الميرون – سر الميرون المقدس -التعاليم اللاهوتية والروحية – د. ميشيل بديع عبد الملك
التعاليم اللاهوتية والروحية في سر الميرون المقدس – د. ميشيل بديع عبد الملك
هناك ثلاثة أسرار متلازمة ندخل بها إلى الحياة المسيحية هي أسرار: العماد، والميرون، والإفخارستيا. وقد جرى العرف القديم ألاّ يُفصل بينها بل أن تُمارس معًا وفي نفس اليوم لمن سبق ترشيحه من الموعوظين للقبول في الإيمان.
إننا بالمعمودية نولد ولادة ثانية من فوق ويموت الإنسان العتيق ونأخذ كياننا الجديد بالمسيح القائم من الأموات. ومن وُلد ولادة جديدة يحتاج إلى قوة تثبته وتحفظ وجوده ونموه في الحياة الروحية. وهذا يحدث من خلال سر الميرون الذي يختم على العمل الذي تم بالعماد مانحًا إيانا قوة الروح القدس لتمكننا من السلوك حسبما تقتضي حياتنا الجديدة التي مُنحت لنا. ثم تأتي الإفخارستيا لتكون السر الفعال الذي يكمل الاتحاد الوثيق بين الكنيسة وكل فرد فيها مع المسيح، ويحقق وحدة الكل معًا في جسده الواحد.
I ـ مفاهيم عامة عن سر الميرون:
الميرون المقدس هو عبارة عن المادة التي تُجهز من الزيت مُضافًا إليها مواد عطرية أخرى. ويُقدّس هذا الخليط حسب الترتيب الطقسي لصلوات الكنيسة الأرثوذكسية حيث يقوم الأب البطريرك بمشاركة الآباء الأساقفة في حضور الكهنة والشعب بإتمام صلوات التقديس والتبريك على الزيت المُضاف إليه المواد العطرية.
وبالنظر إلى طبيعة السر ومفاعيله دُعي وضع الأيدي لأن الرسل كانوا يتممونه في العصر الأول بوضع الأيدي على المعتمدين، وسُمي غالبًا مسحة، ومسحة سرية، وسر المسحة، وسر الميرون، ومسحة الخلاص، وذلك لأنه يُتمم بمسح المُعمَد بالميرون. لذلك يستخدم هذا الزيت مكان “وضع الأيادي ” على المُعمَدين في زمن الآباء الرسل ويُستخدم كمسحة سرية وعلامة مقدسة لموهبة وقوة ونعمة حلول الروح القدس على المُعمَد بالإضافة إلى استخدامه في تكريس الهياكل والموائد والأواني المقدسة بالإضافة إلى استخدامه في مسحة الملوك الأرثوذكسيين.
وكانت الكنيسة (ولا تزال) تمنح سر الميرون مباشرة بعد نوال الموعوظ سر العماد. وقال القديس ديونيسوس الأريوباغي في كتاب رئاسة الكهنوت (1:4،11،8:2) أثناء حديثه عنه سر الشركة : [ لكن توجد تكملة أخرى معادلة لهذه (أي الشركة) يسميها معلمونا الرسل تكملة الميرون ] ثم أخذ في شرح تجهيز الميرون وكيف تتم المسحة على المُعمَدين والمواهب التي تمنحها إلى أن ذكر قائلاً : [ إن مسحة التكميل بالميرون المقدس لمن استحق سر الولادة الثانية يمنحها الروح القدس ذو الكرامة الإلهية ].
أما ترتليانوس في حديثه عن المعمودية فصل7 وفي كتاباته ضد الهراطقة فصل37 وكذلك ضد مركيانوس 22:3 فيقول : [ بعد خروجنا من حميم المعمودية مُسحنا بزيت مقدس تبعًا للتكملة القديمة، كما كانوا قديمًا يُدهنون بزيت القرن لنوال الكهنوت.. إن المسحة تتم علينا جسديًا لكننا نستثمر منها أثمارًا روحية كما في المعمودية حيث نعتمد جسديًا بالماء ونستثمر أثمارًا روحية إذ نتنقى من خطايانا. وبعد ذلك توضع اليد التي مع البركة تستدعي الروح وتحدره ].
II ـ فاعلية السر المقدس في حياتنا:
إن الأسماء الكثيرة التي أُطلقت على هذا السر مثل : زيت الشكر، المسحة السمائية، المسحة السرية، مسحة الشكر، الميرون المقدس، الميرون السري.. إلخ تشير إلى مفاعيله الداخلية الروحية فهو يعطى للإنسان المُعمد ختم الروح القدس من أجل تثبيته وتكميل دعوته كمسيحي وكعضو في الكنيسة جسد المسيح حيث ينال بذلك ” رتبة البنوة ” كقول القديس كيرلس الكبير في القداس الكيرلسي: [ يا الله الذي سبق فوسمنا للبنوة بيسوع المسيح ربنا كمسرة إرادتك ].
إننا في المعمودية نسترجع في أنفسنا طبيعتنا الإنسانية التي فسدت ووقع عليها حتمية الموت بالخطية الأصلية، أما في سر المسحة المقدسة فنحن ننال السلطان والقوة الفاعلة الإيجابية والنعمة لأن نصير في عضوية شعب الله الجديد، وبالتالي نعيش ونتصرف كمسيحيين، ونبني معًا كنيسة الله، ونصير مسئولين كلنا عن حياة الكنيسة.
ويذكر القديس كيرلس الأورشليمي في تعليمه عن الأسرار 3:3 [قد صرتم مسحاء إذ قبلتم الروح القدس وكل شئ قد صار عليكم بحسب الرسم إذ أنكم رسوم المسيح، فذاك عندما نزل في نهر الأردن وصعد من الماء انحدر الروح القدس عليه جوهريًا، واستراح المثيل على مثيله، ونحن أيضًا بعد أن صعدنا من جرن الينابيع المقدسة مُنحت لنا المسحة رسمًا لِمَا مُسح بها المسيح أعني الروح القدس.. لكن أنظر واحترس من أن تظن ذاك الميرون بسيطًا.
لأنه كما أن خبز الشكر بعد استدعاء الروح القدس ليس خبزًا بسيطًا بل هو جسد المسيح، هكذا هذا الميرون المقدس ليس بعد ميرونًا بسيطًا ولا عموميًا بعد الدعاء، بل هو موهبة المسيح وحضور الروح القدس فاعلاً فعل ألوهيته فتُمسح به على جبهتك وسائر حواسك.. فإن الجسم يُدهن بالميرون الظاهر ولكن النفس تتقدس معًا بالروح القدس].
III ـ المفاهيم الروحية لسر الميرون:
من خلال الصلوات الطقسية التي تُقام أثناء طبخ الميرون المقدس وأيضًا أثناء مسح المُعمد بزيت الميرون يمكننا أن نستخلص التعاليم الروحية واللاهوتية في النقاط التالية :
1 ـ يقوم الكاهن بمسح أعضاء الجسم للمُعمد فور خروجه من جرن المعمودية في 36 موضع من الجسم ولكنه يطلب قبل هذا إنعام الروح القدس عند نضح الميرون المقدس على المُعمد، حيث إن حالة حلول الروح القدس لمسح الإنسان هو حلول حقيقي لأن هذا السر يستمد قوته من سر مسحة الرب يسوع بالروح القدس عندما خرج من مياه الأردن، وهنا يذكر القديس كيرلس الأورشليمي في حديثه عن الأسرار 4:4 قائلاً:
[ فكما لمع الروح القدس واستقر على الرب، هكذا بعد أن تخرجوا من جرن المياه المقدسة تُعطى لكم المسحة كاشتراك للمسحة التي مُسح بها الرب وما هي إلاّ الروح القدس ]، وفي موضع آخر يذكر قائلاً : [ المعمودية هي لموت الرب، الماء للدفن، الزيت لحلول الروح القدس ] (تعاليم الأسرار 25:4).
ويذكر القديس كيرلس الكبير في شرح سفر يوئيل 23:2 [ إن الميرون المقدس يشير حسنًا إلى مسحة الروح القدس ]. أما القديس مار آفرام السرياني في خطابه 19 ضد الفاحصين فيقول : [ إن سفينة نوح كانت تبشر بمجيء المزمع أن يسوس كنيسته في المياه وأن يرجع أعضاؤها إلى الحرية باسم الثالوث الأقدس، وأما الحمامة فكانت ترمز إلى الروح القدس المزمع أن يصنع مسحة هي سر الخلاص ].
2 ـ مسحة الميرون المقدس عبارة عن ” شركة الروح القدس “، وبتعبير آخر ” عنصرة شخصية للإنسان “، والتي تأتي به إلى حياة روحية جديدة وحياة حقيقية للكنيسة. وهنا يعلق القديس أمبروسيوس على ما جاء في سفر إشعياء 1:11ـ3 فيقول : [ إن الختم الروحي (أي المسحة المقدسة) تعقب العماد لأنه بعد الميلاد يجب على المُعمد أن يكتمل، وهذا يصير عندما ينسكب الروح القدس من خلال استدعاء الكاهن للروح القدس، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة والتقوى، روح مخافة الله، فهذه السبعة أعداد هي مواهب الروح القدس ] (التعليم عن الأسرار2:3ـ8).
3 ـ عندما يدهن الكاهن مفاصل الأكتاف والكوع والكف يقول : ” مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحل “. فالمسحة المقدسة كسر تجعل المُعمد يصير شخصًا جديدًا في المسيح حيث يعلق القديس كبريانوس في رسالته 70 : [ من اعتمد ينبغي أن يُمسح أيضًا لكي يصير بواسطة المسحة ممسوحًا لله ويأخذ نعمة المسيح ]. بالإضافة إلى أن المسحة التي تُعطى للمُعمد هي خاتم محي يعطى ثباتًا للمؤمنين بالابن الوحيد، على حد تعبير القديس كيرلس : [ ختم الشركة والتبعية للروح القدس ] (عظة 25:4).
4 ـ بالمسحة المقدسة نصير مُسحاء بحسب النعمة وأيضًا ملوكًا وأنبياء للأسرار السماوية. وهنا يشير القديس يوحنا ذهبي الفم في العظة 7:3 على الرسالة الثانية إلى كورنثوس إلى الوظائف الروحية الثلاث لشعب الله فيقول : [لقد صرت في المعمودية ملكًا وكاهنًا ونبيًا : ملكًا بمعنى أنك ألقيت وطرحت أرضًا كل أعمال الشر وذبحت خطاياك، كاهنًا بمعنى أنك تقدم نفسك لله، إذ قدمت جسدك ذبيحة وأنت نفسك ذبحت أيضًا، ” إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه ” (2تي11:2) ؛ نبيًا إذ أنت تعرف ما سيكون، وقد تعلمت من الله، وقد خُتمت. إذ كما يُطبع على الجنود بختم، هكذا على المؤمن طُبع ختم الروح القدس ].
5 ـ عندما يمسح الكاهن القلب والظهر والمفاصل يقول : ” مسحة ميراث ملكوت السموات، دهن شركة الحياة الأبدية غير المائتة “. وذلك لأن الذين مُسحوا من شجرة الحياة ينالون امتياز المجيء إلى درجات الكمال، درجات الملكوت والتبني ويكونون مشاركين حقيقيين في أسرار الملك السماوي وخفاياه، على حد تعبير القديس مقاريوس الكبير في العظة 17، حيث يذكر قائلاً:
[.. وهم يدخلون منذ الآن بينما هم لا يزالون في هذا العالم ورغم أنهم لم ينالوا الميراث الكامل المعد في ذلك الدهر، فإنهم متيقنون ـ عن طريق العربون الذي نالوه الآن ـ كأنهم قد كُللوا وملكوا، وإذ هم عتيدون أن يملكوا مع المسيح، فإنهم لا يستغربون وفرة وحرية وفيض الروح. لماذا ؟ لأنهم حصلوا ـ وهم لا يزالون في الجسد ـ على لذة حلاوته وعلى عمل قوته الفعّال ].
إن مسحة الميرون المقدس تقدس الإنسان بالكامل ليصير إنسانًا حقيقيًا لله، كما يصير هيكلاً مقدسًا لله، وتصبح كل حياته ليتورجية لله. المسحة المقدسة هي روح الله الذي يحتضن حياتنا بالمحبة وتجعلنا مستعدين لتقبل عمل الله في حياتنا. إننا بالميرون نتقوى ونحيا ونثبت في الحياة مع الله، كما أننا نتجند ونلبس أسلحة الحروب الروحية لنكون جنودًا للمسيح وندخل في صفوف جيش العلي.
[ إن سفينة نوح كانت تبشر بمجيء المزمع أن يسوس كنيسته في المياه وأن يرجع أعضاؤها إلى الحرية باسم الثالوث الأقدس، وأما الحمامة فكانت ترمز إلى الروح القدس المزمع أن يصنع مسحة هي سر الخلاص ].
مار آفرام السرياني الخطاب 19 ضد الفاحصين