الروحانية الأرثوذكسية – د. نصحي عبد الشهيد [1]
الروحانية الأرثوذكسية – د. نصحي عبد الشهيد
مراحل الحياة الروحية
أوجه ثلاث لنعمة واحدة:
النعم الثلاث: النعمة الخاصة بالمعمودية والنعمة الخمسينية والنعمة الفصحية هي في الحقيقة ثلاثة أوجه لنعمة إلهية واحدة ولا يمكن فصلها بعضها عن بعض. وحينما نقول إنها تمثل في ذهن الكنيسة تدرجًا تصاعديًا فإننا نقصد أنه خلال سير ونمو حياة النفس العادية نموًا طبيعيًا وغير مضطرب فإن كل وجه من هذه الأوجه الثلاثة للنعمة الواحدة يكون أو يجب أن يكون هو الوجه الغالب في وقته وفي دوره.
ثلاث لحظات في حياة المسيح نفسه:
وهذه النعم الثلاث تعبر عن ثلاث لحظات في حياة الرب يسوع نفسه. وهذا أمر في غاية الأهمية يجب أن ننتبه إليه، لأن اختباراتنا الروحية الخاصة هي انعكاسات ضعيفة لحياته هو شخصيًا، وتنبع مباشرة منه. هذه اللحظات الثلاث في حياة الرب يسوع التي تعبر عنها هذه النعم الثلاث هي:
- اتصاله بمياه المعمودية.
- نزول الروح عليه بعد المعمودية وما تم بعد ذلك من إرساله الروح لنا.
- تقديم نفسه ذبيحة فصحية.
- فالمسيح المعمد (وهو أيضًا المسيح الشافي والغافر).
- والمسيح مرسل الروح.
- والمسيح الحمل الفصحى أو فصحنا الحقيقي.
هذه ثلاثة أوجه في حياة ربنا يسوع المسيح واختبار هذه الأوجه داخليًا في حياتنا، يكوّن الحياة الروحية للمسيحي.
ارتباط مراحل الحياة الروحية بالأسرار:
الإنسان الذي يدخل إلى كنيسة المسيح ليسير في طريق ملكوت الله يبدأ طريقه بالتوبة والإيمان بالرب يسوع المسيح، هذا تسميه الكنيسة “الموعوظ”. والموعوظ عندما يعلن إيمانه بالمسيح تعمده الكنيسة ثم بعد خروجه من المعمودية تعطيه الروح القدس بمسحة الميرون، وبعد ذلك يصبح مؤهلاً لأن يتحد بالرب في سر الإفخارستيا. هذه الأسرار الثلاثة التي ينالها المؤمن الداخل إلى الكنيسة وينالها بهذا الترتيب:
- المعمودية.
- وتكملتها نوال الروح القدس أي الميرون.
- والتكملة النهائية هي الاشتراك في جسد المسيح ودمه والاتحاد به.
هذه الأسرار الثلاثة وبهذا الترتيب التي تُعطى به للموعوظ تعبّر عن المراحل المتتالية التي تسير فيها النفس في نموها الروحي وتقديسها.
فالإنسان المسيحي يبدأ تجديده بالإيمان والمعمودية ليصير في علاقة جديدة مع الله هي علاقة البنّوة، ثم ينال الروح القدس ليسكن في داخله ويعطيه استنارة داخلية حتى يستطيع أن يعيش حسب الروح بالقوة التي يهبها له الروح القدس. وأخيرًا فإن عطية الروح القدس توصلنا إلى اتحاد حقيقي بالمسيح لنكون معه روحًا واحدًا، هذا الاتحاد الذي سيتحقق بالصورة الكاملة عندما تتغير أجسادنا وتتمجد متحدة مع نفوسنا عند مجيء الرب يسوع ليشركنا في مجده الكامل. هذا الإتحاد الذي نأخذ عربونه هنا في سر الإفخارستيا.
المرحلة الأولى: المعمودية
مرحلة التطهير وبداية عملية التجديد الروحي للإنسان:
أوصى المسيح تلاميذه قائلاً: ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 19:28). ويقول الرب لنقوديموس ” إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو5:3).
وبهذا أصبح الماء علامة الخلاص بل أن الرب يسوع نفسه قبل أن يبدأ خدمته كمسيا اعتمد في الأردن وصار عماده هو الأساس الذي تبدأ منه معموديتنا نحن في الماء بل إن الماء تقدّس وأصبح واسطة للتطهير والتجديد منذ أن نزل الرب يسوع بجسده داخل مياه الأردن كما يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي: “إن المسيح طهر الماء بآلامه”[2] وهنا يوجد علاقة بين الماء وبين آلام المسيح التي احتملها على الصليب لأن المسيح في نزوله إلى الأردن كان يقوم بعمل تمهيدي لمعموديته النهائية ومعمودية المسيح النهائية هي موته على الصليب كما يقول:
” لي صبغة اصطبغها وكيف انحصر حتى تكمل” (لو50:12)، وكلمة صبغة هي نفسها كلمة معمودية أي أن الرب يسوع يقول: “لي معمودية اعتمد بها” وكان يشير بذلك إلى اصطباغ أو معموديته بالدم على الصليب فالمسيح بصلبه وسفك دمه أعطانا قوة التطهير حتى أن من يؤمن به ويأتي لينزل إلى الماء باسمه لكى يُدفن مع المسيح فإن المسيح يعمل فيه بواسطة الماء لتطهيره وغفران خطاياه وتجديده.
ولأن المؤمن يعتمد في الماء على مثال معمودية المسيح في الأردن لذلك فإن جرن المعمودية يسمى في طقس الكنيسة الأردن. فقد أصبح الأردن إذن موجودًا في الكنيسة في كل مكان ولم يعد فقط نهرًا موجودًا في فلسطين لأن في كل جرن معمودية فإن الذين يعتمدون في هذا الجرن يشتركون في معمودية المسيح نفسه في الأردن.
والكنيسة الأرثوذكسية تعطى اهتمامًا كبيرًا لعيد معمودية المسيح “عيد الغطاس”، وتسميه “عيد الأردن”. وطقس الكنيسة يُحتم أن توضع صورة المسيح وهو يعتمد من يوحنا في الأردن أمام جرن المعمودية لكي تنبه أذهان المعمدين أنهم سيعتمدون على مثال معمودية المسيح بل ويشتركون في معموديته.
وفي عيد الغطاس تُصلى الكنيسة على المياه صلوات خاصة وتستدعى الروح القدس لتقديس المياه لتكون للتطهير والغفران والشفاء وهي الصلاة المعروفة “بلقان الغطاس”. وواضح أن الكنيسة تستمد من نزول المسيح إلى الماء وتقديسه له بدخوله فيه، قوة تطهير بواسطة الماء تستمر في حياة المؤمنين في كل عصر، وذلك طبعًا بعمل الروح القدس الذي تطلبه الكنيسة ليحل على الماء ويجعل فيه قوة التطهير والتقديس التي تمت لمياه الأردن نفسه بنزول المسيح فيه. إذن فلا يزال المسيح يقدس المياه للذين يتوبون ويؤمنون ويعتمدون طالبين التطهير والغفران.
عيد الظهور الإلهي:
والكنيسة الأرثوذكسية تربط بين المعمودية في الماء وبين سر النور أو الاستنارة ولذلك فإن عيد الغطاس في الكنيسة الشرقية يسمى “عيد الأنوار”، أو عيد الظهور الإلهي “الثيؤفانيا”، وذلك لأنه في معمودية المسيح قد ظهر الثالوث القدوس، أى استعلن حضور الله بمناسبة المعمودية: استعلن الآب كصوت من السماء يشهد للمسيح الابن الذي يعتمد في الماء، والروح القدس آتيًا عليه مثل حمامة. وهذا إعلان وظهور للثالوث الأقدس.
ولذلك فكما حدث في معمودية المسيح هكذا يحدث في معمودية المؤمنين، إذ يدخلون في شركة مع الآب والابن والروح القدس وتنفتح السماء لتشهد لمن يعتمد أنه ابن لله بالمسيح. وهكذا فإننا نعتمد باسم الآب والابن والروح القدس ويدخل النور الإلهي في حياة الإنسان المعمد ويبدأ الإنسان الحياة في النور ويصير ابنًا للنور كما يقول المسيح ” آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور” (يو36:12). وكما يقول الرسول بولس: ” شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور” (كو12:1). والدخول في شركة ميراث النور أي شركة الحياة في بنوة الله تتم بواسطة قبول الحياة الإلهية من المسيح بالإيمان والمعمودية.
إن التأكيد على النور والاستنارة في صلوات المعمودية وخاصة الصلاة من أجل الموعوظين الداخلين إلى الكنيسة، يجعلنا في مأمن من خطر النظرة المادية الصرف لسر المعمودية، وينبهنا أننا ينبغي أن نركز انتباهنا في المسيح الروحي، والذي ينير القلب بنور لاهوته ويجدد الحياة ويطهرها من الظلمة التي فيها. إن الاتصال بالرب يسوع كمُعَمِّد لنا، والذي هو نفسه نبع ماء الحياة، هذا الاتصال هو نقطة البداية لكل حياتنا الروحية.
النعمة المجددة في المعمودية:
النعمة التي ينالها الإنسان بالمعمودية هي “النعمة الأولى” لأنها النعمة التي تُدخِل حياة المسيح إلى الإنسان. هذه النعمة المجدِّدة لا ينالها الإنسان مرة واحدة فقط بالرغم من أن الإنسان لا يعتمد إلا مرة واحدة. ففي المعمودية تبدأ عملية تجديدنا ولكن عملية تجديدنا تستمر طوال حياتنا على الأرض، ويمكن أن يفقد الإنسان هذه النعمة إذا انفصل عن مصدر التجديد “المسيح”، ولكن يمكن استرجاع هذه النعمة بالتوبة الصادقة والرجوع الصادق إلى الرب الذي سبق أن أنار قلوبنا، ولذلك فقد أطلق بعض آباء الكنيسة وصف المعمودية الثانية على التوبة ـ التوبة تجديد للمعمودية ـ وبعض الآباء تكلم عن دموع التوبة كتجديد لقوة المعمودية ـ وفي الحقيقة أن التوبة هي عمل الروح القدس في القلب فهي ثمرة الروح نفسه الذي جدد الإنسان أولاً في المعمودية .
إن الروح القدس يعمل في ماء المعمودية ولذلك فإن المعمودية ليست ولادة من الماء فقط ولكنها ولادة من الماء والروح. ولكن ينبغي أن نميز بين عمل الروح في المعمودية لأجل الحصول على البنوّة وبداية الحياة الجديدة وبين عطية الروح القدس الذي يسكن في المعمد بعد خروجه من الماء أي “نعمة يوم الخمسين”، وهذه سنتحدث عنها في المرحلة الثانية ولكن يكفي أن نقول الآن إن الروح القدس يعمل في الإنسان ليجتذبه إلى المسيح بالإيمان والتوبة ويعطيه البنوّة بالمعمودية، ثم بعد ذلك يسكن الروح القدس في الإنسان الذي نال البنوّة ليعيش في شركة حب مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.
معمودية الدم أو الاستشهاد:
حدث في تاريخ الكنيسة في عصور الاضطهاد والاستشهاد أن أناسًا آمنوا بالمسيح دون أن تكون لهم فرصة المعمودية في الكنيسة ثم قدموا حياتهم للشهادة للمسيح وسفكت دماؤهم من أجل اعترافهم العلني بالمسيح، هؤلاء اعتبرتهم الكنيسة أنهم قد اعتمدوا في دمائهم مثل معمودية المسيح على الصليب. ومعمودية الدم لا تقل قوة وفاعلية عن المعمودية العادية بل تزيد لأننا عندما نعتمد في الماء فإننا نُدفن رمزيًا مع المسيح لنقوم معه.
ولكن الذي سفك دمه من أجل المسيح فإنه قد اشترك مع المسيح في الموت فعليًا وصار اتحاده بالمسيح اتحادًا كاملاً، ومثل هذا الإنسان أُعطَى أن يجوز مراحل الحياة الروحية من بداية الإيمان حتى الوصول إلى الاتحاد بالله في فترة قصيرة. فإن الذي يقدم ذاته للموت الفعلى من أجل المسيح، لا شك أنه امتلأ من الروح القدس روح الذبيحة وتقديم النفس من أجل تمجيد الله.
[1] عن كتاب “الروحانية الأرثوذكسية” للدكتور نصحي عبد الشهيد، صدر عن بيت التكريس لخدمة الكرازة، مايو 2008.
2 الرسالة إلى الأفسسيين XVIII,2.