طرق استعمال الكتاب المقدس في الكنيسة
طرق استعمال الكتاب المقدس في الكنيسة
المقالة السابقة: الكتاب المقدس والتقليد
المقالة التالية: دراسة الكتاب المقدس أكاديميا
لقد أكّدنا أنّ الكتاب المقدّس نصّ كنسيّ مقدّس أي أنّه نصّ يقرأه المؤمنون ويسمَعونه بإيمان حيّ وانتباه صلاتيّ. الكتاب المقدّس كان دائمًا يُستَعمَل بطرائق مختلفة ولكن مترابطة لخدمة حاجات محدّدة في حياة الكنيسة، العبادة بشكل رئيس، الوعظ، التعليم، التأمّل، الإرشاد العمليّ وتحديد الحقيقة العقائديّة. في الفترات الأولى، بالطبع، لم يكن بمقدور الكثيرين من الشعب أن يقرأوا مخطوطات مكلفة أو أن يشتروها.
ما كانوا يستطيعون القيام به هو سماع القصص الكتابيّة في التلاوات الليتورجيّة ورؤيتها مصوّرة في الفنّ المقدّس. كلمة الله الخلاصيّة كانت تمرّر عبر قراءة الكتاب المقدّس وتفسيره في حياة الكنيسة المشتركة وفي الجماعات الرهبانيّة. إذًا، كشف كلّ قصّة الكتاب وشهادته الخلاصيّة كان بالدرجة الأولى خبرة مشتركة[1]. ما يلي هو رواية عن الاستعمالات والتطبيقات المختلفة للكتاب في حياة الكنيسة بهذف ترسيخ نظرة مبدئيّة.
الاستعمال الليتورجيّ أوّلي لأسباب عديدة. الليتورجيا هي الاجتماع الرئيس لشعب الله للاحتفال، لتذكّر حياة الجماعة مع الله وتجديدها[2]. أغلب الكتابات الإنجيليّة كُتِبَت لتُقرأ بصوت عالٍ في هذه الاجتماعات (كولوسي16:4؛ رؤيا3:1)، التي كانت للصلاة والعبادة وليس فقط للقراءة. في هذا الإطار، الكتابات المقدّسة كانت تُسمَع وتُفسَّر ككلمة الله.
أيضًا وُجدَت علاقة خلاّقة بين العبادة والكتاب في أنّ اللغة الليتورجيّة أثّرت في تأليف الكتابات الإنجيلية وفي أنّ الإنجيل بدوره طبع بعمق أشكال لغة العبادة[3]. التقليد الأرثوذكسيّ بثرواته الواسعة في الكتب التسبيحيّة، الخدم الليتورجيّة، وروزنامة الأعياد يمثّل أسلوبًا كتابيًّا كاملاً لم يُدرَس كفاية بعد[4]. وعلاوة على كلّ شيء، العبادة المشتركة تشكّل جواب الكنيسة الممتنّة لأعمال الله الكريمة، احتفالاً تمجيديًّا لحضور الله المقدّس وتجديد الحياة.
التلاوة الليتورجيّة الشفّافة للكتاب، تقرأ بتمعّن وبإيمان حيّ، فتصبح سماعًا قادرًا لكلمة الله ينَّشط الجماعة المجتمعة بروحه وخبرة تحوِّل هذه الجماعة[5].
في أيّ حال، لا يستطيع الاستعمال الليتورجيّ للكتاب، على مركزيّته وأهميّته، أن يمتص الاستعمالات الأخرى التي لكلّ منها هدفه وتكامله. هذا تذكير على اللاهوتيّين الأرثوذكسيّين أن يهتمّوا به[6]. التشديد على أنّ كلّ الأشياء تبدأ في الليتورجيّة وتنتهي بها هو إفراط في العموميّة. أعمال الله وأقواله الخلاصيّة تُختَبَر خارج العبادة أيضًا. إبراهيم دُعي وثنيًّا.
موسى كان يرعى قطيعه. بولس كان يضطهد المسيحيّين. هناك أمور مهمّة أخرى للعمل إلى جانب العبادة. يُخدَم الله وكلمته أيضًا عبلا التعليم، الوعظ، العمل الرعائيّ والبشارة، العدالة الاجتماعيّة ومحبّة القريب، غير الأطر الليتورجيّة المحدّدة. على الليتورجيا أن تقود، وليس بالضرورة من نفسها، إلى الوعظ الفعّال، التعليم، البشارة والمسئوليّة الاجتماعيّة، هذه كلّها خدمات تتطلّب بذاتها التزامًا مخلصًا، نفاذ بصيرة وخبرات.
يجد الاستعمال الوعظيّ للكتاب استقامته في معنى الإعلان Kerygma ووظيفته، إعلان رسالة الله الخلاصية[7]. فيما الكلمة مرتبطة بالليتورجيا، يجب إعلانها في كلّ أطر الحياة. مع أنّ التلاوة الليتورجيّة للكتاب بحدّ ذاتها تضجّ برسالة الله الخلاصيّة، فإنّ كمال الإعلان هو في وجود معلِن مخلِّص كما في وجود رسالة للإعلان. المعلِن هو مَن تحقّقت فيه كلمة الله وعبره تسعى الكلمة لأن تتحقّق مجدّدًا بقوّة الرَوح العامل في قلوب الآخرين.
الإعلان الفعَّال يفترض خبرة ديناميكيّة (حيَّة) لكلمة الله ويقود إلى إيقاظ الإيمان وتغذيته. الوعظ في أفضل أحواله ينَّشط العبادة ويجعلها خبرة أكثر قوّة. في أيّ حال، ممكن أن يتمّ الإعلان بالطرائق المناسبة، ليس فقط عبر العبادة المشتركة بل أيضًا في أي ظرف بشريّ بشكل عَرَضيّ مثل أي زيارة بين جارين. يجب أن لا يُفرَّط في تحميل الوعظ لا من التعليم ولا من الأخلاقيّات أو الإيديولوجيا السياسيّة، إنّما يجب أن يكون عادلاً مع حريّة كلمة الله وقوّتها، ناقلاً حضور الله ومحبّته ورحمته.
يركِّز الاستعمال التعليميّ المقدّس على التعليم الكتابيّ لتقديس شعب الله[8]. في موازاة إعلان رسالة الله الخلاصيّة، هناك أيضًا تعليم didache (متى28:7، روما17:6، 1 كورنثوس6:14) مقصود به التوجيه الأخلاقيّ والإرشاد العمليّ. في الكتاب المقدّس عينه، هناك أسفار تحتةي إعلانًا وتعليمًا معًا، مثل الأنبياء والأناجيل ورسائل القدّيس بولس. غيرها، مثل كتاب الأمثال ورسالة يعقوب، تقدّم توجيهًا أخلاقيًّا بشكل أوسع.
في التقليد المسيحيّ كما في اليهوديّ، التعليم خدمة إلهيّة في التدريب الدينيّ تتضمّن النظام، التعليم، الإرشاد، والإصلاح. آباء الكنيسة الذين كتبوا تفسيرات كتابيّة ووعظوا عظات تعليميّة أعطوا قيمة كبيرة للتعليم. لقد تصوَّروا الكتاب المقدّس كتابًا مدرسيًّا للتربيّة المسيحيّة والمسيح هو المعلّم الأعلى للبشريّة[9]. يفترض التعليم الكتابيّ الفعّال إيمانًا حيًّا وروحًا إنجيليّة وإلا فهو معرّض لأن يصبح مملاً وخاليًا من الحياة.
الوجهة التعبديّة هي قراءة الكتاب المقدّس في الصلاة والتأمّل، وهو تمرين تقويّ قديم وحديث في اليهوديّة والمسيحيّة[10]. المزمور 119 هو احتفال رائع بناموس الله كنشيد للفرح ومصدر إشعاع للحقّ بالنسبة إلى رحلة حياة كاتب المزامير. عبّر راهب مسيحيّ قديم عن المشاعر ذاتها في قوله “فلتجِدْكَ الشمس عند شروقها حاملاً إنجيلاً في يدك[11]. في الرهبنة، قراءة الكتاب هي عمود التقوي، فالكتب المقدّسة كات وما زالت تُحفَظ عن ظهر قلب.
بين شعب الله، رجال ونساء لا يُحصَون تقوّوا في حياتهم بالقراءة المصليّة. لحظات الصلاة هي لحظات من الإعلان الشخصيّ. في إطار الصلاة، كلمة الله المكتوبة تخترق بنور ينفذ إلى القلب فيدينه ويطهرّه. بعيدًا عن الصفوف والدراسات اللاهوتيّة الرسميّة، الناس العاديّون يختبرون حضور الله وقوّته عبر الدراسة التعبديّة للكتاب بطرائق أكثر عمقًا من التي يتبعها كثيرون من اللاهوتيّين والباحثسن في التحليل الكتابيّ.
آباء الكنيسة يدعون كلّ المؤمنين إلى القراءة اليوميّة للكتاب المقدّس، مقاربين كلمة الله المكتوبة كما يقاربون الكلمة في الإفخارستيا. بالنسبة إلى آباء الكنيسة، القراءة التعبديّة هي علامة لقاء شخصيّ مع الله، وقت يتدخّل فيه الله، يتكلّم، يقود، ويوصل المؤمن إلى حياته برفقة الملائكة والقدّيسين.
نشأ الاستعمال العقائديّ للإنجيل في المجادلات اللاهوتيّة والدفتع الضرةريّ عن الإيمان المسيحيّ. العهد الجديد نفسه يعطي دلائل عن هذه المناقشات ورفض التعليم الكاذب عبر الصيَّغ العقائديّة (ذكورنثوس5:8-6، 1يوحنا2:4-3). في العصور اللاحقة، نشأ عدد من المجادلات اللاهوتيّة حول طبيعة الله، الخلق، العهد القديم، المسيح، الروح القدس وأمور أخرى.
واجه قادة الكنيسة واللاهوتيّون صراعات جبّارة في تفسير الأُطر الفكريّة للإيمان المسيحيّ وصياغتها في وجه اليهوديّة، الغنوصيّة، والهرطقات اللاحقة مثل الآريوسيّة. التفسير الصحيح للكتاب كان في قلب هذه المناظرات كما يظهر من أعمال القدّيسين يوستينوس الشهيد، إيريناوس، أثناسيوس والكبادوكيِّين. تألَّفت الكتابات اللاهوتيّة ودساتير الإيمان لصياغة محتوى الإيمان الفكريّ بطريقة معياريّة وأيضًا لتحديد هويّة الكنيسة عينها بطريقة أوضح.
المجامع المسكونيّة عملت كأعلى سلطة في الكنيسة من أجل نشر الحقيقة المسيحيّة[12]. حصاد هذه العمليّة الطويلة والمؤلمة كان دستور الإيمان النيقاويّ الذي هو ملخّص تفسيريّ لمواضيع الكتاب الرئيسية وفي الوقت عينه شهادة ثابتة على التراث الكلاسيكيّ للعقيدة المسيحية[13].
[1] على العكس، بعد الإصلاح، التركيز على سلطة التفسير الشخصيّ وضع الكتاب بين أيدي الأفراد وأدّى إلى عمليّة التفصيل والتقطيع المستمرة، وإلى آفة البروتستانتيّة التي تشدّد عليها الفرديّة المعاصرة. بين العديد من اللاهوتيّين، البروتستانتيّ Stanley Hauerwas يتحدّى بشدّة حضّ كلّ فرد في تفسير الكتاب. أنظر كتابه Unleashing the Scripture: Freeing the Bible from Captivity in America (Nashville: Abingdon, 1993). هذا لا يعني أبدًا أنّ الدراسة التقويّة للكتاب المقدّس خطأ أو يجب عدم تشجيعها، لأنّ الكتاب يخصّ كلّ الكنيسة وكلّ عضو في شعب الله وليس فقط الكاهن أو الراهب أو اللاهوتيّ.
[2] Philip Rousseau, Basil of Caeserea (Berkley: University of California Press, 1994), pp. 127-131
يقدم في هذا العمل عرضًا ممتازًا للقناعة الآبائيّة بأن الفحوى الليتورجيّة تفعّل الحقيقة الخلاصيّة وأنّ العبادة بذاتها تؤدّي إلى الفهم عبر تلاقي المؤمنين مع رسالة النصّ، وصعودهم إلى حقيقة الإنجيل الكاملة بذاتها، وتقديمهم الاعتراف العلني بالإيمان المتوافق مع التقليد الرسوليّ.
[3] Jean Danièlou, The Bible and the Liturgy (North Bend: University of Notre Dame Press, 1956); Ralph P. Martin, Worship in the Early Church (Grand rapids: Eerdmans, 1974); C. Jones, G. Wainwright, eds., The Study of Liturgy (New York: Oxford University Press, 1992).
[4] الأعياد الرئيسية في التقويم الكنسيّ هو #### أو تفعيل ليتورجيّ للبشارة السعيدة برسالة المسيح بما فيها تجسّده وميلاده ومعموديّته وتجلّيه ودخول المنتصر وموته على الصليب وقيامته وصعوده وعطيّة الروح القدس، مع مجموعات من الأناشيد التي تعلن معنى هذه الأحداث وتحتفل بها. فترات الصوم الكير والأسبوع العظيم والفصح والعنصرة هي على هذا المنوال غنيّة بالمحتوى الكتابيّ. دورة الصلوات للأسابيع الثمانيّة في المعزي، وبخاصّة غروب السبت وسحر الأحد، هي إعلان ليتورجيّ مذهل للكتاب المقدّس. الصلوات والخدم تشير بشكل ثابت إلى أعمال الله الخلاصيّة العظيمة في الكتاب المقدّس.
[5] التشديد على هذا البعد موجود عند
John Breck, The power of the Word in the Worshiping Church (Crestwood: SVS, 1986).
[6] بسبب قيمة التقليد الليتورجيّ وأهميّته، هناك عند الأرثوذكس ميل عباديّ نحو نوع من الليتورجيانيّة. لقد رأى اللاهوتيون الأرثوذكس أنّ الليتورجيا هي المفتاح التفسيريّ لكلّ الأسئلة. في أيّ حال، من المشكوك فيه أنّ هناك مفتاحًا واحدًا لكلّ أبعاد الحياة والفكر المسيحيّين كخيارات أخلاقيّة، ومناقشة للحقيقة العقائديّة والنظام الكنسيّ والإيمان الشخصيّ والصلاة والعبادة الجماعيّة. أنظر لاحقًا الفصول المتعلّقة بالتفسير.
[7] Anthony Coniaris, Preaching the Word of God (Brookline: Holy Cross Orthodox Press, 1983); J. M. Reesc, Preaching God’s Burining Work (Cllegeville; Liturgical Press, 1975); H. W. Robinson, Biblical Preaching (Grand Rapids: Baker, 1980); John Burke, Gospel Power (New York: Alba House, 1978); and Preaching in the Patristic Age, ed. D. G. Hunter (Mahwah: Paulist Press, 1989).
[8] Helpful handbooks include: Dick Murray, Teaching the Bible to Adults and Youth (Nashville: Abingdon, 1987); and Michael E. Williams, The Storuteller’s companion to the Bible, 5 vols. (Nashbille; Abingdon, 1991-1994).
[9] Werner Jacger, Early Christianity and Greek Paideia, pp. 66-102.
[10] Paul Evdokimov, LectioDivina: Reading the Bible, “in his Struggle With God, trans. Sister Gertrude, S. P. (Glen Rock: Paulist Press, 1966), pp. 189-193; D. Burton-Christie, The Word in the Desert; Scripture and the Quest for Holiness in Early Christianity (New York: Oxford university Press, 1993). Thomas Hopko, Reading the Bible (New York: Religious Education Department, Orthodox Church of America, 1970); Theodore Stylianopoulos, Bread for Life; Reading the Bible (Brookline: Department of Religious Education, Greek Orthodox Archdiocese of North and South America, 1980); and Kallistos Ware, “How to Read the Bible,” The Orthodox Study Bible, ed. Peter E. gillquist and others (Nashville: Thomas Nelsen, 1993, pp. 762-770.
[11] Paul Evdokimov, Struggle With God, p. 189.
[12] See Mark Santer, “Scripture and the Councils,” Sobornost 7 (2,1975), pp. 99-111 and Constantine Scouteris, “Holy Scripture and Councils,” ibid, PP. 111-116.
[13] نظرًا إلى التشويش العقائديّ أو بالأحرى الفوضي في الزمان الحالىّ، لقد أحسن مجلس الكنائس العالميّ صنعًا في وضعه دستور الإيمان النيقاوي في وسط مشروع جوهريّ نحو التوافق العقائديّ كأساس للوحدة المسيحيّة. انظر
Confessing the One Faith: An Ecumenical Explication of the Apostolic Faith as it is Confessed in the Nicene-Constantinopolitan Creed (381), Faith and Order Paper No. 153 (Geneva: WCC Publications, 1991), and also Hans-Georg Link, ed. The Roots of Our Common Faith: Faith in the Scriptures and in the Early Church, Faith and Order Paper No. 119 (Geneva: World Council of Church, 1984).