لمحة شخصية عن الله – فيليب يانسي
لمحة شخصية عن الله – فيليب يانسي
“الله يمنحنا القدر الكافي للبحث عنه ولكن ليس كافياً لكي نجده بصورة كاملة. ولكي نفعل أكثر بحثاً عنه فهذا سوف يضر بحريتنا التي هي عزيزة للغاية عليه”.
رون هانس
إن “السمات الشخصية” لله تجعل بكل تأكيد أية علاقة معه نوعاً من التحدي الرهيب. وتميل كتب اللاهوت إلى استخدام كلمات جامدة – كلي الوجود، لا يتألم، رابط الجأش – لكي تصف شخصية الله، ولكن الكتاب المقدس يخبرنا أن الله ليس بجامد أو غير متفاعل. لقد دخل الله التاريخ يناصر المظلوم ويجادل مع البشر (وقد يسمح لهم بالغلبة أحياناً)، وقد يظهر قوته ويستخدمها أو قد يكبحها.
إن الحياة مع الله في الكتاب المقدس تبدو كقصة غامضة أو رومانسية، أكثر منها قصة لاهوتية. وما أجده في صفحاته يختلف كثيراً عما أتوقعه، وما يتوقعه معظم الناس في محاولة معرفتهم لله. والمظاهر الآتية عن شخصية الله قد تُدهش أو تحير من يبحث عن علاقة مع الله.
الله خجول: لست أقصد بهذا أنه جبان ورعديد. إن الله بإمكانه أن يتحدث بصوت يشبه الرعد، وعندما يُظهر ذاته، يسقط البشر على وجوههم مرتعبين. بل أنني أقصد أن الله ينأى بنفسه عن التهديد بالقوة. وعندما يفكر في الأمور الكثيرة التي تغضبه على هذا الكوكب فإن الله يمارس قدراً كبيراً (لا يصدق) من ضبط النفس.
إقرأ أيضاً: معرفة الله أو أي شخص آخر – فيليب يانسي
ويقدم لنا الكتاب المقدس هدف الخليقة على أنه كيوم السبت يوم الراحة عندما يمكن لله وكل خليقته أن يستمتعوا بالسلام والتآلف. ولكن التاريخ يواصل إزعاج هذه الراحة بمعوقات ومشاحنات مزعجة. وفي العهد القديم، على وجه الخصوص، يتغلب الله على خجله عندما يبلغ الشر أو المعاناة إلى درجة الأزمة. وأحياناً يتدخل الله بظهور شخص مباشر، وأحياناً أخرى من خلال الظواهر الطبيعية وفي معظم الأحيان بتكليف شخص لكي يوصل كلمته نيابة عنه.
وبالمقارنة مع الكتابات المقدسة للديانات الأخرى فإن الكتاب المقدس يقدم مناظر قليلة عن الارتباط بين العوالم المرئية وغير المرئية. وسوف نركز على المعجزات الظهورات المثيرة والدرامية مثلما ظهر لموسى في العليقة المشتعلة وللأنبياء في الأحلام والرؤى. ومع ذلك فهذه الأحداث موجودة في فترات ليس لدينا عنها أية سجلات عن العالم غير المنظور وظهوراته. وعادة ما يظهر تدخل الله بعد تضرعات وصلوات كثيرة. إن الله ليس عنيفاً بل حذراً ومتحفظاً عندما يعمل.
لماذا هذه الصفة؟ ليس بإمكاني التحدث نيابة عن الله ولكن الإجابة يجب أن تعكس “مشكلة” كائن غير منظور يتصل بإناس في عالم مادي. وإذا كان عالم غير منظور موجود مشابه لما نحن فيه، كما يقول الكتاب، فإننا بحاجة إلى جهاز حساس لكي نكتشفه. إنني لم أشاهد على الإطلاق مؤمناً له قوة إيليا لكي يرى العربات النارية. حتى بعد أن نُنمي ونطور مراسلاتنا مع العالم غير المنظور، فنحن نفعل ذلك بالإيمان الذي عرفته رسالة العبرانيين بأنه “الإيقان بأمور لا تُرى”.
ولكن الله يواجه موقفاً معاكساً. فالله ليس مثلنا، فله نظرة شاملة تنظر إلى العالم الذي نراه نحن والعوالم الأخرى المخفية عنا. وبالإضافة إلى هذا، فالله يرى كل تاريخنا في لحظة. ولأنه غير محدود بجسد، فالله موجود في كل مكان في آن واحد.
نفس الحاجز الذي يمنعنا عن الله هو نفسه الذي يمنع الله عنا ولكن بطريقة مختلفة تماماً. ففي كل مرة يختار الله أن يعلن عن ذاته لعالمنا، يجب أن يقبل حدوداً. إنه يتنازل ليكون معنا ويتواضع ويوافق على وجهة نظرنا.
رأي موسى العليقة المشتعلة الي أذهلته وغيرت طريق حياته كما غيرت التاريخ. ومن النار المشتعلة سمع صوت الله يتحدث. ومع ذلك فإن الله ذاته اختبر نفس هذه العليقة المشتعلة كسكن له ليحدد مكانه فيها. وظهرت العليقة أمام موسى في برية سيناء ولكن ليس في الصين أو في أمريكا اللاتينية. ولهذا بدأ ما يسميه النقاد “فضيحة الخصوصية” لماذا يختار الله إسرائيل بالذات دونا عن كل القبائل الأخرى؟
لماذا يأخذ الله صورة الجسد ويتجسد في المسيح في موضع خلفي منعزل في فلسطين؟ إن اختيار الله محدود إذا أراد أن يتواصل بطريقة تُمكن الإنسان من أن يفهمه. ولكي يرتبط بعالمنا، كان على الله أن يُخضع نفسه لقوانين ذلك العصر. فأية اتصالات بين العالم غير المنظور والمنظور، بين الله والبشر، يعمل في اتجاهين، كلاهما يتأثر بالآخر.
تشابه جزئي: بإمكاننا ان نتخيل أن الإنسان يوماً ما سيعرف لغة الحيتان، حتى يمكننا التواصل معها من خلال الأصوات القصيرة الحادة التي يمكن للحوت أن يفهمها. وإذا تمكنا من أن نفعل ذلك، فسوف نضع أنفسنا في درجة أقل، ونُحد ذواتنا بطريقة مفهومة لدى الحيتان. إنهم لن يفهموا المعنى الكامل للإنسان، فبإمكاننا فقط أن نتحدث معها عن السمك والمحيطات وليس عن الكمبيوتر وناطحات السحاب والفرق المشهورة لكرة السلة. وهذا التشابه الجزئي يعطينا صورة مصغرة عن كيفية أن الله كلي القدرة وكلي المعرفة يتواصل مع البشر.
باختصار؛ إن الله هو الذي يجب أن يُحدد مدى التواصل، حتى يمكننا أن نعرف الله كما يختار هو كيفية الإعلان عن ذاته. إن الشركة غير المتكافئة بين الله غير المنظور، والإنسان المخلوق المادي، تتضمن ان الكثير سيظل غامضاً وغير معروف، والله يعرفنا جميعاً ولكننا لن نستطيع أن نعرف كل شيء عن الله. كما قال الله لأرميا: “هل أنا فقط إله قريب، ولست إلهاً بعيداً؟”.
لا يحوي الكتاب المقدس أية إشارات واضحة، أو سبب واحد يمنع الله من أن يتدخل مرات عديدة بطريقة مباشرة: إن الله يمتنع عن ذلك رحمة منه بنا ولمنفعتنا. بطرس الرسول يجيب على الذين يسخرون ويشكون في أن الله يتحكم في التاريخ بالقوة: “إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة. وألف سنة كيوم واحد. لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا، وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة”.
عندما أنظر إلى تدخلات الرب المذهلة في العهد القديم – فلك نوح، برج بابل، الضربات العشر على مصر، السبي الأشوري والبابلي – أشعر بالامتنان لصفة الخجل السماوي. يقول “جون أوبديك”: “لا يمكنني أن أوقف إحساس أن الله يتمتع بصفة السكينة والهدوء”…. “لو أظهر الله قوته سيكون عنيفاً وجباراً، وماحقاً، بدلاً من كونه مشجعاً لنا بلا حدود، نحن الكائنات المضطربة والخائفة”.
الله يحتجب: يقول الفيلسوف اليهودي “مارتن بوللر”: “يُعرّفنا الكتاب المقدس أن الله يحجب وجهه في المرات التي يبدو فيها ان الصلة بين السماء والأرض مقطوعة. ويبدو أن الله أخلى نفسه تماماً عن الأرض ولم يعد موجوداً بها، وعندئذ يمتلئ فراغ التاريخ بالضوضاء؟ كما أنه فرغ من نسمة الله”. هل نعيش في مثل هذا الوقت الآن، وأتساءل أحياناً: هل يمتلئ العالم بالضوضاء، ولكنه خال من وجود الله؟ ولماذا يتوهج حضور الله في لحظة ويختفي في أخرى؟
قال إشعياء النبي: “أنت حقاً إله الذي يحجب نفسه”. ويقول بلدن س. لان، في تعليقه على هذه الآية: إنه اعتاد أن يقلق من طريقة لعب أطفاله “الاستغماية/ الغميضة”. يقول ابنه “مستعد” عندما يجد مكاناً جيداً للاختباء. ويواصل “لان” الأب مراجعة الهدف من هذه اللعبة. “من المفروض عليك أن تختبئ، ولا يعرف مكانك أحد”، حتى أنه في يوم ما تبادر إلى ذهنه أنه نسي هدف هذه اللعبة. فكل المتعة تأتي عندما يجدك الأطفال أخيراً. ومن منا يرغب في أن يُترك وحده، ولا يكتشفه أحد؟
يقول ميستر إيكهارت: “إن الله يشبه شخصاً يرفع صوته حين يحتجب، كما لو انه يريد أن يُعرف الآخرين مكان اختبائه”. وربما يشعر الله بالسرور عندما يجده الآخرون.
استخدمت ابنة “لان” اسلوباً آخر في لعبة “الاستغماية”. فهي تتظاهر بأنها تجري وتختبئ، ثم تتسلل وتختبئ بجوار والدها بينما هو ما زال منتظراً اختبائها وعيناه مغلقتان. مع أنه يسمع صوت لهاثها وهي واقفة على بُعد بوصات منه، فلن يُظهر إطلاقاً أنه يعرف مكانها. وبدلاً من ذلك يتظاهر بالفرح وهو يفتح عينيه قائلاً لها: “هل أنت جاهزة لأبحث عنك، إنني سأبدأ البحث”، وهنا يرى ابنته تسرع إليه وتلمسه قبل أن يبحث عنها. وعن ذلك يقول “لان”:
“بالطبع كانت ابنتي تخدعني، ولا أعرف لماذا، ودائماً ما كنت أتركها تفعل ذلك. هل لأنني أشتاق كثيرً لتلك اللحظات التي نقترب فيها من بعضنا البعض، متظاهرين بأننا لا نسمع بعضنا البعض، في لعبة تنتهي في لحظات بين أب وابنته، وتعطينا الحرية أن نتلامس معاً، ونبحث عن بعضنا البعض، ونحاول أن يجد كل منا الآخر. إنه عمل النعمة البسيط والجدير بالاهتمام، عندما لم أكن أُعرفها بأنني أعرف مكانها.
ومع ذلك فإنني أشك أنني بهذا العمل أكون قد عكست صورة الله لطفلتي أفضل من أي طريقة أخرى. يبدو أنه حتى هذا اليوم، الله بالنسبة لي هو ابنتي ذات السبع سنوات، تتسلل نحوي عبر الحشاش وهي تكتم أنفاسها لكي تدهشني بحضورها القريب مني أكثر مما كنت أتوقع. لقد أعلن إشعياء مرة: “أنت حقاً الله الذي يحجب نفسه”. إنها لعبة هزلية وسر غامض يندمجان معاً في هذا الحق العظيم والمُعقّد”.
هل يجد الله صعوبة في البحث عنا واكتشافنا؟ ومرة أخرى، لا يمكنني التحدث نيابة عن الله. فأحياناً يصور الكتاب المقدس الله بأنه هو الذي يبدأ بحثه عنا، وتعقبنا، ومع ذلك؛ فعندما نعتقد أننا صرنا مع الله، نشعر فجأة بما شعر به إشعياء الذي يبحث عن شخص يظهر ثم يختفي. الآن أنت ترى الله، والآن أنت لا تراه.
نعلم أن الله في علاقاته مع البشر يضع مكافأة للإيمان، الذي يمكن فقط ممارسته في ظروف قد تسمح بتسرب الشك إلينا، مثل احتجاب الرب عنا في مثل هذه الظروف. لقد أجاب يسوع أولئك الذين تساءلوا عن احتجاب الله وتكتمه بهذه الكلمات: “ألا يُنصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً؟ أقول لكم أنه ينصفهم سريعاً” ثم يضيف هذا التحذير الكئيب: “ألعل ابن الإنسان عندما يأتي يجد الإيمان على الأرض”. فيما بعد كتب يوحنا الرسول: “وهذه الغلبة التي نغلب بها العالم، إيماننا”.
فإذا كان الله يريد فقط أن يُعرف كل الناس على الأرض بوجوده، إلا أنه إله محتجب. ومع ذلك؛ فحضور الله المباشر سوف يهيمن على حريتنا ويحل المنظور بدلاً من الإيمان. وبدلاً من ذلك فإن الله يريد نوعاً مختلفاً من المعرفة، معرفة شخصية تتطلب التزاماً من الشخص الذي يبحث عنه ليعرفه.
إن فهمي لفكرة احتجاب الله ترتد للوراء لا إلى لعبة الأطفال “الاستغماية”، بل إلى أول زيادة قمت بها لمتحف التاريخ الطبيعي. هناك حدّقت باندهاش إلى الدب الرمادي الضخم، وإلى الأفيال الضخمة التي انقرضت، والهياكل الصفراء للحيتان والديناصورات المُعلقة بالسقف. إنه معرض يتميز بالجاذبية، وخداع العرض.
عندما مررت بالحيوانات رأيت مناظر نباتات الصيف والشتاء جنباً إلى جنب، وعندما حدقت النظر فيها رأيت الحيوانات المختبأة في حجرة مظلمة، ونظرت إليها من خلال ثقب في جدار الحجرة ورأيت حيواناً يُدعى ابن مقرض يطارد الأرانب الوحشية في منظر الشتاء، ثم رأيت ما يُسمى بالسرعوف، أو فرس النبي، والطيور، والفراشات في منظر الصيف. وكان هناك لافتة تعلمنا بعدد الحيوانات المختبأة، وأمضيت نصف اليوم في تأن محاولاً معرفة مكان كل حيوان في هذه اللوحات.
ذكرت في مكان آخر كيف أنني رجعت إلى الرب: فلا الكتاب المقدس، ولا الكتب المسيحية، ولا أية خدمة روحية، أعانتين في الرجوع إلى الرب. لقد رجعت للرب لأنني اكتشفت صلاح الله ونعمته في هذا العالم: من خلال الطبيعة، والموسيقا الكلاسيكية، والحب الرومانسي. وأنا أستمتع بكل هذه العطايا بدأت أبحث عن المُعطي نفسه، وأنا مملوء بالامتنان والشكر، كنت أشعر بحاجتي إلى من أشكره على كل هذا. ومثل الحيوانات التي كانت في المتحف الطبيعي، كان الله هناك طوال الوقت منتظراً من يلاحظه. ومع أنه ليس لديّ أي برهان، قادتني مفاتيح اللغز لممارسة الإيمان.
في إحدى السنوات تركت احتفال رأس السنة قبل منتصف الليل بفترة قصيرة لكي أتفادى زحام المرور عند عودتي. وكنا نقود السيارة لمدة ساعتين لحضور هذا الحفل في كولورادو، وكنا نرجو أن نُقصر المسافة لبضعة أميال قبل أن يأتي السكارى المترنحون معطلين المرور. لم أكن أعلم أن بعض متسلقي الجبال لديهم تقليد يمارسونه ليلة رأس السنة. إنهم يملأون حقائبهم التي على ظهورهم بالألعاب النارية ويسيرون على الجليد في الظلام حتى يصلوا إلى قمة تُدعى “بيك”.
وفجأة بينما كنت أقود سيارتي في منتصف الليل رأيت الصواريخ الحمراء والزرقاء والصفراء تنطلق من قمة الجبل. ولم أسمع صوتاً نظراً لارتفاع الجبل العالي. ولكن هذه الصواريخ شكلت أشكالاً من الزهور الضخمة سابحة في سكون السماء، مضيئة قمة جبل بيك. لقد كان منظراً رائعاً، وبديعاً. لقد كان هناك، ولكن لم تكن لنا العيون لكي نراه. قال يعقوب: “الرب موجود في هذا المكان بكل تأكيد، ولكنني لم أدرك ذلك”، ونحن إذا لم نشعر بوجود الله في العالم فنحن بذلك نكون قد نظرنا إلى أماكن خاطئة، أو نظرنا ولم نر النعمة أمام عيوننا.
الله لطيف ووديع: لا أعرف طريقة أفضل لتوصيل هذا الحق إلا من خلال التعارض. الإصحاح التاسع من إنجيل مرقص يُعطينا وصفاً حياً لامتلاك الروح الشرير على الغلام. ففي كلمات الأب المُعذب تصف للمسيح معاناة ابنه: “…. وحيثما أدركه يمزقه فيزبد ويصر بأسنانه وييبس. فقلت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا…. وكثيراً ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه. لكن إن كُنتَ تستطيع شيئاً فتحنن علينا وأعنا”. عندما أدرك الروح الشرير بوجود يسوع ففي الحال صرع الغلام بشدة. يمكنني بسهولة أن أصور المشهد لأنني رأيت إنساناً في مثل هذه الحالة، حيث تختل خلايا المخ، وتتيبس العضلات، وينقبض الفكين.
قارن هذا المشهد مع امتلاك الروح القدس على شخص ما، يقول بولس الرسول: “لا تحزنوا روح الله الساكن فيكم”، الله بنفسه يتواضع ويسكن فينا، في حين أن الروح الشرير يُلقي بالشخص في النار، والماء مشـوهاً صـورته، لكن الله العظيم يسـكن في نفـس الشخص قائلاً: “… لا تؤذني”. بإمكانك فقط أن تُحزن شخصاً ما له مشاعر، ويهتم اهتماماً عميقاً.
يعرف الآباء التوازن غير الثابت بين إرشاد أطفالهم، والتأثير عليهم. غير أن هدف الوالدين ليس تربية الأطفال ليكونوا نسخة أخرى منهما، بل تربية أبناء يكبرون ويقررون اختياراتهم. بعض الوالدين يحققون هذا الهدف أفضل من غيرهم. أما أبونا السماوي، فيبدو، أنه “يخطئ” فيما يختص بحرية الإنسان، فهو يعمل في داخلنا أكثر من عمله في خارجنا، وبذلك يؤثر على اختيارنا.
قد يُلقي هذا النموذج الضوء على صفات شخصية أخرى لله. لماذا يخجل الله؟ لماذا يحتجب؟ لماذا يوصف بالوداعة واللطف؟ إن الله يُدرك أننا نحن الذين نسير في الرحلة، وليس هو. وهي ليست مثل البحث عن كنز، وإذا سلكنا بحسب التعليمات ودققنا النظر بدرجة كافية فسوف نجد الكنز. كلا؛ فالرحلة ذاتها هي الهدف…. والبحث عن الله واصرارنا على ذلك يغيرنا لما هو أهم. والسكون والظلمة التي نواجهها، والتجارب والمعاناة، كلها تساهم في تحقيق هدف الله لتحويلنا إلى أشخاص بحسب قصده، لكي نشبه صورة ابنه.
لم ينجح الإكراه والإجبار في إعادة تشكيل الناس، لذلك فهناك قلة من الماركسيين النظريين، وقلة من النازيين النظريين، ما زالوا في العالم، وحتى المصلحون السياسيون، والاجتماعيون النظريون اضطروا لأن يوافقوا على أن التغيير الإنساني يبدأ من الداخل وليس من الخارج. وهذا ما يوضح ما كتبه “جون ف. تايلر”:
“إن كلمات الله المتكررة بلا توقف لكل خليقته هي: “اختر، لقد وضعت أمامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لتحيا”. فكلما أعرف عن عمليات الخليقة أندهش من جديد للجرأة التي لا تُصدق لروح الخالق الذي يبدو أنه يُضحي بكل المكاسب السابقة في مبادرة جديدة ليُحرض مخلوقاته على مثل هذه المقامرة المجنونة”.
إقرأ أيضاً: لمحة شخصية عن الله – فيليب يانسي
حضور الله يتغير ويختلف: أثناء سكوت الله على تجربة أيوب لفترة طويلة قال: “ما أضعف الهمسات التي نسمعها منه”. وفي نهاية السفر نجده وقد صحح خطأه بقوله: “ما أعلى صوت زئيره الذي نسمعه منه”، على صفحات سفر واحد نجد أن نفس الشخص قد اختبر إحساساً غامراً بحضور الله، وبغيابه أيضاً.
لقد ذكرت مؤمنين مثل: “مارتن مارتي”، و”فردريك بوتشنر”، الذين لم يخطئا علامات حضور الله، وبإمكاني أن أسرد بسهولة نماذج معاكسة لذلك مثل: رؤيا أوغسطينوس… أو الزيارات والتجليات في كتاب وليم جيمس “الاختلافات في الخبرة الدينية“. كما أن الكتاب المقدس يكشف عن الكثير من نفس هذه النماذج: أو بالحري يعوّق نموذج حضور الله لكل من يجاهد من أجل ذلك، إنه يقدم الله الذي أحياناً يبتعد، وأخرى يقترب جداً. ففي أيام سليمان ظهر الله بصورة مذهلة في الهيكل، واختفى الله في أيام حزقيال، أما في أيام يونان فكان يتعقب النبي كما لو كان يطارده.
لقد اختبرت “جوليان” كل من حضور الله واحتجابه في تتابع سريع، وتخبرنا في رؤياها السابعة عن بعض المرات التي فيها “امتلأت من حضور الله الأكيد”، والذي استمر للحظات قليلة، ووجدت نفسها تشعر بالثقل والمعاناة من حياتها والشعور بالضيق من نفسها: “حتى أنني لم أرغب في الاستمرار في الحياة”. كان مزاجها الروحي يتأرجح بين الارتفاع والانخفاض، حوالي عشرين مرة، هكذا قالت جوليان.
وقد تعلمت مبدأ عند محاولة حسابي لحضور الله وغيابه، وهو أنه ليس بإمكاني أن أفعل ذلك. إن الله غير المنظور وذا السلطان، والذي يقول عنه المزمور: “إنه يفعل ما يسره”، هو الذي يضع شروط العلاقة معه. أصر اللاهوتي كارل بارت على القول بأن الله له مطلق الحرية: حر في أن يعلن ذاته أو يحجبها، أن يتدخل أو لا يتدخل، أن يعمل في نطاق الطبيعة أو خارجها، أن يحكم العالم أو يُرفض من العالم، أن يعلن عن ذاته أو يحد ذاته. وحريتنا الإنسانية مقتبسة من الله الذي يحترم الحرية.
لو كان الله يظهر ولكن بصورة أقل من تلك التي يراها القديسون والملائكة في السماء، فإن طبيعتنا الضعيفة سوف تهبط تحتها…. فمثل هذه الفقاعة (طبيعتنا الضعيفة) أضعف من أن تحمل مثل هذا الثقل العظيم (ظهور الله). لهذا فنحن لا نستغرب القول: “لا يراني إنسان ويعيش” جوناثان إدوارد |
لا يمكنني التحكم في مثل هذا الإله، وكل ما في وسعي أن أفعله هو أن أضع نفسي في الإطار المناسب لألتقي به. بإمكاني أن أعترف بالخطية وأزيل العقبات وأطهر حياتي، وأنتظر بتوقع، وأبحث عن الوحدة والسكون. إنني لا أقدم نموذجاً مضموناً لكي أتحصل على حضور الله، لأن الله وحده هو الذي يحدد ذلك. إن الوحدة والسكون تمهد لحضور صوت الله الهامس. ومع ذلك؛ فهناك طريقة أكيدة تتسبب في غياب الله، ويعبر عنها بوضوح س. إس. لويس بالقول:
“تجنب الوحدة، تجنب السكون، وتجنب أي قطار للأفكار يبعدك عن الطريق المعروف، وركز على المال والجنس، والحالة القائمة، والصحة، وفوق الكل أحزانك. أترك الراديو مفتوحاً، أسكن بين جمهور من الناس، استخدم الكثير من المسكنات. إذا كان عليك أن تقرأ كتباً فاخترها بعناية، ولكن سيكون من الأفضل أن تقرأ الصحف. فسوف تسعدك الإعلانات، وخاصة تلك التي بها جاذبية جنسية”.
ويضيف لويس قائلاً: إنه لا يستطيع أن يعطي نصيحة للسعي وراء الرب، لأنه لم يكن له هذه الاختبار، “بل على العكس من ذلك فالله هو الصياد، وأنا الغزال الذي يحاول هو أن يصطاده. ولكن من المهم أن نعرف أن هذه المطاردة الطويلة من الله تحدث في ذات الوقت الذي أبذل فيه أنا مجهوداً لطاعة ضميري”.