الليتورجيا والإنجيل – قراءة ليتورجية للإنجيل وقراءة إنجيلية لليتورجيا
الليتورجيا والإنجيل – قراءة ليتورجية للإنجيل وقراءة إنجيلية لليتورجيا
الباحث رأفت موسى ذكري
أولاً: الاستخدام التاريخي والكتابي لكلمة ”ليتورجيا”:
كلمة ليتورجيا λειτουργι’α كما هو معروف هي كلمة يونانية معناها الحرفي عمل الشعب أو العمل الجماعي[1]، وكلمة الإنجيل Εὐαγγελιον هي أيضًا كلمة يونانية تعني البشارة المفرحة. غير أن مبحثنا الأساسي ليس مبحث لغوي بقدر ما هو محاولة للولوج داخل العلاقة بين المفاهيم الأساسية للكلمتين. استخدمت كلمة ليتورجيا في العالم اليوناني القديم للتعبير عن معني الخدمة الإلزامية أو الإجبارية المفروضة علي العبيد بشكل خاص أو علي الشعب بشكل عام[2]، وفي الترجمة السبعينية استخدمت الكلمة ومشتقاتها أولاً كترجمة للفعل العبري ‘ebhodha’h والذي يعني عبودية للتعبير عن عبودية الشعب العبري في مصر[3]، أو جاءت بمعني يعمل أو يشتغل[4]، أو بمعني خدمة الرب يهوة (أقليل عليكم أن اله إسرائيل أفرزكم من جماعة إسرائيل ليقربكم إليه لكي تعملوا خدمة مسكن الرب و تقفوا قدام الجماعة لخدمتها)[5]، وفي العهد الجديد جاءت الكلمة 15 مرة بثلاث صورة مختلفة[6]:
أولاً: بصيغة فعلية[7]
ثانيا: بصيغة وصفية للأشياء[8]
ثالثا : بصيغة وصفية للأشخاص[9]
هذا معناه أن الشخص أو الشيء أو العمل نفسه كلها أمور ليتورجية بمعني أنها تخص الجماعة، ولكن التساؤل متى استقر حصر المعني في الصلاة الطقسية؟ والإجابة علي هذا السؤال هي. إن الصلاة الطقسية هي التي حصرت الكلمة لان في هذه الصلاة تم حصر كل أنواع الخدمة، من خدمة فقراء أو خدمة عامة، أو أسرار كنسية أخري كالمعمودية ، الكهنوت ، الزيجة. إذا الصلاة الليتورجية هي الحدث الحاصر لكل عمل تعمله الكنيسة، وان كان هناك بعض الأعمال الآن تتم بعيداَ عن الليتورجية، إلا أنها لا تتم بمعزل عن السياق الليتورجي.
ثانيًا: الإنجيل في الليتورجيا
ما قدمناه هو نوع من أنواع الحصر اللغوي لتاريخ استخدام كلمة ليتورجيا حتى يمكننا من خلاله أن ننطلق إلى فهم العلاقة العميقة بين الليتورجيا والإنجيل.
تتميز الكنيسة القبطية بقراءات كتابية لا توجد في معظم الكنائس ، فالكنيسة القبطية تقرأ 9 قراءات يومياَ علي الأقل من الكتاب المقدس[10] بخلاف ما تقرأه من مزامير وأناجيل في صلاة الأجبية. ما كل هذا الزخم الكتابي الذي تحياه الكنيسة ؟ هذا هو سر الكنيسة. إن الإنجيل وهو البشارة المفرحة الخاصة بشخص الرب يسوع المسيح هو عمق وسر الكنيسة، يقول القمص تادرس يعقوب ملطي: نستطيع أن نقول إن من يرى الكنيسة كما هي إنما يعاين السيد المسيح رأسها؛ هي سر المسيح الذبيح وجسده [11].
الليتورجيا المسيحية تعي عمقها اللاهوتي في شخص الرب يسوع، الذي هو ابن الله الكلمة المتجسد في الزمن، سر المسيح الذي استلمته الكنيسة تفتش عنه في ” كتاب ميلاد يسوع المسيح “[12]. والبديع حقا أن الكنيسة تتعامل مع الكتاب بمرونة فنجد أن الفصل الواحد من الإنجيل يُقرأ في مناسبات مختلفة فمثلا يقرأ الفصل الخاص بالسامرية في الأحد الرابع من الصوم الكبير، وفي الأحد الثالث من الخماسين، والأول تؤكد الكنيسة فيه علي مفهوم التوبة، والثاني تؤكد فيه علي مفهوم الكرازة، والذي يوضح الهدف من القراءة الإنجيلية، هو المحتوى الموجود في القراءات الأخرى، وهكذا تستوعب الكنيسة سر عريسها منذ البشارة المفرحة التي صارت بتحية السلام لسيدتنا القديسة مريم، حتى السلام الذي تركه لنا المسيح وهو صاعد إلي أبيه جسديًا معطيها وعده بإرسال الروح الذي يذكرها بكل عملة[13]، ومؤكدًا أنه معنا إلي إنقضاء الدهر[14]. فالكنيسة لا تقرأ الإنجيل كحدث تتذكره؛ خاص بشخص المسيح الذي ظهر في التاريخ ، ولكنها تقرأ الإنجيل كمقابلة شخصية مع عريسها القائم وكأنه مذبوح والذي يعطي نفسه لها من خلال الاستعلان الافخارستي. فالكنيسة تري نفسها واقفة عند البئر مع السامرية، وتري نفسها مع التلاميذ في السفينة حيث يبدو يسوع نائما، تري نفسها مع المولود اعمي، وتستقبل من عريسها حضوره المنير، فالأشخاص الذين تقابلوا مع المسيح هم الكنيسة في كل زمان وفي كل مكان.
إذا الليتورجيا هي الذاكرة الحافظة لعمل المسيح مع الكنيسة والذي نقرأه في الإنجيل مشروحا بواسطة الاحتفال الليتورجي. والكنيسة بدون ليتورجيا لا تعدو أكثر من مجرد كيان اجتماعي، ولكن بالليتورجيا تكون الكنيسة هي جسد المسيح الذي يكمل فيها وبها بنيانه[15]. هكذا تقرأ الكنيسة الإنجيل.
ثالثًا :الليتورجيا في الإنجيل:
توجد أشارات عديدة لليتورجيا في الإنجيل، فكما وجدنا أن الليتورجيا هي الذاكرة الحافظة للخلاص، نجد أن الإنجيل هو الاستعلان الموحي به لتسجيل الحدث الخلاصي. ” ثم ابتدأ من موسى و من جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب … فلما اتكأ معهما اخذ خبزا و بارك و كسر و ناولهما فانفتحت أعينهما و عرفاه ثم اختفى عنهما “[16]. هذا النص الإنجيلي يوضح أن انفتاح العيون لفهم كلمة الله الموحي بها للبشر لن يتم إلاّ من خلال الاتحاد الافخارستي، فتلميذا عمواس لم يفهما إلاّ من خلال اتحادهما بذاك الذي قال “من يأكل جسدي و يشرب دمي يثبت في وأنا فيه “[17].
هناك كلمة هامة قالها القديس بولس حينما تكلم عن الافخارستيا “ لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا أن الرب يسوع في الليلة التي اسلم فيها اخذ خبزا شكر فكسر و قال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم اصنعوا هذا لذكري “[18]. كيف يقول بولس إني تسلمت من الرب، وهو لم يكن معهم في العشاء الافخارستي؟! هو يقول هذا طبقا لمعني كلمة “لذكري” وهي كلمة تحمل في طياتها اختزال الزمان والمكان، فكما آمن بولس أننا دفنا معه وقمنا معه وأصعدنا معه، هكذا كنا معه حينما سلم التلاميذ سر الكنيسة، ولتوضيح هذا، يجب أن نفهم معني الكلمة التي يقولها الكاهن في القداس قبل سر حلول الروح القدس ” ففيما نحن أيضًا نصنع ذكر آلامه المقدسة وقيامته من الأموات وصعوده إلى السموات وجلوسه عن يمينك أيها الآب وظهوره الثاني الآتي من السموات المخوف والمملوء مجدا، نقرّب لك قرابينك من الذي لك “.
ما معنى أننا نصنع ذكر آلامه؟ وما معني أننا نقرب لك قرابينك من الذي لك؟ يقول الكاهن في صلاة التقدمة ” … أنت هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. سبقت أن تجعل ذاتك حملا بلا عيب عن حياة العالم. نسألك ونطلب من صلاحك يا محب البشر أظهر وجهك علي هذا الخبز وعلي هذه الكأس هذين الذين وضعناهما علي هذه المائدة الكهنوتية التي لك …”. وتذكر أنافورا القديس غريغوريوس بكلمات أكثر وضوحا ” يا الذي بارك في ذلك الزمان … يا الذي أعطى تلاميذه القديسين في ذلك الزمان الآن أيضًا يا سيدنا أعطنا وكل شعبك يا ضابط الكل ..” هذه المائدة هي مائدة الرب، وهو هو القائم في كل زمان وفي كل مكان يبارك ويقدس ويعطي. وهكذا فليس الرسول بولس فقط هو الذي يقول إن هذا ما استلمته من الرب بل كل الكنيسة تستطيع أن تقول إن هذا هو ما تسلمناه من الرب، هو عريسها قائم كل حين في وسطها. هذا ما جعل القديس أغسطينوس يقول [ إنه عندما كان السيد المسيح علي الأرض منظورًا كانت الكنيسة مختفية فيه، يفعل كل شئ لحسابها، والآن صعد السيد المسيح إلي السماء وصار مختفيًا في كنيسته، فتعمل هي كل شئ باسمه ولحسابه ][19]، كما يذكر القديس إيريناؤس [ إذا نحن نقدم ماله نعلن علي الدوام تبعيتنا واتحادنا بالجسد والروح ][20].
رابعًا: ما بين الليتورجيا والإنجيل:
إن الإشارات السابقة ـ كانت علي سبيل المثال وليس الحصر ـ توضح الترابط الشديد بين الليتورجيا والإنجيل فلا يمكن أن نحيا الإنجيل بدون الاستعلان الليتورجي، وبدون الإنجيل لا نستطيع أن نحيا الحياة التي تعلنها الليتورجيا وهي أن “… نجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين “[21].
فالإنجيل هو بشارة مفرحة تستعلن ليتورجيًا، والليتورجيا هي عمل الكنيسة يستعلن إنجيليًا، أي أن الإنجيل هو بشارة لكل العالم لإعلان حياه يسوع المسيح، هذا الإعلان تحياه الكنيسة وتستوعبه لتقدمه في شكل عبادة طقسية تشترك فيها كل الجماعة مع رأسها الذي هو عريسها. هكذا تصلي الكنيسة “ شعبك وكنيستك يطلبون إليك وبك إلي الآب معك… “[22] فالكنيسة لا تستطيع بدون المسيح أن تتقدم إلي الآب كعروس بغير غضن[23]، فالابن المتجسد هو بكر[24] ورأس الكنيسة [25] الذي تتقدم من خلاله كل البشرية التي قبلته فصاروا أبناء الله[26].
البشارة التي أعلنها الملاك جبرائيل كانت ” أن المولود هو عمانوئيل أى الله معنا“[27]، والبشارة التي أعلنها السمائيون في الميلاد للرعاة ” فرح عظيم لجميع الشعب ” [28]، فالكنيسة تحيا هذا الفرح بسبب مسيحها الكائن في وسطها بمجد أبيه والروح القدس.
[1] Il termine λειτουργια nella grecita biblica ،in (Miscellena Mohlberg)، Vol.II،Roma 1949،467ـ519
2 المرجع السابق
3 خر2: 23، 5: 9
4 خر6: 6
5 عد16: 9
[6] THE GREEK NEW TESTAMENT ،Fourth Revised Edition 1993
7 انظر (أع13: 2 ـ رو15: 27 ـ عب10: 11)
8 انظر لو1: 23 – 2كو9: 12 ـ في2: 17 ـ عب 8 :6 ،9: 21
9 انظر رو13: 6، 15: 16ـ في2: 25 – عب 1: 7 ـ14 ،8: 2
10 مزمور وإنجيل عشية وباكر ورسائل البولس والكاثيليكون والأعمال ومزمور وإنجيل القداس
11 القمص تادرس يعقوب ملطي، المسيح في سر الافخارستيا، ص43
12 مت1:1
13 يو14: 26
14 مت28 : 20
15 أف4 : 12ـ 20
16 لو24 :27ـ31
17 يو6: 56
18 1كو11: 23، 24
19 القمص تادرس يعقوب ملطي، المسيح في سر الافخارستيا ص 15.
20 ضد الهرطقات 4: 18
21 صلوات الأواشي في أنافورا القديس باسليوس.
22 أنافورا القديس غريغوريوس
23 أف 5: 24
24 رو 8: 29
25 أف 5: 23
26 يو1 : 12
27 مت 1: 23
28 لو2: 14