صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (3) عودة الجاحدين إلى الإيمان
صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (3) عودة الجاحدين إلى الإيمان
صور من واقع الاستشهاد في عصر دقلديانوس في مصر (3) عودة الجاحدين إلى الإيمان
الباحث. جورج ميشيل أندراوس
إن الصور الرائعة التي تبيّن ثبات الشهداء وحبهم، وشدة التعجب التي سطرها يوسابيوس القيصرى والأسقف فيلياس وغيرهم والتي ترتبط بهؤلاء الشهداء وتصف صبرهم في مختلف العذابات الصعبة والقاسية، لا يمنع أن تكون هناك حالات أخرى من الضعف البشري أمام هذه التهديدات والعذابات المرعبة. فالبعض لم يتحمَّل هذه المشاهد حينما سمعوا عنها أو عاينوها بأعينهم.
لقد كان هذا الأمر واضحًا من بداية تقديم موضوع الشهداء بواسطة يوسابيوس، الذي لم يُرِد أن يذكر هؤلاء الذين أنكروا الإيمان بسبب خوفهم أثناء العذابات المختلفة، وإنما تكلم فقط عن الأحداث المختلفة المتعلقة بالاستشهاد وعن الشهداء أنفسهم حتى يكون هذا سبب فائدة تنتفع بها الأجيال التالية[1].
إن الضعف البشري هذا قد تبين لنا أيضًا من القوانين التي وضعها البابا بطرس خاتم الشهداء والتي ترتبط بهذا الموضوع، أى الموقف من هؤلاء الذين أنكروا إيمانهم المسيحي أمام الولاة الوثنيين، ثم أتوا مرة أخرى يطلبون عودتهم إلى الكنيسة وإلى إيمانهم الأول. لقد واجهت الكنيسة أمر هؤلاء بنوع من التدبير الكنسي (οικονομία).
لقد وضع البابا بطرس أربعة عشر قانونًا تمثّل الحالات المختلفة لهؤلاء الذين سقطوا وأنكروا الإيمان أمام هذه العذابات[2]. فهناك قانون لهؤلاء الذين أنكروا المسيح بسبب الضعف الجسدي، فهم لم يتحملوا شدة العذابات، فكان ذلك الإنكار رغمًا عن إرادتهم الداخلية، لقد أمضوا ثلاث سنوات في حزن وألم شديدين شاعرين بسقطتهم، ولذلك قررت الكنيسة أن تقبلهم في أحضانها مرة أخرى بعد أن يقضوا أربعين يومًا في صوم[3].
لقد مارس البابا بطرس روح التدبير والرعاية فلذلك يطلب قبول الكنيسة لهؤلاء الذين سقطوا، وفقًا للقانون السابق، بعدما سُجنوا فقط دون عذابات، وذلك بعد قضاء سنة أخرى في التوبة. بالنسبة لهؤلاء الذين خدعوا موظفي الإدارة الإمبراطورية بأنهم قدموا الذبائح للآلهة الوثنية أو أنهم لم يقدموها بصورة حقيقية وإنما بطريقة تمثيلية، فهؤلاء يجب أن يحيوا في توبة لمدة ستة أشهر قبلما يعودوا للكنيسة مرة أخرى وينالوا أسرارها[4].
أما هؤلاء الذين قدموا أموالاً حتى يبتعد المضطهدون عنهم ولا يضايقونهم بأى طريقة، فيمتدحهم البابا بطرس لأنهم قد ضحوا بأموالهم عوضًا عن أنفسهم وإيمانهم. ويسترشد هنا، لكي يدعم رأيه ببعض الشهادات من الكتاب المقدس مثل ما هو موجود في (أع6:17ـ10) وأيضًا من كلام رب المجد (مت26:16)، وأيضًا (مت24:6) والأمثال (8:13)[5].
لم يتهم البابا بطرس هؤلاء الذين تركوا كل شئ وهربوا من أجل خلاص أنفسهم، حتى ولو قُتل آخرون بسببهم[6].
القانون الأخير من هذه القوانين يوضح تفهم البابا بطرس لهؤلاء الذين اضطُّروا دون إرادتهم أن يقبلوا داخل أفواههم أطعمة السكائب الخاصة بالذبائح الوثنية، لقد كان ذلك بأدوات حديدية وبصورة إجبارية عنيفة. هؤلاء وكل الذين رُبطوا بسلاسل وكانوا صبورين يتحملون ويتمسكون بإيمانهم وبشجاعتهم بالرغم من هذه الأفعال، وهؤلاء الذين ثبتوا أيضًا وكانت أيديهم تُحرق، حينما كانوا يشدونها دونما إرادتهم فوق الذبائح الدنسة. لذا أُعتبر هؤلاء وفقًا لهذه القوانين كالمعترفين[7].
بالنسبة لأي شخص كان من الاكليروس وذهب بإرادته إلى المضطهدين، بهدف أن يعترف بالإيمان المسيحي جهرًا، ولكنه سقط في الإنكار بسبب عدم احتماله الآلام، فإنه لا يمكن أن يستمر مرة أخرى في عمله الرعوي حينما يعود إلى الإيمان. وهنا استخدم البابا بطرس مثال الرسول بولس الذي كان يشتهي أن ينطلق من هذا العالم وأن يكون مع المسيح، ولكنه اعتبر أن واجبه أن يبقى في الحياة وأن تستمر رسالته وكرازته كراعٍ (في23:1ـ24)[8].
فيُظهِر هذا القانون مدى الاهتمام برعاية الشعب. فكان يطلب من الاكليروس وبصفة خاصة في اللحظات الصعبة للاضطهادات، حينما تحتاج الرعية إلى الاهتمام والرعاية بصورة أكبر، ألا يتركونهم ويذهبون بإرادتهم لتقديم أنفسهم لنوال الشهادة.
إن سياسة التسامح والمحبة التي اتبعها البابا بطرس كانت استمرار لنفس سياسة ديونيسيوس الأسكندري[9]، ولكن هذه السياسة كانت على النقيض من سياسة ميليتيوس أسقف ليكوبوليس. فميليتيوس كان يمثل الجانب المتشدد في موضوع هؤلاء الذين سقطوا ورغبوا في العودة مرة أخرى إلى الكنيسة. لم يقبل ميليتيوس هذا التسامح من جانب البابا بطرس.
وكان من نتيجة ذلك النزاع، الإنشقاق الذي لُقب باسم هذا الأسقف[10]. ولكن إن كان انشقاق ميليتيوس يمثل نتيجة سلبية في موضوع اضطهاد دقلديانوس وأتباعه، فإننا نجد أحد الجنود الذين كانوا في صفوف معسكر ماكسيمينوس قد تحوّل إلى المسيحية متأثرًا من سلوك المسيحيين ثم أصبح بعد ذلك قائدًا لرهبنة الشركة. فباخوميوس ترك الجيش بعد هزيمة ماكسيمينوس، لكي ينضم إلى جندي في خدمة السيد المسيح وجذب لهذا الطريق الآلاف لكي يعيشوا حياة الاستشهاد بطريقة أخرى وهى طريق شهادة الضمير.
ويمكننا هنا أن نختم موضوعنا بأن نذكر هؤلاء الذين كانت خدمتهم أن يقوموا بالاهتمام بمتابعة هؤلاء الشهداء القديسين، وجمع رفاتهم المقدسة، وأيضًا جمع كل المعلومات التي تتعلق بحياتهم واستشهادهم وأن يقوموا بتسجيل هذه السير سواء قاموا هم بأنفسهم أو تلاميذهم بهذا العمل، بعدما شاهدوا أو سمعوا من شهود عيان لهذه الأحداث.
لقد كان الإهتمام بالشهداء وبرفاتهم مبكرًا جدًا في الكنيسة القبطية، مع الوضع في الاعتبار ما كان يتعرض له هؤلاء الذين أنجزوا هذا العمل من مخاطر كبيرة وأعظمها بالطبع هو تعرضهم لنفس مصير هؤلاء الشهداء[11].
ومن الأسماء اللامعة في هذا المجال يوليوس الأقفهصي. لقد رتبت عناية الله أن يقوم بهذا العمل الكبير، دون أن يطلب منه الوثنيون تقديم الذبائح، ولكن في نهاية عصر دقلديانوس نال هو أيضًا إكليل الشهادة وذلك في ثالث مرة بعد رجوعه للحياة مرتين بمعجزة إلهية. لقد كان يوليوس الأقفهصي هو نفسه أيضًا سببًا لكي ينضم الكثيرون إلى المسيحية، اثنان من ضمن هؤلاء هما والي مدينة سمنود ووالي مدينة أتريب[12].
[1] تاريخ الكنيسة 8 : 2 : 3
2 هذه القوانين تم وضعها عام 306م.
3 هذا يُذكَّرهم بصوم رب المجد الأربعيني، وإجابته على الشيطان: ” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ” (مت10:4) انظر PG 18, 469C
[4] PG 18, 476B – 477B.
[5] PG 18, 500A – B
6 يذكر هنا قتل أطفال بيت لحم، وحُرّاس بطرس الرسول في السجن كأمثلة. PG 18, 501B – 504D
[7] PG 18, 505A.
[8] PG 18, 489A.
9 يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة 6 : 42 : 5ـ6، 44 : 2ـ6 قارن Analecta Bollandiana, 40 (1922), 18
10 لقد سام هذا الأسقف إكليروس في مدن لا تخضع لرعايته، وإنما كانت خاضعة لرعاية أساقفة مقيدون في الحبس. أنشأ كنيسة وأطلق عليها “كنيسة الشهداء”، تم تجريده بواسطة أسقف الأسكندرية، ولكن الإنشقاق استمر حتى بعد استشهاد البابا بطرس، انظر:
A.M. Jones, Ο Κωνσταντίνος και ο εκχριστιανισμός της Ευρώπης, ελλ. Μτφρ., Αθήνα 1983, pp 135-173
يُقدّر Bell في كتابه (Jews and Christians in Egypt, London 1924 p. 40 – etc) المدة بثلاثة قرون بعد القرن الخامس حيث من الممكن أن نجد آثار للمجتمعات الميليتية.
11 انظر H. Delehaye, Analecta Bollandiana, 40 (1922), 16
12 راجع Lacy O’ Leary, The Saints of Egypt, London, New York 1937, pp 174, 175
يوجد مخطوط عربي يحتوي على حياة القديس يوليوس (سير قديسين 24، ص1ـ23) بدير القديس مقاريوس. انظر كتالوج Ugo Zanetti, Les Manuscrits de Dair Abu Maqar, Geneve 1986, p 57.