الله الثالوثي الأقانيم – سي إس لويس
الله الثالوثي الأقانيم – سي إس لويس
عُني الفصل السابق بالفرق بي الولادة والصُنع. فالإنسان يلد ولداً، ولكنّه يصنع تمثالاً. ولهذا عبرّنا عن بُنوّة المسيح الأزلية بصورة الولادة، في حين نقول إن الله صنع الإنسان صُنعاً. ولكنني بذلك أوضحت نقطة واحدة عن الله، ألا وهي أن المولود من الله الآب هو الله أيضاً، أي أن له طبيعة الله بالذات. وهكذا، اعتُمدت حقيقة ولادة الأب البشري لابن بشري صورة تقريبية، إلا أنه ليست كاملة. وعليه، فلا بد أن أحاول تقديم مزيد من التوضيح.
يقول كثيرون من الناس اليوم: “أن أومن بإله، ولكن ليس بإله ذي شخصية”. إذ يشعرون بأن ذلك الكائن الغامض الموجود وراء كل كائن آخر لا بد أن يكون أسمى من شخص فحسب. وعلى هذا يوافق المسيحيون إلى أبعد حد. غير أن المسيحيين هم وحدهم مَن يقدمون فكرة ما عن ماهية الكائن الذي هو أسمى من الشخصية.
فالآخرون جميعاً، رغم قولهم إن الله أسمى من الشخصية يُفكرون فيه بالحقيقة كما لو كان كائناً غير شخصي، أي كائناً أدنى من كونه شخصاً. وإن كنتَ تبحث عن كائن فائق للشخصي، أي كائن أسمى من الشخصية، فلا خيار لك بين المسيحية وسواها من المفاهيم، إذ إن المفهوم المسيحي بهذا الشأن هو وحده المطروح في الميدان.
أيضاً يعتقد بعض الناس أنه بعد هذه الحياة، أو ربما بعد بضع حيوات، سوف “تذوب” النفوس البشرية. ولكن عندما يحاولون أن يشرحوا ما يقصدونه، يبدو أنهم يتحدثون عن ذوبان النفوس في الله كما تذوب مادة في أخرى. إذ يقولون إن ذلك يُشبه انسياب قطرة ماء إلى البحر. ولكن هذا بالطبع يُنهي قطرة الماء أو يُلاشيها. فإذا كان ذلك هو ما سيحدث لنا، فالذوبان عندئذ هو الكف عن الوجود بعينه. إنما المسيحيون وحدهم لديهم فكرة ما عن كيفية انتقال نفوس البشر إلى قلب حياة الله وبقائها مع ذلك كما هي، بل الحقيقة صيرورتها على حقيقتها أكثر بكثير مما كانت قبلاً.
لقد نبّهتُكم إلى أن علم اللاهوت أمر عملي. فإن جُل القصد من وجودنا هو أن نؤخذ هكذا إلى داخل حياة الله. ومن شأن الأفكار الخاطئة عن ماهية تلك الحياة أن تجعل علم اللاهوت أصعب. فالآن، لابد من أن أطلب إليكم أن تُعيروني انتباهاً أكثر، على مدى بضع دقائق.
تعلمون أنكم في الفضاء (أو الفراغ) تستطيعون أن تتحركوا في ثلاثة اتجاهات: إلى اليسار أو اليمين، إلى الوراء أو الأمام، إلى فوق أو إلى تحت. وكل اتجاه فهو إما واحدُ من هذا الثلاثة، وإما منزلة وسط بينها. وتُدعى هذه الاتجاهات “الأبعاد الثلاثة”. فلاحظ ما يلي الآن. إذا كنت تستخدم بُعداً واحداً فقط، يمكنك أن ترسم فقط خطاً مستقيماً. وإذا كنت تستخدم بُعدين، يمكنك أن ترسم شكلاً مُسطّحاً، كالمربع مثلاً.
والمربع يتكون من أربعة خطوط مستقيمة. ولنخط الآن خطوة أخرى إلى الأمام. إذا كان لديك ثلاثة أبعاد، ففي وسعك عندئذ أن تبني ما ندعوه شكلاً مجسّماً، كالمكعب مثلاً: شيئاً يُشبه النرد (زهر الطاولة) أو مكعب السُكر. ومعلوم أن المكعب يتكون من ستة مربعات.
هل فهمت المقصود؟ إن عالماً ذا بعد واحد من شأنه أن يكون خطاً مستقيماً. وفي عالم ذي بُعدين، ما تزال تحصل على خطوط مستقيمة، ولكن بضعة خطوط تكون شكلاً ما. أما في عالم ثلاثي الأبعاد، فإنك ما تزال تحصل على أشكال، ولكن بضعة أشكال تكوّن مجسّماً واحداً. وبكلمة أخرى: إذا تقدمت إلى مستويات أكثر واقعية وأكثر تعقيداً، فأنت لا تتخلى عن الأشياء التي وجدتها على المستويات الأبسط، بل ما تزال تلك لديك إنما متشكلة بطرق جديدة… بطرق ما كنت لتتصورها لو لم تعرف سوى المستويات الأبسط.
والآن، فالفكرة المسيحية عن الله تنطوي على المبدأ عينه تماماً. ذلك أن المستوى البشري مستوى بسيط وفارغ بالأحرى. فعلى المستوى البشري، الشخص الواحد كائن واحد، وأي شخصين هما كائنان منفصلان، تماماً كما أنه في بُعدين (على ورقة مُسطحة مثلاً) يكون المربع الواحد شكلاً واحداً، وأي مُربعين اثنين يكونان شكلين منفصلين. أما على المستوى الإلهي، فما تزال تجد شخصيات، غير أنك هنالك تجدها متحدة بطرق جديدة لا يمكننا، نحن الذين لا نعيش على ذلك المستوى، أن نتصورها.
ففي البعد الإلهي، إذا جاز التعبير، تجد كائناً ذا ثلاث شخصيات (أقانيم) فيما يبقى كائناً واحداً، كما أن المكعب هو ستة مربعات فيما يبقى مكعباً واحداً. طبعاً ليس في وسعنا أن نتصور تماماً كائناً كهذا: تماما لما لو أننا كنا مخلوقين على نحو لا يمكننا من إدراك سوى بُعدين فقط في الفضاء، أو الفراغ، لما كان في وسعنا أبداً أن نتخيل مكعباً بالطريقة الصحيحة. إنما يمكننا أن نكون عنه نوعاً من الفكرة الواهية.
حتى إذا فعلن ذلك، نكون عندئذٍ، أول مرة في حياتنا، مُكونين فكرة إيجابية، مهما كانت واهية، عن كائن فائق للشخصية، كائن يعدو كونه شخصاً. وهذا أمرٌ ما كان يمكننا أن نحزره قطعاً، ومع ذلك فما إن يقال لنا حتّى يشعر المرء بأنه كان ينبغي له أن يحزره، لأنه يتناسب جيداً مع جميع الأمور التي نعرفها فعلاً.
ولعلك تسأل: “ما دمنا لا نستطيع أن نتصور كائناً ثُلاثي الشخصيات (ثالوث الأقانيم)، فأي خير في التكلم عنه؟ حسناً، لا خير البتة في التكلم عنه. إنما الأمر المهم حقاً هو أن ننجذب فعلاً إلى تلك الحيات ذات الشخصيات الثلاث. ومن الممكن أن تباشر هذا في أي وقت، بل الآن إذا شئت!
وهاك ما أعنيه. ان المسيحي المؤمن البسيط يجثو لكي يصلي وهو يحاول أن يتواصل مع الله. وإن كان مؤمناً فهو يعلم، إن ما يحثه على الصلاة أيضاً هو الله: الله الساكن في داخله، إن جاز التعبير. إلا أنه يعلم أيضاً أم معرفته الحقيقية لله تأتي كلها عبر المسيح، الإنسان الذي كان الله، كما يعلم ذلك أن المسيح واقف بجانبه، مساعداً إياه على الصلاة، ومصليّاً لأجله، أترى ما هو حاصل؟ إن الله هو الكائن الذي إليه يُصلي المؤمن: أي الهدف الذي يَنشد بلوغه. ثم أن الله هو أيضاً الكائن الذي في داخله والذي يحثُه: أي القدرة الحافزة.
كما أن الله أيضاً هو الطريق أو الجسر الذي عليه يُحث المؤمن لنشدان ذلك الهدف. وعليه، فإن كامل الحياة الثلاثية للكائن الثلاثي الشخصيات (أو الأقانيم) ناشطة فعلاً في ذلك المخدع البسيط حيث يرفع إنسان عادي بسيط صلاته. ذلك أن هذا الإنسان منجذب إلى نوع الحياة الأسمى: الحياة الروحية التي سميّتها “زُويي”، حيث يجذبه الله إلى رحاب حياة الله، فيما يبقى هو نفسه.
هكذا بدأ علم اللاهوت. فقد كان الناس يعرفون عن الله بطريقة غامضة. ثم جاء إنسان صرح بأنه هو الله. إلا أنه لم يكن إنساناً من النوع الذي يمكنك أن تصرفه باعتباره مجنوناً. فقد جعل قوماً يؤمنون به مُصدقين. ثم قابلوه من جديد بعد أن شاهدوه يُقتل. ومن ثم، بعدما شُكلوا جماعة صغيرة أو مجتمعاً صغيراً، وجدوا الله على نحو ما في داخلهم أيضاً، مُرشداً لهم ومُقدراً إياهم على القيام بأمور لم يكونوا يستطيعون فعلها من قبل. لما تدبروا الأمر، تبين لهم أنهم قد أدركوا التعريف المسيحي لله الثلاثي الشخصيات أو الأقانيم.
وليس هذا التعريف شيئاً اختلقناه اختلاقاً، فعلم اللاهوت، بمعنى من المعاني، علم اختباري. والديانات البسيطة هي تلك المخُتلقة. وحين أقول إنه علم اختاري “بمعنى من المعاني”، أعني أنه مثل العلوم الاختبارية الأخرى من بعض النواحي، لا من كل ناحية. فإن كنت جيولوجياً تدرس الصخور، ينبغي لك أن تمضي وتجد الصخور. إذ إنها لن تأتي هي إليك.
وإذا ذهبت إليها، فلا يمكنها أن تهرب منك. فالمبادرة هي بيدك كلياً. والصخور لا تقدر أن تُعينك ولا أن تعيقك. إنما افترض أنك عالم بالحيوان وتريد أن تلتقط صوراً للحيوانات البرية في مآويها الأصلية. فهذا يختلف قليلاً عن دراسة الصخور. ذلك أن الحيوانات البرية لن تأتي إليك. بل يمكن أن تهرب منك. وما لم تظل هادئاً جداً، فإنها تهرب حتماً. وعدم هربها هو بحد ذاته شيء يُعتبر مبادرة منها.
والآن نرتقي درجة أعلى: افترض أنك تريد أن تتعرف بشخص بشري. فإن كان عازماً على ألا يسمح لك، فلن تبلغ إلى معرفته أبداً. عليك أن تكسب ثقته. وفي هذه الحالة تتوزع المبادرة بالتساوي؛ والصداقة تستوجب وجود شخصين.
وعندما نصل إلى التعرف بالله، فالمبادرة في يده هو. فإن كان لا يُظهر ذاته. فلا شيء تقدر أن تفعله يُمكنك من أن تجده. وهو بالحقيقة يُظهر من ذاته لبعض الناس أكثر بكثير مما يُظهر للآخرين. ليس لأنه يُحابي أناساً، بل لأن من المستحيل أن يُظهر ذاته لإنسان ذهنه وخلقه منصرفان كلياً في الاتجاه الخطأ: تماماً كما لا يمكن لنور الشمس، رُغم عدم محاباته، أن ينعكس في مرآة مغبّرة بمثل الوضوح الذي به ينعكس في مرآة نظيفة.
ومن الممكن أن نعبر عن الأمر بطريقة أخرى، بقولنا إن الأدوات التي تستخدمها في العلوم الأخرى هي أشياء خارجية بالنسبة إلى ذاتك (كالميكروسكوب والتليسكوب ونحوهما)، أما الأداة التي بواسطتها ترى الله فهي نفسك بكاملها. وإذا كانت نفس الإنسان لا تُحفظ نظيفة ونيّرة، فإن رؤيته لله ستكون مضطربة… كما لو كنت تُعاين القمر بواسطة تليسكوب متُسخ. لذلك كانت للأمم الرهيبة أديان رهيبة: فلطالما كانت تنظر إلى الله عبر عدسة قذرة.
فلا يمكن أن يُظهر الله ذاته على حقيقته إلا لأناس حقيقيين. وهذا لا يعني فحسب لأناس صالحين فردياً، بل لأناس متحدين معاً في كيان واحد، مُحبين بعضهم بعضاً، مساعدين أحدهم الآخر، مُظهرين الله بعضهم لبعض. فعلى هذا الصورة قصد الله للبشرية أن تكون: كالعازفين في فرقة واحدة، أو الأعضاء في جسد واحد.
وعليه، فإن الأداة الوحيدة الوافية تماماً للتعلم عن الله هي الجماعة المسيحية بكاملها، التي تنتظره معاً. فالأخوّة المسيحية، إذا جاز التعبير، هي العدة التقنية لهذا العلم؛ أو معدات مُختبره. ولهذا السبب، فإن أولئك الذين يطلعون كل بضع سنوات بديانة مُبسطة من اختراعهم الخاص كبديل من المسيحية الأصلية المتوارثة إنما يُضيّعون وقتهم عبثاً. كأن رجلاً ليس ليه من أداة سوى منظار حربي عتيق، ينطلق لكي يُصحح آراء جميع علماء الفلك الحقيقيين؛ فقد يكون رجلاً ذكياً، بل ربما كان أذكى من بعض علماء الفلك الحقيقيين، غير أنه لا يعطي لنفسه فرصة.
ثم تر سنتان، فإذا بالجميع ينسون أمره، إلا أن العلم الصحيح ما يزال ماضياً إلى الأمام.
فلو كانت المسيحية شيئاً من صُنعنا نحن، لكنا جعلناها أسهل بالطبع. غير أنها ليست كذلك. وليس في وسعنا أن نتنافس، في البساطة، مع أولئك الذين يبتدعون أدياناً. أنى يكون لنا ذلك؟ فنحن إنما نتناول الحقيقة وطبعاً، في وسع أي أمرئ أن يُبدي البساطة إذا لم تكن لديه حقائق يُعنى بها!