الاستنتاج العملي – سي إس لويس
الاستنتاج العملي – سي إس لويس
لقد عانى المسيح كمال الخضوع والتذلل: أما الكمال فلأنه الله، وأما الخضوع والتذلل فلأنه إنسان. وفحوى الاعتقاد المسيحي الآن أننا إن شاركنا المسيح بطريقة ما في اتضاعه ومعاناته فسنشاركه أيضاً في انتصاره على الموت وننال وحياة جديدة بعد اجتيازنا الموت بها نصير خلائق كاملين وكاملي السعادة.
وهذا يعني ما يتعدى بكثير جداً محاولة اتّباع تعليمه. وغالباً ما يسأل الناس متى ستحدث الخطوة التالية في عملية التطور، خطوة صيرورة الإنسان شيئاً أكثر من الإنسان. غير أن هذا الخطوة، من وجهة النظر المسيحية، قد حصلت فعلاً. ففي المسيح ظهر إنسان جديد من نوع ما؛ والحياة الجديدة النوع التي بدأت فيه لابد أن تُنقل إلينا.
ولكن، كيف ينبغي أن يتم ذلك لنتذكر الآن كيف اكتسبنا الحياة القديمة المعتادة. لقد استمددناها من سوانا، من آبائنا وأُمهاتنا وجميع أسلافنا، وبغير إذننا؛ وبعملية غريبة جداً تنطوي على متعة وألم وخطر: عملية ما كنا لنخمنها على الإطلاق. ويقضي معظمنا مقدراً لا بأس به من السنين في الصغر محاولين تخمينها.
كما أن بعض الأولاد، حين يُطلعون عليها أول مرة، لا يصدقونها… ولست على يقين بأنني ألومهم، لأنها غريبة جداً. والآن نقول إن الإله الذي رتب هذه العملية هو نفسه الإله الذي يُرتب كيف ينبغي أن تسري الحياة الجديدة النوع، أي الحياة المسيحية. ويجب أن نستعد لكونها هي أيضاً غريبة. فالله لم يستشرنا حين ابتكر الجنس، ولا استشارنا أيضاً لا ابتكر هذا الأمر.
يتم سريان حياة المسيح الجديدة إلينا من طريق ثلاث وسائط: المعمودية والإيمان وتلك الممارسة التي يكتنفها سرٌّ ما والتي يُسميها المسيحيون تسميات شتى: مائدة الرب، عشاء الرب، كسر الخبز، القداس. على الأقل، هذه هي الطرائق الثلاث المعتادة. فلا أقول إنها لا تسري بغير واحدة أو أكثر من هذه الطرائق، في حالات مخصوصة. إنما لا يتسع لي الوقت كي أخوض في الحالات الخاصة، كما إن معرفتي في هذا المجال غير كافية. فإذا كنت تحاول أن تقول لرجل كيف يصل إلى مدينة أدنبره فلا بد أن تذكر له خطوط القطار.
في وسعه حقاً أن يصل إلى هناك بالسفينة أو الطائرة، ولكنك لا تكاد تأتي على ذكر ذلك. ثم إنني لا أقول شيئاً عن أي هذه الأشياء الثلاثة هو الأكثر جوهرية. فمن شأن صديقي الميثودي أن يريد مني قول المزيد عن الإيمان، وأقل من ذلك (نسبياً) عن العنصرين الآخرين. إنما أي من يقول أنه يُعلمك العقيدة المسيحية سيقول لك في الواقع إنه ينبغي لك أن تستخدم الثلاثة جميعاًن وهذا يفي بغرضنا الحالي.
لا أستطيع شخصياً أن أدرك لماذا ينبغي أن تكون هذه العناصر الثلاثة هي ناقلات هذا النوع الجديد من الحياة. ولكن إذا حدث أن أحداً لا يعرف، لم يكن ينبغي لنا أن نلمس أي ترابط بين متعة جسدية مُعينة وظهور كائن بشري جديد في العالم. فعلينا أن نقبل الحقيقة كما تأتينا، وليس ثمة كلام سريع جيد حول ما ينبغي أن تكون الحقية عليه أو ما كان ينبغي لنا أن نتوقع لها أن تكون. ولكن رغم عدم قدرتي على إدراك الأسباب الموجبة لهذه الحقيقة، يمكنني أن أقول لكم لماذا أومن بأن الحال على هذا المنوال. لقد شرحت لماذا ينبغي لي أن أومن بأن المسيح كان وسيبقى هو الله.
ويبدو واضحاً، من حيث التاريخ، أنه علّم أتباعه أن الحياة الجديدة يتم إيصالها على النحو المذكور. بكلمة أُخرى، أنا أومن بهذا بناء على سلطان المسيح. ولا تهولنّك الكلمة “سلطان”. فالإيمان بالأمور بناء على سلطان يرتبط بها إنما يعني الإيمان بها لأنك سمعتها من شخص تحسبه جديراً بالثقة. وتسعة وتسعون في المئة من الأمور الت تؤمن بها إنما تؤمن بها بناءً على سلطان أو مرجعية ما. فأنا أصدق وجود مكان اسمه نيويورك، مع أنن لم أره شخصياً. لا يمكنني أن أبرهن بالتعليل المجرد حتمية وجود مكان كهذا. ولكنن أومن بذلك لأن أشخاصاً أهلاً للثقة أخبروني به.
والإنسان العادي يُصدق وجود النظام الشمسي والذرات ونمو الكائنات والدورة الدموية بناء على مرجعية ذات سلطان، أي لأن العلماء يقولون بذلك، وكل واقعة تاريخية في العالم يصدقها الناس على أساس السلطان. فلا أحد منا عاين الغزو النورماندي، أو هزيمة أُسطول الأرمادا الاسباني.
ولا أحد منا يستطيع أن يبرهنهما بالمنطق المحض، كما نبرهن أمراً في الحساب أو الرياضيات، بل إنما نصدق حصولهما لأن أشخاصاً عاينوهما فعلاً خلفوا لنا آثاراً مكتوبة تخبرنا عنها، أي، في الحقيقة، بناءً على سلطان ما. والإنسان الذي تنتابه وساوس السلطان في سائر أمور الحياة، كما يحصل لبعضهم فيما يتعلق بالدين، سيكون عليه أن يقنه بألاّ يعرف أي شيء طوال عمره.
لا تظن أنن أنصب المعمودية والإيمان وعشاء الرب عل أنها أمور تفي بالغرض بدلاً من تسليم أمرك للمسيح والتشبه به عملياً. فإن حياتك الطبيعية مُستمدة من أبويك، ولكن ذلك لا يعني أنها ستبقى قائمة إذا لم تقم بأي شيء في شأنها. ومن الممكن أن تفقدها من جراء الإهمال، أو من الممكن أن تُبددها وتطردها بالانتحار. فعليك أن تُغذيها وتعتني بها، إنما تذكر دائماً أنك لست صانعها، فما أنت سوى صائن لحياة نلتها من شخص آخر. بالطريقة نفسها كان يمكن للمرء (لولا نعمة الله!) أن يُبدد حياة المسيح التي بُثت فيه، وينبغي له أن يصونها ويتعهدها باذلاً كل جهد.
ولكن حتى أفضل مسيحي أتى على وجه الأرض لا يقوم بذلك بطاقته الشخصية. فهو إنما يُغدي أو يصون حياة لم يكن ممكناً قط أن يكتسبها بمجهوداته الشخصية. وتترتب على ذلك عواقب عملية طبعاً. فما دامت الحياة الطبيعة في جسدك، فهي ستقوم بالكثير في نطاق إصلاح ذلك الجسد وتجديده. وإذا جرحت جسدك، فإنه سيُشفى إلى حد ما، كما لا يُشفى جسد ميت أبداً.
ليس الجسد الحي جسداُ لا يُصيبه الأذى البتة، بل هو جسد يمكن إلى حد معين أن يُصلح ويُرمم ذاته. على هذا المنوال، ليس المسيحي الحقيقي إنساناً لا يقع في الخطأ أبداً، بل هو إنسان وُهب القدرة على أن يتوب ويقوم ويستأنف مسيرته بعد كل تعثر، وذلك لأن حياة المسيح موجودة في داخله مُجددة إياه كل حين، مزودة إياه بالقدرة على أن يُعيد (إلى حد ما) مثل ذلك الموت الطوعي الذي نفذه المسيح نفسه.
لذلك السبب نجد المسيحي المؤمن في موقع يختلف عن مواقع الأشخاص الآخرين الذين يحاولون أن يكونوا صالحين. فأولئك يأملون، بكونهم صالحين، أن يُرضوا الله إذا كان موجوداً؛ وإذا كانوا يحسبون أن ليس من إله فعلي الأقل يأملون أن يستحقوا الاستحسان من قبل القوم الصالحين. غير أن المسيحي يعتقد أن أي خير يقوم به إنما يصدر من حياة المسيح السارية فيه. وهو لا يعتقد أن الله سيحبنا لكوننا صالحين، بل أنه سيجعلنا صالحين لكونه يحبنا؛ تمامً كما أن دفيئة الزرع الزجاجية لا تجتذب الشمس لأنها متألقة بالضياء، بل هي تصير متألقة لأن الشمس تشعّ عليها.
ولأوضح تماماً أنه عندما يقول المسيحيون المؤمنون أن حياة المسيح فيهم فهم لا يقصدون مجرد أمر عقلي أو خُلقي. فحين يتحدثون عن كونهم “في المسيح”، أو عن كون المسيح “فيهم”، لا يكون ذلك مجرد طريقة للقول إنهم يفكرون في المسيح أو يقتدون به. إنما يقصدون أن المسيح عالم بهم فعلاً: أن جماعة المؤمنين بالمسيح كلها هي الكائن العضوي الطبيعي الذي بواسطته يعمل المسيح، أننا نحن أصابعه وعضلاته وخلايا جسمه. ولعل هذا يوضح أمراً أو أمرين. فهو يوضح لماذا تسري هذه الحياة الجديدة ليس فقط بأفعال عقلية صرف كالإيمان أو التصديق، بل أيضاً بأفعال ملموسة كالمعمودية وعشاء الرب.
وليس ذلك مجرد انتشار فكرة، بل هو أشبه بعملية النمو الطبيعية، إذا أنه حقيقة بيولوجية أو “فوقبيولوجية” (فوق علم الأحياء). فلا خير في محاولة المرء أن يكون أكثر روحانية من الله. ولم يقصد الله قط للإنسان أن يكون كائناً روحياً محضاً. لذلك يستخدم عناصر مادية كالخبز والخمر لإحياء الحياة الجديدة فينا. قد نسحب ذلك جافياً أو غير روحي بالأحرى. غير أن الله لا يرى ذلك، فهو من ابتكر الأكل، وهو يحب المادة وهو خالقها.
وهاك أمراً آخر طالما حيرني في الماضي: أليس من الجَور المروّع أن تكون هذه الحياة الجديدة مقتصرة على الذين سمعوا بالمسيح وتمكنوا من الإيمان به؟ ولكن الحقيقة هي أن الله لم يُطلعنا على ماهية ترتيباته بالنسبة إلى الأقوام الآخرين. فنحن نعلم أنه لا يمكن أن يخلص أحد إلا بالمسيح. ولكن لا نعلم أن الذين يعرفونه فقط هم الذين يمكنهم أن يخلصوا به. إنما في هذا الأثناء، إذا كنت قلقاً بشأن الذين هم في الخارج، يكون أول أمر غير معقول قد تفعله هو أن تبقى خارج نفسك. فالمسيحيون المؤمنون هم جسد المسيح: الكائن العضوي الذي به يعمل المسيح عمله.
وكل إضافة إلى هذا الجسد تمكنه من مضاعفة العمل. فإذا أردت أن تساعد أولئك الذين في الخارج، يجب عليك أن تضم خليتك الخاصة الصغيرة إلى جسد المسيح القادر وحده على مساعدتهم. إذ أن قطع أصابع امرئ سيكون طريقة غريبة لحمله على القيام بمزيد من العمل!
وها هنا اعتراض آخر ممكن: لماذا يهبط الله إلى هذا العالم الذي يحتله العدو، متنكراً ومنشئاً ما يُشبه الحركة السرية لتقويض سُلطة إبليس؟ لماذا لا يهبط بقوة مجتاحاً العالم اجتياحاً؟ أليس له من القوة ما يكفي؟ أجل، يؤمن المسيحيون بأنه سيهبط بقوة آخر الأمر، ولا ندري متى. إنما يمكننا أن نحزر لماذا يتأنى، فهو يريد أن يتيح لنا فرصة الانضمام إلى صفه بملء حريتنا. ولا أحسب أننا، أنا وأنتم، كنا نقدر كثيراً رجلاً فرنسياً ينتظر بدء زحف الحلفاء إلى داخل ألمانيا حتى يُصرح عندئذ بأنه في صفنا. حقاً إن الله سوف يجتاح هذا العالم.
ولكنني أُسائل نفس بشأن أولئك الذين يطلبون إلى الله أن يتدخل علانية ومباشرة في عالمنا: هل يدركون تماماً كيف ستكون الأحوال عندما يتدخل فعلاً؟ عندما يحدث ذلك، تكون نهاية العالم! فحين يمشي مؤلف المسرحية على المسرح، تكون المسرحية قد انتهت.
صحيح أن الله سيجتاح هذا العالم، ولكن أي خير في قولك آنذاك إنك في صفه، بعد أن ترى الكون الطبيعي كله يتلاشى كحلم وشيئاً آخر ينقض ساحقاً ماحقاً، شيئاً ما خطر في بالك يوماً أن تتصوره شيئاً رائعاً للغاية بالنسبة إلى بعض منا ومُروعاً جداً للآخرين، بحيث لا يبقى بيد أي منا أي خيار؟ فتلك المرة سيكون الله ظاهراً بغير قناع، وهذا أمر غامرٌ للغاية بحيث يبعث إما محبة لا تُقاوم وإما رعباً لا يُقاوم في قلب كل مخلوق. وسيكون أوان اختيارك للصف الذي تقف فيه قد فات فلا خير في قولك إنك تختار أن تتمدد أرضاً حين بات يستحيل عليك أن تقف على قدميك.
ولن يكون ذلك وقت اختيار، بل سيكون وقت اكتشافك أي صف وقفت فيه فعلاً، سواء علمت ذلك قبلاً أم لم تعلمه. فالآن، اليوم، هذا اللحظة، فرصتُنا لاختيار الصف الصحيح. والله إنما يتأنى كي يُوفر لنا هذه الفرصة. وهي لن تدوم إلى ما لا نهاية. فإما نغتنمها، وإما تفوتنا.