Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

في اسم الآب – فيليب يانسي

في اسم الآب – فيليب يانسي

في اسم الآب – فيليب يانسي

في اسم الآب – فيليب يانسي

“إن كل الناموس للوجود الإنساني يتلخص في الآتي: أن يتمكن الإنسان من أن يركع أمام الذي لا حدود لعظمته”.

فيدود ديستوفسكي

دمجت “دورثي سايرز” وظيفتين معاً لما لهما من صفات مشتركة معاً كثيرة. وبفضل الـ BBC  وPBS عرف معظم الناس مؤلفة القصص البوليسية المبنية على شخصية “لورد بيتر وينسي”. والبعض عرفها كلاهوتية تتبع مبادئ “ج. ك. تشسترتون”، و “س. إس. لويس”. وفي كلتا المحاولتين كانت تتطرق إلى الأمور الغامضة بذكاء وبراعة.

إقرأ أيضاً: معرفة الله أو أي شخص آخر – فيليب يانسي

في كتابها الذي يحمل بذور التطور في الفكر “عقلية الله” اتبعت سايرز أثر أكثر الأسرار غموضاً، وهو الثالوث الأقدس. فحديث الإيمان صعب عليه فهم هذا المبدأ، ولكننا لا نستطيع أن نعرف الله، أو نفهم جيداً طبيعة علاقته معنا، بدون فهم ضروري وأساسي للثالوث الأقدس.

تقول سايرز إننا نفهم الله بصورة أفضل إذا فكرنا فيه على أنه فنان مبدع. تخيل الله كمهندس أو صانع ساعات، أو قوة هائلة، وفي هذه الحالة سوف تضل الطريق. إن صورة الله تُشرق من خلالنا، وبصورة واضحة في عمل خليقته – متضمنة الثلاث مراحل وهي: الفكرة، والتعبير، والإدراك – وبتكرار وإعادة إنتاج هذا العمل يمكننا أن نبدأ في فهم الثالوث الأقدس بالتشبيه الجزئي.

إنني أطبق فكرة سايرز على صورة إبداعية أعرفها جيداً وهي الكتابة، فكل كاتب يبدأ بفكرة. خذ مثالاً هذا الكتاب، لقد قرأت كتباً كثيرة لعدة سنوات، وتحدثت مع كثير من الناس، وسجلت ملاحظات على قصاصات من الورق ترتبط بالفكرة التي ما زالت غير واضحة.

فلم يكن في ذهني عنوان الكتاب، لا الشكل الذي سيكون عليه، ولكن كانت لديّ فقط رغبة قوية لاكتشاف أسئلتي عن كيفية أننا نحن البشر يمكننا أن نتواصل مع إله غير منظور. وأحياناً يتساءل بعض الأصدقاء: “فيمَ تعمل يا فيليب؟”، وأحاول أن أوضح لهم، ولكن نظراتهم كانت تقول لي أن فكرتي الأصلية عسرة الفهم.

أخيراً، أتى وقت بدء الكتابة، واختيار أفضل تعبير عن فكرتي، فأنا لا أكتب بطريقة الأدب الروائي، على الرغم من إمكانية كتابة اللاهوت بهذا الأسلوب، وقد أثبت ذلك كل من: دانتي، وميلتون، كما يمكن التعبير عنه بصيغ أخرى مثل الشعر الملحمي. فقد كتب “جون ويسلي” خدماته وكتب الترانيم لأخيه بهذا الأسلوب. فكل فنان يختار أسلوبه ووسيلته: الشعر، الأوبرا، الرسم، الرواية، الكورال، السينما، التصوير، النحت، الأغنية، ليعبر عن فكرته التي يبدأ بها.

تتغير صورة تعبيري يومياً، فبالأمس نقلت جزءً كبيراً من النص، من فصل إلى فصل آخر، كما أبعدت تماماً العديد من الصفحات. وغالباً ما أحذف مئات الصفحات من المسودة الأولى من كل كتبي. وأثناء الكتابة، أدرك أن بعض الصفحات التي أخذت مني عدة أيام لكتابتها، تعطل فكرة الكتاب الأصلية، وتتسبب في وجود اتجاهات متعارضة. إن للفكرة حياة في ذاتها، وبمرور الوقت تعلمت أن أتبع ميولي التي تنشطني، وتوقظني، عندما يسيء تعبيري تقديم فكرتي.

وبالمثل؛ فأصدقائي الذين يكتبون الأدب الروائي يخبرونني ان القصة ذاتها تقودهم إلى طريق لم يخططوا لها، أو يفكروا فيها من قبل. بغض النظر عن وسيلة التعبير فكل مبدع بشري يسعى لأن يعبر عن الفكرة بطريقة كاملة، ولربما لن يتمكن من ذلك. فبعدما زار مايكل أنجلو كنيسة سيستين بعد اكتمالها، فأنا متأكد من أنه لاحظ كل خطأ ونقص فيها.

إن عملية الخلق والإبداع لا تنتهي مع أنه عندما أنتهي من العمل يتلقاه شخص آخر. وفي الحقيقة، فإن هذه الخطوة الأخيرة تتم في نفس اللحظة وأنت تقرأ هذه الجملة. ويبدع الفنان من أجل غرض واحد، هو أن يتواصل، وستظل عملية الإبداع بلا توقف إلى أن يتلقاها على الأقل شخص واحد. وتُسمى سايرز هذه الخطوة الأخيرة بالإدراك.

يتطلب العمل الفني الناجح استجابة من المتلقي. وفي الحقيقة؛ عندما يتضمن هذا العمل الفني فناً عظيم عندئذ شيء مماثل للمادة الكيميائية الرابطة يحدث في أجسادنا: في العضلات، والقلب، والتنفس.

قال الكاتب المسرحي “آرثر ميللر”: أنه لم يشعر بالاسترخاء إلا عندما يجلس بين المتفرجين، ويشاهد بعيون الناس. وعندما يرى شرارة الإدراك في عيون الناس، يعرف أن مسرحيته قد نجحت. إن الإدراك يكمّل دائرة الإبداع.

يرسم كتاب سايرز بكل رشاقة التماثل الجزئي بين كل ذلك، وبين الثالوث الأقدس. ومع أن الله واحد فإنه بإمكاننا تمييز عمل الثلاثة أقانيم. فالله الآب هو الفكرة وأساس كي حقيقة. أنا “أهيه الذي أهيه” هكذا عرّف نفسه لموسى، في كلمة عبرية يمكن ترجمتها بأكثر دقة: “سأكون في الصورة التي أريدها”. وكل شيء موجود ينبع من هذا الجوهر.

نحن نتعلم شيئاً ما عن الله من كل الخليقة، ولكن الله الابن يمثل التعبير الكامل لهذا الجوهر.

“هو بهاء مجده ورسم جوهره”، كما دون كاتب رسالة العبرانيين، وقال عنه بولس الرسول: “صورة الله غير المنظور”. وإذا أردنا أن نعرف من هو الله فلننظر ببساطة إلى يسوع.

والخطوة الأخيرة في الرؤية الإبداعية لله أثمرت واكتملت في يوم الخمسين، عندما سكن الله بالروح القدس داخل أشخاص بشريين. وشيء من جوهر الله وهو نفس الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه في عملية الخلق، إنه يعيش الآن في داخل أناس خطاة، مُعطياً إيانا إدراكاً للهوية الجديدة التي أصبحت لنا. وبه نستطيع أن نصرخ: “يا أبا الآب”، فـ “الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله”. لقد وصل عمل الله في الخليقة إلى القمة.

يقول إيلي ويسل: “إن الله خلق الإنسان لأنه يحب القصص. وجزء أساسي من هذه القصة يتطلب تدخل الله مع خليقته. وفي كلمات دورثي سايرز عن التواصل الجزئي للفنان، كتب الله مسرحية وأخرجها على كوكب الأرض، وأطلق الحرية للأشخاص أن يفعلوا ما يردون.

وكل فنان يعرف ماذا تشبه عملية الإبداع، والتي تلد فكرة يقذف بها إلى العالم ليفعل بها الآخرون ما يريدون. إن الخلق والإبداع يعني أن تُطلق ما أبدعته حراً، وفي حالة الله، فقد سمح لكل خلائقه البشرية لأن يفسدوا كل ما تبقى.

ورغم أن الله لم يُسر لأن تلك الشخصيات (البشر) أفسدت خطته، إلا أنه وضع خطة ليدخل في تاريخهم. كتب البشير يوحنا: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحل بيننا”. هذه الحادثة وضعت تاريخاً للعالم قبل الميلاد وبعده. ففي ثلاث سنوات قصيرة من خدمة الرب يسوع عمل أكثر من كل الأنبياء الذين سبقوه، لكي ينقل ويوصل جوهر الله للبشرية.

ذات مرة سأله أحد التلاميذ، في لحظة شك “يا رب نريد أن نرى الآب، وكفانا”، أجاب يسوع: “من رآني فقد رأى الآب… إن ما أقوله ليس من عندي، بل من الآب الذي يحيا فيّ…”

فيما بعد؛ عندما كان يسوع يستعد للرحيل عن كوكبنا، أعطى تلاميذه تكليفاً ثلاثياً، مشجعاً إياهم لأن: “تلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. إن التجسد وانسكاب الروح القدس في يوم الخمسين، أعلن كلاهما سراً جديداً عن الله، وأحدث ثورة في طريقة تفكير الناس عن الله.

لقد أمضى أكثر الناس ذكاءً في الكنيسة الأولى خمسة قرون لكي يصلوا إلى صيغة لتُعبر عن فكرة الثالوث الأقدس. وفي العالم غير المنظور ليس هناك أن ارتباك في كيفية كون الثلاثة أقانيم هي إله واحد.

ومع ذلك؛ فنحن كبشر يمكننا أن نتعلم شيئاً عن الثلاثة أقانيم، وهو ما يمكن أن تتعلمه الخليقة المحدودة بزمن عن أي شيء: بالتتابع. نتعلم أولاً عن الله الآب من العهد القديم، ثم نتعلم عن الرب يسوع من الأنجيل، وعن الروح القدس من سفر الأعمال، ومن الرسائل.

كنت أناقش موضوع الثالوث مع بعض الأصدقاء في مجموعة صغيرة، محاولاً ربط اللاهوت النظري بالحياة العملية، فقالت إليسا هذه الفكرة: “لقد عرفت الله من خلال الثلاثة أقانيم في الثالوث الأقدس.

تعرفت أولاً على الله الآب في الكنسية حيث تعلمت أن الله مقدس ومهوب، ويستحق أن نعبده. وفيما بعد، وأنا في فترة المراهقة، تعرفت على الرب يسوع، وأردت أن أتبعه بقية حياتي. ثم تنبهت وأحسست بقوة الروح القدس يحيا فيّ”.

في أسلوب شخصي وبسيط فهمت إليسا تطور رؤية الله كما يفهمها البشر المحدودون. إن الله أعلن عن نفسه أولاً كمقدس، وكائن فوق كل الوجود لقبيلة أحبها كما يحب الوالدين أطفالهم، من خلال المراحل الأولى لتطورهم ونموهم. “رأس الحكمة مخافة الله” فهذه الآية يمكن أن تكون درساً ثابتاً من العهد القديم، فيما أدخل يسوع مرحلة جديدة من الصلة والتواصل: “لا أعود أدعوكم عبيداً بعد، بل أصدقاء.

لأن كل ما تعلمته من أبي علمتكم إياه”. وأثناء استعداده للصعود إلى السماء وعد تلاميذه بالروح القدس، الروح المعزي، الذي سيقيم علاقة قوية وحميمة جداً، حتى أننا نشترك في أعمال الله على الأرض: فالله يتمم عمله من خلالنا.

في مؤتمر التقيت ببعض الشخصيات الهامة: بيلي جراهام، رئيس الولايات المتحدة، رياضيين مشهورين، وكتاب ذوي سمعة قومية. كنت أتواصل معهم بطريقة تختلف تماماً عن تواصلي مع جيراني، وأفراد عائلتي. فلكي أتواصل بواحد منهم كان عليّ أن أجتاز على الكثيرين من أفراد السكرتارية، والوكلاء، ووقتي معهم محدود ومركز.

بينما في تواصلي مع جيراني فإن ذلك ابسط بكثير، وهو أمر عادي. فنادراً ما أحدد موعداً معهم، إذا ما رغبت في رؤيتهم وقد ألتقي بهم عند صندوق البريد، أو وهم يتمشون مع كلابهم في الطريق، ونتحدث معاً عن الطقس، أو الرياضة، أو عن خطة قضاء الإجازة، أو أي شيء آخر قد يكون مشتركاً بيننا.

وقد أطلب منهم المساعدة إذا تعطلت سيارتي على الجليد، أو إذا احتجت لأحدهم ليوقع بدلاً عني في استلام طرد البريدي أثناء غيابي. وقد نتعشى معاً في احدى عطلات نهاية الأسبوع.

أما مع عائلتي فالأمر يختلف تماماً، إذ أنني أتواصل معهم بانتظام وبطريقة حميمية. فإذا أخبرني الطبيب ببعض الأخبار المزعجة بعد فحصي طبياً، فهم أو من يعلم بذلك. ولا نتعامل داخل الأسرة بطريقة رسمية، فعلاقتنا القوية تسود علاقاتنا معاً.

معرفة الله الذي هو ثالوث يُشابه علاقتنا بالناس في أمور معينة. وتعتمد علاقتنا بالله على ما يريده هو منا أن نعرفه عنه، وهي مرسومة ومحددة بأدوار متغايرة. فإذا سألت شخصاً إسرائيلياً من العهد القديم “صف لي العلاقة الشخصية مع الله”، فسأحصل على إجابة تختلف تماماً عن نفس السؤال لو سألته لأحد تلاميذ المسيح أو بولس الرسول. لهذا السبب فإنني سأكتب في الجزء الباقي من هذا الفصل، وفي الفصلين التاليين عن كل أقنوم على حدة.

واختياري للكلمات قد لا تتسم بالاحترام والتقدير، ولكنني أقصد النظر إلى الثالوث الأقدس في ضوء “المزايا” و” العيوب” الي يفكر فيها كل شخص في عملية معرفته لله. فلا يوجد إنسان بإمكانه أن يفهم جوهر الله فهماً كاملاً.

فنحن نعرف الله غير المنظور فقط كما يكشف الله ذاته لنا بتعبيرات مختلفة. وحينما يتنازل الله غير المنظور بطريقة يمكننا أن نستوعبها في عالمنا المادي، فنحن نستفيد في طرق معينة، ونعاني في أخرى.

كما أشار الكاتب تيم ستافورد قائلاً: أنه بالرغم من أن اللاهوتيين يميلون للتأكيد على صفا لله: القداسة، القدرة…، فهذه الطريقة العادية التي نعرف بها الأشخاص. فنحن نُعرّف الناس بصفاتهم، ولكننا نعرف الناس من خلال أحاديثهم معنا: “أخبرني عن نفسك”، هكذا أبدأ حديثي عندما ألتقي شخصاً ما لأتعرف عليه، متوقعاً منه أن يخبرني: أين نشأ، وما نوع أسرته، وأين تعلم.

وبمرور الوقت تتعمق الصداقة، ونتشارك خبراتنا، فتزداد معرفتنا لبعضنا البعض – مثلما يحدث معي ومع تيم ستافورد، وهو صديق حميم لي، وزميل سابق في الجامعة، فبمجرد ذكر اسمه يذكرني: كيف كنا نجلس معاً في فناء ملعب التنس في الصباح الباكر، منتظرين شروق الشمس. أو كيف كان يخيفنا نعيق البومة ونحن في المعسكر معاً، نجري على شاطئ مهجور في أفريقيا.

فبالمثل، نحن نعرف الله الآب مبدئياً من خلال القصص التي ذُكرت في العهد القديم، فالله قادر على أن يتواصل مع كل الخليقة في آن واحد، ومسانداً وجودها، مثلما كان يحتفل العبرانيون في مزاميرهم بالشكر.

ومع ذلك، فقد اختار الله أن يتواصل عن قرب مع عشيرة من الناس، هم سلالة إبراهيم، واسحق ويعقوب، وازداد قربه منهم، وتحرك بينهم أولاً في خيمة الاجتماع في البرية، ثم في هيكل بناه سليمان.

لقد شارك الله إقامته مع العبرانيين في خيمة، لا لأنه يحتاج إلى مكان ليعيش فيه. بل لأنهم محتاجون لوجوده الفعلي حتى يتعرفوا عليه أكثر. ومن الأمور الهامة أن الله أقام “عهداً” مع إسرائيل، إنه بمثابة عقد به شروط على كلا الطرفين. وكما قال العالم “باري ميللر”: عندما يكون لك عهد مع الله فأنت لم تعد بعيداً عنه، بل أصبح لك إلهاً بإمكانك أن تعتمد عليه، وتعرف ماذا تتوقع منه.

بالإضافة إلى ذلك، فقد ظهر الله بطريقة نادرة ودرامية للأفراد. فتحدث الله إلى قايين، وإبراهيم، وصموئيل، وأعطى نوح تعليمات مفصلة لبناء الفلك. وموسى رأي العليقة المشتعلة، وسمع صوت الله، وفيما بعد كان يُحادث الله “وجهاً لوجه”. كما صارع يعقوب مع زائر الليل فحصل على اسم جديد، بعد هذه الزيارة بدأ يعرج، وكان مندهشاً لأنه: “رأى الله وجهاً لوجه، ولم يمت”.

في كل هذه القصص يتصل الله بالعالم المادي في كل الجوانب مصمماً – بشكل خاص – بالتركيز على نقطة واحدة، أن يختار جسداً، أو شجيرة، أو حلماً كوسيلة لإعلان حضوره بين البشر. يمكن للبشر أن يروا الله بحواسهم، وبعيونهم، وآذانهم. واستمر ظهوره في السحابة، وعمود النار في البرية، لفترة من الوقت.

وفي رقة بالغة، كتب الشاعر جورج هيربرت عن تلك الفترة:

ما أعذب تلك الأيام، عندما أقمت مع لوط،

وناضلت مع يعقوب، وجلست مع جدعون،

وتشاورت مع إبراهيم….

ومن لا يتوق إلى مثل هكذا علاقة، أكيدة، ومحسوسة مع الله، والتي تمتع بها إبراهيم، وموسى؟ وكتابي المُسمى “خيبة أمل مع الله”، تحدثت فيه عن ثلاثة أسئلة يسألها كثير من المؤمنين: هل الله محتجب؟  هل الله صامت؟ هل الله ظالم؟ وقد صُدمت بشدة وأنا أكتب هذا الكتاب، بأن تلك الأسئلة لم تُسبب أية مشكلة للعبرانيين، وهم في برية سيناء.

لقد رأوا دلائل واضحة لوجود الله كل يوم، وسمعوه يتكلم، واتفقوا على شروط عقد عادل، وقعه الله بيده.

ظهرت من هذه العلاقة هدية اليهود العظيمة للعالم: التوحيد، الإيمان بإله واحد، الله القدوس. وانتبذ الأنبياء الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة، ومنها عبدوا الله الحي الحقيقي، صانع الخشب والحجر.

إن الأمريكيين المحدثين، الذين يميلون لمعاملة الله كرفيق كوني طيب، بإمكانهم أن يأخذوا دورة دراسية تجديدية عن عظمة الله في العهد القديم. قال الراعي والكاتب “جوش ماكدويل”: إن محبته لله قد تحولت بعيداً من النموذج العاطفي الذي لن يُشبع، إلى شيء قريب من نموذج الآب والابن. لقد تعلم أن يحترم ويطيع، ويشكر الله، ويعبر عن أسفه من أجل عيوبه وأخطائه، وأن يسعى إلى هدوء وسكينة يتمكن فيها من سماع همسات الله.

وبمعنى آخر، إنه يسعى لعلاقة مع الله تتناسب مع الفرق العميق بين الطرفين. ويضيف “جوردن” هذا التحذير: “إن أكبر الخطايا المكلفة التي ارتكبتها جاءت في وقت أوقفت فيه احترامي وتقديري لله: ففي مثل هذا اللحظة استنتجت بهدوء أن الله لا يهتم، ولا يتدخل، لو أنني غامرت وعصيت إحدى وصاياه”.

لقد شعرت أنني بحاجة للعودة إلى ثقافات أخرى لأوجد نوعاً من التوازن مع الأسلوب الأمريكي الإنجيلي للاقتراب إلى الله. فمثلاً؛ كتب لي صديق ياباني أنه فهم الروح الصحيحة للصلاة بطريقة أفضل عندما أصغى إلى مؤمنين يابانيين أكثر منه عند سماعه تعليم المرسلين الأمريكيين. وقال: “نحن نعرف كيف نأتي إلى الله كعبيد متواضعين. وأنت لست مضطراً أن تخبر اليابانيين عن الكهنوت والأساقفة.

فعندما يعرفون ويتعلمون أن الله هو الرب فهم يعرفون فوراً مضمون ذلك. إنهم يعلمون من هو الرئيس، ولا يشككون في ذلك. وعندما يصلّون يستخدمون لغة تربط بين أفضل أشكالها وأكثرها سمواً، مع أكثر عبارات الحب والتكريس حميمية. وعندما يطلبون شيئاً فهم يطلبونه بتواضع حقيقي، عالمين أنه لا يحق لهم في ذلك إلا أن الله يعطيهم الحق في الطلب، ويعد بالاستجابة”.

يؤكد العهد القديم على هذا الشيء العجيب، والمدهش، وهو أن الله العظيم، القدوس، يرغب في التواصل مع خليقته الخاطئة. الله يريد أن يتواصل مع الناس، وهذا يوضح لنا لماذا استمر في محاولاته مع الإسرائيليين المتمردين. إله عظيم القدرة يخلص شعبه من أقوى الإمبراطوريات على الأرض، ويشتاق لأن يتنازل ليسكن بينهم في خيمة. وفي كل مرة، بغض النظر عن مدى بعدهم عنه، برهن الله على أنه عمانوئيل “الله معنا”.

لقد صنع ملابس لآدم وحواء بعد سقوطهم، وأعطى إبراهيم، وموسى، فرصة تلو الأخرى محتملاً عدم أمانة شعب إسرائيل له، ومع ذلك؛ رجع إليهم وقدم لهم مزيداً من الحب.

في الحقيقة؛ لقد كانت محبة الله، وليس قوته، هي التي أسرت العبرانيين، وأثرت فيهم. وانتهز إسرائيل الفرصة عندما أدركوا أن الله يهتم بهم، وبمعاناتهم في مصر: “عندما سمعوا أن الرب مهتم بهم، ورأى مذلتهم، وسجدوا له وعبدوه”. كم كان الله في نظرهم مختلفاً كثيراً عن آلهة المصريين القاسية.

يوضح لنا العهد القديم “امتيازاً” واضحاً: أن هذا الإله العظيم لها طاقة غير محدودة للتواصل مع البشر كأفراد فهو ليس مثل المشاهير من الناس الذين لهم هيئة سكرتارية ويحددون موعداً للزيارة. “الله يحب كل واحد منا كما أنه يوجد شخص واحد فقط لكي يحبه”، هذا ما قاله القديس أوغسطينوس.

يتعامل الله الآب مع كل خلائقه باهتمام بالغ، مثلما وضّح ذلك يسوع في تعليقه عن أن كل شعورنا محصاة لديه. وقد أشرت سابقاً إلى صديقي ستانلي الذي قال: “لا يمكنني أن أصدق أنه في عالم يصل تعداد سكانه ستة بلايين نسمة، وأن الله يعرف اسمي”.

وباختصار، لأن الله غير محدود فبإمكانه أن يهتم بالستة بلايين نسمة، كل واحد على حدة وبشكل خاص، وبدون أن يشعر بأي نوع من النقصان، أو الاستنزاف. وهذا ما يعني أن يكون إلهاً. إن العهد القديم يكشف لنا عن أب له شهية غير محدودة للمحبة.

ما هي تلك “العيوب” التي يقدمها العهد القديم من جراء معرفة الله؟ ربما تكون أفضل طريقة للإجابة على هذا السؤال الوقح هو اقتباس ما قاله يهودي معاصر، والذين من أجلهم يقدم العهد القديم رؤيا الله الكاملة مكتوبة، يقول جيرشوم شوليم: إن اليهودية ما زالت تخاطب نفسها على أساس “الهوة الواسعة” بني الله والإنسان. ويعترف أن اليهودي الحديث “يتخيل البعد الكبير والرئيسي” بينه وبين الله.

وقد فات على شوليم أن رسالة الله هي في أنه يرغب في أن يقيم علاقة وصلة بينه وبين الإنسان.

إن المحبة تتناقص كلما ازدادت القوة، والعكس صحيح. ونفس القوة الي استحوذت على الإسرائيليين مرات عديدة صعب الأمر عليهم لكي يعرفوا محبة الله. ويقف الآباء شامخين ليغرسوا الاحترام في أطفالهم، وينحنون كثيراً ليحتضنوهم ويظهرون لهم كل حب.

وفي العهد القديم يقف الله شامخاً وعظيماً. وإذا أردت أن تعرف أي نوع من “العلاقة الشخصية مع الله” كان يستمتع بها الإسرائيليين وهم يصغون لهذه الكلمات: “إننا سنموت! وأي شخص يقترب من تابوت العهد سوف يموت”… “لا نريد أن نسمع الرب إلهنا، ولا أن نرى هذه النيران العظيمة مرة أخرى، وإلا سنموت”.

“إن سماع صوت الله للآذان الفانية هو أمر مميت”، هكذا كتب الشاعب ميلتون. والذين دونوا العهد الجديد، لأنهم تدربوا في المدارس العبرية، وتربوا في بيوت يهودية مخلصة، وأظهروا القليل من الشعور بالحنين إلى مرحلة العهد القديم. لقد احترموها كفترة إعداد لمجيء المسيح.

وطبقاً لما قاله بولس الرسول، وهو في الأصل يهودي تعرّف على الكثير من فوائد العهد القديم (اقرأ رومية 9-11) يقول إن هذا الترتيب فشل في تحقيق أهم أهدافه: إنه لم يعد أو يوجد نمواً روحياً.

كلما ازداد الضوء قوة، كلما اشتد ظلام الظلال من حوله. إن ظل الله لاح وبدى بقوة حتى أنه أعاق ومنع النمو. وكمثل الأطفال الذين يعتمدون على والديهم، اشتكى الإسرائيليون وثاروا كثيراً حتى أن الرحلة السهلة التي كانت لا تستغرق أكثر من أسبوعين، استمرت أربعين سنة.

وعندما أدخلهم الله أبوهم إلى أرض الموعد، وتراجع عنهم قليلاً، وعن هذه الشركة القريبة معهم – توقف نزول المن بعد عبورهم نهر الأردن – خطوا خطوات عرجاء وسقطوا على وجوههم. وسيلي ذلك أمور معجزية.

وقد استنتجت أن معظم المسيحيين اليوم يتجنبون قراءة العهد القديم لسبب بسيط وهو أنهم وجدوا الله موصوفاً على أنه مخيف وبعيد. وتقول دوريس ليسنج في عبارتها الساخرة: “إن يهوه لا يفكر أن يتصرف كمن يعمل في الحقل الاجتماعي”. وبدلاً من ذلك فهو يتصرف كإله قدوس، محاولاً بكل اجتهاد أن يتواصل مع أناس مشاكسين ومتخاصمين. وتعودت في قراءتي للعهد القديم أن أبحث عن طرق تجعل الله مقبولاً وأقل عنفاً.

والآن أركز على أن أجعل نفسي مقبولاً لدى الله، وكان هذا هو الهدف من العهد القديم. إن الله كان يسعى لإقامة علاقة وثيقة مع شعبه حتى وإن كان بشروطه هو.

استمع إلى رأي الله في أزمنة العهد القديم: “ولكن شعبي لا يسمع إليّ، وإسرائيل لا يخضع لي. لهذا اسلمتهم إلى قلوب عنيدة ليفعلوا ما يريدون”.

كان الله يشكو لإرمياء كما لو أنه صُدم مما يفعله الشعب وقال: “ابحثوا وتحققوا بين الأمم. من سمع كلاماً مثل هذا؟ إن إسرائيل العذراء ارتكبت أمراً مريعاً… شعبي قد نسيني. إنهم قد تركوني”.

وبعدما استشهد ابراهام هيسشيل بعشرات العبارات مثل هذه قال: “إن نغمة الحزن تظهر بوضوح في كلمات الله…” ويواصل القول: “إن محنة إسرائيل تسبب حزناً وأسى لله…. تشردهم في الأرض، وفي العالم… إن هجران إسرائيل وتشردهم ليس مجرد إساءة لإنسان بل إهانة لله. وهذا هو صوت الله الذي شعر بأنه نأى بنفسه عنهم، وتألم وجرحت مشاعره”.

توضح اختبارات بني إسرائيل أن الله يمكن أن يبتعد بعيداً، أو يحتجب كنتيجة لما يفعله شعبه. ويسمح الله، في بعض الأحيان، أن نقرر مدى قوة حضوره.

يضم مشهد من العهد القديم كلا من الجانبين للعلاقة مع الله الآب. ويظهر هذا المشهد في (1ملوك 18) في وقت ساءت فيه حالة بني إسرائيل إلى أسوء درجة. حيث قام الملك آخاب وزوجته إيزابيل بذبح أنبياء الله وحلوا محلهم أنبياء البعل. وفي موجهة قوية تحدى إيليا 850 من أنبياء البعل. وبينما كان إيليا يسخر منهم جرحوا أنفسهم بالسيوف حتى سالت دماؤهم وهم يصيحون لآلهتهم طوال اليوم، ولكن بلا جدوى أو جواب.

وأخيراً؛ وعند غياب الشمس، بنى إيليا المذبح، وملأه ثلاث مرات بالماء – حدث هذا كله بعد ثلاث سنوات من الجفاف – ودعا إيليا الله لكي يعلن ذاته: “فنزلت نار الرب وأكلت المحرقة، والحجارة، والتراب، ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: “الرب هو الله… الرب هو الله”.

فإذا كانت القصة قد انتهت هناك، فإننا نستعيد ذلك بحنين شديد لأزمنة العهد القديم. ولكن هذا لم يحدث. ولم تحدث نهضة بين العبرانيين، والملك آخاب، الذي كان يراقب كل شيء وهو في الصفوف الأمامية الأولى على جبل الكرمل، ترك أسوء تراث للشر، لأنه كان من أكثر ملوك بني إسرائيل خداعاً.

وأعاد آخاب وزوجته بسرعة سيطرته على الحكم والدين. وإيليا نفسه الذي استجابه الله بنار، وذبح 850 من أنبياء البعل في يوم واحد، هرب لحياته خوفاً من إيزابل. وقال في ألم: “كفى يا رب خذ نفسي”.

لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ، الْقُدُّوسُ اسْمُهُ: «فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ.

إشعياء 57: 15

في تصرف اتسم بالرقة والحنان، زار الرب إيليا وهو في قمة يأسه. وما حدث بعد ذلك يتحدث عن نوعية الأسلوب المؤثر عندما يقرر الله، كلي القدرة، أن يتواصل مع الإنسان الضعيف:

“…ريح عظيمة وشديدة قد شققت الجبال وكسّرت الصخور أمام الرب، ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة، ولم يكن الرب في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت خفيض خفيف. وسمع إيليا الصوت المنخفض الخفيف. وظهر الله لنبيه إيليا كما لو كان ساكناً”.

في اسم الآب – فيليب يانسي

Exit mobile version