التجسد والفداء في تعاليم القديس أثناسيوس – د. جوزيف موريس فلتس
التجسد والفداء في تعاليم القديس أثناسيوس – د. جوزيف موريس فلتس
مقدمة كتابية عامة:
لقد اعتمد الآباء.. ومنهم القديس أثناسيوس بالطبع ـ في حياتهم وتعليمهم وكتاباتهم على الحق الإلهي المُعلَن في الكتاب المقدس وحياة الكنيسة. ولكي نفهم البعد الكتابي لمفهوم الفداء لدى القديس أثناسيوس سنستعرض في إيجاز معنى هذا المصطلح الهام في كل من العهد القديم والجديد.
إن معنى كلمة “فداء” ¢polÚtrwsh والتى بمقتضاها ” يحرّر أو يُطلِق ” الله شعبه، كذلك المعنى القريب منها ” ἐxagorάzw ” بمعنى “يدفع الثمن”، لترتبطان معًا في الكتاب المقدس بمعنى كلمة “خلاص” وكل هذه المصطلحات تُحدّد الطريقة التي اختارها الله لكي يخلّص شعب إسرائيل منقذًا إياه من عبودية المصريين له.
” صار لهم مخلصًا في كل ضيقتهم“[1] “ذبيحة فصح للرب… لما ضرب المصريين وخلّص بيوتنا “[2]، وأيضًا ” قفوا وانظروا خلاص الرب فإنه كما رأيتم المصريين.… لا تعودون ترونهم أيضًا إلى الأبد ” وفي العهد الجديد نجد أيضًا نصًا[3] يستعرض بإيضاح شديد عمل المسيح يسوع وهو المخلّص ” لأنه يفدينا من كل إثم ¢nom…a ويطهّر لنفسه شعبًا خاصًا.
وهكذا تتضح أبعاد خطة الخلاص بدون أن تغيب عنها كل جديد يمكن أن تحمله النبوات الحقيقية.
+ ففي العهد القديم هناك خروج وعهد.
فبالنسبة لعملية الخروج نجد أن العهد القديم يتكلّم دائمًا عن عملية الفداء فالخبرة الروحية التي اكتسبها إسرائيل تسمح لنا أن نتفهّم بعمق معنى هذه الكلمة لأنه بالنسبة للضمير اليهودي فإن عملية الخروج لا يمكن أن تنفصل عن العهد، فالله انتزع شعبه من العبودية لكي يحضره أمامه ” أنا الرب وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم “[4].
وبسبب هذا العهد أصبح إسرائيل شعب مقدس، شعب مختار لله ” إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدى تكون لى خاصة من بين جميع الشعوب فإن لى كل الأرض وأنتم تكونون لى أمة مقدسة “. وأيضًا يقول إشعياء ” هوذا الرب قد أخبر إلى أقصى الأرض قولوا لابنة صهيون هوذا مخلصك، آت ها أجرته معه وجزاءه معه ويسمونهم شعبًا مقدسًا مفدي الرب “.
فعبارة ” شعب مقدس” وعبارة ” مفدى الرب ” هى عبارتان مترابطتان، كذلك فإن إرميا يؤرخ للعهد الذي قطعه الله مع شعبه من ذلك اليوم الذي اتخذهم فيه شعبًا: “ويكونون لى شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا وأعطيهم قلبًا واحدًا وطريقًا واحدًا كل الأيام لخيرهم وخير أولادهم بعدهم وأقطع لهم عهدًا أبديًا….“[5].لهذا فإن معنى كلمة فداء هى في الواقع تحمل معنى إيجابيًا يؤكد حقيقة الشركة والاتحاد بالله مثلما تمامًا المعنى الذي تحمله كلمة التحرر من عبودية الخطية.
+ الفداء المسيانى
في إشارتهم إلى عملية التحرّر من السبي يشير أنبياء العهد القديم دائمًا إلى نفس العبارات، وتعبير “فادى” هو من ذلك الوقت، من أفضل العبارات التي كانت تستخدم وتطلق على الله ” يهوة ” ولم ينكر أحدًا أن محتوى الرجاء المسيانى كان يُعبّر عنه دائمًا بلفظ “الفداء”، “لأن عند الرب الرحمة وعنده فدى كثير”[6].
كما أن حزقيال ـ أكثر من جميع الأنبياء يركز على مثل هذا الفداء المقدم للمسبيين. ” ولكنى أذكر عهدى معك في أيام صباك وأقيم لك عهدًا أبديًا فتذكرين طرقك وتخجلين إذ تقبلين إخواتك الكبر والصغر وأجعلهم لك بنات ولكن لا بعهدك، وأنا أقيم عهدى معك فتعلمين إني أنا الرب “[7].
ويحدد أيضًا طبيعة العهد الجديد ” أجعل روحي في داخلكم “. فالفداء يقوم على بعث روح الله في صورة الناموس، وكما يقول يوحنا بعد ذلك ” لأن الناموس بموسى أُعطى وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا “[8]
ويؤكد بولس الرسول نفس المعنى عندما يقول:
“لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقنى من ناموس الخطية والموت لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه… فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد. الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد”[9].
+ العهد الجديد
واستمرت كل هذه المعانى أيضًا في العهد الجديد مثل كل المعانى والألفاظ التي جاءت في العهد القديم معبرة عن دور المسيا والتي تناسب عمل المسيح سواء في تجسده أو عند مجيئه الثاني. وهكذا فإن لفظ “الفداء” لا يعبر فقط عما عمله المسيح في الجلجثة[10]، وأما عما سيفعله ويكمله عند مجيئه الثاني حيث الغلبة والنصرة بقيامة الأجساد[11].
ففي كلتا الحالتين نتحدّث عن إجراء عتق وتَحرُّر بل وأكثر من ذلك افتداء، وعن اقتناء لله يكون في البداية مؤقت وبعد ذلك نهائي عندما يكون الإنسان بنفسه وجسده مع كل المسكونة في الحالة التي عبر عنها بولس الرسول ” تمتلئوا إلى كل ملء الله حيث يصبح الله الكل في الكل “
لهذا استطاع العهد الجديد أن يعبر من ناحية أخرى عن المعنى السابق بفعل يشترى. ” لأنكم قد اشتريتم بثمن “[12].
وهذا حدث ليس لأنه يريد أن يعادل عملية الفداء بعملية مقايضة تجارية تتطلب حسب القانون أن يكون هناك تساوى للأدوات أو الأشياء حيث يُطلب مثلاً من السجان أن يُطلق المسجون نظير مقابل أو ما تسمى “الفدية” أو يطلب من البائع أن يعطى بضاعته نظير مقابل مادى، لقد حدث هذا لأن كاتب العهد الجديد أراد بدون شك أن يُعبّر عن أننا أصبحنا ملكًا له طبقًا لقانون قد كَمُلَت شروطه. ” قد دفع الثمن لأنكم اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التى هى لله “.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن عملية التشابه والمقارنة قد توقفت. فالعهد الجديد لا يشير من قريب أو من بعيد إلى شخص معين دفع له الثمن وفي الحقيقة فإن العهد الجديد قد أشار إلى معنى عملية الشراء كما هى موجودة في العهد القديم، غير أن سفر الرؤيا قد استخدم فعل يشترى (اشترينا لله بدمك)، فبدم الحمل أصبح جميع البشر ومن كل الأمم ملكية خاصة لله كما في العهد القديم عندما أصبح إسرائيل شعب الله بفضل العهد الذي قطعه الله معهم بالدم أيضًا. وسفر أعمال الرسل في وصفه لنفس الحقيقة يستخدم نفس التعبير [تدعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه].
+ الفداء ـ الموت الاختياري ليسوع المسيح
العهد الجديد يركز على أن هناك مسافة وبُعد بين الرمز والحقيقة. فعهدى الله مع إسرائيل القديم وأيضًا إسرائيل الجديد يُختَم عليهما بالدم. لكن الآن في العهد الجديد فإن الدم هو دم ابن الله الحقيقي.
وعملية الفداء يلزم لها مقابل كبير، فالذبائح غير العاقلة تمثل ذبيحة المسيح الذي لابد ” وأن يُسلّم نفسه للموت “. والمسيح جاء لكي لا يُخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين وتضحيته هذه هى المقابل الذي قدّمه لفدائنا. وقد أشار القديس يوحنا الإنجيلي في كلامه عن آلام المسيح إلى هذا الموت الاختياري وأيضًا إن أمكننا أن نقول هذا عندما أشار إلى حادثة العشاء الأخير حيث قدّم المسيح نفسه للموت قبل أن يتم ذلك بالفعل يوم الجمعة.
+ انتصار المسيح على الموت
كان الموت بالنسبة للتلاميذ عثرة فقد دَلّت على أن المسيح ليس هو الفادى والمخلّص المنتظر. لكنهم بعد أن عاشوا خبرة القيامة وحلول الروح القدس عليهم فهموا أن آلام وموت معلّمهم كانت ليس فقط نجاحًا للخطة الإلهية لأجل خلاصنا ولكن أيضًا لكي تتم كل النبؤات الكتابية. فلقد أصبح الحجر الذي رفضه البناؤون هو حجر الزاوية في بناء الهيكل الجديد. فلقد ارتفع المسيح إلى السماء ومُجد حسب ما وصف من قِبل إشعياء النبى “هوذا عبدى يعقل يتعالى ويرتقى ويتسامى جدًا “[13]، ولأنه ” سكب للموت نفسه “[14]
فموت المسيح بالرغم من أنه ظهر وكأنه هزيمة، ففي الحقيقة هو انتصار على الموت والشيطان الذي كان هو سبب الموت.
+ الموت والقيامة
عندما تكلّم الرسل عن الفداء فإنهم تذكروا القيامة أولاً وذلك لما تلعبه من دور أساسي فيه حيث يكاد لنا أن نرى أن كل ما تحدّث عن الفداء في العهد الجديد لم يتحدّث عن شئ آخر سواها[15]، لقد كان الرسل وهم منقادين بالروح القدس يكتشفون كل يوم أن الآلام والموت من جهة والقيامة والصعود من جهة أخرى يمثلان سلسلتين من الحقائق لا يكمل بعضهما البعض فقط بل هما مرتبطان ببعض ويمثلان وجهان لسر واحد هو سر الخلاص.
لهذا فالقديس لوقا مثلاً يقص علينا من تحت مظلّة الصعود “وحين تمت الأيام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق لأورشليم “[16]. كل أحداث رحلة المسيح إلى أورشليم والعكس فهو عندما يتكلّم عن مجد المسيح يذكر آلامه وموته على الصليب[17]. كذلك فعل القديس بولس ففي المواضع التي يتحدث فيها عن الموت فقط نجده يذكر شيئًا عن القيامة
فالحياة التي يتحدّث عنها باستمرار هى حياة بسبب الاشتراك في حياة القائم من بين الأموات[18].
وأخيرًا فإن القديس يوحنا يربط الحدثين بشدة معًا حيث أن الكلمات التي يعبر بها عن قيامة المسيح بمجرد أن بشروا بها يستخدمها في نفس الوقت ليصف آلامه ومجده[19]، ولهذا أيضًا يظهر الحمل في سفر الرؤيا كأنه قائم وفي نفس الوقت كأنه مذبوح كدليل الفداء.
+ سر الحب
يرى يوحنا الإنجيلي كمثال، أن سر الفداء هو سر حب لحياة إلهية. طالما أن الله محبة. نحن هنا بصدد حب الله الآب ” الذي أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد ” وهو في نفس الوقت حب الابن للآب وحبه للإنسان حب هو من الله أبيه والذي منه كل الإنسان وله الطاعة الكاملة. هو حب أكبر من كل شئ ولا يوجد شئ يحده.
لأنه إن كانت حياة المسيح هى “محبة لخاصته” فإن آلامه كانت تمثل “محبة إلى المنتهى” فبالتحديد هى محبة قد قبلت أن يُسلّم من أحد الاثنى عشر، أن يحاكم كمُجدف باسم تطبيق الناموس وأن يموت بأشنع وأحقر طريقة وهى الصليب كمجرم حيث كان المعلق على خشبة يلوث أرض إسرائيل وفي هذه اللحظة المعينة استطاع المسيح أن ينطق بكل صراحة بتعبير “قد أُكمل” لقد تحقق إلى أقصى ما يمكن.. محبة الآب التي أُعلن عنها في الكتب وتجسدت في قلب يسوع المحب. وحتى ولو مات من أجل محبته، فلقد فعل هذا لكي ينقل هذه المحبة للبشر، لإخوته.
والآن نعود إلى مفهوم الفداء عند القديس أثناسيوس الرسولى
هناك علاقة وثيقة في كتابات أثناسيوس بين عقيدة الثالوث الأقدس وعقيدة الفداء والخلاص وهو يربط في كتاباته بين تعليمه عن شخص المسيح كأحد أقانيم الثالوث الأقدس وعمل المسيح ـ ابن وكلمة الله ـ الأقنوم الثاني كفادى ومخلّص. فكلا العقيدتان متلازمتان ومترابطتان.
يرى أثناسيوس أن ألوهية المسيح الحقة والتي لا يشوبها شئ بالمرّة لا يمكن التعبير عنها بالكلام أو وصفها في تعبيرات، بل هى حياة معاشة، وهذا يتضح بشدة في محاربته لأفكار الآريوسيين ومحاولته لإثبات ألوهية “الكلمة” في علاقته بتجسد الله “الكلمة” من أجل فداء وخلاص البشرية.
ففي الحقيقة لقد كان القديس أثناسيوس يرفض حتى أن يسمع مجرد كلمة عن “مسيح” طالما أن هذا “المسيح” لن يجيء بفداءً وخلاصًا للبشرية.
ومبتدئًا من بشارة الرسل وما ترتب عنها من تعليم الكنيسة، علّم أثناسيوس عن المخلّص الحقيقي وعن عمله الخلاصى… كخلاص حقيقي. وفسّر كيف أن المخلّص لابد وأن يكون كائن حقيقي إلهي في جوهره، بل لابد وأن يكون إله لكي يكون له الإمكانية الحقيقية لهذا العمل الخلاصى ولهذا فعند أثناسيوس أن المنكر لوحدانية الابن مع الآب في الجوهر، هو في الوقت نفسه يقلّل من قدرة الابن ويضعه في صفوف المخلوقات.
وينكر بالتالي ويشكك في الخلاص الذي تم بواسطة الابن، والتي هو في الواقع كان ضرورة حتمية لأجل الإنسان. وهذا النكران يقود ـ حسب رأى أثناسيوس ـ إلى عدم الاعتراف بربوبية الابن حسب روح الإنجيل وأيضًا لعدم الإدراك العميق لأبعاد وهول الفساد والهلاك الذي حل بالإنسان بعد سقوطه من ناحية، ومن ناحية يقود لعدم الاعتراف بإمكانيات الخلاص التي تمت بواسطة تجسُّد الله “الكلمة” والتي أعادت الإنسان إلى شركة الثالوث مرّة أخرى.
+ سقوط الإنسان كان السبب الرئيسي لتجسُّد الله ” الكلمة ” وذلك لمحبته للبشر
يُعّلم ق.أثناسيوس أن السقوط كان نتيجة فعل حر للإنسان، ومن النتائج السلبية المباشرة لهذا الفعل الحر بل وأهمها هو الموت والفساد نتيجة الموت الذي عمّ البشرية نتيجة لذلك. وهذا ما يوضحه في الفصول الأولى من كتابه تجسد الكلمة ليثبت أن السبب الأول لعملية التجسد هو القضاء على الموت وإعادة الإنسان للحياة الحقيقية. تلك الحياة التي فقدها الإنسان نتيجة المخالفة وتعدى الوصية الإلهية والبعد ـ بالتالي ـ عن الله وفقد النعمة الإلهية.
وفي الفصل الرابع من نفس الكتاب يذكر ” أن نزوله إلينا كان بسببنا، وأن عصياننا استدعى تعطف الكلمة لكي يسرع الرب في إعانتنا والظهور متأنسًا “[20].
+ أزليّة المشيئة الإلهية بشأن التجسُّد وهدفها
لقد كان في عِلم الله السابق إمكانية سقوط الإنسان ونتائجه. كذلك أيضًا عملية التجسُّد وحتميتها. هكذا ركز أثناسيوس في الفصل الأول من كتابه تجسُّد الكلمة. إن الله منذ بداية خطته خَلق العالم بالكلمة وأيضًا سوف يخلّصه بالابن، وذلك لأن صفات الله التي لا يمكن أن تتغيّر أو تتبدّل لا تسمح بأن يؤخذ قرار التجسد وخلاص الإنسان بعد سقوطه. كأن الله قد فوجئ بهذا الأمر، بل كان هناك مشيئة أزليّة.
ويعود القديس أثناسيوس ليوضح هذا الأمر عندما يشرح بعض آيات الكتاب المقدس وذلك في سياق رده على الآريوسيين[21] إذ يقول:
” لأنه رغم النعمة التي صارت نحونا من المخلّص قد ظهرت كما قال الرسول، وقد حدث هذا عندما أقام بيننا، إلاّ أن هذه النعمة كانت قد أعدت قبل أن يخلقنا بل حتى من قبل أن يخلق العالم. والسبب في هذا واضح ومذهل، فلم يكن من اللائق أن يفكر الله بخلاصنا بعد أن خلقنا لكي لا يظهر أنه يجهل الأمور التي تتعلّق بنا. فإله الجميع إذًا عندما خلقنا بكلمته الذاتي، ولأنه كان يعرف أمورنا أكثر منا ويعرف مقدمًا أننا رغم أنه قد خلقنا صالحين
إلاّ أننا سنكون فيما بعد مخالفين الوصية، وأننا سنطرد من الجنة بسبب العصيان ـ ولأنه وهو محب للبشر وصالح فقد أعد من قبل تدبير خلاصنا بكلمته الذاتي ـ الذي به أيضًا خلقنا. لأننا حتى وإن كنا قد خُدِعنا بواسطة الحيّة وسقطنا فلا نبقى أمواتًا كلية بل يصير لنا بالكلمة الفداء والخلاص الذي سبق إعداده لنا لكى نقوم من جديد ونظل غير مائتين “.
كما أنه في تفسيره لما جاء في رسالة معلّمنا بولس إلى أهل أفسس: ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قدامه في المحبة قديسين وبلا لوم، إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح نفسه“[22]، يتساءل ق. أثناسيوس مستنكرًا كيف اختارنا قبل أن نخلق إن لم نكن ممثلين فيه من قبل كما قال هو نفسه؟ كيف سبق فعيننا قبل أن يخلق البشر إن لم يكن الابن نفسه قد ” تأسس قبل الدهور ” آخذًا على عاتقه تدبير خلاصنا؟[23]. ويعطى مثالاً رائعًا لكي يثّبت هذا التعليم فيقول:
” ولأن الله صالح وهو صالح على الدوام وهو يعرف طبيعتنا الضعيفة التي تحتاج إلى معونته وخلاصه لذا فقد خطّط هذا، وذلك مثلما لو كان مهندس حكيمًا يريد أن يبنى منزلاً فإنه يُخطّط في نفس الوقت كيفية تجديده مرة أخرى لو دُمر يومًا ما بعد أن تم بناؤه. وهو يعد لهذا من قبل عندما يخطط، ويعطى للقائم على العمل الاستعدادات اللازمة للتجديد. وهكذا يكون هناك استعداد مسبق للتجديد قبل بناء المنزل وبنفس الطريقة فإن تجديد خلاصنا من جديد فيه، فالإرادة والتخطيط قد أُعد منذ الأزل، أما العمل فقد تحقق عندما استدعت الحاجة وجاء المخلص إلى العالم “[24].
+ التجسُّد في مواجهة الطبيعة البشرية الساقطة:
كانت وصية الله لآدم يوم أن وضعه في الفردوس، ألاّ يأكل من شجرة معرفة الخير والشر محذرًا إياه أنه يوم أن يأكل منها موتًا يموت. يضع القديس أثناسيوس هذا النص كأساس كتابي وكبرهان على ضرورة وحتمية التجسد.. إذ أن الموت صارت له سيادة شرعية علينا من ذلك الوقت، ويفسر عبارة “موتًا تموت” قائلاً إن المقصود بها ليس مجرد الموت بل البقاء إلى الأبد في فساد الموت[25].
ولأنه لم يكن ممكنًا أن ينقض الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدى، أصبحت النتيجة في الحال مرعبة حقًا وغير لائقة، لأنه لا يمكن أن يكون الله كاذبًا، ولأجل تغيير هذا الوضع فإن توبة الإنسان لا تصلح إذ يقول بالحرف الواحد ” لكن التوبة لا تحفظ مصداقية الله لأنه لن يكون الله صادق إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت إذ أنه تعدى الوصية فحكم عليه بالموت كقول الله الصادق، ولا تقدر التوبة أن تستعيد الإنسان مما هو حسب طبيعته “[26].
لقد كان الاحتياج إلى شئ أساسى وجوهري وحاسم لكي يعيد الإنسان إلى الوجود الحقيقي، إلى الحياة، إلى الشركة مع الله. كان هناك احتياج إلى التدخل الحاسم “لكلمة” الله من جديد. وكان حتمًا إذًا أن يتجسد الله “الكلمة “الذي هو وحده قادر على تصحيح هذه الأوضاع وإعادة الحياة وعدم الفساد إلى الإنسان “لأنه لو كان تعدى الإنسان مجرد خطية ولم يستتبعها فساد كانت ستصبح التوبة كافية، أما الآن وقد حدث التعدي مرة فقد تملك البشر الفساد الطبيعي ونزعت منهم نعمة مماثلة صورة الله، فماذا بقى إذًا كان يجب أن يحدث؟
أو مَن ذا الذي يستطيع أن يصيد للإنسان تلك النعمة ويرده إلى حالته الأولى إلاّ كلمة الله الذي خلق في البدء كل شئ من العدم؟ لأنه كان هو وحده القادر أن يأتي بالفاسد إلى عدم الفساد، وأيضًا أن يصون مصداقية الآب لأجل الجميع، وحيث أنه هو “كلمة” الآب ويفوق الكل وبالتالي كان هو وحده القادر أن يعيد خلقة كل شئ وأن يتألم عوض الجميع وأن يشفع عن الكل لدى الآب “[27].
1 إش9:63
2 خر 12:27
3 انظر مثلاً تيطس 13:2
4 خر 6:6
5 إر 38:32ـ39
6 مز 7::130
7 حز 60:16
8 يو 17:1
9 رو 2:8ـ4
10 رو 24:3
11 لو 28:21، رو 23:8
12 1كو 20:6
13 إش 13:52
14 إش 12:53
15[ انظر على سبيل المثال 1بط 3:1، 1تس10:1 ]
16 لو 51:9
17 (7:24.26.39.46)
18 غلا20:2، 14:6، رومية 4:6
19 يو 23:12.34.32
20 القديس أثناسيوس الرسولس، تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس فلتس. المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية. الطبعة الرابعة سنة 2006. فصل2:4 ص10.
21 المقالة الثانية فصل 75.
22 أف 3:1ـ5
23 رسالة 2 فصل 76
24 رسالة 2 فصل 77
25 تجسد الكلمة، المرجع السابق، فصل 3
26 تجسد الكلمة، المرجع السابق، فصل 7
27 تجسد الكلمة، المرجع السابق، فصل 7