الفضائل الأساسية – سي إس لويس
الفضائل الأساسية – سي إس لويس
أنشئ الجزء السابق أصلاً ليُقَدم كحديث إذاعي قصير. فإذا طُلب إليك أن تتحدث عشر دقائق فقط، يحسن بك إلى أبعد حد أن تُضحي بكل شيء تقريباً في سبيل الإيجاز. وقد كان أحد الأسباب الرئيسية التي من أجلها قسّمت الأخلاقيات إلى ثلاثة مجالات (بما في ذلك استعارتي للسفن المُبحرة في موكب) أن تلك بَدت أقصر طريقة للتعبير عن فحوى الموضوع. وسأورد هنا فكرة ما عن طريقة أُخرى بها فرّع الكتاب الأقدمون موضوع الأخلاق، وهي أطول من أن أتطرق إليها في حديثي الإذاعي، ولكنها طريقة جيدة جداً.
فبحسب هذه الترسيمة الطُولى، توجد سبع “فضائل”. أربع منها تدعى “فضائل أساسية”، فيما تُدعى الثلاث الباقية “فضائل لاهوتية”. أما الفضائل “الأساسي” فهي تلك التي تُراعيها جميع الشعوب المتحضرة؛ وأما “اللاهوتية” فهي تلك التي يعرفها المسيحيون وحدهم عادة. وسأتناول الفضائل اللاهوتية لاحقاً. أما الآن فأنظر في الفضائل الأساسية الأربع، تلك الفضائل المحورية أو المفصلية، وهي التعقل، الاعتدال، العدل، الثبات.
معنى التعقل هو الفطرة السليمة العملية: أن تكلف نفسك عناء التفكير فيما أنت فاعله وفيما يُرجح أن يُسفر عنه. ولا يكاد معظم الناس اليوم يفكرون في التعقل على أنه إحدى “الفضائل”. وبالحقيقة، لأن المسيح قال إننا لا نقدر أن ندخل عالمه إلا بصيرورتنا مثل الأطفال، داخلت رؤوس كثيرين من المسيحيين الفكرة القائلة بأنه لا يهم أن تكون مغفلاً ما دامت “طيباً”. لكن هذا سوء فهم. ففي المقام الأول، مُعظم الأولاد يُبدون كثيرً من “التعقل” في شأن قيامهم بالأمور التي تستهويهم حقاً، ويُفكرون فيها بمعقولية مقبولة.
وفي المقام الثاني، كما يُنوه الرسول بولس، لم يعن المسيح قط أنه ينبغي لنا أن نبقى أطفالاً في التفكير، ولكنه على العكس طلب منا أن نكون لا “بسطاء كالحمام” فقط بل “حكماء كالحيات” أيضاً. فهو يريد قلب طفل، لكن عقل راشد. إنه يريد لنا أن نكون بُسطاء، مخلصي، مُحبين، مستعدين للتعلم، شأننا شأن الأولاد الطيبين. ولكنه أيضاً يريد أن يكون كل جزء من فطنتنا متيقظاً في عمله، وعلى أُهبة الاستعداد تماماً. فحقيقة تبرُعك بمبلغ من المال لأجل عمل إحسان لا تعني أن ليس عليك أن تحاول التحقق من كون ذلك إحساناً فعلياً، لا عملية احتيال.
وحقيقة كون الله هو ما تُفكر فيه (كما عند الصلاة مثلاً) لا تعني أنه يمكنك أن تقنع بمثل تلك الأفكار الصبيانية التي كانت لك لما كنت ابن خمس سنين. صحيح بالطبع أن الله ما كان ليُحبك أقل قطعاًن أو يستخدمك استخداماً أقل، إذا صدف أنك وُلدت بعقل رديء جداً. فإن لديه متّسعاً لذوي الإدراك المحدود جداً، ولكنه يريد من كل إنسان أن يستخدم الإدراك الذي لديه. وهكذا يكون الشعار المعقول ليس: “كوني صالحة، يا مليحة، ودعي مَن يقدر يكن ذكياً” بل: “كوني صالحة، يا مليحة، ولا تنسي أن هذا يعني أيضاً أن تكوني أذكى ما يُمكنك”.
فالله لا يعجبه المتهاونين في التفكير أكثر من سواهم من المُتهاونين. وإذا كنت تُفكر في أن تصير مسيحياً بالحق، فإني أُنبهك إلى أنك تباشر أمراً يحتاج إلى مُجمل كيانك، إلى عقلك وكل ما فيك سواه، ولكن من الخير أن العملية تجري بطريقة معاكسة. فأي شخص يحاول صادقاً أن يكون مسيحياً بالحق لا يلبث أن يجد أن ذكاءه بدأ يتوقد. وأحد أسباب عدم الاحتياج إلى تعليم خاص كي يصير المرء مسيحياً حقيقياً هو أن المسيحية هي تعليم بحد ذاتها. ولذلك السبب استطاع مؤمن غير متعلم مثل جان بَنيان أن يكتب كتاباً أذهل العالم (كتاب “سياحة المسيحي”).
أما الاعتدال فمن المؤسف أن تغييراً لحق بمعناه. إذ بات يعني عند بعضهم عادة “الامتناع التام عن المسكرات”. ولكن أيام دُعيت الفضيلة الأساسية الثانية “الاعتدال” لم تكن تعني شيئاً من ذلك النوع. فإن نطاق الاعتدال لم يكن يقتصر على المُسكرات، بل كان يشمل جميع الملذات. لم يكن الامتناع الكلي، بل الاكتفاء بالمقدار السليم وعدم تخطيه. فم الخطأ اعتبار المسيحية ديناً يطالب بالامتناع الكلي، وكأنها طريقة نُسكية تقشفية.
طبعً، قد يكون من واجب مسيحي معين، أو أي مسيحي آخر، في وقت معين أن يمتنع عن أي مشروب كحولي، إما لكونه من الأشخاص الذين لا يقدرون أن يشربوا أبداً بغير أن يفرطوا في الشرب، وإما لوجوده في محيط يكثر فيه الميّالون إلى السكر ووجوب عدم تشجيعه لهم بتناول الشراب شخصياً. ولكن بيت القصيد أنه يمتنع لسبب وجيه، عن شيء لا يدين غيره على تناوله في حدود المعقول. ومن العلامات التي تميّز نوعاً معيناً من الأردياء أن يعجز المرء عن التخلي عن شيء بعينه دون أن يريد من كل شخص سواه أن يتخلى عن ذلك الشيء. فليس هذا سبيل المسيحي.
فرُبّ مسيحي فرد قد يستحسن التخلي عن أمور شتى، كالزواج أو اللحم أو البيرة أو السينما، ولكن لحظة يبدأ يقول إن هذا الأمور سيئة في ذاتها، أو ينظر بازدراء إلى سواه ممن يستعملونها، يكون قد انحرف عن سواء السبيل.
ولقد نتج أذى كبير من تقليد كلمة “الاعتدال” في مسألة المُسكرات. فهذا الواقع يُسهم في إنساء الناس أنهم يمكن ألا يكونوا معتدلين في كثير من الأمور الأخرى. فالرجل الذي يجعل كرة القدم أو درجاته النارية مركز حياته، أو المرأة تصرف كل أفكارها نحو الثياب أو لعب الورق أو كلبها الأليف، هما غير “معتدلين” تماماً مثل الشخص الذي يسكر كل ليلة. إنما بالطبع لا يظهر ذلك بسهولة في العَلَن: فهوس لعب الورف أو كرة القدم لا يجعلك تترنح وتسقط على قارعة الطريق. ولكن الله لا تغشه المظاهر!
أما العدل فيعني أكثر بكثير من الأمور التي تجري في المحاكم. إنه يشمل الإنصاف حُسن المعاملة والاستقامة والسوية والصدق والوفاء بالوعد، وكامل نطاق الحية هذا.
وأما الثبات فيشتمل على كلا نوعي الشجاعة: ذاك الذي يواجه الخطر، وذاك الذي يُعنين المرء على الجلد والتماسك وسط معاناة الألم. وستلاحظ بالطبع أنك لا تستطيع أن تمارس اية واحدة من الفضائل الأخر وقتاً وطويلاً بغير أن تُطلق يد هذا الفضيلة بالذات.
تبقى نقطة أخرى بشأن الفضائل تنبغي ملاحظتها: أن بين القيام بفعل معين يتسم بالعدل، أو الاعتدال، وكون المرء إنساناً عادلاً، او معتدلاً، فرقاً بديهياً. فالشخص الذي ليس لاعبت تنس بارعاً قد يضرب ضربة موفقة بين حين وآخر. وما نعنيه باللاعب البارع أنه أمرؤ قد تدربت عضلاته وأعصابه جيداً من جراء تأديتها ضربات جيدة لا حصر لها بحث بات يمكنه أن يركن إليها.
فإن عضلاته تتميز بنشاط كامن أو ميزة ثابتة تبقى حاضرة حتى لو لم يكن اللاعب يلعب، كما يكون عقل عالم الرياضيات متميزاً بعادة واستشراف حاضرين دائماً حتى لو من يكن قائماً بالعمليات الرياضية. على هذا المنوال، يكتسب الإنسان الذي يواظب على القيام بأفعال العدل والإنصاف مزيّة خُلقية خاصة في نهاية المطاف. فهذه المزيّة، لا الأفعال ذاتها، هي ما نعنيه حين نتحدث عن “الفضيلة”.
وهذا التمييز مهم للسبب التالي: إذا فكرنا فقط في الأفعال ذاتها، فقد نعمل على ترويج ثلاثة أفكار خاطئة.
- قد نحسب أنه ما دمنا نفعل الأمر الصائب فلا يهم كيف أو لماذا نفعله: باختيارنا فعلنا أم مكرهين، أبفتور أم بسرور، أخوفاً من الرأي العام أم إرضاءً له. ولكن الحقيقة تؤكد أن الأفعال الصحيحة إذا ما فُعلت بدافع سيء لا تُسهم في تعزيز المزية أو الميزة الداخلية المدعوة “فضيلة”، وهذه المزية أو الميزة هي ما يهم حقاً. (إذا ضرب لاعب التنس ضربة قوية جداً، ليس لأنه يدرك أن الحاجة لضربة قوية جداً، بل أنه خرج عن طوره، فلربما أسعفته ضربته تلك بالصدفة على الفوز في تلك المباراة عينها؛ غير أنها لن تكون مُسعفه له على الصيرورة لاعباً بارعاً).
- قد نحسب أن الله لا يريد سوى إطاعة مجموعة من القوانين، فيما الحقيقة هي أنه يطلب ناساً من صنف معين.
- قد نحسب أن “الفضائل” ضرورية فقط لهذه الحياة، وأنه في العالم الآخر يمكننا أن نكف عن ممارسة العدل لأن ليس هناك ما نتنازع عليه، ونكف عن ممارسة الثبات لأن ليس هناك ما يهدد سلامتنا.
فلئن كان صحيحاً تمامً أنه لن تسنح في العالم الآتي فرصة لإتيان الأفعال التي تتسم بالعدل أو الشجاعة، فلسوف تتوافر كل فرصة لأن نكون ذلك الصنف من الناس الذي لا يمكن أن نصيره إلا من جراء قيامنا بمثل تلك الأفعال في هذه الدنيا. وليس بيت القصيد أن الله سيرفض استقبالك في ملكوته الأبدي، إذا لم تكن لديك مزايا خُلقية من صنف معين، بل بيت القصيد أنه إذا لم يملك الناس على الأقل بدايات تلك المزايا في داخلهم، فعندئذ لا يمكن لأية ظروف خارجية محتملة أن تكون “سماء” أو نعيماً لهم، أي أن تجعلهم سُعداء تلك السعادة الثابتة الغامرة الفائقة التي يشاؤها لها الله.