المحبة – سي إس لويس
المحبة – سي إس لويس
المحبة – سي إس لويس
قلت في فصل سابق إن هناك أربع فضائل “أساسية” وثلاث فضائل “لاهوتية”. فالفضائل اللاهوتية هي الإيمان والرجاء المحبة. وسنتطرق إلى الإيمان في آخر فصلّين من هذا الباب. أما المحبة فقد تناولتها جزئياً في الفصل السابع، إلا أنني ركّزت على جانب المحبة ذاك الذي يُدعى الغفران. وأريد الآن أن أضيف القليل بعد.
أولاً، تعني المحبة في الأصل معنى واسعاً شاملاً، فليس الإحسان سوى جانب واحد من جوانب المحبّة. والمحبّة، في المفهوم المسيحي، لا تعني عاطفة فحسب. فهي حالة إرادية، لا شعورية، تلك الحالة الإرادية التي لنا بالطبيعة تجاه أنفسنا، وينبغي أن نتعلم حيازتها تجاه الآخرين.
وقد أشرت في الفصل المتعلّق بالغفران إلى أنّ محبّتنا لأنفسنا لا تعني أننا معجبون بأنفسنا، بل تعني أننا نرغب في خيرنا الخاص. فبالطريقة نفسها، تختلف المحبة المسيحية لقريبنا اختلافاً جوهرياً عن عاطفة الإعجاب أو المودة. ذلك أننا “نحب” أو “نستلطف” بعض الناس دون سواهم. فمن المهم أن تدرك أن هذا “الاستلطاف” الطبيعي ليس خطية ولا فضيلة، كما أن ما تحب وما تعاف في الأطعمة ليس خطية ولا فضيلة. فهذا الأمر حقيقة واقعة. ولكن ما نفعله بشأنه هو بالطبع إما خاطئ وإما مُنافٍ للفضيلة.
إن حبّنا الطبيعي للناس يُسهل علينا أن نُبدي لهم المحبة فعلاً. وعليه، فمن واجبنا عادة أن نُعزّز عواطفنا بحيث “نحب” الناس إلى أقصى حد ممكن (كما يكون من واجبنا في الغالب أن نعزز حبّنا للتمرن أو الطعام الصحي)، ليس لأن هذا الحب هو بعينه فضيلة المحبة، بل لأنه معوان لها.
ومن ناحية أُخرى، من الضروري أيضاً أن نحترس جيداً لئلا يجعلنا حُبنا لشخص ما عديمي المحبّة، أو حتى غير مُنصفين، لشخص آخر. حتى إن حبّنا في بعض الحالات يتضارب مع محبتنا للشخص الذي يروقنا. فالأم ذات الشغف الزائد مثلاً قد تُغريها عاطفتها الطبيعية بأن “تُفسد” ولدها تدليلاً، أي أن تُلبي حوافزها العاطفية الخاصة على حساب سعادة الولد الحقيقية فيما بعد.
ولكن على الرغم من أن ميولنا الطبيعية ينبغي أن تُعزّز، فسيكون من الخطأ تماماً أن نظن بأن السبيل إلى حيازة المحبّة وإبدائها هو أن نقعد محاولين فبركة مشاعر عاطفية. وبعض الناس “باردون” بمزاجهم، وقد يكون ذلك نكداً لهم، غير أنه ليس خطية، كما أن سوء الهضم ليس خطية، وهو لا يُبعدهم عن فرصة تعلم المحبة، ولا يُعفيهم من واجب حيازتها وإبدائها. فالقاعدة لنا جميعاً بسيطة للغاية: لا تهدر الوقت في القلق والتساؤل عن حقيقة كونك “تحب” قريبك، بل تصرف كما لو كنت تحبه فعلاً. وحالما نفعل هذا، نكتشف واحداً من الأسرار العظيمة: عندما تتصرف كما لو أنك تحب شخصاً ما، فسرعان ما تصير تحبه فعلاً.
وإذا جرحت شخصاً تكرهه، فستُلفي نفسك كارهاً له أكثر. وإن أدّيت له معروفاً، فستُلفي نفسك كارهاً له أقل. إنما هنالك بالحقيقة استثناء واحد: إذا أديت له معروفاً، لا إرضاء لله وإطاعة لقانون المحبة، بل كي تريه أي فتى سميح طيب أنت، وكي تُودعه منّة، ثم جلست تنتظر منه أن يُبدي “عرفانه بالجميل”، فم المرجح أن يخيب أملك. (ليس الناس جهالاً، فهم يلاحظون بسرعة فائقة أي شيء مثل التباهي أو التبجح أو التفضل).
ولكن كلما صنعنا خيراً لنفس أخرى، فقط لأنها نفس خلقها الله (مثلنا)، راغبين في هناءتها كرغبتنا في هناءتنا، نكون قد تعلّمنا أن نحبّها أكثر بقليل، أو على الأقل أن نكرهها أقل.
وعليه، فمع أن المحبة المسحية المعطاء تبدو أمراً بارداً جداً في نظر الأشخاص الملأى رؤوسهم بالعاطفية، ومع أنها مختلفة تماماً عن العاطفة المجردة، فإنها تُفضي إلى الحنان والحنو. وليس الفرق بين المسيحي المؤمن والإنسان الدنيوي أن الدنيوي لديه فقط مشاعر أو “ميول” أما المسيحي فلديه “المحبة” فقط. فالدنيوي يعامل بعض الناس بلطف لأنه “يحبهم”؛ أما المسيحي، إذ يحاول معاملة كل إنسان بلطف، فيُلفي نفسه مُحباً أعداداً متزايدة من الناس وهو ماضٍ في ذلك؛ بمن فيهم أشخاص لم يكن يتصور في البداية أنه قد يحبهم.
هذا القانون الروحي عينه يفعل فعله على نحو رهيب في الاتجاه المعاكس. فربما عمد الظالمون أولاً إلى إساءة معاملة المضطهدين لأنهم يكرهونهم؛ وبعد ذلك ازدادوا كرهاً لهم لأنهم أساؤوا معاملتهم. فكلما ازدادتَ قسوةً، تضاعف كرهك لغير؛ وكلما زاد كرهك، تضاعفت قسوتك… وهكذا دواليك في دوامة رهيبة دائماً أبداً.
وبالحقيقة أن الخير والشر كليهما يتضاعفان بالفائدة المركّبة. لذلك تُضفى على القرارات اليسيرة التي نقررها أنا وأنت كل يوم أهمية غير محدودة للغاية. فأصغر عمل صالح اليوم هو استيلاء على موقع استراتيجي قد يكون في وسعك، بعد بضعة أشهر، أن تنطلق منه إلى انتصارات ما حلمت بها قط. كما أن استسلاماً بسيطاً في الظاهر للشهوة أو الغضب اليوم هو خسارة لتلال أو خط قطار أو رأس جسر يمكن للعدو أن يشن منه هجوماً كان من شأنه أن يكون مستحيلاً لولا ذلك.
وبديهي أن المحبة بالمفهوم المسيحي لا تقتصر على أداء دورها بين الكائنات البشرية، بل تشمل أيضاً محبة الله للإنسان ومحبة الإنسان لله. ففيما يتعلق بهذه المحبة الأخيرة، غالباً ما يرتبك الناس ويقلقون. إذ يُقال لهم أنه يجب عليهم أن يحبوا الله وهم لا يقدرون أن يجدوا في ذواتهم شعوراً من هذا النوع. فماذا يفعلون؟ إن الجواب هو بعينه ما سبق أن ذكرناه: تصرف كما لو كنت حائزاً مثل هذا الشعور. لا تحاول أن تُفبرك المشاعر وأنت قاعد. بل اسأل نفسك: “لو كنت متيقناً بأني أحب الله، فماذا كنت أفعل؟” وعندما تعرف الجواب، فامض وافعل ذلك.
على وجه العموم، فإن محبة الله لنا موضوع التفكير فيه أسلم بكثير من التفكير في موضوع محبتنا له. فلا يستطيع أي إنسان أن يحوز دائماً مشاعر ورعة. حتى لو كنا نستطيع ذلك، فليست المشاعر هي ما يعني ويهم الله في الدرجة الأولى. ذلك أن المحبة المسيحية. سواءً تجاه الله أو تجاه الإنسان، هي شأن من شؤون الإرادة. فإن كنا نحاول أن نعمل بإرادة الله، نكون طائعين للوصية القائلة:
“تحب الرب إلهك” ولسوف يُعطينا هو مشاعر المحبة إذا شاء. فنحن لا نقدر أن نُوجدها من تلقاء أنفسنا. ويجب علينا ألا نُطالب بها كحق من حقوقنا. غير أن الأمر العظيم الذي ينبغي أن نتذكره هو أن محبته لنا ثابته لا تتغير، رغم كون مشاعرنا تأتي وتمضي: فلا تُوهِنها خطايانا، ولا عدم مبالاتنا، ولذلك فإنها لا تكل ولا تمل في عزمها على شفائنا من تلك الخطايا، مهما كان الثمن بالنسبة إلينا، ومهما كان الثمن بالنسبة إليه تعالى.