية… الخ، فكل له قيمته النادرة أمام الله.
نظرة المسيحية للإنسان والآخر:
وأخيرًا نُجمل ـ إن استطعنا ـ حديثنا عن نظرة المسيحية للإنسان والآخر فيما يلي:
[ المحبة المسيحية هى “الإمكانية المستحيلة” أن نرى المسيح في الإنسان الآخر أيًا كان هذا الإنسان الذي قرّر الله في تصميمه الأبدي والسرّى أن يدخله إلى حياتي ولو كان للحظات معدودة. أن أحبه وليس أن أجعل منه فرصة لـ”عمل صالح” أو ممارسة لحسنة بل بداية رفقة أبدية في الله نفسه. فما هو الحب بالواقع إذا لم يكن هذه القدرة السريّة التي تتجاوز ما هو عرضي وخارجي في الآخر ـ مظهره الخارجي، طبقته الاجتماعية، عِرقه، طاقته الفكرية ـ وتبلغ نفسه، أصالة كيانه الشخصي بوحدته وفرادته، أن تبلغ بالحقيقة ما هو إلهي فيه؟ إذا كان الله يحب كل إنسان لأنه بالضبط الوحيد الذي يعرف الكنز الفريد الذي لا يُثمّن، أى النفس التي أعطاها لكل إنسان، فالمحبة المسيحية هى هذا الاشتراك في تلك المعرفة الإلهية وموهبة هذا الحب الإلهي. ليس هناك حب لا شخصي لأن الحب هو هذا الاكتشاف العجيب “للشخص” فى “الإنسان”، لما هو شخصي وفريد فيما هو مشترك وعام. إنه الاكتشاف في كل إنسان لِما يُحب فيه لِما هو من الله ][23].
[1] انظر تك26:1ـ27.
2 انظر على سبيل المثال: ق. غريغوريوس النيسي، خلق الإنسان على صورة الله ومثاله، ترجمه عن اليونانية د. سعيد حكيم يعقوب، مراجعة د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية ـ يونيو 2006.
See also, walter J. Burghardt.s.J: The Image of God in Man. According to Gril of Alexandria, Woodstock, Maryland 1957.
[3] تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية د. جوزيف موريس فلتس، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، فصل3:3 ص8.
[4] عن خلق الإنسان 3:11 PG 44. 156B.
5 القديس إيرينيؤس، الكرازة الرسولية، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، د. جورج عوض، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية أغسطس 2005، ص78.
[6] الأسقف كاليستوس وير: الطريق الأرثوذكسى، تعريب د. نصحى عبد الشهيد، بيت التكريس لخدمة الكرازة، القاهرة 2001، ص12ـ13.
[7] PG 75, 1157.
[8] PG 69, 648.
[9] PG 70, 1084.
[10] PG 69, 20.
[11] PG 75, 749.
[12] PG 76, 584.
[13] PG 76, 1080.
[14] PG 70, 977.
[15] PG 73, 152.
[16] PG 75, 897.
[17] PG 76, 861, PG 70, 413.
[18] PG 75, 1157.
[19] PG 76, 861.
[20] PG 76, 861.
[21] PG 71, 601.
[22] PG 75, 1016.
[23] الأب ألسكندر شميمن: الصوم الكبير، تعريب الأب إبراهيم سروج، لبنان 1978، ص 16.