الزواج المسيحي – سي إس لويس
الزواج المسيحي – سي إس لويس
كان الفصل الأخير سلبياً في معظمه. فقد بحثت في الفساد الذي حل بالحافز الجنسي لدى الإنسان، ولكني قلت القليل فقط عن ناحيته الإيجابية العملية، أي بتعبير آخر عن الزواج المسيحي. ولعدم رغبتي خصوصاً في تناول موضوع الزواج سببان: أولهما ان التعاليم المسيحية الخاصة بهذا الموضوع غير محببة إلى أقصى حد؛ والثاني أنني أنا شخصياً لم أتزوج قط، وتالياً لا يمكنني أن أتحدث حديث مُختبر. ولكن على الرغم من ذلك أرى أنه لا يكاد يسعني السكوت عن هذا الموضوع في بحث يتناول الأخلاق المسيحية.
ترتكز الفكرة المسيحية في الزواج على قول المسيح إن الرجل وزوجته يجب أن يُعدا كائناً عضوياً واحداً. إذ إن هذا هو معنى قوله “جسد واحد” بلغتنا الحديثة. ويعتقد المسيحيون أنه لما قال ذلك لم يكن يعبر عن شعور أو تمن: بل كان يُفصح عن حقيقة، تماماً كما يعبر المرء عن حقيقة حين يقول مثلاً أن القفل ومفتاحه مَكنة واحدة، أو أن الكمنجة والقوس آلة واحدة. فإن مخترع المكنة البشرية كان إذ ذاك يقول لنا إن نصفيها الاثنين، أي الذكر والأنثى، صُنعا كي يتحدا كزوجين، لا على الصعيد الجنسي فحسب بل اتحاداً كلياً شاملاً.
ففظاعة الوصال الجنسي خارج إطار الزواج هي أن أولئك المنغمسين فيه يحاولون عزل نوع من الاتحاد (أي الجنسي) عن سائر أنواع الاتحاد التي صُمم لها أن تتماشى معه لتشكل جميعاً الاتحاد الكلي. ولا يعني الموقف المسيحي أن في المتعة الجنسية أي خطأ، شأنها شأن متعة الأكل تماماً؛ بل يعني أن عليك ألا تعزل تلك المتعة وتسعى إلى الحصول عليها بمفردها، مثلما لا ينبغي لك أن تحاول الحصول على مسرات التذوق بغير ابتلاع وهضم، وذلك بمضغك للأشياء ثم بصقها من فمك.
ومن النتائج المترتبة على ذلك أن المسيحية تُعلم أن الزواج يدوم مدى الحياة. ثمة بالطبع فرق بين مختلف الكنائس: فبعضها لا تعترف بالطلاق أبداً؛ وبعضها تُجيزه بفتور وتردد في حالات خاصة محددة جداً. ومن المؤسف أن يختلف المسيحيون على مسألة كهذه. إلا أن الأمر الذي لا بد أن يلاحظه العلماني العادي هو أن الكنائس كلها تتفق إحداها مع الأخرى بشأن الزواج اتفاقاً يفوق بكثير ذاك الذي تتفقه أية واحدة من الكنائس مع العالم الخارجي. أعني أن الكنائس كلها تعد الطلاق أمرً يشبه قطع جسد حي قطعتين، كنوع من العملية الجراحية.
فمنها من تحسب العملية بالغة العنف بحيث لا يمكن إجراؤها أبداً، ومنها مُن تقبلها كعلاج أخير اضطراري في بعض الحالات القصوى. وهي جميعاً تتفق على أنه أشبه ببترك رجليك كلتيهما منه بحل شركة تجارية أو بالفرار من فوج عسكري أيضاً. وما لا تقره جميعاً هو النظرة العصرية بأن الطلاق هو إعادة تكييف بسيطة للشريكين يمكن إجراؤها كلما شعر شريكان بأنهما لم يعودا يحبان أحدهما الآخر، أو عندما يقع أي منهما في حب شخص آخر.
وقبل النظر في هذه النظر العصرية من حيث علاقتها بالعفة، علينا ألا ننسى النظر فيها من حيث علاقتها بفضيلة أخرى، ألا وهي العدل والإنصاف. فالإنصاف، كما سبق أن قلت، يشتمل على الوفاء بالوعود. وكل من تزوج في كنيسة قطع وعداً علنياً جدياً بملازمة شريك الحياة ما دام حياً. فواجب الوفاء بهذا الوعد ليست له علاقة خاصة بالأخلاقيات المتعلقة بالجنس، بل إن له الموقع عينه الذي لأي وعد آخر. وإذا كان الحافز الجنسي، كما لا ينفك معاصرونا يقولون لنا، يُشبه جميع حوافزنا الأخرى تماماً، فعندئذ ينبغي أن يُعامل معاملة حوافزنا كلها.
وبما أن الانغماس في تلك الحوافز تضبطه وعودنا، فهكذا أيضاً ينبغي أن يكون الانغماس في الحافز النفسي خاضعاً لها. أما إذا كان لا يشبه حوافزنا الأخرى، كما أعتقد، ولكنه مشتعل على نحو مَرضي، فعندئذ ينبغي أن نحرص حرصاً خاصاً على ألا يُفضي بنا إلى الخيانة الزوجية.
رُبّ قائل إزاء هذا أنه يعد الوعد الذي قطعه في الكنيسة مجرد تصرف شكلي، ولم يكن في الأصل ينوي الوفاء به. فمن كان يحاول أن يخدع لما قطع ذلك الوعد؟ الله؟ أنفسه؟ إذاً لقد كان ذلك تصرفاً يفتقر إلى الحكمة فعلاً! أم العروس (أم العريس) أم أهل الزوجة (أو الزوج). إذاً لقد كان ذلك غدراً ومكراً. وما أكثر ما أحسب أن الزوجين (أو أحدهما) كانا يأملان أن يخدعا عامة الناس! فإنهما يريدان أن يحظيا بالاحترام المنوط بالزواج دون نية في دفع الثمن، أي أنهما كانا محتالين وقد لجآ إلى الغش.
وإذا كانا ما يزالان غشاشين قانعين، فليس لدي ما أقوله لهما، فمن ذا يريد أن يفرض واجب العفة السامي والصعب على شخصين لم يرغبا حتى في أن يكونا صادقين فحسب؟ وإذا كانا قد عادا إلى رشدهما الآن ويريدان أن يكونا صادقين، فإن وعدهما الذي سبق أن قطعاه هو خير مُلزم لهما. وهذا، كما لا بد أن ترى، يندرج تحت عنوان العدل أو الأنصاف، لا تحت عنوان العفاف.
وإذا كان الشريكان لا يؤمنان بالزواج الدائم، فربما كان أحسن لهما أن يعيشا معاً بغير زواج من أن يقطعا وعوداً لا ينويان الوفاء بها. صحيح أنهما إذ يعيشان معاً بلا زواج يكونان مرتكبين لذنب الزنى (من وجهة النظر المسيحية)، إلا أن غلطة واحدة لا تُصلحها غلطة أخرى: فعدم العفاف لا يتحسن بإضافة الإخلاف بالوعود.
ثم أن فكرة كون “دوام الحب” هو السبب الوحيد لاستمرار الزواج لا تترك بالحقيقة أي مجال على الإطلاق للنظر إلى الزواج على أنه عهد أو وعد. فإن كان الحب هو كل شيء، فعندئذ لا يمكن أن يُضيف الوعد أي شيء. وإذا كان لا يضيف شيئاً، فلا ينبغي أن يُقطع. والأمر الغريب هو أن الحبيبين أنفسهما، ما داما متحابين فعلاً، يعرفان ذلك أفضل من أولئك الذين يتكلمون عن الحب.
وكما نوّه شسترتن، فإن لدى المتحابين ميلاً طبيعياً لربط أنفسهما بالوعود. فأناشيد الحب في جميع أنحاء العالم مُفعمة بنذور الوفاء الأبدي. وليس القانون المسيحي هنا فارضاً على عاطفة الحب شيئاً غريباً عن طبيعتها بالذات: فهو يطلب من الحبيبين أن يأخذا على محمل الجد أمراً تدفعهما إلى فعله عاطفتها من تلقاء نفسها ذاتها.
ولا ريب أن الوعد الذي أقطعه وأنا واقع في الحب، ولأني واقع في الحب، بأن أكون مخلصاً للمحبوب ما دمت حياً، يُلزمني أن أظل مُخلصاً حتى لو فتر حُبي أو تلاشى. فالوعد يجب أن يكون بخصور أمور يمكنني أن أفعلها، أي معنياً بالأفعال: فلا أحد يستطيع أن يعد بأن يستمر شاعراً شعوراً معيناً.
وإلاّ، فلماذا لا يعد أيضاً بألاّ يُصيبه صداع أبداً، أو بأن يظل شاعراً بالجوع كل حين؟ إنما قد يُطرح هذا السؤال: أين نفع في إبقاء شخصين معاً إذا كان الحب بينهما قد زال؟ إن هناك اثنين من الأسباب الاجتماعية الوجيهة: كي يوفّرا بيتاً لأولاهما، ومن أجل حماية المرأة من أن يتخلى عنها الرجل متى سئم منها (وربما تكون قد ضحت بمهنة حياتها أو عطلتها عند الزواج). إلا أن هناك أيضاً سبباً آخر أنا على يقين من جهته، وإن كنت أستعصب تفسيره قليلاً.
أما وجه الصعوبة فلأن كثيرين لا يمكن أن نبلغ بهم إلى حيث يدركون أنه متى “ب” أفضل من “ج” فإن “أ” قد يكون أفضل من “ب” أيضاً. وهم يَهوون التفكير حسب تصنيف الجيد والسيء، لا حسب تصنيف الجيد والأجود والأكثر جودة، أو السيئ والأسوأ والأكثر سوءاً. فهم يودون أن يعرفوا هل تعتبر الوطنية أمراً جيداً: فإذا أجبت بأنها طبعاً أفضل بكثير من الأنانية الفردية، إلا أنها دون مستوى المحبة الشاملة وينبغي دائماً أن تبتعد من طريق المحبة الشاملة إذا تنازعنا، يحسبون أنك تلجأ إلى المراوغة.
ويسألونك عن رأيك في المبارزة: فإذا أجبت بأنه أفضل بكثير أن تُسامح امرأ من أن تخوض مبارزة معه، ولكن حتى المبارزة قد تكون أفضل من عداوة تعبر عن ذاتها بمساع خفية “للقضاء على ذلك المرء”، ينصرفون عنك متذمرين من امتنانك عن إعطائهم جواباً صريحاً. فأرجو إلا يغلط أحد مثل هذا الغلطة بشأن ما سأقوله الآن.
إن ما ندعوه “الوقوع في الحب” هو حالة مجيدة، وهي جيدة لنا من عدة نواح. فهي تساعدنا على أن نكون كُرماء وشجعان، وتفتح أعيننا لا على جمال المحبوب فقط بل على كل جمال أيضاً، وهي تجعل جنسيتنا الحيوانية المجردة (ولا سيما في البداية) أمراً ثانوياً. وبهذا المعنى يكون الحب أكبر قاهر للشهوة. فما من عاقل يُنكر أن حالة الحب الدائمة أفضل بكثير من الشهوانية السوقية ومن التمحور حول الذات. ولكن، كما سبق أن قلت، أخطر شيء يمكن أن نقوم به هو أن نأخذ أي حافز من حوافز طبيعتنا الخاصة وننصبه على أنه الغرض الذي ينبغي أن نتبعه مهما كان الثمن.
فكون المرء في حالة الحب أمر جيد، غير أنه ليس الأكثر جودة. إذ أن دونه أشياء كثيرة، ولكن فوقه أيضاً أشياء أخرى. فلا يمكن أن تجعله أساس حياة بكاملها. إنه شعور نبيل، ولكنه يبقى شعوراً. والآن، ما من شعور يمكن أن نركن إلى أنه سيدوم بملء حدته وشدته، ولا حتى إلى أنه سيدوم أصلاً. فالمعرفة يمكن أن تدوم، والمبادئ يمكن أن تدوم، والعادات يمكن أن تدوم؛ غير أن المشاعر تأتي وتمضي. وفي الحقيقة، مهما قال الناس، أن حالة كون المرء في الحب لا تدوم عادة.
فإذا فهمت خاتمة القصص الخيالية القديمة (وعاشا في سعادة دائمة ونعيم مُقيم” على أنها تعني “شعرا طيلة الخمسين سنة التالية تماماً كشعورهما عشية زفافها”، فهي عندئذ تقول ما يُحتمل أنه لم يكن صحيحاً قط ولن يكون أبداً؛ ولو صح لتضاءلت الرغبة فيه كثيراً وكان غير محبب. فمن ذا يحتمل أن يعيش حالة الغرام والهيام تلك ولو خمس سنين؟ وماذا يحل بعملك وشهيتك ونومك وصداقاتك؟ غير أن الكف عن الوجود في حالة الحب لا يعني بالضرورة التوقف عن المحبة.
والمحبة بهذا المعنى الآخر، أي بوصفها مختلفة عن “الوقوع في الحب”، ليست مجرد شعور. إنها وحدة قوية جداً، حاصلة بفضل الإرادة ومعززة عمداً بحكم العادة، ومقوّاة (في الزواج المسيحي) بالنعمة التي يلتمسها كلا الشريكين وينالانها من الله. ففي مقدورهما أن يحوزا هذا المحبة أحدهما للآخر في تلك اللحظات التي فيها لا يود أحدهما الآخر، مثلما تحب نفسك حتى لو لم تكن تودها. وفي مقدورهما أن يُبقيا على هذه المحبة ولو حين يكون من السهل عليهما، إذا سمحا لأنفسهما، أن يقعا في حب شخص آخر.
فإذ وجدا في حالة الحب أول الأمر، توافر لديهما الحافز للوعد بالأمانة الدائمة. وهكذا، فأن هذه المحبة الأكثر هدوءً تمكنهما من الوفاء بالوعد. بوقود هذه المحبة يُشغل مُحرك الزواج؛ أما الوقوع في الحب فقد كان هو الانفجار الذي أطلق حركته.
إذا كنت تخالفني في الرأي، فلا بد أن تقول: “إنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع، فهو ليس متزوجاً”. وقد تكون محقاً جداً. إنما قبل أن تقول ذلك، تيقن تماماً بأنك تحكم عليّ على أساس ما تعرفه حقاً من اختبارك الشخصي ومن ملاحظة حياة أصدقائك، لا على أساس أفكار استقيتها من الروايات والأفلام. وليس القيام بهذا سهلاً كما يحسب الناس. فإن اختبارنا بات يصطبغ أكثر فأكثر بما تحويه الكتب والروايات والمسرحيات والسينما، ولا بد من الصبر والمهارة كي نعزل الأشياء التي تعلمناها حقاً بأنفسنا من الحياة.
يستمد الناس من الكتب الفكرة القائلة بأنك حيت تتزوج الشريك الصحيح يمكنك أن تتوقع الاستمرار في حالة الحب إلى ما لا نهاية. ونتيجة لذلك، فعندما يتبين لهم ان ليس ذلك واقعهم يعتقدون أن بذلك برهان على أنهم ارتكبوا غلطة ومن حقهم إحداث تغيير، غير مدركين أنه بعد حصولهم على التغيير سيتلاشى الألق سريعاً من الحب الجديد مثلما سبق أن تلاشى من القديم. ففي هذا النطاق من الحياة، كما في أي نطاق آخر، تأتي رعشات الطرب في البداية ولا تستمر على حدتها.
فإن الرعشة التي تسري في كيان صبيّ عندما تخطر في باله فكرة الطيران لن تستمر بعد التحاقه بسلاح الجو وتعلمه الطيران فعلاً. كما أن البهجة التي تشعر بها لدى رؤيتك مكاناً بهيجاً تتلاشى بعد انتقالك للإقامة في ذلك المكان. أفيعني هذا أنه كان خيراً لو لم يتعلم الطيران، ولو لم تنتقل للإقامة في المكان الجميل؟ كلا! ففي كلتا الحالين، إذا استمررت بالأمر، يحل محل تلاشي البهجة الأولى نوع من الاهتمام أكثر هدوءً ودواماً.
أضف إلى ذلك (ولا أكاد أعثر على الكلمات المناسبة لأقول لك كم أعتقد أن هذا الأمر مهم) أن أولئك المستعدين لتقبل فقدان البهجة، والاستقرار على الاهتمام الرزين، هم أنفسهم المرشحون جداً لاختبار بهجات جديدة في وجهة أخرى مختلفة تماماً. فالرجل الذي تعلم الطيران وصار طياراً جيداً سيكتشف الموسيقى فجأة، والرجل الذي استقر للإقامة في البقعة الجميلة سيكتشف لذة العمل في الحدائق والزهور.
ذلك هو، في اعتقادي، جزء يسير مما عناه المسيح بقوله إن شيئاً لن يعيش حقاً ما لم يمُت أولاً. فبكل بساطة، لا خير في محاولة الإبقاء على أية بهجة استثنائية: إن ذلك لأسوأ أمر يمكن أن تفعله. فلتمض البهجة الاستثنائية، لتمُت، لتجتز فترة الموت تلك كي تبلغ ما يعقبها من اهتمام أكثر هدوءً وسعادة أكثر سكوناً، فتكتشف أنك تعيش في عالم من البهجات الجديدة كل حين. ولكن إذا شئت ان تجعل البهجات الاستثنائية وجبتك المعتادة وتحاول إطالة أمدها بوسائل مصطنعة، تغدو أضعف، وأقل فأقل، وتصير هرماً ملولاً مخدوعاً ما تبقى من عمرك.
وسبب ذلك أن قلة قليلة من الناس يدركون هذا الواقع بحيث تجد كثيرين ممن هم في وسط العمر يهدرون شبابهم الضائع، في العمر عينه الذي فيه ينبغي أن تكون آفاق جديدة آخذة في الظهور وأبواب جديدة آخذة في الانفتاح حواليهم. فإنها لمتعة أفضل بكثير أن تتعلم السباحة من أن تظل إلى ما لا نهاية (وبغير أمل) محاولاً استرجاع ذلك الشعور الذي خالجك أولاً لما رحت تخوض في الماء أول مرة لما كنت ولداً صغيراً.
ثم إننا نستمد من الروايات والمسرحيات فكرة أُخرى تقول بأن “الوقوع في الحب” هو أمر لا يُقاوم البتة: أمر يُصيب المرء كيفما اتفق، كالحصبة مثلاً. ولأن بعض المتزوجين يعتقدون هذا، فهم يستسلمون حالاً إذ تنهار دفاعاتهم حين يُلفون أنفسهم منجذبين إلى شخص يتعرفون به حديثاً. غير أني أميل إلى الاعتقاد أن هذا المشاعر التي لا تقاوم هي في الحياة الواقعية أندر بكثير مما هي في الكتب، حين يكون المرء بالغاً على كل حال. فعندما نقابل شخصاً جميلاً وذكياً وعطوفاً، فلا بد لنا طبعاً، بمعنى محدد، من أن نُعجب بتلك المزايا الطيبة ونحبها فيه.
ولكن أليس في خيارنا إلى أبعد حد أن ندع “الحب”، أو لا ندعه، يتحول إلى ما نسميه “الوقوع في الحب”؟ إذا كانت عقولنا ملأى بالروايات والمسرحيات والأغاني العاطفية، وأجسادنا ملأى بالكحول، فلا شك أننا سنحول أي حب نشعر به إلى ذلك النوع من الحب: تماماً مثلما تكون في طريقك قناة فتنصب كل مياه الأمطار فيها، ومثلما تضع على عينيك نظارة زرقاء فيتحول كل ما تراه إلى اللون الأزرق.
وقبل التحول عن مسألة الطلاق، أود التمييز بين أمرين كثيراً جداً ما يختلطان؛ أحدهما مفهوم الزواج في المسيحية، والآخر هو هذه المسألة المختلفة تماماً: إلى أي مدى ينبغي للمسيحيين، إذا كانوا ناخبين أو نوّاباً، أن يحاولوا فرض آرائهم في الزواج على سائر أفراد المجتمع بتجسيدها في قوانين الطلاق؟ يعتقد كثيرون جداً، على ما يبدو انه إذا كنت مسيحياً بالحق فينبغي لك أن تسعى إلى تصعيب الطلاق على كل إنسان. غير أني لا أعتقد ذلك. على الأقل، اعرف أنه لا بد لي من الاستياء إذا حاول بعض المتزمتين منع الباقين منّا أن يقربوا ما يعدونه حراماً.
فرأي الشخصي هو أن على الكنائس أن تقر في صراحة بأن أغلبية الشعب البريطاني ليسوا مسيحيين بالحق، وتالياً لا يمكن أن نتوقع منهم أن يحيوا حياة مسيحية. لذا يمكن أن يتواجد نوعان من الزواج: زواج تتحكم به الدولة وله قوانين تُفرض على جميع المواطنين، وزواج ترعاه الكنيسة وله قوانين تُلزم أتباعها. وينبغي أن يكون التمييز حاداً للغاية، بحيث يعرف المرء أي زوجين متزوجين زواجاً مسيحياً، وأي زوجين ليسا كذلك.
أكتفي بهذا القدر من الكلام عن العقيدة المسيحية المتعلقة بدوام الزواج. إنما يبقى أمرُ آخر، أقل شعبية بعد، ينبغي التطرق إليه. فإن الزوجات المسيحيات يعدن بأن يُطعن أزواجهن. وفي الزواج المسيحي يُعتبر الزوج هو “الرأس”. وهنا يثور سؤالان بصورة بديهية: (1) لماذا ينبغي وجود رأس أصلاً، فلماذا لا تقوم مساواة؟ (2) ولماذا ينبغي ان يكون الرأس هو الرجل؟
- إن الحاجة إلى وجود رأس ما تأتي من فكرة كون الزواج دائماً. وطبعاً، ما دام الزوج والزوجة متفقين. فلا داعي لطرح مسألة وجود رأس. ولنا أن نأمل في أن يكون هذا وضع الأمور السوي في الزيجة المسيحية. ولكن إذا حصل خلاف فعلي، فماذا ينبغي أن يحدث؟ على الزوجين طبعاً أن يتصارحا ليحلا الخلاف؛ غير أني أفترض أنهما قد فعلا ذلك، وعلى رغمه لم يتوصّلا على اتفاق. فماذا يفعلان تالياً؟ لا يستطيعان إجراء تصويت تفوز به الأكثرية، لأن لا أكثرية في مجلس يضم عُضوين فقط.
فبالتأكيد، لا يمكن أن يحدث إلا أم من أمرين: إما أن ينفصلا ويذهبا كل في طريقه، وإما يكون لأحدهما صوت مُرجح. وما دام الزواج دائماً، فيجب على أحد الشريكين، كحل أخير، أن يحوز السلطة لتقرير سياسة العائلة. فلا يمكن قيام اتحاد دائم بغير دستور. - إن كان ينبغي أن يوجد رأس، فماذا الرجل؟ حسناً، أول كل شيء، أهنالك من رغبة جدية تماماً في أن تكون الزوجة هي الرأس؟ كما سبق أن قلت، أنا نفسي غير متزوج، ولكن بمقدار ما يمكنني أن أرى، فحتى المرأة التي تريد أن تكون هي رأس بيتها لا تروقها عادة أحوال الأمور نفسها حيت تجدها جارية في بيت جيرانها. ويُرجح جداً أن تقول: “مسكين فُلان! لماذا يسمح لتلك المرأة الرهيبة بالتسلط عليه كما هي فاعلة؟ إن هذا أمرٌ يفوق ما يمكن أن أتصوره!” ولست أظن أن غرورها يُشبع كثيراً إذا ذكر شخص ما حقيقة “ترؤسها” هي.
فلا بد أن يكون في تسلط الزوجات على أزواجهن أمر غير سوي، لأن الزوجات أنفسهن شبه خجلات به ويحتقرن الأزواج الذين يتحكمنَ بهم، ولكن ثمة سبباً آخر أيضاً؛ وهنا أتكلم بمنتهى الصراحة بصفتي عزباً، لأنه سبب يمكنك أن تراه من الخارج بوضوح أكثر مما تراه من الداخل. ذلك أن علاقات العائلة بالعالم الخارجي (ما يمكن أن يُسمى سياستها الخارجية) ينبغي أن تكون بيد الرجل في نهاية المطاف، لأنه ينبغي له دائماً أن يكون أكثر إنصافاً بكثير في معاملة الغرباء، وهو يكون كذلك عادة.
فالمرأة تناضل في المقام الأول لأجل أولادها وزوجها مواجهة باقي العالم. وتكاد مطالبهم، على نحو طبيعي ومحق بمعنى ما، تفوق عندها جميع المطالب الأخرى، إنها المؤتمنة المُميزة على مصالح عائلتها. فوظيفة الزوج هي أن يحرص على ألا يجعلها هذا الإيثار الطبيعي فيها تتولى مركز الرأس.
وله الكلمة الحاسمة كي يحمي سائر الناس من “وطنية” زوجته المفرطة على صعيد العائلة. وإن شك في هذا أحد، فلأسأله سؤالاً بسيطاً. إذا عض كلبُكم ابن الجيران، أو إذا آذى ابنكما كل الجيران، فمع من ستضطر عاجلاً لأن تتعامل: رب ذلك البيت أو ربته؟ أو إذا كنت امرأة متزوجة، فدعين أسألك سؤالاً: رغم إعجابك الشديد بزوجك، أفلا تقولين إن إخفاقه الرئيسي يكمن في ميله إلى عدم التشبث بحقوقه وحقوقك في مواجهة الجيران بمثل ما تودين من قوة ونشاط؟ أولا تتهمينه بأنه يسعى قليلاً إلى استرضائهم؟